حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (172): فلسفة الخلق وإدراك المعنى
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الثانية والسبعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ: أحمد مانع الركابي.
تقنية إدراك المعنى
ماجد الغرباوي: يمكن مقاربة التشابه بين الأسطوري والسماوي من زاوية سوسيوثقافية، رغم بشرية الأول وقدسية الثاني، لنفهم دور النظام الثقافي في تمثّل قصة الخلق، ودور الثقافة في فهم دلالات النص / الكلام، سيما المعاني المجازية التي لا يصرّح بها اللفظ. فالوسط الثقافي المشترك أو المتقارب شرط في إدراك قصد المتكلم، الظاهر والمضمر، ولازمه إدراك دلالاته المجازية ومختلف إحالاته الثقافية والنفسية وغيرهما. القارئ لا يتلقى مصفوفة كلمات وتراكيب لغوية فقط، بل تطرق سمعه ألفاظ مترابطة لها موسيقا وإيقاع، تولّد دلالات تستمد معانيها من خلفيته التي تمنحُ خصوبتُها إمكانيات تأويلية واسعة. ويتعذر عليه إدراك معاني الكلمات خارج ثقافته. أو يفهمه فهما حرفيا مخلا بدلالاته، كما يحصل في الترجمة الحرفية حينما يجهل المترجم ثقافة اللغة الثانية. ولهذا تبقى القضايا الميتافزيقية نسبية، لا حقيقة لها خارج النص والفضاء المعرفي للمتلقي، لعدم وجود وسط ثقافي مشترك سوى رموز ومعان مجردة ومفارقة، يختلف تمثّلها من شخص لآخر تبعا لثقافته وقبلياته وقدرته على التخيّل. فيساهم الفرد في تشكيل حقيقة القضايا النسبية وإنتاج المعنى. وبالتالي لا تستغني اللغة عن الوسط أو الإطار الثقافي لإدراك دلالات الكلام وفك شفرته. بين اللغة والثقافة علاقة جدلية، أحدهما يثري الآخر، هي محور الثقافة، والثانية إطار للأولى. فاللغة تتأثر بثقافة الفرد وخزينه المعرفي ومدى وعيه ومستوى إدراكه.
ويقصد بالثقافة ذلك المركب الكلي الذي يشمل الفنون والآداب والقيم والعادات والتقاليد والأخلاق. تنمو وتتطور داخل بيئتها ونشاطها الإنساني، الذي يمهّد لاستيعاب الكلام وفك شفرة دلالات النص، سلبا وإيجابا، ويحفّز على تفاعل المتلقي لا شعوريا، فيتجسّد ذلك من خلال مشاعره وسلوكه، وهو ومن تحكمه ذات الأطر الثقافية. فالأمثال يتعثّر إدراكها خارج بيئتها الثقافية، وكذا الحكايات والقصص، حينما تتضمن مصطلحات تنتمي لبيئة ثقافية خاصة، والسبب ليس في اللغة بل في دلالاتها الثقافية، فقد يفهمها بشكل مختلف. فنحن نستنطق النص بفعل خلفيتنا الثقافية وخزيننا المعرفي، فيتفاوت تأويله تبعا لتفاوت قبليات المتلقي. وفارق الفهم بين الصغار والكبار يؤمج ذلك. إن عملية الفهم معقدة للغاية. الفهم حضور لا شعوري لقبليات السامع، بكل ما تحمل من دلالات وعلائق ترتبط بكلام المتكلم. فإيقاع الجملة يتردد صداه داخل بنية الوعي، وتتجاوب معه أنساق مضمرة تحدد دلالاته الثقافية من خلال مختلف الإحالات، سواء إحالات الذاكرة أو التحفيز الجسدي والسلوكي. وبهذا يتضح دور ذاكرة المتلقي ومدى ثرائها في فهم دلالات الكلام. فعندما يستشهد المتكلم برمز تاريخي، يتفاعل معه المتلقي بقدر ما تحتفظ به ذاكرته عنه، وترتهن فاعلية التفاعل لصورة الرمز في الذاكرة، التي هي الأخرى تتحدد من خلال معايير خاصة بها. فثمة تداخل مدهش في عملية الفهم، وتشابك بين الأنساق المعرفية، أشبه بخوارزميات الكومبيوتر، وأكثر تعقيدا بمرونتها وحيويتها. وكل نسق يشكل بمقولاته منظومة أو كتلة معرفية مصغّرة، قد تصطف مع بعضها لتشكل كتلة أكبر. فكلام المتكلم حزمة ملعومات مكثفة داخل الجملة اللغوية، لها إحالاتها في ذهن السامع أو المتلقي. لذا تستفزه المعلومة الغريبة فيتمثلها من خلال خزينه المعرفي وفي داخل إطاره الثقافي. وهي قضية مرتبطة بقوانين اللغة وكيفية الإدراك. فعندما تصف نوعا من فاكهة غريبة يتمثلها السامع في ضوء ما تناوله من فاكهة. وتكون استجابته أسرع عندما تقارن بينها وبين انواع تشبهها. وهذا لا يعني أنه تذوقها حقيقة. وعندما تصف رمزا تاريخيا يتمثله المتلقي بثقافته وخزينه المعرفي، ويعيد تشكيل صورته وفقا لخلفيته. ويصح أنه يعيد تشكيل ما لديه من صفات. ويستدعي بيان وشرح وتوضيح الإفكار، خاصة المجردة، جهدا ذهنيا لتمثّلها، يرتهن تحققه لسعة خزينه المعرفي وثقافته. فالخطيب الناجح يوظف أمثلة ورموز ودلالات متداولة تسهّل عملية تمثّل الأفكار. وعندما يقصد ثيمة محددة، يستعين بجميع الوسائل الثقافية التي تشحذ الذاكرة، وتحفّز معارفها والاستعانة بها لإدراكها، فيلجأ للبيئة الثقافية ليضمن تفاعل المتلقي. ويسشهد مثلا برموز تاريخية تتمتع بقوة حضورها في الذاكرة الشعبية. ويتخذ منها نموذجا لتجسيد أفكاره. فعندما يتحدث عن فكرة الحرية بمفهومها الحديث، وهي غريبة عن بيئة المتلقي، يستشهد بتجارب تاريخية تحتفظ بها ذاكرة العقل الجمعي، يتمثّلها من خلال خلفيته وذاكرته التاريخية، خاصة عندما يختزل التاريخ بها. فتكون مقدسة، يستمد منها شرعية كل شيء، وعندما يستشهد الخطيب بسيرة الرمز، يقصد تقريب فكرته من خلال أقوال وسلوك الرمز التاريخي، وأيضا شرعنتها عند نسبتها بشكل غير مباشر له. فهو يخلع على أفكاره قدسية. وبشكل أدق يروم توجيه وعي المتلقي لأفكاره من خلال التستر بأقوال وسلوك الرموز المقدسة. فقصدية المتكلم تحدد تقنيات الكلام، ووسائل التعبير، وما هو مناسب لتحقيق هدفه، كالابتعاد عن جرح مشاعر المستمعين، والاستشهاد بما يحبونه ويرغبون به. وخلاصة الكلام أن قوانين الفهم تستدعي وجود خلفية ثقافية وخزين معرفي بهما يدرك المتلقي دلالات الكلام، ومع كل تواصل يستدعي المتكلم المألوف من الأنساق المعرفية لفك شفرة اللفظ. وأقصد بالمألوف، المتداول يوميا الذي يقف وراء تبادر معنى دون غيره، بدون جهد ونظر. ثم كلما كان المعنى بعيدا يستدعي شيئا من التذكر والتأمل، حتى إذا تلقى صورة مجردة أو مفارقة استعان بما لديه من صور مشابهة يمكن من خلالها إدراك معنى مجازي، بفعل قوة التخيل وقدرته على الإبحار في فضائه. وهذا ينطبق على القضايا الميتافيزيقية التي يستحيل التأكد منها حسيا أو من خلال الدليل البرهاني أو الرياضي. وهذا اللون من الترابط يختلف عن الاقتران الأولي بين اللفظ والمعنى، ويقع ضمن تداعي المعاني التي هي بمثابة قرائن عند وضع اللفظ لمعناه، يقوم العقل بخزنها لترافق كل اقتران بين اللفظ والمعنى عند الكلام. لا تعني الكلمة بذاتها شيئا، ثم تكتسب معنى من خلال مجموعة قرائن ترتبط بها، فيرتهن معناها بما حولها من معان. وبشكل أدق لا معنى للفظ بذاته بل بغيره، فالقرائن هي التي تحدد معناه، ولا عقل يتعذر عليه فهمها بعيدا عنها. ولهذا شبه بملفات (web pag htmal) عند رفعها للويب سايت، فترفع معها فولدر، يشتمل نسخة ملف الورد الأصلية، ومجموعة ملفات صورة وغيرها، هي مجموع الشفرات التي على أساسها يقرأ المتلقي النص. فنحن نستخدم ملفات الكومبيوتر معرفة آلية عمله، وماذا يرافقه من قرائن. وكانت جميع الاوامر ظاهرة عند تنضيد الحروف في بداية ظهور جهاز الكومبيوتر، وقبل تصميم المتصفحات الحديثة. فمع كل جملة لغوية هناك قرائن مخفية يعي شفرتها العقل، وعلى أساسها يدرك معناها، من خلال خلفيته وخزينه المعرفي. وهذا ضمن قوانين اللغة، وآلية إدراك المعنى.
وعندما نستدعي ذاكرة الصحابة، لا نجد فيها سوى مكونات البيئة الثقافية المحيطة بهم، وهي ثقافة لها أعرافها وقيمها ورموزها وتاريخها وفنونها وأخلاقها وتعددها المنقسم بين الديني واللاديني. فيكون من الطبيعي اشتمالها على قيم الدين ومعارفه ورموزه وتاريخه وعقائده. خاصة مع وجود أهل الكتاب في البيئة العربية، وانتشار أساطيرهم وخرافاتهم. ومنها قصة الخلق، وتاريخ الإنسان. يدفعهم لذلك لا فقط فضول المعرفة، بل سؤال الوجود وهاجس الخلاص. والأهم امتزاج اللاهوت والناسوت في قصة الخلق، التي تستعيد قيمة الإنسان رغم أسطوريتها. وهذا أحد أسباب تعلقه بها. وأما السبب الثاني فهو بساطة ثيمة الخلق في مدونات أهل الكتاب وسرديات الثقافة الشعبية، حد التماهي معها رغم تدني المستوى الثقافي قياسا بما بعده من العصور. فهي قصة يمكن تمثّلها من خلال صناعة ونحت الأصنام، ويترك نفخ الحياة فيها للإله أو الآلهة، حسب معتقده، ليكتسب المخلوق قدسية رفيعة. غير أن الأمر بالنسبة للقرآن كان مختلفا، فثيمة الخلق تقوم على وحدانية الخالق وخلافة الإنسان، وهو اختلاف جوهري كما مرَّ الكلام عنه، وهذا يؤكد بطلان وقائعية أسطورة الخلق، فلم يستشهد بها سوى إشارة مجملة للعناصر المشتركة المتقدمة. فأمام الكتاب وهو يواجه هذا الواقع الثقافي، مسؤولية تحرير قصة الخلق من خرافتها، واستعادة البعد الإنساني لها مع ربط الفرد بخالقه والتأكيد على وحدانيته. ربط الإنسان بخالقه هدف أساس للأديان والكتب السماوية، ولازمه توحيده ونفي الشرك عنه، وتقويم ما سبق القرآن من عقائد أهل الكتاب: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). والهدف الثاني الأساس بالنسبة للقرآن هو مركزية الإنسان ومراعاة مصالحه وهدايته. وكل واحد من الهدفين يحدد مسار فهم الدين وآيات الكتاب.
وبالتالي، وهذا ما نروم الوصول له، أن التداخل بين الأسطوري والسماوي، ليس تسريبا للأسطورة بل هو تراكم ثقافي عبر التاريخ، يمكن توظيفه لخدمة ثيمة القصص القرآني. وقد بينت هذا مفصلا. وقلت أن استراتيجية الكتاب بتصديق ما بين يديه من التوراة تقتضي تأكيد القصص، دون وقائعيتها، وشحنها بدلالات رمزية تنسجم مع ثيمتها. فالطين يبقى طينا، ويدخل كعنصر أساس ضمن نسيج وقائع السرد رغم مجازيته، ترتهن له كغيره حبكة القصص. ولو أراد القرآن سرد قصة الخلق بطريقة مغايرة، يضطر لمشتركات ثقافية تمهّد لفهمها، بينما كان العقل بسيطها لم يألف البراهين والأدلة الفلسفية، إلا بحدود المجاز والكناية والاستعارة والتشبيه وغيرها من تقنيات بلاغية. وخطاب القرآن (هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ)، نزل (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)، ومعنى هذا أن الكتاب ارتهن فهم آياته لثقافة الناس ولغتهم، فخاطبهم بلغة يفهمونها، ويدركون معانيها مادام هناك وسط ثقافي يمهّد للتواصل المعرفي. بينما يستعين المتأخرون بمعاجم لغوية وروايات تراثية لتفسير القرآن وآياته. علينا عندما ندرس قضية دراستها ضمن ظرفها التاريخي وبيئتها الثقافية التي كانت تحتضنها، دون اسقاط الحاضر على الغائب والتاريخ.
لم أقصد بهذه المقدمة تبرير التداخل بين الأسطوري والسماوي، بقدر ما أريد فهمه، وتحديد موقع الأسطورة ضمن نظام اللغة والبيئة الثقافية عند تداول القصص. فهي بقوة حضورها، تشكل نموذجا معرفيا لتمثل قصة الخلق، ويمكن الاستعانة بها لتمرير ثيمة قصة الخلق بالنسخة القرآنية.
أكرر ما ذكرته سابقا أن العملية برمتها مرتبطة بمفهوم الوحي والنبوة، وكيفية تلقيه من قبل الأنبياء، وما هو دور النظام الثقافي في وعيه وفهمه وإدراكه وتفسيره؟ يبقى البحث مؤجلا لحين التطرق لمفهوم الوحي عندما يحين وقته. لكن على نحو الإشارة: المفهوم الأول للوحي ليس لديه مشكلة، فكلمة الله هي العليا. لا تهمه إشكالية التداخل بين الأسطوري والسماوي. والتدخل بالنسبة للثالث شاهد على بشرية الكتب السماوية. وأما الثاني والثالث فوجود الأسطوري ضروري لتمثل المفاهيم المفارقة والتجريدية، على تفصيل بينهما. والأمر أكثر وضوحا بالنسبة لمنهج فهم القرآن ورمزية القصص القرآني الذي تبنيناه هنا، فتكون العبرة بثيمتها لا بوقائعيتها. وتوظيف الأسطورة، هو توظيف لرمزيتها لا وقائعيتها، مادامت راسخة في البيئة الثقافية. وبشكل أدق تكون آداة لنقل المعنى الرمزي وتفسيره. والأخير هو منهج هذا البحث منذ بدايته. والذي على أساسه تمت تسوية التعارض بين الديني والعلمي. بين نظريتي الخلق والتطور.
الخلق بين الدين والعلم
اتضح سابقا لا تعارض بين الدين والعلم، ولكل مجاله الخاص. وتقدم أن القرآن كتاب ديني يدور مدار هدفه. والكون بما فيه الإنسان خاضع لقوانين الطبيعة، لا أحد يمكنه تحديد منشأ خلقه علميا. بما فيها نظرية التطور، فإنها لا تبيّن أصل الحياة، ويقتصر دورها على بيان آلية تغيّر الكائنات بمرور الزمن، وأسباب انقراض بعض الأنواع.
تبقى مسألة: هل بالضرورة أن يكون أصل الإنسان قردا؟. ولماذا لا نفترض أن لكل كائن أصلا مستقلا بنفسه، رغم تطور عدد الخلايا في كل نوع. بمعنى أدق فكما هناك نوع "الأميبا" وحيد الخلية، يكون بجانبه نوع ثنائي الخلية، ليس بالضرورة أن يكون تطور عن الأول بل هو نوع مستقل بذاته. وهكذا يكون مسار خلق الإنسان مستقلا. وربما بدايته كانت نواة أولية، لديها استعداد كامل للتطور والتكيّف مع تحديات الطبيعة، وضروراته الحياتية. كان في بدايته يعيش كالحيوان، بإدراك عقلي بسيط، تطور بمرور السنين. وبالتالي لا ننفي التطور إذا كانت هنا أدلة وشواهد علمية كافية، ونختلف حول خلق الإنسان. هل هو نوع مستقل بذاته، تطوّر عبر الزمن؟ أم ليس نوعا بذاته، وقد تطوّر عن أسلاف تنتمي لفصيلة القرود؟ ومن ثم تأتي إشكالات الحلقة المفقودة، وتوقف الطفرة الوراثية، ولماذا تطوّر عقله دون سلفه؟. لذا رغم عدم اختصاصي في الموضوع لكن يبقى الأصل استقلالية الإنسان في خلقه ومساره التاريخي، ما لم يدل الدليل العلمي القطعي على خلافه. والأصل هو مقتضى طبيعة الإنسان. ربما كانت بدايته نواة، لها قابلية واستعداد كامن للتطور والاستجابة لتحديات الحياة، ساعدت العوامل البيئية على تطورها. فكانت النسخ الأولى للإنسان مجرد كائن بدائي، محدود الحركة، ثم راح يتطور ببطء شديد. وبهذا سنتخلص من جميع الإشكالات، بما فيها إشكالات من نوع آخر. فهو تطور، ونوع أرقى لكنه مرَّ بجميع مراحل التطور البايلوجي بفعل قابليته واستعداده. ودليلنا وجود العقل والتصرف العقلاني الذي لا مثيل له عند الكائنات الأخرى، وليس للقرد أي تشابه، مهما أوتي من ذكاء بسيط لكنه يبقى حيوانا. والإنسان شيء مختلف جذريا.ثمة قضايا فطرية لدى الإنسان يختلف بها عن الحيوان، لو صدق انحداره عنه ينبغي أن يكون لها جذر فيه، وانتفاؤه دليل على ثبوت الأصل، ما لم يدل الدليل البرهاني على غيره. كوعي الذات والآخر، تطلعه لتطوير حياته، مشاعره الإنسانية، وغير ذلك. وماذاعن الصفات الوراثية التي يختص بها الإنسان؟
تأسيسا على ما تقدم: وبناء على استقلال النوع البشري:
- لا يأتي إشكال الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان، مادام نوعا مستقلا، وكائنا موازيا لغيره من الأنواع. فمسار خلقه مسار مستقل.
- لا يأتي إشكال تشابه الإنسان القديم مع القرد، مادام تطوره استجابة لحاجاته وتحدياته. وقد مرَّ بجميع مراحل التحدي، وعاش في أحضان الأدغال والغابات والجبال والوديان، ولكل بيئة متطلباتها. ومهما كان فهو كائن حيواني، يعرّفه المنطق الشكلي: (الإنسان: حيوان ناطق). فهو في حيوانيته من جنس الحيوان، ويتأثر بالتحديات، وبينهما جملة تركيبات كيمياوية وحامضية مشتركة، لذا جميع التجارب تجرى أولا على القوارض، خصوصا الفئران... قبل مدة طويلة، رقد معي في المستشفى رجل كبير من (Aborigines)، فأكد لي أحد الموظفين وجود فتحه في الجانب الأيسر من جسده، لم يبق منها سوى أخدود مندثر، خشيت الاقتراب منه بفعل قوانين الخصوصية، وكان المسؤول يشير لها من بعيد، ولم استطع رؤيتها بشكل واضح. وهذا يصلح شاهدا لتطور الإنسان، لكن ليس بالضرورة تطوره عن القرد، بل تطور كنوع مستقل*.
- لا يأتي السؤال عن آدم وأطفاله وكيف قاوم الحيوانات المفترسة، لأن الإنسان الأول كان يعيش أشبه بالحيوانات ويعرف كيف يتدبره. هذا أولا. وثانيا، لا يوجد إحصاء لعدد البشر الذين تطوروا، وأكيد كانوا أعدادا كبيرة، فحافظوا على نوعهم الإنساني.
- لا يأتي لماذا توقف التطور. لأن نسل الإنسان قد تحسن، خاصة بعد مرحلة التجمعات السكانية التي لجأ لها بفعل طبيعته الاجتماعية وحاجته الماسة للتعاون. بشكل أدق بلغ الإنسان في تطوره مرحلة الكمال، التي هي نهاية كل تطور.
- لا تأتي إشكالية التنوع العرقي، واختلاف اللون والألسن. بل نستدل من التنوع انتشار النواة الأولى في مناطق واسعة من المعمورة. وجميع البشرية في مراحلها الأولى قد تأثرت بالتحديات الطبيعية والبيئة، وقد عاشت ظروفا مختلفة ومتشابهة. لونه يعكس المؤثرات البيئية على جسده. واختلاف اللغات، بسبب اختلاف طريقة التعبير عن حاجاتهم للتفاهم والتواصل والتعبير عن مشاعرهم، فبدأ الإنسان بلغة الجسد، ثم لغة الإشارة، وبالتدريج انطلقت الأصوات بفعل استعداده التكويني للنطق. وبالتالي من الإشارة والصوت والحاجة للغة تأخذ اللغة شكلها، ثم تنضبط وفق قواعد تسير عليها. وكل هذا دليل على استقلالية النوع الإنساني، فثمة استعدادات تكوينية وفطرية، تلازم وجود الإنسان، لا نجد لها أثرا في القرود لو كانت حقا أسلافا له.
يأتي في الحلقة القادمة
.......................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
........................
* موقع الجزيرة نيت: قدم العلماء الأميركيون دليلا جديدا على أن نظرية داروين في النشوء والارتقاء كانت خطأ، وذلك بكشف فريق عالمي من علماء أصول الجنس البشري من جامعتي كين ستيت وكاليفورنيا النقاب عن أقدم أثر معروف للبشر على وجه الأرض، وهو هيكل عظمي إثيوبي يبلغ عمره حوالي أربعة ملايين وأربعمائة ألف سنة أطلق عليه اسم "أردي". وأعلن فريق البحث أمس الخميس أن اكتشاف "أردي" يثبت أن البشر لم يتطوروا عن أسلاف يشبهون قردة الشمبانزي، مبطلين بذلك الافتراضات القديمة بأن الإنسان تطور من أصل قرد.
وكتب الباحثون في تقريرهم بمجلة ساينس أن "أردي" واحدة من أسلاف البشر، وأن السلالات المنحدرة منها لم تكن قردة شمبانزي ولا أي نوع من القردة المعروفة حاليا.
ويؤكد العلماء أن أردي ربما تكون الآن أقدم أسلاف الإنسان المعروفين، لأنها أقدم بمليون سنة من "لوسي" التي كانت تعد من أهم الأصول البشرية المعروفة.
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.