شهادات ومذكرات
الأهواز مدينة الأصالة والطيبة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جميل حسين الساعدي
ربعُ قرنٍ مضى على زيارتي الأولى والوحيدة لمدينة الأهواز، تلك الزيارة التي تركت لها أثراً في نفسي، وأخذت لها مكاناً في دهاليز الذاكرة إلى جنب الذكريات الأخرى للمدن الجميلة، التي زرتها في رحلاتي العديدة في هذا العالم المترامي الأطراف .
ما لفت انتباهي للوهلة الأولى ساحتها الجميلة ساحة القدس، التي زادتها أشجار النخيل الباسقة، المصطفّة على جوانبها جمالاً وسحراً . قبل أن أواصل رحلتي إلى أطراف المدينة، توقّفتُ قليلاً أتأمّلُ أشجار النخيل المشرئبّة بأعناقها إلى السماء.
كانَ الوقتُ ظهراً وقدْ أخذِ منّي التعب كلّ مأخذ، فقد قطعتُ مسافاتٍ طويلة بدون توقّف. أرهقتني الرحلة الطويلة، كنتُ أشعر بشيئٍ من الضيق في صدري، وكانت أعصابي متوترة بسبب قلّة النوم، لكن بمجرد أن وطأتْ قدماي أرض الأهواز، شعرتُ بارتياح وانشرحَ صدري، فنسيتُ متاعب السفر وتنفّستُ الصعداء... حمداً للّه .. هذا هو النخيل، وهذا هو الفضاءُالرحب !!
انبجسَ في داخلي ينبوعٌ من الحنين ممتزجاً بفرحٍ صافٍ، وكأنّني هبطتُ على كوكب آخر. لمْ يطُلْ مكوثي في وسط المدينة، فقد غادرتهُ وواصلتُ رحلتي إلى أطرافها.. هناكَ أحسستُ لأولّ مرّة أنني دخلتُ في الفردوس المفقود، الذي كنتُ أبحثُ عنهُ منذ زمنٍ طويل .. ما أجملَ أن يعودَ الإنسان إلى فردوسهِ المفقود !
مرّتْ السنوات سراعاً، وفي زحمة الحياة والمشاغل اليومية، أُ ُسدلَ ستار النسيان على أحداثٍ كثيرة، منها ما هو مُفرح، ومنها ما هو مؤلمٌ، لكنَّ للصدفة دورها في بعث الذكريات من مخابئها، وللقدر سطوته وقدرتهُ على إيقاظ ما غفا فينا على سرير النسيان وتدثّرَ بدثارهِ. هنالك لحظات تجسّدُ لنا الزمن في كلّ امتداداته، فنعيش ماضيه وحاضره ونستشفُّ مستقبله .
وهكذا عادت الأهواز من جديد حيّةً أمامي، مثلما هي قبل ربع قرن، بعد أن شاهدت قبل أيّام (فيديو) للمطرب الريفي العراقي رعد الناصري الزمان:
العام 2003 المكان: الأهواز. تحرّكتْ فيّ المشاعر قويّةً، وأنا أتأمّلُ في الأهوازيين، وهم يترنّمون ويهتزّون طرباً للغناء الجميل الأصيل، كانت لتعابير وجوههم وعفويّة حركاتهم في التعبير عن مشاعرهم وطيبتهم سحرٌ أسرٌ، ذكّرني بسنوات حياتي قبل أن أغادر العراق وأغترب.
عالم الطيبة والأصالة فردوسنا المفقود كانَ حاضراً في صوت رعد الناصري، المنبعث من أعماق ذلك العالم السحري الجميل النقيّ الأصيل، في ملامح وجوه الأهوازيين، في فرحهم الفطري، في كرمهم الحاتمي، وهُم ينثرون الأوراق النقديّة بابتهاج في حضرة الفنان رعد الناصري، وكأنّهم يريدون أن يقولوا لنا: ما قيمة المال أمام الإبداع والمبدعين؟
الإبداع هو حركة الحياة الدائمة، التي لا تُقدّر بمال .. هو تجلّي الحياة بأجمل صورها ومعانيها.
ما أجمل الأهواز وأهلها ! وما أجمل صوت رعد الناصري! صوت الريف الأصيل ، الذي ذكّرنا بفردوسنا المفقود فردوس الطيبة والأصالة.
جميل حسين الساعدي
............................
* نشر هذا النصّ في مجلة المداد الأهوازية العدد: 25
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.