المثقف - حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (105): الفقيه والاصطفاء الإلهي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يواصل حديثه في (ق13) عن سلطة ومشروعية الفقيه.
وعي المفهوم
ماجد الغرباوي: رغم انضباط مفهوم الاصطفاء قرآنيا، غير أنه وظّف لتزوير الوعي، وتكريسه لمصالح طائفية ومذهبية وسياسية، أكثر مما كان عليه قبل الإسلام. ومازالت المجتمعات الدينية أو المسكونة بالغيب، تعاني من تبعات أوهام الحقيقة. وتكمن خطورة المفهوم في دلالاته ولوازمه وما يترتب على الإيمان به من مشاعر وأحاسيس ترتبط بمصيره وآخرته. فهو مفهوم موارب، يبعث على الرهبة والخوف، بفعل صورة مرعبة يرسمها الخطاب الديني، فيخضع الفرد لا إراديا لهيمنتها. وبالتالي يترتب على وعي المفهوم، ما يلي:
- قدسية المُصطَفى: بمعنى تعاليه على النقد والمحاسبة، كلازم للمفهوم في وعي المتلقي.
- حجية سلوكه وأقواله مطلقا: باعتباره مثلا أعلى للكمال الديني – الإنساني.
- ولايته: التي يستمدها من ولاية الله، وفقا لدلالات بعض الآيات. وليس المقصود بالولاية خصوص الولاية السياسية بل الأعم، كولايته على المؤمنين أو أوسع من ذلك.
- وجوب موالاته وعدم خذلانه أو التخلف عنه.
- يكون مقياسا للحق والباطل: وقد ينسب له علم الغيب والتفويض والولاية التكوينية.
هذه هي صورة المُصطفى في أذهان الناس، فهي صورة أسطورية، عززتها نصوص تراثية. والأخطر من تداعيات المفهوم وتوظيفه، أنه لم يعد حكرا على المشيئة الإلهية كما هو صريح القرآن. وغدا حقا نبويا بفعل تأويلات متحيزة لبعض آيات الكتاب. وهذه من أعقد القضايا، ما لم يُقتصر على القرآن مرجعا وحيدا للعقيدة الدينية، كما هو مقتضى آية كمال الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، والدين شامل للعقيدة والشريعة. وإلا ستفقد العقائد ضابطتها القرآنية، وتصل حد الغلو الصريح، والتموضع داخل اللامعقول على حساب العقل. من هنا أجد من الضروري تحديد المفهوم وصلاحياته قرآنيا، للحد من التمادي في توظيفه، واستغلاله من قبل الخطابات الطائفية والسياسية، وما يرتبه الفقيه عليها من فتوى تحت عناوين أولية أو ثانوية. فمن يؤمن بكمال بعض الرموز الدينية يرتّب على إيمانه آثارا عقائدية كالعصمة، التي تستلزم هيمنته على الأحكام الشرعية، وتكون آراؤه حجة مطلقة، وبالتالي يرتّب الفقيه عليها آثارا فقهية واسعة. وهذا مكمن الخطر في دعوى الاصطفاء. لذا وفقا للفهم القرآني لا مصداقية لأي اصطفاء ما لم يدل الدلاليل القرآني عليه، كالأنبياء.
ثمة حقيقة أن الاصطفاء يحول دون التسامح الحقيقي القائم على الاعتراف بالآخر شريكا بالحقيقة والذي يستلزم الاعتراف بحقه في التعبير عن رأيه وعقيدته، لأن المصطفى مصداق للحقيقة. وهذا يدفع باتجاه التعالي على الآخر، من منطلقات إيمانية تنتمي للعقل التراثي، الذي يتخذ من احتكار الحقيقة مبدأ في تعامله مع الآخر، ويرفض التسامح الحقيقي معه، بل يسعى دائما لمصادرته. لذا يقتصر قرآنيا على الأنبياء، ولا يمتد اصطلاحا لغيرهم. وهذا لا ينفي وجود مقامات إيمانية وروحية عالية، لكن الاصطفاء شيء مختلف.
المفهوم قرآنيا
اهتم القرآن بمسألة الاصطفاء، على خلفية الواقع العبادي وارتباطه بالاصطفاء، وما يترتب عليه من التزامات سلطوية، حيث ساهم المفهوم في تزوير الوعي، وشرعنة عبادة غير الله، كالأصنام، فضلا عن الهيمنة السياسية التي استمدت مقوماتها منه. بل أن الاصطفاء مرجعية عقدية على امتداد تاريخ الأديان، بفعل أسطوريته، وقوة دلالالته، وايقاعه النفسي. فالاصطفاء امتياز يقمع التمرد والمعارضة، والمُصطَفِي (الذي يصطفى ويختار) هو الله، بقدسيته وعظمته. فالفرد يكتسب بالاصطفاء ميزة وخصوصية، تفرض محدداتها وسلطتها التي قد تكون مرعبة أو اسطورية، تتفاقم وسط فضاء معرفي - تراثي، وكلما تضخمت صورته كلما اتسعت صلاحيته حدَ الولاية على الأموال والأنفس والكائنات بشكل تدريجي. ومردود هذا التصور استغلال الفرد وطغيان سلطة "الملأ"، ويكفي الوضع المزري للعبيد آنذاك، ممن قامت على أكتفاهم حضارات يفتخر بها الناس، دون تقدير لحجم التضحيات والدماء التي سفكت والأجساد التي سقطت تعبا وإرهاقا، من أجل تمجيد أرباب سياسية، وحماية سلطتهم. من هنا تأتي حساسية الكتاب الكريم تجاه هذا المصطلح فعمد لبيان خصائصه وشروطه بعد أن بين فلسفة احتكاره من قبل الخالق. لكن رغم ذلك مازال الخطابان الطائفي والسياسي، يسعيان للتشبث به لشرعنة سلوكيات وأفعال وعقائد بعيدة عن قيم السماء. وقد سلطت الآيات 73-76 من سورة الحج ما يكفي لفهم مفهوم الاصطفاء ودلالته، وصلاحياته واختصاصه.
الاصطفاء لغة: الاختيار والتفضيل. وأما قرآنيا فالمفهوم يستبطن تفضيلا وتزكية تصل حدَ الكمال، وهي غاية طموح المؤمنين. (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ). وهذا سرّ خطورته عندما يوظف في غير محله، وتتفاقم تداعياته، حدا يتخلى الإنسان عن عقله ويعبد حجارة لا تضر ولا تنفع. لذا بدأت مصفوفة آيات سورة الحج بتسفيه منطق العبودية القائم على الجهل والخرافة وانتزاع صفة الاصطفاء عنه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). فكيف يكون من المصطفين، وهو بحالة بائسة من الضعف والهوان؟. ففي الآية تحدٍ للعقل الجمعي من خلال قضايا حسية وبرهانية.
ثم تولّت الآيتان التاليتان بيان خصائص وفلسفة الاصطفاء، لتضع المؤمنين أمام صورة واضحة، لتحصين الوعي الإيماني، وتفادي أي انزلاق يؤدى إلى استغلاله، فقالت: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). فيمكن الاستفادة من الآيتين ما يلي:
- حددت الآية مصدر الاصطفاء، بشكل سلبت أية جهة أخرى صلاحيته، ولازمه تكذيب كل دعوى لم يصرّح بها الكتاب الكريم أو لا تنطبق عليها شروطه.
- لا فرق في الاصطفاء بين الملائكة، الذين هم كائنات روحانية، تأتمر بأوامر الله، و(لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)، وبين الناس، عموم الناس، غير أن الاصطفاء يجرى وفقا لمعايير خاصة، ترتبط بالتزكية وقيم تفاضلية تختص بالرسالات. بدليل قوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ "رُسُلًا"، وبما أن تزكية الملائكة مضمونة، "لا يعصون الله ما أمرهم". فلابد من وجود معيار آخر للتفاضل، يرتبط بالرسالات: "الله يصطفى من الملائكة رسلا". تكون مهمتهم رسالية. فتقدير تكملة الآية: و"يصطفى" من الناس "رسلا". فالرسالات وشؤون النبوات هو غاية الاصطفاء، الذي يرتكز للتزكية والتفاضل في جملة مقومات ذاتية ونفسية قادرة على تحمّل أعباء المسؤوليات بصبر وبصيرة وثبات. فليس كل مؤمن مؤهلا لتلقي الوحي الإلهي: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا). ويقصد بالثقل ثقل المسؤولية النبوية ومختلف تحدياتها.
- ثم بينت الآية الثالثة السبب الرئيس وراء اختصاص الله بالاصطفاء، لأن المفهوم يستبطن "التزكية" و"التفاضل"، وكلاهما أمر نفسي خفي، لا يمكن إدراكه وتحديد مستواه سوى خالق الإنسان، فحتى النبي ومنزلته العظيمة يخاطبه الله بشأن بعض المنافقين ويقول له: أنك لا تعلمهم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). دليلا على شدة خفاء القضايا النفسية، فكيف بمسؤولية الرسالات السماوية وما يرتبط بها؟. فالتزكية المطلوبة في الاصطفاء تختص به تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، لأنه كما تقول الآية التالية (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). من هنا يطالب القرآن النبي الاعتراف بوهنه وضعفه وعدم علمه بالغيب: (قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)، فربط نفعه وضرره بالمشيئة الإلهية وسلب عن نفسه الإرادة في هذا المجال. كما اعترف بجهله وعدم علمه بالغيب: "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء". لأنه إنسان يندفع فطريا لمراعاة مصالحة، وتفادي كل ضرر، فكيف يعلم الغيب ولا يتفادى الضرر، كالمرض والخوف والجوع والتهديد والمخاطر، وغير ذلك. فالآيات واضحة في بيان سبب اختصاص الاصطفاء بالله تعالى، حيث جاءت تكملة الآية السابقة وما تلاها: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ). لماذا الله وليس غيره؟. تجيب الآية:
ا- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ،
ب- يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
ج- وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
بهذه الخصائص الفريده يمكنه تعالى تحديد مستوى كمال النفس البشرية وقدرتها على تحمّل أعباء رسالات السماء. فمستوى كمال النفس، تزكيتها، وقدرتها على تحمّل أعباء الأمانة الكبرى، هي القيمة التفاضلية التي تم على أساسها الاصطفاء. (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). والنبوات جزء من الأمانة الكبرى.
وبالتالي لا يلزم من الاصطفاء وجود طبيعة بشرية مختلفة، أو أن المصطفى يختلف في طينة خَلقه ونقاء دمه وعنصره، كما يدعي الخطاب العنصري، وخطابات الغلو الديني والقَبلي، لأن الناس خُلقوا من نفس واحدة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً). وهذا لا ينفي وجود خصال حميدة تتسم بها بعض القبائل كالكرم والشجاعة، لكن الكلام عن وجود اصطفاء إلهي لقبيلة دون غيرها.
أما لماذا ينسب التفضيل لنفسه؟
والجواب: إن نسبة التفضيل لنفسه لا ينفي شرط المقومات الذاتية. أما التفضيل النهائي فهو شأن إلهي: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ). كما في تكملة الآيات المتقدمة. وأما المقومات الذاتية فتبقى شرطا على أساسه يتم التفضيل النهائي، وهو الغاية من تصريحه أنه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). فالعلم ما بين أيديهم وما خلفهم بمعنى الخبرة، والعلم بحقائق الأمور. فلا مصادرة، ولا تناقض.
الاصطفاء والآل
إن ما تقدم لا يمنع أن يتصف قوم من الأقوام بخصائص مشتركة، تؤهلهم للاصطفاء، كما بالنسبة لآل إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ، وهذا ما تشي به آية: (وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)، لكنها لا تعني شمولها لجميع الأفراد، بعد أن ذكر أسماء الأنبياء منهم فقط. ولو كان للسبب مدخلية في الاصطفاء لصرّح بذلك، فعدم تصريحه ينفي هذا الاحتمال بموجب مقتضيات الحكمة، أن ما يريده يقوله، وما لم يقله لا يريده مادام في مقام التشريع والبيان. فالاصطفاء من قبل الله، لأنهم من "الأخيار"، وإن لم يظهر التعليل واضحا في الآية، لأن الاصطفاء كما تقدم، يتم وفق خصائص ذاتية مرتبطة بالفرد، منها أن يكون من "الأخيار"، وأخرى موضوعية تخص المحيط الثقافي والعقائدي، باعتباره ساحة نشاطه النبوي.
و"الأخيار"، مفهوم عميق، يحيل على تجارب روحية للعارفين بالله، حيث يتوهج الإيمان في أعماق نفوسهم، ويبلغ درجة اليقين وربما عين اليقين، لا تراودهم الشكوك، ولا تثبّط عزيمتهم التحديات، (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا)، فينعكس على سلوكهم ووقارهم، وقوة ثباتهم أمام مغريات الحياة، فالأخيار كلمة أبلغ من الوصف يدركها من يعاشر هؤلاء الناس، ويتعرّف عليهم عن قرب، بل أن سلوكهم وأخلاقهم وإيمانهم شاهد على ذلك، فلديهم استعداد ذاتي يؤهلهم لمنصب الاصطفاء، وكل مؤهل ذاتي يطوّر التجربة الدينية، ويتعهده الله بلطفه وعنايته، وهذا ما تقوله الآية: (وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ). وليس المقصود بالجهاد القتال بل الأعم، وهو مجاهدة النفس وتقويمها بالعمل الصالح. فتجد أوصافهم في قوله تعالى: (وعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا).
كما لا ننسى أثر البيئة الصالحة، ودور الأخلاق والتربية السليمة في خلق جيل متجانس من حيث الصفات الحميدة، والاستواء سلوكيا، خاصة أن العقل الجمعي يلعب دورا فعالا في إثراء التجارب الدينية والأخلاقية. وطالما نشير إلى طيب أخلاق بلدة أو قوم باعتبارها صفة غالبة. فهكذا هم آل عمران وآل ابراهيم، بيئة رحمانية صالحة لانبثاق الانبياء، وسيادة قيم الخير والمحبة والسلام والارتباط بالله خوفا وتقوى وتسليما. فتجد أن إيمانهم فطري سليم، ورؤيتهم الكونية نابعة من تفكيرهم ومن أعماق تجربتهم الروحية وعمق إيمانهم.
يبقى سؤال:
1- هل يترتب على اصطفاء الأنبياء أثر رجعي فيشمل من ينتمي لهم نسبا وهم عشيرتهم وقبيلتهم؟
- وفقا للمدونات التاريخية والمرويات الدينية، إن أشد ما عانىاه الأنبياء خلال مسيرتهم الرسالية هم أقوامهم وعشائرهم والمقربين منهم. وقد عانى النبي من قريش ما لم يعان منه نبي آخر، حتى قال: "ما أوذي نبي مثلي"، وطالما هدأت الآيات من روعه: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلً)، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا). وكان في مقدمة قريش زعماؤها، وهم عمومة النبي، أبو لهب وأبو سفيان، والملأ من قومه. فكيف يشمل الاصطفاء مَن حارب الله ورسوله؟.. بل كان التواد محرما على أصحابه: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). بهذا تفهم قيمة الروايات التي تقول باصطفاء قريش وتفضيلهم على غيرهم من الناس، بل كان تفضيلهم وفقا للقيم القَبلية القائمة على الاستبداد والتفرد والتسلط، ومصادرة حقوق الناس واستغلال طبقة العبيد. فالقرآن يكون حاكما على تلك الروايات ويسلبها قيمتها وحجيتها.
2- هل اصطفاء قبائل الأنبياء والمرسلين شرط لاصطفائهم، كما قد يفهم من الروايات الدينية والتاريخية، منقولا عن النبي الكريم. أو باعتباره لازما لها؟. فقد جاء في شرح النووي على صحيح مسلم باب الفضائل قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانه، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم). وقال: (إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً وخيركم نسباً). إلى غير ذلك من روايات تمجد قريش خاصة.
- إذا كان اصطفاء قبائل الأنبياء والمرسلين شرط لاصطفائهم، فلا مبرر لبعثتهم. الاصطفاء مسؤولية رسالية وليس تشريفا، وإن تضمن ذلك. مسؤولية تغيير الواقع، وتقويم أمته وانحرافه. وقد انبثق الأنبياء وأوحي لهم، في داخل بيئات اتصفت بالكفر والشرك كما في المصطلح القرآني. أقوام غوت وطغت وفسقت وظلمت وجارت. فجاءت الرسالات لتطرح دينا جديدا، ينتشل الوعي،ويعيد تشكيل العقل الديني.
3- هل يلزم من اصطفاء النبي اصطفاء أبنائه وأهل بيته؟
- لا ملازمة بينهما، إلا إذا اقتضت الضرورة كما بالنسبة لموسى وهارون، حيث استجاب الله لدعوة موسى واصطفى هارون ليشد به عضده، فوصفته الآية بالرسول: (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وصرحت آية أخرى بنبوته: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا). ولا يمكن القياس عليها لأن موسى قد ذهب إلى ربه يلتمسه الاصطفاء لهارون، بعد أن بين الأسباب والضرورات: (وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي،) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ... قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ)، فنفهم أن الوزارة والإمامة والاصفطاء كلها مناصب مرتبطة بالمشيئة الإلهية، ولم يفوضها لغيره. وبما أنها كذلك فتتوقف على وجود نص قرآني صريح. ولو كانت شأنا نبويا لاتخذ موسى قرارا شخصيا دون الرجوع إلى ربه. لكنه يعلم أن الله لا يشرك بقرارته وأحكامه أحدا: (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا).
بشكل عام للأنبياء ومنهم محمد بن عبد الله شخصيتان، شخصية رسالية وشخصية نسبية. في الشخصية الأولى يكون على مسافة واحدة من الجميع، باعتباره نبيا مرسلا لهم: (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَٰكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ). والكلام هنا عن الاصطفاء الإلهي الذي يتطلب التصريح، ولازمه النبوة والمسؤولية الرسالية، وإلا فلا شك أن أخلاق النبي وسلوكه تنعكس على أهل بيته، ويتأثرون به، وترتقي نفوسهم، ويقوى إيمانهم. دون الاصطفاء الإلهي، وهذا واضح في قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، فالآية جاءت بعد بيان أحكام مشددة وثقيلة فرضت على نساء النبي وزوجاته، فنزلت لتهدّئ من خواطرهن، وتبيّن فلسفة التشريع بخصوص هذه العائلة المباركة، فربطت التطهير بالاستقامة، ولم تؤسس لتزكية مطلة أو عصمة كما يرى بعض ذلك.
فالاصطفاء الديني مرتبط بالمشيئة الإلهية، ولا يمكن توظيفه لشرعنة أية سلطة سياسية أو دينية أو روحية خارج دائرة الرسالات، وهذا ما تقتضيه، آيات الكتاب الكريم كما تبين آنفا. وبالتالي فالقريشية شرط قَبلي لا علاقة له بالدين، والاصطفاء دائرته الرسالات السماوية وخصوص الأنبياء، كشرط ثانٍ لصدق النبوة بعد الوحي. وكل ما هو خارج هذه الدائرة يحتاج لدليل قرآني بخصوصه.
يأتي في الحلقة القادمة
............................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.