حوار مفتوح
المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (175): فلسفة الخلق والمثل الأعلى
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صحيفة المثقف
خاص بالمثقف: الحلقة الخامسة والسبعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ: أحمد مانع الركابي.
دور الإمامة
س140: أحمد مانع الركابي: هناك واقع يفرضه العقل في أن مسار الرسالة لا يمكن أن يكتمل ما لم يترسّخ وفق برنامج يثبّت أوتاده من يسيرون على ذلك النهج. كي لا يقال أن الله ترك الأمة هملا للضياع والفرقة بمجرد وفاة الرسول. أنا أومن أن الرسول لم يسع لتشكيل دولة، وإنما نهض بمسؤوليات مجتمع مدني من حيث مسؤولياته الرسالية. ولا أرى الإمامة مثل ما يراها البعض ويضفي عليها هالة من المبالغات، ولكن معيار وجودها في محور الرسالة مهم كي لا تنحرف رحى تلك الرسالة عن قطب الحقيقة التي يجب أن تترسخ في مجتمع لم يغادر مفاهيمة الجاهلية التي هي متجذرة في وعيه.
ج140: ماجد الغرباوي: لا نختلف حول حاجة الرسالة إلى مقومات تضمن استمرارها ورسوخها. وأيضا لا يخفى دور القدوة الصالحة في تجسيد قيم الدين. وكان النبي قرآنا يمشي على الأرض، تتجلى في سلوكه ومشاعره قيم الفضيلة. وكان الصحابة يهتدون بسيرته لترشيد وعيهم وتقويم سلوكهم. باستثناء تجاربهم الروحية، فهي تجارب شخصية، تستلهم من الرسول خشوعه وورعه وتقواه وتمثّله للقيم الإنسانية ومواقفه الرسالية. لكن السؤال: هل استمرار الرسالة وتحقيق أهدافها يتوقف على وجود رمز / إمام / خليفة، أم يكفي وجود مقومات ذاتية وأخرى موضوعية، فيكون الرمز قدوة وأسوة داخل المجتمع؟. وبشكل أدق: هل استمرار الرسالة يتوقف على وجود الإمامة؟. ولو توقف استمرارها عليها جدلا، فهل هي إمامة دينية أم سياسية؟. أم بمعنى القدوة الصالحة والمثل الأعلى؟. هذا هو السؤال المركزي. فنحن نتفق على وجود قدوة صالحة ونختلف حول مصاديقها. ونتفق على ضرورتها، ونختلف حول طبيعتها وشرعيتها: هل هي ضرورة دينية، تستوجب نصا وتعيينا، أم هي إفراز طبيعي لمجتمع الفضيلة. فما المراد بالإمامة، وما هي صلاحيتها، ومدى شرعيتها؟:
- أما الإمامة الدينية فقد أثبت بالدليل توقف ثبوتها على وجود آية قرآنية صريحة، وهي مفقودة بالضرورة.
- وأما الإمامة السياسية، فقد يقال بوجوب النص عليها. ولا نص في البين، كما اتضح خلال بحوث حديث الغدير. أو هي مؤهلات ذاتية ترشّحه لمنصب الإمامة السياسية. وهذا ما حصل، رغم الاختلاف حول مصاديقها.
- وأما الإمامة بمعنى القدوة الصالحة، فأيضا ممكنة، تشملها آية: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ). فيكون مثله مثل الأنبياء في إحدى وظائفهم: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)، وتقصد الآية خصوص الأنبياء والرسول ممن تحدثت عنهم الآيات قبلها وبعدها. القدوة الصالحة تقتدي بهدي الكتاب وسيرة الأنبياء. وتهتدي بالفكرة والمبدأ الذي يحدد سلوكها، وتكون القدوة الصالحة دالة عليه.
من جهة ثانية، أن الحديث عن الدين هنا بما هو دين ومقولة إيمانية ومنظومة قيمية وأخلاقية، وكيفية تصور الإشكال في إطار فلسفة الخلق، بعيدا عن التجربة السياسية للصحابة وما بعدهم، فإن الإمامة / الخلافة / الزعامة، جوهر النظام السياسي، وشرط لقيام الدولة. لكن ضرورتها لا تجعل منها ضرورة دينية، وتبقى الدولة ضرورة اجتماعية، تفرضها حاجات المجتمع وتطور المدينة، لا فرق بين الدولة الدينية وغيرها.
الشيعة والإمامة
أستدل الشيعة على وجوب الإمامة بعدة أدلة عقلية ونقلية، أفاضوا في بيان حدودها وشرعيتها وفلسفتها. وكان من جملة الأدلة: "توقف استمرار الرسالة على الإمامة". وهي شرط ديمومتها وفاعليتها. بدعوى أن مسار الرسالة مسار طويل، لم يكتمل في حياة الرسول، رغم إنجازاته العظيمة، قياسا بالواقع العربي، والقيم القبلية السائدة. والنبي يعرف هذا جيدا، فكيف لا يخطط لمستقبل الرسالة؟ وكيف يكون موقفه سلبيا منها؟. وهل الرسالة أقل أهمية من مؤسسة أو دائرة، لا يغادر مديرها حتى يعيّن من ينوب عنه في تمشية أمورها؟. فالرسالة تستدعي إماما يضمن استمرارها. ويحضرني كلام للشيخ المظفر في أحد كتبه: "إليك عني إذا كنت تعتقد أن النبي مات دون أن يوصي لأحد يواصل مسيرته ويحفظ رسالته". وأفضل من نظّر للإشكال محمد باقر الصدر في كتابه: بحث حول الولاية، حيث يقول: (النبي كان يباشر قيادة دعوة إنقلابية، ويمارس عملية تغيير شاملة للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه. ولم يكن الطريق قصيرا أمام عملية التغيير هذه، بل كان طريقا طويلا وممتدا بامتداد الفواصل المعنوية الضخمة بين الجاهلية والإسلام ... وكان على عملية التغيير أن تواصل طريقها الطويل حتى بعد وفاة النبي، ولا يمكن للرسول أن يترك مستقبلا بدون تخطيط، خاصة والدعوة في بداية طريقها، لأن الدعوة بحكم كونها عملا تغييريا انقلابيا في بدايته، يستهدف بناء أمة واستئصال كل الجذور الجاهلية منها، تتعرض لأكبر الأخطار إذا خلت الساحة من قائدها دون أي تخطيط، فهنالك الأخطار التي تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي تخطيط سابق، وعن الضرورة الآتية لاتخاذ موقف مرتجل في ظل الصدمة العظيمة بفقد النبي. فإن الرسول إذا ترك الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة فسوف تواجه الأمة ولأول مرة مسؤولية التصرف، بدون قائدها تجاه أخطر مشاكل الدعوة، وهي لا تملك أي مفهوم مسبق بهذا الصدد، وسوف يتطلب منها الموقف تصرفا سريعا آنيا، بالرغم من خطورة المشكلة لأن الفراغ لا يمكن أن يستمر، وسوف يكون هذا التصرف السريع في لحظة الصدمة التي تمنى بها الأمة، وهي تشعر بفقدها لقائدها الكبير. هذه الصدمة التي تزعزع بطبيعتها سير التفكير وتبعث على الاضطراب... وهناك الأخطار التي تنجم عن عدم النضج الرسالي بدرجة النبي (ص) موضوعية التصرف الذي سوف يقع، وانسجامه مع الإطار الرسالي للدعوة وتغلبه على التناقضات الكامنة التي كانت ولا تزال تعيش في زوايا نفوس المسلمين، على أساس الانقسام إلى: مهاجرين وأنصار، أو قريش وسائر العرب، أو مكة والمدينة. وهناك الأخطار التي تنشأ لوجود القطاع المستتر بالإسلام والذي كان يكيد له في حياة النبي (ص) باستمرار، وهو القطاع الذي كان يسميه القرآن "بالمنافقين". وإذا أضفنا إليهم عددا كبيرا ممن أسلم بعد الفتح استسلاما للأمر الواقع لا انفتاحا على الحقيقة، نستطيع أن نقدر الخطر الذي يمكن لهذه العناصر أن تولده، وهي تجد فجأة فرصة لنشاط واسع في فراغ كبير مع خلو الساحة من رعاية القائد. فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي (ص) شيئا يمكن أن يخفى على أي قائد مارس العمل العقائدي فضلا عن خاتم الأنبياء). (أنظر: طبعة دار العارف، بيروت، ص15 - 20).
وقد وضع ثلاثة احتمالات يمكن أن يقوم بها النبي في هذه الحالة:
1- أن يترك للأمة مسؤولية إدارة شؤونها بنفسها. غير أنه نفىى هذا الاحتمال، وشكك بقدرتها على ذلك، وبنفيه هذا الاحتمال نفى ولاية الأمة على نفسها، كما يذهب لذلك محمد مهدي شمس الدين في كتاب: نظام الحكم والإدارة في الإسلام. وهذا يؤكد إيمان الصدر بالثيوقراطية نظاما للحكم، يقع على رأس هرمه الإمام المعصوم ومن بعده الولي الفقيه. ولازمها مصادرة حرية الفرد في تقرير مصيره.
2- أن يكون الأمر شورى بين كبار الصحابة، لكنه استدل في (ص27 - 28) من الكتاب، على نفي هذا الاحتمال. واستبعد إسناد "قيمومة الدعوة وقيادة التجربة" للشورى؛ لعدم تطبيقها في حياته، وعدم تثقيفه عليها. ويقصد عدم تطبيقها كممارسة قيادية، تغدو نموذجا لتثقيف الأمة عليها. وأما الجوانب الأخرى فكان النبي يشارو صحابته في القضايا التنفيذيه، وهناك حث قرآني عليها. وهذا نفس ما سجلته على الإمامة، فلم يثقف النبي الصحابة عليها، ولم نجد صدى لحديث الغدير، في الروايات التاريخية، وسيرة علي، خاصة أحداث السقيفة. والشورى أقوى حضورا، بعد ثناء القرآن عليها. وقد مرَّ الكلام مفصّلا. فما الفرق بين الشورى والإمامة، وكلاهما كان محكوما بذات الظروف والموقف؟. إذا كان عدم التثقيف سببا لنفي احتمال الشورى، فكذلك الإمامة لم يثقف عليها. وقد أوردت أكثر من عشرين ملاحظة حول الموضوع. نحن نبحث عن الدليل، لنكون على بيّنة من أمرنا، بعيدا عن العاطفة والمشاعر الطائفية، لتفادي التبعية والانقياد الطوعي المرفوض وفق منطق فلسفة الخلق. إن موقف الرسول من الشورى والإمامة ليس إهمالا بل استراتيجية تنسجم مع هدف الرسالة، يؤكده اهتمام القرآن بالأمة لا بالإمامة. وأن يقوم الناس بالقسط، عموم الناس، وليس الإمامة أو القيادة السياسية. لذا يؤكد الإمام علي في كتابه لمعاوية على شرعية بيعة الصحابة، ويعتبر قرار النخبة قرارا مشروعا، بل يختزل الأمة بالنخبة السياسية، دون التوقف عند الإمامة أو وجوب النص والتعيين: (إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْر وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالاْنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُل وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ لله رِضىً، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْن أَوْبِدْعَة رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ منه، فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلاَّهُ اللهُ مَا تَوَلَّى). (نهج البلاغة، ج3، 6، من كتابه إلى معاوية). فالأمة هي التي أفرزت النخبة، وليس النص والتعيين مصدرا لشرعية القيادة التي هي قدوة حسنة في عصر الصحابة، كما هو المفروض. إن تجربة الخلافة كانت امتدادا لعصر النبوة، يترصدها عموم الصحابة، يقومونها وفق كتاب الله وسيرة رسوله. وبالتالي فكان جميع الصحابة معني برعاية الرسالة، وجميعهم كان يمارس دور النقد والتقويم، ولا شك بتميّز الإمام علي بفقهه وقضائه وتفسيره. وإذا كان ثمة تفاوت في الوعي والشعور بالمسؤوليات بينهم، فمرده تفاوت الاستعدادات الذاتية وأفق الوعي، ومستوى وعي الرسالة، وكلها قضايا شخصية. ولا أنفي الدور التربوي وتأثيره على الوعي.
- الاحتمال الثالث الذي دافع عنه الصدر، أن يخطط الرسول لقائد، يواصل قيادة الدعوة ومسيرة الرسالة، يسهر على تربيته وإعداده، وهذا ما حصل حيث أعد النبي علي بن أبي طالب لمهمة الإمامة كي يواصل مسيرته. والحقيقة أن ما ذكره مجرد وجهة نظر واستنتاج شخصي بناء على مقدمات يتوقف عليها صحة أو عدم صحة استنتاجه. ولا تخفى زاوية النظر مهما حاول التستر إليها، فهو ينظر للمشروع الرسالي باعتباره مشروعا سياسيا، لا مشروعا دينيا اجتماعيا فقط، انسجاما مع توجهه الأيديولوجي المعروف، فهو مؤسس حزب الدعو ة الإسلامية، وسعى لقيام دولة دينية. وكان في بداية مشروعه يؤمن بالشورى، ثم قال بـ(خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء)، وبعد قيام الدولة الإسلامية في إيران آمن بولاية الفقيه. وقد ألف كتاب اقتصادنا ونظّر للاقتصاد الإسلامي، والبنك اللاربوي في الإسلام، وتضمن كتاب الإسلام يقود الحياة عدة بحوث، نظّر فيها للنظام السياسي الإسلامي. كما لا يخفى التحيّز المذهبي، فهو ينتمي للمذهب الإمامي – الجعفري الإثني عشري. والاتجاه المذهبي يفرض محداداته على فهم التاريخ. وهذا الخلفية مهمة لنفهم، ما إذا كان يسقط رغباته الأيديولوجية في تفسيره لتاريخ الرسالة وضروراتها. فهو رغم علمه وعظمته وقوة تنظيره، يخضع لا شعوريا لقبلياته. وقد أسس نظريته في السلطة والحكم على متبنياته العقدية، وأعاد تشكيل الوعي وفق قيمها ومواقفها التاريخية، ومؤلفاته شاهدة على ذلك.
وعليه ينبغي أولاً، تحري هدف الرسالة، وهل حقا يستدعي مستقبلها وجود إمام منصوص عليه، شرطا لاستمرارها وضمان عدم انحرافها؟. وكيف يمكن تكييفه مع فلسفة الخلق القائمة على رفض الوصايا والقيمومة والولاية، خاصة الولاية على الأنفس والأموال. وهل وجود الإمام يصادر حرية ويحول دون تقرير مصيره؟
المشروع السماوي
إن هدف المشروع السماوي إقامة مجتمع الفضيلة، من خلال ربط الإنسان بخالقه، ووصل الدنيا بالآخرة. مجتمع يتقوّم بالعدل والإنصاف والعمل الصالح. ونبذ الظلم والجور والفساد. تسوده قيم الفضيلة في إطار توحيد الله وعدم الشرك به: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). ينتج ثقافة إنسانية وسلطة فاضلة، تتبنى قيمه، وتقيم العدل والإحسان: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ). فهو تجلٍ لمجتمع العدل الإلهي، ومصداقا لمجتمع العدل الإنساني: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا). إن هدف الرسالة عودة الإنسان لوضعه الطبيعي، بعد زيغه وانحرافه بسبب مغريات الحياة، وتفريطه بالعدل والانصاف، وانسياقه وراء الظلم والجور، وهذا يستدعي ديمومة الوعي وتسديد السلوك، لتفادي انحراف المجتمع عن قيم السماء. وللإسلام بشكل خاص إجراءات عملية لتعزيز مناعة المجتمع، وضمان فاعلية قيم الفضيلة. ولم يكن هدف الرسالات ابتداء قيام دولة دينية، كما يذهب لذلك محمد باقر الصدر: (ظلّ الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم العظيم في بناء الدّولة الصالحة. وقد تولّى عدد كبير منهم الإشراف المباشر على الدّولة كداوود وسليمان وغيرهما. وقضى بعض الأنبياء كلّ حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى عليه السلام). (أنظر: لمحة تمهيديّة عن مشروع دستور الجمهوريّة الإسلاميّة ص:4). وهذا مجرّد تأويل لحركة الأنبياء وهدف الرسالات، لا يوجد في كتاب الله ما يؤكده. وليس من الصعب الحديث عن السلطة لو كان يهدف ذلك، وكان بإمكانه الاستشهاد بتجارب سياسية مجاورة كالدولة الساسانية والرومانية ومملكة الحبشة. غير أنه تحدث عن المُلك بالنسبة لداود وسليمان، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم السلطة، قد يتضمنها أو لا. والمُلك في قواميس اللغة: (مُلك: "اسم". الجمع: أَمْلاَكٌ. مصدر مَلَكَ.. واِلمُلْكُ: ما يُمَلك ويُتصرّف فيه. أَرْضٌ فِي مُلْكِهِ: مَمْلُوكَةٌ لَهُ، يَمْلِكُهَا، يَتَصَرَّفُ فِيهَا عَقَارٌ فِي مُلْكِهِ.. لَهُ مُلْكٌ تَلِيدٌ: عَظَمَةٌ، سُلْطَانٌ). والسلطان ليس خصوص السلطة بل سلطان بأمواله وثرواته. وفي مفردات غريب القرآن: (المُلك: الحق الدائم لله فلذلك قال: له المُلك وله الحمد). ويمكن تحديد معنى المُلك من خلال سياق الآيات قرآنيا، فهو يعني الثراء المطلق، والنعيم الكبير: (قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ). فكانت الاستجابة إمكانيات هائلة، بعيدا عن السلطة بمعنى القيمومة والولاية على الأنفس والأموال ومصادرة الحريات: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ). مثله مثل من يملك ثروات طائلة، وإمكانيات قد تفوق إمكانيات دولته، لكن مُلكه لا يخوّله ولاية على الأنفس والأموال وفرض القانون بالقوة أو قمع المعارضة. السلطة شيء يختلف عن المُلك، وما آتى آل إبراهيم مُلكا عظيما: (فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا، فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا). فالصد والتمرّد لا يمكن تصوره لو كان مفهوم المُلك يعني خصوص السلطة، والقوة والقهر. بل يعني هنا الحق في مقابل مُلك النمرود ومملكته. ويمكن الاستشهاد أيضا بآية: (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)، وهو: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا). فما يمرز له لفظ المُلك قرآنيا يغاير معنى السلطة والدولة، وهذا الآية شاهد. بل المتبادر منه عرفا يختلف عما يتبادر من مفهوم السلطة والدولة وشؤون الحكم. وهذا لا يمنع تأويله متى ما دلت القرينية عليه. وبالتالي كان تحت تصرّف سليمان مُلك عظيم، وهو ما طلبه من ربه: (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي). والدولة لا توصف بهذه الأوصاف. كما أن المراد من الحكم في آية: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، خصوص القضاء.
إذاً تبقى الدولة ضرورة اجتماعية، لحفظ الأمن والنظام، ورعاية مصالح الشعب، وإقامة العدل والقسط وردع الظلم والجور. ويمكن للمسلمين إقامة دولتهم وتبني قيم الدين ومبادئه. لكنها دولتهم، بنجاحاتها وأخطائها. وهذا لا يعني شرطيتها لإقامة العدل والقسط، فتكون إقامتها واجبا دينيا، بل أن غاية بعثة الأنبياء إقامة مجتمع فاضل يقوم الناس فيه بالعدل والقسط بدافع ذاتي من إيمانهم وتقواهم، ولم يعلق القرآن قيام العدل والقسط على الأنبياء فضلا عن الدولة وأجهزتها: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). ومن باب أولى لا يتوقف إقامة القسط على وجود إمام أو إمام معصوم منصوص عليه من قبل الله تعالى. ونعود لكلام محمد باقر الصدر، حيث جاء في كلامه المتقدم: (... وقضى بعض الأنبياء كلّ حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة موسى عليه السلام). لكن صراع موسى مع فرعون لم يكن صراعا سياسيا، لإسقاط عرشه تمهيدا لسلطة موسى، بل كان صراعا بين التوحيد والشرك، وتحرير شعب مصر من سطوة الاستبداد واستكبار فرعون: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). وقد أشار القرآن لطرفي العلاقة: "علاقة الأمة بفرعون، وعلاقته بها". الأولى: كانت علاقة عبودية مطلقة، وطاعة عمياء لمليكهم، (وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ). والثانية: علاقة استعباد وقهر واضطهاد: (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ). ويمكن الاستشهاد ببعض الآيات لمعرفة طبيعة دعوة موسى النبي الكريم: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ، حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ). (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى، قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى، فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى). ولم يطلب منه التنازل عن العرش. ولم يتطرق لموضوع السلطة والمُلك، سوى الدعوة لتوحيد الله، وتحرير الشعب من قهر السلطة الفرعونية.
لا تقاس رسالة الأنبياء بأهداف الفِرق والمذاهب، التي أفرزها الصراع حول السلطة، كما هو الحال بالنسبة للحراك الشيعي الذي يصفه محمد باقر الصدر: (الحقيقة أنَّ التشيّع لم يكن في يوم من الأيّام منذ ولادته مجرّد اتّجاه روحيّ بحت، وإنّما وُلد التشيّع في أحضان الإسلام بوصفه أطروحة مواصلة الإمام عليّ عليه السلام للقيادة بعد النبيّ فكريّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً على السواء). (أنظر: نشأة التشيّع والشيعة ص: 92)، لأن التشيع كما أكدت ذلك من خلال الأدلة قام على موقف سياسي، وأن العقيدة الشيعية قامت على موقف الإمام علي من السلطة، ولم يقم الموقف السياسي على موقف عقدي، والدليل لم يستشهد أحد يوم السقيفة بحديث الغدير أو أي حديث يؤكد الوصية، ليكون مرجعية لبيعة الخليفة بعد النبي. ولم يذكر القرآن سوى مبادئ لضبط أداء السلطة. بل واتفق الطرفان: أن النبي مات ولم يكتب كتابا يوصي فيه لأحد. الرواية السنية تقول أن العباس عم النبي طلب من علي أن يدخل ويسأل النبي في الساعة الأخيرة من مرضه، لكنه تردد ولم يدخل عليه. ورواية الشيخ المفيد زعيم الطائفة الشيعية في القرن الرابع الهجري، تقول: دخل العباس وعلي على النبي وسألاه: ألنا في الأمر شيء، قال: لا. ولكنكما المستضعفان من بعدي. وقد اشرت لجميع النصوص موثقة في محلها.
نخلص أن هدف الرسالة إقامة مجتمع الفضيلة، مجتمع متقوّم بذاته، من خلال نظام أخلاقي يضبط حركته، وشعور إنساني يضمن استمراره، بعد اسقاط الشرك، كسلطة توجه الوعي وتكرّس العبودية والطاعة والانقياد. فيخسر الإنسان نفسه، ويخسر المجتمع حيثيته.
وأما مقومات مجتمع الفضيلية:
يأتي في الحلقة القادمة
.......................
للاطلاع على حلقات:
للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها.