ثقافة صحية
كيف تستعمل الخلية جيناتها؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. بهجت عباس
تضع الخلية (علامات) على الجينات لتستعمل الجينات التي تحتاجها – ليست علامات حقيقية كالتي نستعملها ولكنها تميّـز جيناتها بعضها عن بعض . فلو تصورنا الدنا DNA كتاباً لتعليم الطبخ، فيه وصفات كثيرة، فالذي يختار وصفة "صيغة" طعام، يفتح تلك الصفحة من بين مئات الصفحات ويسير على ضوئها لإعداد ذلك النوع من الطعام الذي اختاره . أو إذا تصورناها خريطة طرق بآلاف الاتجاهات مثل GPS، فمن يريد أن يسلك طريقاً معيناً، يعيّن الجهة المطلوبة ويبدأ السير باتجاهها. كذلك تكون الخلية في الجسم حاوية كلَّ الجينات، فكلّ نسخة من أيّ جين موجودة فيها. فالجينات هي (وصفات) بروتين مختلفة، كل جين يختلف عن الآخر من ناحية الطول والحجم وترتيب/تسلسل القواعد النتروجينية (نيوكليوتايد) فيه . فبعض الجينات يتكون من خمسة آلاف قاعدة نتروجينية وأكبرها من ربع مليون قاعدة . وكذلك خلايا الجسم تختلف عن بعضها البعض، إذ يوجد ما يقارب 220 نوعاً من الخلايا، بعضها يستعمل جينات لا يستعملها البعض الآخر . فالجينات المستعملة تكون (مفتوحة)، جاهزة للعمل، والأخرى (مغلقة) أو مُطفأة / نائمة / عاطلة . فمثلاً خلايا العضلة تحتاج إلى جينات (تولّد) البروتين (مايوزين Myosin) الذي يؤدّي إلى الحركة، بينما خلايا الدماغ ليست بحاجة إلى مثل هذا البروتين لأنها لا تتحرك . وكذلك خلايا القلب والكلية والرئة لا تحتاج إلى جينات تصنع الإنسولين الذي تصنعه خلايا معينة في غدة البنكرياس . لذا تكون (العلامات) أو (الإشارات) في الخلية ضرورة لمعرفة الجينات التي تحتاجها تلك الخلية، فتجعلها تعمل . لذا تكون هناك علامات على جينات لا تحتاجها الخلية وعلامات على جينات تستعملها الخلية دوماً . هذه العلامات / الإشارات لا تغيّر عمل الدنا DNA، ولكنها تتغيّر حسب احتياج الخلية أو تبعاً للظروف . الفرق بين دنا الجنين ودنا الشخص المتكامل، أن الأولى (الجنينيّة) ليس فيها إشارات أو علامات، فهي غير متخصصة عندما يبدأ الجنين بالنمو، فكل جيناتها (مفتوحة)، ولكنها بمرور الزمن تبرز فيها الإشارات التي تنفذ احتياجاتها . أما إذا طرأ تغير / تشوّه على الجينات نتيجة مواد كيميائية، إشعاعات نووية أوغيرذلك، يتغير تركيبها وعملها، فقد يغلق الجين المفتوح الذي تحتاجه الخلية أو يُفتَح الجين المغلق الذي يضر تلك الخلية مما يسبب تشوهها وانحرافها وقد يكون السرطان.
التغيّرات فوق الجينيّـة Epigenetics وتأثيرها على تصرف الخلية
هي تغيّرات في مظهر الشخص Phenotype أو في إفصاح الجين، يعني في إنتاجه البروتين، نتيجة تأثيرات لا علاقة لها بتعاقب / تسلسل قواعد الدنا، تحدث بإضافة جزيئة إلى الجين مثل مجموعة المثيل CH3 إلى الدنا فيتغير إنتاج الجين من البروتين . هذه العوامل غير الجينية تجعل الجينات (تتصرّف) بصورة مختلفة عن الأصل . فالقاعدة الأساس هي أنَّ تعاقب الدنا في الجين تستنسخ رنا RNA وهذه تترجم (تعيّن) تعاقب سلسلة البروتين . وكل خلية في الجسم، مهما كان نوعها، تحمل هذه المعلومات ذاتها، ولكن الذي يجعل الاختلاف بين الخلايا أو الأنسجة أو الأعضاء الأخرى هو أن مجموعة الجينات في خلايا نسيج معيّن تكون (مفتوحة) فتنتج البروتينات بينما تكون (مغلقة) في نسيج آخر فلا يتم إنتاج تلك البروتينات. أما التغيّرات أو (العلامات) فوق الجينية فتلعب دوراً في (فتح) الجين أو (غلقه) وبمعنى آخر (تسمح) أو (تمنع) الجين من إنتاج البروتين . قد تبقى هذه التغيّرات طوال انقسام الخلايا أو حتّى في النسل . إنَّ إفصاح أحد الأليلين (الجينين) وليس كليْهما، سواءٌ أكان هذا الأليل آتياً من الأب أو الأم يؤدّي إلى البصمة الجينيّة Genetic imprinting وقد يكون نتيجة وراثة نسختين من جينات الأب أو الأم بدلاً من نسخة واحدة من كليْهما . إن إضافة مجموعة المثيل إلى دنا الجين يُستعمَـل لتمييز نسخة الجين الموروثة من الأب عن نسخة الجين الموروثة من الأم. هذه العلامات تُخبر الخلية أيَّ نسخة تستعمل لتنتج البروتين . هذه البصمة الجينية لا تتبع قانون مندل للوراثة الذي يقرّر أن كلا نسختْي الجين (من الأب والأم) تستخدم في إنتاج البروتين . فالبصمة الجينية تعتمد على واحد من الأبوين أعطى نسخة جين لإنتاج هذا البروتين . فبعض حالات البصمة الجينية يستعمل بعض الخلايا من نسخة الأم، والبعض الآخر يستعمل نسخة الأب . هذه البصمة الجينية مهمة جداً في دراسة الأمراض، فقد يرث الطفل مرضاً كالسرطان مثلاً من أمه أو أبيه . وأغلب الأحيان يورث هذا المرض عن الأم وذلك حسب فرضية (معركة الجنسين) بين الأب والأم مستندة على تجارب أجريت على الحيوانات . فحسب هذه الفرضيّة إن بصمة الجينات الذكرية تحبِّذ تحفيز النمو لتضمن بقاء جينات الأب في النسل، ولكنّ جينات الأم (تحارب) جينات الأب لتحدّد حجم الجنين اهتماماً بصحتها (الأم) . وهنا في حالة السرطان ثمة جينات كابحة للسرطان فتقوم جينات الأم بـ(إغلاقها) عن طريق الخطأ لتقلل إنتاجها من البروتين فتتحول هذه الجينات إلى جينات سرطانية Oncogenes . فإذا فقدت نسخة الجين السّرطاني (العلاماتِ الجينية) للسيطرة، و(فُـتِحتْ)، سيكون انقسام الخلايا من دون سيطرة وطبعاً سيكون السّرطان . وهناك بعض الدلائل في الفئران أن بعض البصمات الجينية يلعب دوراً في تصرف / سلوك الفئران من حيث علاقاتها مع الفئران الأخرى وقد يكون هذا في الإنسان أيضاً .
......................
عضو متمرّس في جمعية الكيمياء الحياتية البريطانية
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.