المثقف - حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (88): الواقع والتشريع
خاص بالمثقف: الحلقة الثامنة والثمانون من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، وفيها يجيب على (ق10) من أسئلة الأستاذ د. مجدي ابراهيم.
ماجد الغرباوي: لا يهتم الفقيه عادة بتاريخ الحكم، إلا بشكل محدود، يقف عند حدود أسباب النزول، دون معرفة الأجواء الدينية والاجتماعية والثقافية التي ولد فيها. ولا يتحرى فلسفته، والغاية من تشريعه، إلا على المبنى المقاصدي الذي ظهر متأخرا. وأما غالبية الفقهاء فيعتقد أن الأحكام قد شُرّعت ابتداء بمعزل عن الواقع. أو أنها أخذت حيثياته وضروراته بنظر الاعتبار إلا أن "المورد لا يخصص الوارد"، كما هي القاعدة الأصولية عندهم، فتبقى الأحكام مطلقة، لا تتأثر بالمتغيرات الزمانية والمكانية (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامه). وهو منهج تقليدي، تُطلق عليه صفة الاجتهاد مجازا لا حقيقة، لارتهانه للتراث وسلطة السلف في فهم الأحكام الشرعية. وهذا يختلف عن المنهج في فقه الشريعة، الذي يعتقد أن وراء تشريع الأحكام ملاكات (مصالح أو مفاسد)، وقد شُرعت لمعالجة واقع كان يعيشه الفرد والمجتمع آنذاك، حتى وإن أُخذ الحكم على نحو القضية الحقيقية. فهي أساسا إجابات على أسئلة مطروحة من قبل الصحابة آنذاك: (يسألونك، ويسألونك، ويستفتونك). وكان بعضهم يتمادى، حتى حذّرهم القرآن من مغبة الإلحاح بالسؤال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ). وما دامت الأحكام ناظرة للواقع، فتبقى فعليتها مرتهنة لفعلية موضوعاتها، وما يرتبط بها من شروط وقيود.
ورغم صحة القاعدة المتقدمة "المورد لا يخصص الوارد"، إلا أن المورد يشخّص لنا الشروط الزمانية والمكانية لموضوع الحكم، مادامت مأخوذة بنظر الاعتبار حين تشريعه. فيمكننا إعادة النظر في فعلية الحكم حينما يطرأ على موضوعه ما يستوجب ذلك، وقد مرَّ تفصيل الكلام. وبالتالي فالواقع يلعب دورا أساسا في ضبط فعلية الحكم المجعول. لذا ينبغي تقييم بعض الأحكام وفق مسارها التاريخي. وهي الأحكام التي تتأثر موضوعاتها بالواقع وضروراته، كأحكام المرأة والجهاد والرِق. وهذا مقتضى العدل والإنصاف الذي هو مناط الأحكام الشرعية كما تقدم، والتي ساهمت في استتباب العدالة الاجتماعية في وقتها. فالحكم قد لا يحقق ملاكاته حينما يتغير الواقع ويختلف الموضوع، وربما ينقلب إلى عبء، وغل وأصر، فيستوجب إعادة النظر في فعليته وفقا للمنهج القرآني الذي مرّ بيانه. فيتغيّر الحكم من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة أو إلى ما هو أقل نهيا وإلزاما كالكراهة والاستحباب.
ويمكن الاستعانة ببعض الأمثلة لفهم الفكرة بشكل واضح، والتعرّف على دور الواقع في تشريع الحكم، ومدى تأثره به، حينما يفرض ضروراته. ومدى إمكانية إعادة النظر في فعلية الأحكام من خلال علاقة الواقع بمرتكزات مبادئ الحكم في مرحلة جعله وتشريعه. وفقا لما تقدم، حيث تكون ملاكات الجعل الشرعي (التوازن الروحي والسلوكي والعدالة الاجتماعية) دليلا على وجود خلل في معادلة مرتكزات مبادئ التشريع، فينبغي مراجعتها، إذا كان السبب منحصرا بالحكم الشرعي، لا بسبب عوامل خارجية أخرى.
أحكام المرأة
بدءا: لا يقاس المرء، ذكر أو أنثى، بجسده، ولا ينصب الحكم الشرعي عليه بما هو كائن بشري، بل يتوجه له باعتباره إنسانا عاقلا حرا مريدا قادرا. وإلا ما الفرق بين شخص وآخر، حينما يميّز القرآن بين المؤمن والكافر، ويرتّب عليهما أحكاما مختلفة؟ أليس بما يحملانه من أفكار وعقائد ومواقف ومسؤوليات؟ وما الفارق الجسدي بين الشخص الحر والعبد، الذي يقتضى اختلاف الأحكام بينهما، سوى الحرية التي هي مفهوم اعتباري؟ وما الفرق بين المرأة الحُرّة والأَمَة أو الجارية، كي تختلف أحكامهما على مستوى الحقوق بينما تسرى عليهما ذات الأحكام الشرعية العبادية؟ وما الفرق بين المرأة المؤمنة والكافرة سوى ما تحمله من عقيدة والتزام، فيجوز الزواج من الأولى ويحرم من الثانية مهما كانت مواصفاتها الجمالية والأخلاقية (وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ). فالأحكام لا تقصد الكيان الجسدي للرجل، ولا تقصد المرأة ككائن بشري، وإنما تقصدهما وعيا وثقافة ودورا ومسؤولية وواقعا اجتماعيا، لذا اتصفت بالعدالة آنذاك، عندما أعطت كل ذي حق حقه، وإلا فمقتضى النظرة الجسدية مساواتهما بالحقوق كما في الواجبات، مع ملاحظة الفوارق البايلوجية بخصوص بعض الأحكام العبادية. وبالتالي فالمرأة بهذا الفهم الإنساني غيرها في زمن التشريع. وهذا التحول المفهومي يستلزم تشريعات تتناسب مع واقعها اليوم، بعد أن هجرت ذلك الواقع المرير. لأن الشريعة قد أخذت في ملاكات أحكامها الخاصة، وضعها البايلوجي، وموقعها الاجتماعي، وطبيعة علاقتها بزوجها وولي أمرها ومسؤولياتها داخل الأسرة وخارجها، وما عليها أو لها من نفقات مالية. وهذا التحول ليس شاملا، فما زالت المرأة ذاتها في مناطق كثيرة من العالم الإسلامي، لكن بشكل عام أصبح للمرأة شأن مغاير، وهذا ما يؤكده الواقع خاصة في الدول المتقدمة حضاريا.
فإذا اعتبرنا أحكام المرأة في الشريعة في زمن البعثة تحريرا لها من واقع أسوأ، قد صادر حيثيتها وكرامتها وإنسانيتها، فإنه اليوم يُعد عبودية وامتهانا في بعض البيئات الدينية والثقافية، بعد أن أثبتت جدارتها في كل مناحي الحياة. بل بات الرجل رغم مكابرته يعتمد على عقلها وتدبيرها. فالنظرة الدونية إدانة للدين والتراث وسيرة السلف الصالح. المرأة ما عادت متخلّفة، ولا عورة، بل غدت تنافس الرجل على جميع المستويات، وتتقدم عليه في حبها للأمن والسلام ورفض العنف، واستهجان السلوك الخشن.
وعندما حكمت الشريعة الإسلامية للرجل مثل حظ الأنثيين، كانت المرأة جزءا من متاعه وممتلكاته، لا تتقاضى شيئا من الإرث، وليس لها حق التملّك، وكانت مكفولة في نفقتها ومعيشتها، سواء أكانت أماً أم زوجة أم إبنة. ولما جاء الإسلام منح المرأة شخصية مستقلة، وجعل حق الأنثى هو الأساس في تقسيم الإرث بينها وبين الذكر. فانظر لدقة الآية، التي تمت صياغتها بشكل لا تبخس المرأة حيثيتها الإنسانية: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ). فالأصل أو الوحدة القياسية في توزيع الإرث إذاً هو حظ الأنثى. وعندما يجعل للذكر مثليه، فمراعاة لمسؤولياته في النفقة وإعالة الأولاد، وتأمين جميع مطالبهم وأمنهم واستقرارهم. فيعطى ما يساعد على تغطية نفقاته، مع عدم إناطة أية مسؤولية مالية عليها.
الأرث حق لا هبة. ويعني نقل ممتلكات الميت إلى ورثته، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى من حيث الأصل، إلا أن الرجل كان ينفرد بالإرث بحكم تفوقه الاجتماعي ومسؤوليته عن الانفاق. ولما جاء الإسلام صار يوزع الإرث على ورثة الميت وفقا لمنطق العدالة الاجتماعية، كل حسب مسؤوليته، وحجم نفقاته، على أن يُردّ الفائض لها مع عدم وجوده، ويختص به مع عدم وجودها. فعندما تأخذ المرأة سهما واحدا أو ما يعادل نصف الإرث قبل خمسة عشرة قرنا يتناسب مع دورها ومسؤولياتها، فهو في قمة العدل والإنصاف آنذاك قياسا بماضيها، حيث لا توجد أي مسؤلية مالية عليها، بينما يتحمّل الرجل بمفرده نفقتها وحمايتها وضمان آمنها وسلامتها. فكانت تأخذ من الأرث وهي مكفولة النفقة، أما اليوم فالأمر مختلف، فمقتضى العدالة والإنصاف تشريع أحكام تستوفي قيم العدل الاجتماعية، خاصة حينما تتحمل المرأة كافة المسؤليات أو أغلبها أو بالتساوي لأي سبب كان. وقد مر أن العدل قابل للنسخ في مجال الحقوق، وهذه إحدى مصاديقه وربما أبرزها. فيمكن أن نستنتج من دلالة الآية، أن الزيادة في حصة الرجل ليست تفضيلا ذاتيا كما يعتقدون بل هي مسؤولية تقتضيها مهامه العائلية والاجتماعية، خاصة النفقة الواجبة عليه شرعا، لزوجته وأطفاله.
التفوق الذاتي
لقد ساوت الشريعة بين الرجل والمرأة في الواجبات، كما تمتعت في الخطاب الديني بشخصية مستقلة، وخاطبها القرآن بشكل منفرد، كأم وأنثى وزوجة ومؤمنة تتحمل مسؤولية سلوكها، وإنسانة محترمة، وأكد على استقلالية عواطفها كقوله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن). فعندما نقارن بين التساوي في جميع الأحكام العبادية وغيرها، ما عدا الإرث، نفهم أن الزيادة ليست تشريفا، بل في مقابل مسؤوليات يتحملها بمفرده. أو نقول: إن شرف الزيادة في الإرث يقابله شرف المسؤولية المالية الملقاة على عاتقه، وليست الزيادة تفضيلا ذاتيا له. فمن يرد تشريف الرجل على المرأة لا يساويها به في جميع الأحكام والواجبات. وكان بإمكان الكتاب الكريم أن يشعرنا بهذا التمايز لكنه قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، وقول الرسول الكريم: (لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). فالتقوى والعمل الصالح هي ركيزة التفاضل بين الناس عند الله وفي اليوم الآخر، وليست الذكورة والأنوثة. فكلاهما مكمّل للأخر ضمن النسيج الاجتماعي. فلا يدل التفاضل القرآني بين الذكر والأنثى على التفاضل الذاتي، بل هناك مناطات واضحة في هذا النوع من الآيات، كقوله تعالى:
- (لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا). فالجهاد بالمال والنفس في سبيل الله هو مقتضى التفاضل بين الناس. فيكون معيارا ثانيا للتفاضل بالإضافة إلى معيار التقوى. ولا تدل الآية على أي تفاضل ذاتي.
- (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ)، وهذه الآية أيضا لا تدل على التفاضل الذاتي، ويمكن فهم مناطات التفضيل من خلال سياق الآيات، والقرآئن اللفظية المحيطة بها. الآية جاءت في سياق بيان الحقوق والوجبات، حيث سبقها قوله: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا)، ثم عادت لبيان الحقوق والواجبات الخاصة بين الزوجين، حيث سيكون العرف والمتعارف هو الحَكم والمرجع في تشخيصها، فكما له الحق بها، ويجب عليها الاستجابة الكاملة له، فلها أيضا حق الاستمتاع والتمتع معه بما يروي غليلها. لكن تبقى له درجة مراعاة لوضعه البايولوجي وقوة شبقه، وحرصه وغيرته على زوجته. فيمكنه أن يفرض بعض القيود في هذا الإطار، وعليها الاستجابة بما لا يصادر حريتها. فالآية ليس فيها تفضيل ذاتي، يقتضي تفضيله بالإرث. وهذا ما نريد تأكيده.
- (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ). حيث فسر بعضهم التفاضل بامتلاك الرجل حق فسخ عقد الزواج دونها، لكن الانصاف عدم وجود قرينة على إرادة فضل الرجل دونها، فكل واحد منهما له فضل على الآخر ضمن وضعه البايلوجي والاجتماعي. وتبقى القوامة اقتصادية ومسؤولية. لكن رغم ذلك نجد أن بعضهم يرى أن كلا الأمرين (بما فضل الله وبما أنفقوا) شرط في وجوب القوامة للرجل، كي تبقى قيمومته، حتى لو لم يتمكن اقتصاديا، لان الرجل يبقى رجلا بخصائصه الجسدية (أي كونه رجلا وهي أنثى)، هكذا يعتقدون بناء على الأفضلية الذاتية. لكن القوامة بمعنى المسؤولية كما بينته في كتاب المرأة والقرآن تفصيلا، تنتفي مع انتفاء أحد الشرطين أو كلاهيما. فالرجل العاجز جسديا يعجز اقتصاديا فتسقط مسؤوليته وتنتفي صلاحياته. أو بعبارة أخرى تنتفي قيمومته كما في التعبير القرآني. وأيضا تسقط إذا عجز عن النفقة، مع عدم القول بالأفضلية الذاتية.
ثم التاريخ يؤكد بل وما يزال، أن الرجل هو بالأساس صاحب السيادة المطلّقة على المرأة، ولم يسيّده الإسلام عليها. ولا يوجد تسييد حتى في آية "الرجال قوامون على النساء". وانما هي قوامة اقتصادية نسبية، تنتفي بانتفائها، فلا تفضيل بهذا المعنى، لأن مناط التفضيل قرآنيا هي التقوى والعمل الصالح، سواء كان ذكرا أم أنثى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
نخلص مما تقدم إلى نتيجة مهمة، هي إمكانية إعادة النظر في فعلية الأحكام المتعلقة بالمرأة في مجال الحقوق المالية، في ضوء الواقع وضروراته، حينما نرتكز لفقه الشريعة، القائم على فهم ملاكات الأحكام وعلاقتها بالواقع من جهة ومرتكزات مبادئ الأحكام الشرعية في مرحلة الجعل من جهة ثانية. والغريب أن بعض الفقهاء، بدلا من الاعتراف بالواقع ومواكبة تطوراته من خلال فتاواه وما يستنبطه من أحكام، يطالب المرأة بالعودة إلى منزلها، والتخلي عن مهامها الاجتماعية والوظيفية، وكل ما أحرزته من تقدم على جميع الأصعدة، ويمطرها بنصوص تراثية، وتأويلات قرآنية، تحبذ لها خدرها والانصياع لأوامر زوجها، دون مراعاة لتاريخيتها.. إنها نظرة ذكورية متأصلة، وقيم بدوية تمنح الرجل تفوقا ذاتيا، وولاية تعسّفية على المرأة، وهذه إحدى أسباب تخلف الفقه، الذي أدمن تقليد التراث والسلف، وتمسك حتى الرمق الأخير بحرفية النصوص، بعد تجريدها من تاريخيتها. ولا شك أن هذا لا ينسجم مع من يدعي أن علل الأحكام مجهولة بالنسبة لنا، وما علينا سوى الطاعة والتعبد المطلق.
أحكام الجهاد والقتال
لا يخفى حجم الدماء البريئة التي سفكت على يد الحركات الإسلامية المتطرفة، عندما رفعت راية الجهاد في سبيل الله لاسقاط الحكومات، فأهلكت الحرث والنسل، وعكست نظرة سلبية عن الدين وأحكامه التشريعية، خاصة موقفهم من أتباع الديانات الأخرى، وتعاملهم اللا إنساني مع النساء، حيث تم استرقاقهن، وبيعهن في سوق النخاسة، في ظاهرة مقرفة في زمن تحكمه شِرعة حقوق الإنسان. والسبب في رفع راية الجهاد الفقه الإسلامي القائم على حرفية النصوص، وتقليد السلف في معرفة الأحكام الشرعية، دون التعامل المباشر مع الكتاب الكريم. ولو أعاد الفقهاء النظر في الجهاد وموضوعه لاكتشفوا أن موضوعه حماية الدين والرسالة، التي انتصرت بصريح القرآن، فلا ضرورة له: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، وقوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا). (وقد كتبت عن هذا الموضوع تفصيلا في كتاب: تحديات العنف). وكل الحروب بعد النبي الكريم كانت دوافعها صراعات سياسية وتوسع بقرارات شخصية، يتحمل وزرها أصحابها. فلا فعلية إذا لآيات الجهاد لعدم فعلية موضوعه وانتفاء شرطه، أي الحرابة المُفضية لفناء الدين وانهيار الرسالة: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا)، فالحرابة هي شرط القتال، وشرطه الثاني عدم الاعتداء.
وأما الدفاع عن النفس والعرض والقيم والمبادئ والأوطان واجب على الجميع ولا يحتاج الى تحريض ديني (فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ)، وهذا مقتضى العدل، تحتكم له البشرية، وهو حق مشروع للجميع، شريطة عدم الاعتداء والتجاوز: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ). فلا تضللنا سيرة الخلفاء والسلاطين في إيجاد مبررات شرعية لكل حروبهم وغزواتهم من أجل تجنيد الطيبين من الناس وزجهم في معاركهم وفتوحاتهم، لأنها حروب شخصية وسياسية. من هنا ينبغي للفقه الحذر في تعامله مع سيرة غير النبي الأكرم، إذ لا حجة شرعا إلا لسيرته المتعلقة بالقرآن وأحكامه، حيث قال تعالى "ما آتاكم الرسول فخذوه". وبالتالي فآيات الجهاد كانت ناظرة لواقع محدد، وكانت الأحكام المرتبطة بها قد أخذت كما يُعبر الأصوليون على نحو القضية الخارجية، وليست على نحو القضية الحقيقية، التي يكون فيها الموضوع مفترض التحقق، وإن لم يكن موجودا فعلا. بل أن موضوع القضية الخارجية محدد، ينصب فيها الحكم على خصوص أفراده. كمن يقول أكرم هؤلاء، ويشير إلى عدد من الأفراد أمامه، فالإكرام لا يشمل غيرهم، ولا تبقى فعلية للحكم بعد إكرامهم. فتجد آيات القتال مشروطة، وليس مطلقة، فيها إشارة واضحة إلى مجموعة من أهل الكتاب والكفار ممن واصلوا عدوانهم للرسالة والرسول والمسلمين. فهم مجموعة محاربة كقريش آنذاك ومن والاهم وناصرهم من أهل الكتاب. فإطلاق الحكم على غيرهم فيه تجاوز وفقا للشروط القرآنية.
نكتفي بهذين المثالين، وهناك أمثلة أخرى كالرق وأحكامه، وكانت الغاية من الاستشهاد بهما تحري إمكانية إعادة النظر بفعلية بعض الأحكام الشرعية، بناء على منطق الخلاقة، وأما بناء على منطق العبودية فالتجديد الفقهي مستحيل.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.