نصوص أدبية
كلكامش في دار المُسنّين
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. ريكان ابراهيم
ماذا تُسمّي البيتَ حين يكونُ مَقْبرةً
وفيها أهلُها يتحركّونْ
ماذا تُسمّي الميتّين بدون مَوتْ
والناطقينَ بدون صَوتْ؟
ماذا تُسمّي القبرَ حين يصير قبل الموت
بيتْ
هذ هو الإنسانُ يبدأُ بالولادةْ
متوَهّماً أن الحياةَ هي الطريقُ إلى السعادةْ
كي ينتهي إمّا إلى قبرٍ وإمّا أن يُؤجِّلَ موتَهُ
قبل الرحيلْ
ليعيشَ في دارٍ يرى عنها الفناءَ أحبَّ
من عيشٍ ذليلْ
(2)
قد قالَ لي :مَنْ أنتَ؟ مَن في البابِ؟
قلتُ: أنا الطبيبْ
أنا عالِمُ النفسِ المليئةِ بالخراب وبالنَحْيب
أنامَنْ نذرتُ بَقيّتي لعلاجِ مَنْ عاشوا
وهم موتى، فبعضُ حياتِنا موتٌ، وبعضُ
الموتِ أَهونَ من تَرقبِّه الرهيبْ
أنا جئتُ أفحصُ ميتيّن بلا رقيبْ،
فأنا صديق الأشقياءِ، فأنتَ مَنْ؟
أقعى على حِقْويهِ يرقُبني وقالَ :أنا الرقيبْ.
أنا حارسٌ في بابِ دارِمُسنَّنينَ بآلةِ
الزمن العصيبْ
- حَسَناً ومِمّن أنتَ تحرسُهمْ ؟يقولُ:
من الهرَبْ
- ياصاحبي، أرأيتَ في دنياكَ
مَوتى يهربون؟
أقعى على حِقْويهِ ثانيةً وقالْ:
إدخلْ لتعرفّ ما هُناكَ ومَنْ هناكْ
دارُ المُسنّين الذين تزورُهم ياسيدي
هي آخِرُ الوَقْفاتِ في دربِ الذهاب إلى
الهلاكْ
يقفُ القطارُ بها ويأخذُ مَنْ أطالَ
الإنتظار
وينامُ مَنْ قد ظلَّ، منتظِراً قطاراً
آخراً يأتي إذا طلعَ النهارْ
(3)
عندما يتشابَهُ ضوءُ النهارِ ونورُ
المساءْ
عندما يستوي حَرُّ صيفٍ وبَرْدُ شتاء
عندما تستوي الظلماتُ ونور المكانْ
عندما يستوي ال يعلمونَ ومَنْ يجهلونْ
عندما يُصبحُ المبدعونَ وسعر الترابِ سواءْ
عندما تكثُر ال عندماتْ
تجفُّ الحياة
**
رأيتُ هناك دُمى ....
رأيتُ أسّرة موتٍ ...وقمصانَ نومٍ
وأكفانَ موتى
**
بدار المُسنّين لا قيمةٌ للزمَنْ
وخيرالذي قد تراهُ الإخاءُ، فلا من خصامٍ ولا من صراعْ
لأنَّ الجميعَ بقايا حياة،
وحُبّ الحياة أنانيةٌ رُبّما تستحقُّ النزاعْ
(4)
نزيلٌ واحدٌ في الدارِ لا أكثَرْ
لماذا واحدٌ في الدارِ ؟لاأدري
نزيلٌ، مَيّتٌ يمشي، كأنَّ الموتَ أجّلَهُ،
ليُصبحَ عظمُهُ أوهى، وخطوةُ مشيهِ أقْصر،
ولونُ جبينهِ أصفَرْ
ويُصبح جاهزاً للموتِ إنْ قَرّرْ
- أخي مَنْ أنتَ؟أسألُهُ فينظرني بنصفِ
العينِ ثم يقولُ:كَلكَامشْ.
- أعِدْ ماقلتَ!مَنْ تَعنيْ؟
- أأنتَ صديقُ أنكيدو؟
- أأنتَ الفارسُ المسؤولُ عن طوفانِ وادينا؟
أجابَ:بلى، فقلتُ:إذنْ، لماذا أنتَ في دار المُسنّينا؟
هنا ابتسَما...
وقالَ:المَرّةَ الأخرى ستلقاني ...أنا وحدي.....
لأذكُرَ كُلَّ ما عندي.
(5)
- لماذا وَحْدَكَ الآنا؟
+ أجابَ وكان يَحكي لي:
لقد رحلوا.....
فهُم كانوا هنا، مرضى، بلامأوى
كبارَ السِنً، لا أهلٌ ولا مَنْ يسمعُ الشكوى
لقد رحلوا ولم أرحَلْ
لأنّي قد رفضتُ الموتَ، بلْ قَرّرتُ أنْ أحيا
فعاقبني إلهُ الماءِ أن أقضي حياةً لا أرى أحَدا
لقد أغضبتُ آلْهتي فذُقتُ الهمَّ والنكَدا
وجئتُ إلى هنا وحدي لأقضي العُمْرَ مُنفرِدا
- إذنْ جاءوا وقد رحلوا، أتعرِفُهمْ؟
+ بلى، بل أعرف المخفيَّ،
إنَّ وراءهم قصصاً تُذيب القلبَ والكبدا
فإنّي ها هنا أحيا نزيلاً خالداً أبَدا
فنحنُ اثنانِ لن نفنى
أنا وصديقتي الأفعى
(6)
- أجبْني إذن، هل وُهبْتَ الخلودْ؟
* نعم ْ. إنني الآن أحيا إلى أن يقومَ
الفناءُ، وحين يقومُ الفناءُ أكونُ
قضيتُ حياتي هنا
وسوفَ يمرُّ عليَّ الجميعُ هنا مثلما مرَّ من
قبْلِهم آخرونَ، وراحوا لأنَّ الجميعَ الى ربِّهم راجعونَ...
أنا ياطبيبَ النفوس الكئيبةْ
خبيرٌ بمن غادروكَ إلى هذه الدار ينتظرونَ
وصولَ القطارْ
خبيرٌ بهمْ
فقد عشتُ آلامَهم
وفسّرتُ أحلامَهم
وكانوايُسمّونني الساحرَ البابليَّ
أنا الآن أؤمنُ أنّي مُنحتُ الخلود
المُحدّد قسراً لأقضيه في هذه الدارِ
حصراً، إلى أنْ يجيءَ لأجلي
القطارُ الأخيرْ.
(7)
...وقالَ لي كَلكَامشْ:
كانَ هنا في هذه ابدارِ شَبَحْ
كانَ يُسمّى رجلاً لكنَّه شَبَحْ
أدخلَهُ ذووهُ رُغْمَ أنفِه ...
مُمزَّقٌ مُنتظِرٌ لحتفهِ، ...
محدودبٌ، إذا مشى كأنَّهُ يمشي
على أربعةٍ ...
مُستَهلكٌ وخائرُ القوى، تَرجِفُ
في يمينهِ القدَحْ
يقضي كئيباً ليلَهُ،
يشكُّ في مَنْ حَوْلَهُ
سألتُهُ: من أينَ أنتَ؟ ماالذي فعلتَ؟
إنّني ...بي رَغْبةٌ أن أسمعَكْ
وأسهْرَ الليلَ معكْ
**
بكى وقالَ لي ...
أنا أَبٌ لخمسةٍ وأُمُّهمْ سادسُهمْ
أمضيتُ كُلَّ مامضى لأجِلِهمْ
وحينما أصفّرتْ غصونُ الشَجَرةْ
وغادرتْني قُدْرةُ العطاءْ
ودَبَّ فيَّ الداءْ
صارَ وجودي نكِرةْ
وهكذا ياسيدي،
كُلُّ يُلاقي قَدَرهْ
(8)
...وتكلّم كَلكَامشُ باللغةِ الفُصحى،
بكلامٍ ينكأُ جُرْحا
عن آخرَ حلَّ نزيلاً في تلك الدار
كان، كما قد قالَ، ذكيّاًيعرفُ كيفَ يُديرُ
مع الغرباء حوار
كان قليلاً مايأكلُ، مكتفياً بالمِلْحِ وبعض الماءِ
وشيءٍ من خُبْزٍ حارْ
كانَ يميل إلى العُزْلةِ، مكتفياً بمراقبة الداخلِ
والخارجِ، لايتكلّمُ إلاّ إنْ سألوه
لكنّي، وأنا كَلكَامشُ تعرفني، وَثّقتُ به
صِلَتي، حتى صرتُ كأنّي في الدارِ أبوهْ
وعرفتُ الموضوعَ...
لقد كانَ دخولاً مقصوداً، إذ كان عميلاً
يتتبعُ أمرَ زعيم وطنيَّ أدخلَه الأهلُ
ليخلصَ منه الأبناء ويقضي ماظلَّ له في
هذي الدارْ.
أرأيتَ إذنْ ياعالِم نَفْسِ الإنسانْ
كيفَ مصيرُ الزعماءِ إذا شاخوا
ومصيرُ الشرفاء إذا عمَّ الداءْ
أرأيتَ؟ فحتّى دارُ مُسِّنينا تُصبحُ
وكراً للعملاءْ.
(9)
...ورايتُ أوراقاً مُبعثرةَ القوامِ، مُمزّقَةْ
ودواةَ حبرٍ يابسٍ
وبقيةً من حبْلِ مشنقةٍ ومنضدةً
وأكداساً من الكتبِ القديمةْ
وتخيلَتْ عيني مشاهدَ من جريمةْ
- ياأيها الرجلُ الذي اكتسبَ الخلودْ
ياسيّدي، كَلكَامشَ، الرجل الودودْ
قُلْ لي بحقِّكَ من يكونْ؟
هذا الذي يبدو أمامي، مَنْ يكون؟
فبكى ومَسّدَ شَعْرَ لِحيتهِ، وحلّقَ
في متاهات الظنون
وأجابني: هذا فتى من معشرِ الشعراء،
مِمّن يكتبونَ الشعر من أجل الحقيقةْ
لم يمتدحْ صنماً ولم يمدُدْ يداً، يوماً لجاهٍ أو
عطاء
وهنَتْ مفاصلُهُ وأصبحَ يشتكي من ألف داءْ
لكنَّ مَن عرفوهُ لم يُعطوهُ ما يكفيهِ
شيئاً للبقاء
فأتى هنا، ليموتَ لا ليعيشَ
والموتُ الرحيمُ هو القرارْ
بخَلت عليه حياتُه بالخبزِ
فاكتسبَ الخلودَ بالانتحار
(10)
ياسيدي، كَلكَامش، الرجلَ الوَدود
يا باحثاً عن غصن زيتون الخلودْ
هل انتَ نوحٌ؟
أم شبيهُك مَنْ يُحلِّقُ في المَكانْ؟
هل أنتَ سِحرٌ بابليٌّ، والسفينةُ
في انتظارِكَ من زمانْ؟
ياخالداً يقضي استراحتَهُ الأخيرةَ ريثما
يأتي القطارْ؟
ليكونَ آخِرَ مَنْ يموتُ وينتهي بختام
رحلتهِ المسارْ
شكراً لواجِبكَ المُقدّس في الزمانِ وفي المكانْ
مَرّتْ عليكَ وجوهُ مختلفين في النُعمى وفي
العُمرْ المُهان
ياسيدي أيُّ المصيرين الأحبُّ، آلموتُ في عُمْر الزهور
أم عيشةٌ أحياؤها موتى
تمرُ بها الحياةُ بلا هناءٍ او سرورْ؟
(11)
أدري أنَّكَ شاعر
والشاعرُ يُدرِكُ مالا يُدرِكُه الآخرْ
أدري أنَّك حين بحثتَ عن العُمر الخالد
نافستَ إلاهك في صفةٍ لا تُمنَحُ للمخلوقِ
البائدْ
قالوا عنك بأنّكَ ظالم
وبعثتَ صديقك، أو عبْدَك، أنكيدو
ليجيءَ بأوراق الخُلْدِ، ولم تهدأ حتى امتلأَ
الكونُ جرائمْ
وسمعتُ بأنَّكَ كنتَ لطيفاً وحكيماً، وتُحِّبُ
الشعرَ، تركتَ لنا ملحمةً لايكتبُها
حاكمْ
من أنتَ إذن، هذا؟أم ذاكَ؟وقُل لي:
كيفَ وجدتَ الإنسانْ؟
مارأيُكَ في مَنْ يُسلِمُه ذلُّ الحظِّ ليحيا
في دائرة النسيان؟
تَكلّم يا كَلكَامشْ
أي الاثنينِ رأيتَ الأجملَ:موتَ الإنسان بلا
مدِّ يدٍ للناس أم العيشَ ذليلاً ينتظِرَ الإحسانْ؟
(12)
ياعاشقَ الخُلدِ، لم تشهد وِلادتَهُ
كما أردْتَ ولم تسلَمْ من العِلَلِ
دارُ المُسنّينَ مأوى مَنْ يُحاوِلُ أن
يرنو إلى اليأسِ من بوّابةِ الأملِ
**
دارُ المُسنّينَ يا كَلكَامشُ ازدحَمتْ
بالطاعنينَ، ومَنْ في وعيهم
خَرِفوا
ضاقَتْ بمن ضيّعوا عُمْراً وضيَّعَهم
نسيانُ مَن خلفوا أفضالَ مَنْ سلفوا
دارُ المُسنّين تعني أنَّ مَنْ عقروا
لصالحٍ ناقةً جيلٌ به صَلَفُ
جيلٌ من الناكرينَ الفضلَ، غيرَ اللؤمِ ماعَرفوا
في هذه الدارِ مَن قد كانَ يَرهَبُهُ
حتى الفناءُ،
فيعلوُ وجهَهُ الأسَفُ
في هذه الدارِ مَنْ هاماتُهم نطحَتْ
غيماً فما أهرقوا دمعاً
ولاذرفوا
ياعاشقَ الخُلْدِ، ياكَلكَامشُ،
انتحرت
قصيدتي، وهوى من نَخْلِها السَعفُ
أبكى عيوني مصيرُ الساكنينَ هنا
ويَسقُطِ الناسُ إنْ يسقط لهم شرَفْ
***
د. ريكان ابراهيم
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.