صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

أهمية الخيال في التفاعل الاجتماعي

التفاصيل
كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد

تحليل عناصر التفاعل الاجتماعي لا يعني تمزيق الروابط الإنسانية بين المُكوِّنات الاجتماعية، وإنَّما يعني وضع الطبيعة الرمزية للفرد والمجتمع تحت مجهر الشعور الإنساني، لأن الفرد يتحرَّك في المجتمع انطلاقًا مِن شُعوره الداخلي الذي يُحتِّم عليه الانخراط في حركة التاريخ الجماعي، وأن يكون جُزءًا مِن الكُل، ولَبِنَةً في صَرْح المجتمع الحَي، الذي يُدرِك أبعادَ ذاته، ويُدرِك حُدودَ مجاله الحيوي . وحياةُ المجتمع لا تتكرَّس كواقع محسوس وحقيقة شرعية إلا إذا أدركَ المجتمعُ كِيانَه والكِيانات المُحيطة به . وهذه الإدراك يُمثِّل الخُطوة الأُولَى لتفسير مُكوِّنات الذات، وعلاقتها بالآخَر، سواءٌ كان الآخَر داخليًّا أَم خارجيًّا. والعاجزُ عن إدراك ذاته، لن يستطيع تفسيرها، ومَن لَم يَمتلك الوعي بالذات والآخَر، لن يستطيع تكوين روابط بينهما قائمة على الاحترام المتبادل، وهذا يعني وُجود احتمالية كبيرة للصِّدام بينهما .

2

شرعيةُ التفاعل الاجتماعي مُستمدة مِن مبدأ التجانس في العلاقة المصيرية بين معرفة الطبيعة الرمزية وفلسفة السُّلطة الاجتماعية . والتجانسُ يعني وضع الخصائص الرمزية فرديًّا وجماعيًّا في القوالب الاجتماعية المُناسبة، وهذه القوالب بمثابة الحدود بين الدُّوَل . وكما أن الحدود السياسية تُوضِّح الأراضي الجُغرافية التي تُمارس فيها الدَّولة سِيادتها، كذلك القوالب الاجتماعية تُوضِّح المساحات الإنسانية التي يُمارس فيها المجتمعُ سِيادته. وينبغي التفريق في الفكر الاجتماعي بين السُّلطة والسِّيادة، فالسُّلطةُ وسيلة عملية تختص بتنفيذ الأفكار على أرض الواقع، وليس لها علاقة بالأفكار الذهنية والإرادة الداخلية، أمَّا السِّيادة فهي منظومة وجودية شاملة للإرادة والتنفيذ معًا . أي إنَّ السِّيادة هي العَقْل، والسُّلطة هي العَضَلات .

3

لا يُمكن فهم السُّلطة الاجتماعية إلا بفهم ذراعها التنفيذي، التي تتغلغل في تفاصيل المجتمع الإنساني، لأنَّ السُّلطة فكرة ذهنية مُجرَّدة، لكن التطبيقات العملية المحسوسة هي التي تَكشف هوية السُّلطة وماهيتها . والعلاقة بين السُّلطة وتطبيقاتها تُشبه العلاقةَ بين الغاية وآلياتها، فالغايةُ لا تَكشف طبيعة الآليات، لكن الآليات تَكشف طبيعة الغاية، وذلك لأنَّ الغاية خيال حالم، أمَّا الآليات فهي الوسائل العملية لتحويل الخيال إلى حقيقة، والحُلم إلى واقع .

4

عِندما يَغرق المجتمعُ الإنساني في ضجيج الشعارات، يُصبح عاريًا مِن المعنى المعرفي، ومُفتقِرًا إلى الخيال الاجتماعي، الذي يقوم على نقدِ الأحداث السياسية، ومُساءلةِ النظريات الفكرية التي تتحكَّم بالسلوك الفردي والجماعي، وطرحِ تصوُّرات جديدة وبدائل إبداعية . وغيابُ الخيال يعني بالضرورة غياب الحُلم، وإذا خَسِرَ الفردُ حُلْمَه، خَسِرَ إنسانيته وشرعية وجوده ومشروعية حياته، وفَقَدَ القُدرةَ على تغيير مُجتمعه نحو الأفضل، مِمَّا يَجعل الفرد والمجتمع يَصِلان إلى طريق مسدود بلا حُلم ولا واقع، وينشأ النزاع بينهما، ويتعمَّق الصراع على الوهم . لذلك، ينبغي إرشاد الفرد إلى أهمية الخيال، واختراع الأحلام، وضرورة تطبيقها عمليًّا وتنفيذها واقعيًّا . وهذه هي الضمانة الأكيدة لفتح آفاق المستقبل أمام الفرد، وتعزيز ثقته بنَفْسه ومُجتمعه، وحمايته مِن اليأس والفشل .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

 

"ألف شاعر" واجهوا القمع والسجن والنفي والمطاردة!

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد االشافي القوصيأول كتاب يُؤرِّخ لشعراء المعارضــة

كتاب (شعراء في مواجهة الطغيان) يُعدُّ موسوعة أدبية عن تاريخ الشِّعر السياسي في الوطن العربي، إذْ يَعرِض مآسي الشعراء العرب عبر العصور.. أولئك تعرضوا لأشد أصناف القمع والتعذيب والمطاردة والتصفية الجسدية!

"هذا الكتاب" بمثابة صندوق للشكاوى، ودفتر للمظالم، وساحة مصارعة، ومحكمة علانية منعقدة، تتبادل فيها الاتهامات بين الظالمين والمظلومين، بين المفترِين والمُفترَى عليهم، بين الطغاة المسلحين والمستضعفين العزل!

"هذا الكتاب" يحتوي على القصائد الممنوعة، والقصائد التي لم يُعرف أصحابها الأصليون، والقصائد التي بسببها تمَّ تصفية هؤلاء الشعراء، أوْ سجنهم، أو مطاردتهم، أوْ نفيهم؛ بدءاً من عمرو بن كلثوم، مروراً بالفرزدق، والكميْت، ودعبل، حتى نصل إلى البارودي، والكاظمي، ومحمود الزبيري، وأمل دنقل، ويحيى السماوي، ومُظفَّر النواب، ونزار قباني، وأحمد مطر، وغيرهم من الذين قضوا أعمارهم في المنافي والسجون!

إنَّ أزمة هؤلاء الشعراء تكمن في (أنظمة الحكم) الجائرة التي أنشبتْ أنيابها عبر حقب تاريخية مظلمة، وجاءت عن طريق انقلابات رعناء؛ تعمّدت تهميش الصالحين والمصلحين، وعزلهم عن مواقع الريادة والتأثير، بلْ ومطاردتهم وتصفيتهم؛ حتى يخلو الجو لحواشي السلطان من الأقزام والمتسلّقين الذين هم –بمثابة– اليد اليُمنَى من الطغيان!

***

ترى؛ لماذا يغضب الشعراء؟ وما هي الدوافع التي جعلت الشعراء يحملون راية العصيان؟ وأجبرتهم على كتابة القصائد المسمومة؟ التي يُعَدّ اقترافها من "الكبائر" أوْ من "المحظورات"! وما هي الأسباب التي أرغمتهم على كتابة هذا الشِّعر الحارق، وهذه القصائد المتفجِّرة التي جَرَّتْ عليهم كثيراً من الأزمات والمصائب؛ كالسِّجن والنفي والمطاردة والتشريد والتصفية الجسدية!

هؤلاء الشُّعراء لا يتصنَّعون "الشِّعر السياسي" ولا يتكلَّفونه كالأغراض الشعرية الأخرى، إنما يفرض نفسه عليهم فرضاً، ومُساقونَ إليه سوقاً، ومدفوعونَ إليه دفعاً .. ربما لسوء الأحوال الاجتماعية وتدهور الأوضاع السياسية، أوْ ربما بسبب طبيعتهم النفسية القلقة، أوْ بفعل شياطينهم المردَة، أوْ بسبب قسوة الحياة، ووحشية الحكومات، وضراوة الأنظمة الحاكمة!

فالشَّاعر العربي جُبِلَتْ نفسه على خَلْق هذا اللون الشِّعري "المُزعِج"! ورأى نفسه مشدوداً إليه شداً، ومدفوعاً إليه دائماً بدافع قهري. فعندما تلحّ عليه فكرة القصيدة أوْ موضوعها، لا يستطيع صدها أوْ منعها أوْ حتى تأخيرها ... إنها لحظة المخاض -كما وصفها الشعراء أنفسهم! فلابد لهذا الجنين أن يخرج إلى النور على الفور سواء كانت ولادته عادية مُيسّرة، أوْ قيصرية مُتعسِّرة! المهم أن يخرج هذا الكائن إلى الحياة ... أمَّا عن اسمه ورزقه وأجله؛ فهذه مسائل أخرى تتضح معالمها فيما بعد الولادة.. حيث يبدأ صراع هذا "الوليد" الشِّعري مع الوجود الخارجي المُلَبَّد بالسحب الداكنة، والعواصف الهوجاء، والحُفر الاجتماعية والمطبّات السياسية. ولطالما أمسى هذا الوجود الخارجي في حالة لا تسمح له بقبول هذا الوليد أوْ منحه مكاناً تحت النور!

***

"هذا الكتاب" جمع أشهر القصائد السياسية عبر التاريخ التي أودتْ بحياة أصحابها، وألقتْ بهم في غياهب الضياع ... حيثُ نتوقف مع الشّاعر الذي هجا "نوبار باشا"، والشّاعر الذي هجا "رياض باشا"، والشّاعر الذي هجا "الخديوِ سعيد"، وثورة شاعر البادية، وشـاعر البـؤس، وشـاعر في رَحِم السجن! والمُلاكِم الأدبي، وشـاعر الإسلام، وشاعر الثورة، وشاعر الدعوة، وشاعر وراء القضبان، وشاعر الانتفاضة، وشاعر الصحوة، والشَّاعر المجهـول، وأزهري في مواجهة الاحتلال، والأعمى الذي رأى كل شيء، وأمير شعراء الرفض!

وهناك قصائد مهمة جداً، احتواها الكتاب، مثل: قصيدة جـلاّد الكنانـة! ورسالة في ليلة التنفيذ! ورسالة في ليلة النصر! وفلسفة الثعبان المقدس، والخروج من السجن الكبير، واللَّعين الأول، وفرعون مصر، وفرعون وقومه، وقذائف الحياة الأولى، وصرخة من خلف الأسوار، والقدس عروس عروبتكم، والسيرة الذاتية لسيّاف عربي،  وأغاني الديكتاتـور، ومبارك العميـل، وكـِلاَب وأُسُـود، وصـلاة الكُهَّـان، والحاخام يخطب في بغداد، وارحــل يا جبان، وارحــل .. يا بلطجـي، وارحلـوا عنّا .. إلى غير ذلك من القصائد التي تقطر دماً.

نعم؛ إنها قصائد حارقة أطاحت بالأنظمة، وزلزلت عروش الطغاة!

وفي الوقت ذات؛ جنتْ هذه القصائد على شعرائها مصائب كبرى، فعوقبوا بالمطاردة، والملاحقة، والتصفية الجسدية!

العجيب؛ أنَّ أغلب هؤلاء الشعراء من (مصر واليمن والشام والعراق) وهذا أمر يجب التوقف عنده، والبحث في كُنْه هذه المجتمعات الاستبدادية؛ التي فرضت على أدبائها التمرُّد والعصيان!

ومن القصائد التي احتواها هذا الكتاب، قصيدة (ارحــل يا بلطجي) للشاعر السوري "محمود السيد الدغيم" التي هجا بها "بشّار الأسد"، قائلاً له:

ارْحَلْ وَخُذْ كُلَّ اللُّصُوْصِ

وَخُذْ رُعَاْعَكَ يَاْ هُبَلْ!

بَلْ خُذْ جَمِيْعَ الْمُخْبِرِيْنَ

وَكُلَّ جُمْهُوْرِ الْفشلْ

إِنَّاْ خَلَعْنَاْ خَوْفَنَاْ

فَارْحَلْ كَمَخْلُوْعٍ رَحَلْ!

بلْ استمع إلى الشاعر العراقي (يحيى السماوي) وهو يَروي مآسي وطنه:

فأرض "دجلة" عندي عن مصائبها

ما لا يُقالُ، فماذا يكتبُ القلمُ؟

مدائنٌ أصبحتْ للناس مقبرةً

وأنهُرٌ ماؤها مما يُراقُ دمُ!

وأيُّ حاكم لؤمٍ بات يحكمنا

وقدْ تساوى لديهِ الدِينُ والنغمُ!

وما أروع تشبيه الطغاة العرب بالكلاب الضالة، بل الكلاب أشدّ طهراً منهم –كما يقول الشاعر "إسماعيل شعشاعة":

كِلابٌ والكلابُ أشدُّ طُهْراً

كِلابٌ .. والكلابُ أجَلُّ قَدْرَا

إذا شبّهْتَهُمْ فيها اشمأزَّتْ

وتاهتْ فوقهمْ تختالُ كِبْرا

كلابُ الأرضِ أنصعُ .. بَلْ كَفَجْرٍ

وهم زادوا اسْوِداداً بَلْ وفُجْرَا

كِلابُ الأرضِ أرفعُ في مقامٍ

وأطهرُ منهمو فعلاً وسؤْرا

وهُمْ عارٌ على وطني وقومي

أحالوا الخصبَ كُثْباناً وقَفْرَا !

***

محمّــد عبد الشّــافي القُوصِـــي

 

 

روايتان من عالم الحب الرومانسي

التفاصيل
كتب بواسطة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهريُقدّم الكاتب والشاعر الفرنسي خالد الذكر الفونس دي لامارتين (21 تشرين الاول 1790 - 28 شباط 1869)، في روايتيه الهامتين، "جرزيلا"، أولا، و"رفائيل" لاحقا، رؤية دافئة للحب الإنساني الراقي، يزيد في أهمية ما يقدمه.. وفي قيمتهِ أيضًا، انه اعتمد في كتابته هاتين الروايتين على تجربته الذاتية.. تلك التجربة التي ابتدأت سخونتُها تزداد رويدًا رويدًا حتى انتهت إلى جمرة، تحرقُ اليدَ وتشعلُ الروح.. بنار الفقد والحرمان، من اجمل ما خلق الله.. المحبة على هذه الارض.

لامارتين شاعر فرنسي عُرف بأنه من أهم شعراء الحب والرومانسية، ولد في مدينة لاكان الفرنسية عام 1790 ورحل من عالمنا عن عمر ناهز التاسعة والسبعين عامًا. كتب الشعر وله فيه عددٌ من المجموعات أهمها " التأملات"، كما كتب الرواية وله فيها روايتان كما سلف، تحدّث فيهما عن حبه المتقد المشبوب.

سبق وقرأت هاتين الروايتين وعاودتني الرغبة في قراءتهما مؤخّرًا، فقمت بقراءتهما واحدةً اثر الأخرى. ابتدأت بقراءة الرواية الأولى "جرزيلا"، بترجمة إبراهيم النجّار، وقد صدرت في أواسط الثلاثينيات، بعدها قرأتُ رواية "رفائيل"، بترجمة احمد حسن الزيات، عِلمًا ان مجيد غصن قام بترجمة هذه الرواية مجدّدًا، وقد قدّمتُ قبل فترة، محاضرة عنها في المعهد الفرنسي في مدينتي الناصرة، قارنت فيها بين الترجمتين. فرأيت أن الزيات قدم ترجمة اعتمد فيها على تمثُّل الحالة اللغوية الروائية وقام بعدها بتعريبها، وكأنما هي كُتبت بلغةٍ عربية جزلة، في حين كانت ترجمة مجيد غصن اقرب ما تكون إلى النصّ المترجم المتّبع حاليًا فيما يقوم آخرون بترجمته من لغات أخرى إلى لغتنا العربية.

يَتّبع لامارتين في كتابته لكل من هاتين الروايتين أسلوبًا مميّزًا يركّز على التطوّر البطيء للحدث، لكن الغني في تفاصيله ووصفهِ للمشاعر، لهذا ليس من السهل تلخيصهما، أما فيّما يتعلّق بالحدث الروائي ذاته فإن مؤلّفهما، يحكي في جزيلا عن رحلة الى إيطاليا، قام بها أيام شبابه الاول، وتعرّف خلال رحلته هذه على جزيلا، ابنة الصياد الفقير، التي ستقع في هواه، بسبب طيبته وايجابيته في التعامل معها ومع عائلتها، وبسبب انسانيته الدفّاقة. تتعلّق جرزيلا بالراوي، مع علمها انه لن يرتبط بها لبُعد الشقّةِ بينَ عائلته الغنيةِ وعائلتها الفقيرة. وتنتهي الرواية نهايةً محزنة مؤسية تتمثّلُ في الفراق الابديّ بين اثنين، رجلِ وامرأةٍ، كان بالإمكان ان يعيشا قصةّ حبٍّ فريدةٍ من نوعِها. لكن بدلَ ان تنتهي هذه القصة إلى التواصل والوصال، تنتهي بالفراق، لهذا تحقّق نوعًا من خلود .. أمُه الشوقُ وأبوه التوقُ الابدي.~

في روايته الثانية" رفائيل"، واذكر بالمناسبة ان طبعةً منها صدرت في بلادنا، قبل العشرات من السنين، وقُيّض لي ان اطلع عليها في حينها وان اقرأها، فإن الحدثَ الرئيسيّ فيها لا يفترقُ كثيرًا عن الحدث الرئيسي في جرزيلا، فهي تحكي قصةَ حبٍّ ملتهبٍ بينَ شخصيةٍ عظيمة يقوم بتقمّصِها، والتعامل معها على اعتبار انها قناعٌ روائي، هي شخصيةُ الفنّان العالمي العظيم، رفائيل، وبين امرأةٍ قست عليها الحياةُ فأفقدتها الامَ والأب، والقت بها في ميتمٍ للأطفال في ضائقة. في هذا الميتم، او الملجأ، تتعرّف على واحد من رجال العلم يكبرُها بخمسة اضعافِ عمرها، كما تُخبر رفائيل في بداية تعرّف كلٍّ منهما على الآخر، هذا الرجل لا يهمه شيءٌ سوى سعادتها. وعندما يشعر بضيقها الذي سرعان ما يتحول إلى معاناة صحية، يرسل بها لتقيم في بلدة سافوا الفرنسية، وهناك يلمحُها رفائيل، القادم من باريس العاصمة، ويأخذ في تحيّن الفرصةَ للقاء بها. القدر لا يبخل عليه بهذا اللقاء المتمنّى، فيتصادف ان تواجه عاصفة قاربًا يقلُّها، فما يكون من رفائيل إلا أن ينقذها. هاتان الشخصيتان، يقع كلٌّ منهما في هوى الآخر. وتتطوّر الاحدث إلى أن تقوم تلك المرأة المحبوبة بإبعاده عنها، بادعاءٍ تلفّقُه، ليتبيّن لنا، نحنُ القراءَ في نهاية الرواية، انها إنما أبعدته عن معاناتها في ايامها الأخيرة وتقضي هذه الحبيبةُ ليعيش رفائيل مأساةَ حياته بفقدهِ الفادحِ لها.

كما قلت في كل من هاتين الروايتين، مواقف تسمو فيها أحاسيسُ كلٍّ من العاشقين المدنفين المتيّمين، إلى آفاقٍ عاليةٍ شاهقة. تبحر في آفاق الإنسانية العامة، وتقدمان كما سلف صورًا مُبهرةٍ للحبّ الرومانسيّ الطاهر الحنون. روايتان تدفعان من يقرأهما لأن يتفاعل مع احداثِهما، وكأنها تقع الآن وهنا.

 

بقلم: ناجي ظاهر

 

سيميائية النص الشعري في: تيمَّمي برمادي للشاعر يحيى السماوي

التفاصيل
كتب بواسطة: يوسف عبود

يوسف عبودبلغ النضج الفني في المجموعة الشعرية (تيمَّمي برمادي) للشاعر يحيى السّماوي، مداه الأقصى، حيث تُعّدْ هذه المجموعة هي الخامسة والعشرون من إصداراته الشعرية، خلال مسيرته في بناء وتكوين وتشكيل النص الشعري، فقد تضمنت تلك النصوص رؤىً وصوراً وإيحاءات وإشارات ورموزاً ودلالات تدخل في بنية النص،لتحيله الى حالة من التدفق الواعي بإنسيابية وإيقاع وموسيقى تهز وجدان المتلقي وتسحبه الى أتونها دون أن يعكر صفو هذه الرحلة أي عائق أو تعثر أو هفوة أو وقفة تعيق هذا التدفق،وسوف نكتشف أن بناء النص لدى الشاعر تأثر بشكل ملفت للنظر، بحياة الشاعر وتجاربه وفكره ورؤاه وثقافته وتجربته الطويلة، وهو يشبه (أي النص الشعري) بالنسيج المتداخل من ألوان عديدة تشكل هذه التراكيب التي تعبر عن صفاته وسلوكه وطبيعته وتأملاته، منها:الوطن، الغربة، عشق المرأة حد الوله، الشعور بالحرمان الكبير الذي يصل الى أنه لا يرتوي بالماء لأطفاء ظمئه، ولكن برشفة من شفتيها، وهي عنصر التفاعل الذي يشده نحو حب الحياة،ونجد أيضاً كبر السن وهناك مواطن كثيرة من النصوص تشير الى مايحدث للإنسان عندما يتجاوز الستين من عمره، وما يحصل له من متغيرات تجعله يقترب الى النهايات وهي معروفة، الموت، القبر، والتي أشار لها الشاعر في بعض من نصوصه، كما نجد الأشارة الى الطفولة رغم بلوغ العمر عتيا، وفي حالة قد تكون متفردة يوظف الشاعر النصوص القرآنية وهي لا تشبه التناص، بل أنها تدخل ضمن النص لتتوحد مع المفردة والثيمة ووحدة الموضوع لنقلها من حالة الاستماع إليها الى واقع عملي تطبيقي، كما سوف يمر ذكره في تحليلنا هذا، ونجد السّماوة مسقط رأس الشاعر حاضرة في تلك النصوص، واعتمدت بنية العنونة التي وسمت بها المجموعة (تيمَّمي برمادي) الرؤية الشاملة لتلك النصوص، كونها لم تكن مختارة لواحدة من النصوص، بل أنها دعوة لسيدة القلب والحياة أن تتيمم بهذا الرماد، الذي يعني الكثير، هو الإنكسارات النفسية العميقة، هو الإحباطات الكبيرة التي لحقت به، هو رحلة الحرمان والغربة، هو النهايات، وهوإطلالة هذا الركام الكبير من العمر، وهو أيضاً تجربته الشعرية الكبيرة، أما عناوين النصوص، فقد إختيرت أغلبها من متن النص، من الوسط، أو البداية، أو النهاية، وهي في أحيان كثيرة الرؤية الشمولية للنص، كما إننا سوف نجد الومضة الشعرية التي تنتمي الى القصيدة العمودية وليست الى قصيدة النثر، كما أن الشاعر يستحضر الحضارة السومرية لتكون واحدة من الركائز المهمة التي تشكل بناء النص الشعري، و نكتشف ذلك من أول قصيدة في هذه المجموعة والتي خلت من الإهداءات والتقديم والمقدمة التي وجدها الشاعر زوائد لا تخدم النص الشعري، ولا تساهم في عملية التعاشق المطلوب بين النص والمتلقي، ليعطيه فرصته الطيبة في السياحة في عالم الشعر دون دخيل، وتلك القصيدة هي (ميلاد):

تغدو الملاكُ السومريَّةُ شهرزادَ

تقصُّ بالقُبُلاتِ ليْ

قصصاً

عن الضِلَّيلِ صارَ مؤذِّناً

ومُبشَّراً بالعشبِ باديةَ السماوةِ

والرُّبى بالإخضرارْ

 

وتزفُّ للكهفِ البشارةَ

بالمدى النشوانِ..

والليل المؤبَّدِ

بالنهارْ

2153 يحيى السماوي

وفي قصيدة (وادي زهور اللوز) نجد هذا النسيج حاضراً يمثل التكوين والتشكيل لهذا النص، الطفولة، الكهولة، لغة النصوص القرآنية،بإشاراتها السيمائية، والعشق الذي يجعل الحياة بستاناً من الزهور:

عَجَباً عليّ

رجعتُ في "الستين"

طفلا

 

أصحو

لأقطف من حقول الصدر

تفّاحاً

ومن وادي زهور اللوز أرتشف الندى

فأنامُ مقروراً

سريري غيمةٌ

ووسادتي عشبٌ وريحانٌ

ودفلى

 

جَرَّبتُ أنْ اختارَ غيرَكِ

قبلةً لِصلاةِ عِشقي

فإستدارَ إليكِ قلبي والمُصَلّى

 

أما الومضة الشعرية (صُبّار الألم) التي تتناول موضوع الندم بالرؤية التي يقدمها الشاعر بشكل مثير للإهتمام:

قالتْ ستندمُ

ليس تدري أنني أدمَنتُ

صُبّارَ الندمْ

 

أمضيتُ عمري

أزرعُ الأملَ الجميلَ

وما حصدتُ

سوى الالمُ

وفي قصيدة (إستجداء) نكون فيما ذهبنا إليه في بحثنا النقدي هذا، حول مساهمة النص القرآني في تشكيل النص الشعري، وتحويله من آية مسموعة الى واقع تطبيقي يدخل في متن النص:

ورغيفاً من عناقٍ

دافئِ الجمرِ

بتوليِّ التنانيرِ

يقيني من ذئابِ الزمهريرْ

 

فأنا

أوصى بي اللهُ

يَتيمٌ وغريبٌ وأسيرْ (*)

ويضع إشارة (*) لنقرأ في الهامش الإشارة الى قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماًوأسيراً)

وفي قصيدة (قطوف ليست دانية) نكتشف الإشارات السيمائية بتأثر النص الشعري بالنص القرآني من خلال بنية العنونة وكذلك متن النص:

حتى إذا نادى الآذانُ

إلى صلاةِ الفجرِ

أغواني نُعاسكِ بإقتطافِ

التينِ والتفاحِ

من حقلِ الأنوثةِ

وإرتشافِ ندى زهورِاللوزِ

خالطهُ شذاكْ

وفي الومضة الشعرية (ومضة) التي نكون فيها مع الأعمى الذي لايجد في حياته جدوى، وهي دلالة رمزية لواقع الحياة التي لا نجد فيها ما يمكن ان يثير معالم الفرح، إذ نجدها صحراء قاحلة لا جدوى منها:

قالَ ليّ الأعمى

أنا

أرضٌ يبابٌ

 

ليس يعنيني إذ أشرقتِ الشمسُ

أو البدرُ عن الشرفةِ

غابْ

 

ما الذي تخسرهُ الصحراءُ

إن جَفَّ السرابْ

 

أما قصيدة (قناعة) فأنها رؤية لإكتفاء الحبيبين ببعضهما حد التوافق والانسجام، مستحضراً المثل الشعبي الذي إستُقيَ من موروثنا (وافق شنن طبقة):

فأطعميني صَحْنَ لثمٍ

إنني بتُّ قنوعاً

جشعي لا يتعدى شفتي

والحَدَقةْ

 

فسأرضى بالندى من زهرةِ اللوزِ..

ومن فردوس واديكِ البتوليّ بِشمّ الزنبقةْ !

 

إنني شنٌّ

فكوني طبقةْ

وفي قصيدة (ليس يعنيني الذي قيل) فنكون مع حالة النهايات التي تحدثنا عنها، وكيف تكون مشاعر الكهولة وتأثير سني العمر، التي تتمثل بعلاقة هي أشبه بنفاذ صبر من كل شيء، فهو يريد أن يغلق الابواب والشبابيك، ولكن يبقي قلبه ينبض حباً ليس بعنفوان الشباب:

أغلقي بابكِ

والشباكَ والتنُّور والمِكحَلةَ

اليقظةُ..

والحُلمَ الخيالْ

 

فأنا

أغلقتُ أبوابَ جوابي

وشبابيكَ السؤالْ

 

ليس يعنيني الذي قيلَ

عن الصَّب الفراتيَّ

وما سوفَ يقالْ

وفي قصيدة (ياجبل العمر) نكون مع تلك المجسات التفاعلية التي تثير القلق والخوف من تداعي العمر، وبلوغ قمته كما يصفه النص، إلآ أنه واقصد في ذلك الرجل الكهل الذي رسم ملامحه الشاعر، أن يبلغ قمة العمر، يريد أن يبقى مع الربيع، مع الزهور، مع الرياحين، مع العشق الأخضر، ويحافظ على محبوبته:

يا جَبَل العمرِ

ألا تعرفُ من وسيلةٍ

تمنعُ خطوي من وصول القمّةْ ؟

 

أريد أن أبقى مدى الدهرِ على السفح مع الأنهارِ

والأشجارِ والأطيارِ والأوتارِ

والكأس التي خَمرتُها تحيلُ كهفي غيمةً

مع التي قميصها

شَقَّ ستارَ الظلمةْ

 

فأرضعتني قُبلاً

ووسَّدتُ فمي مرايا الجيدِ

فانزلقتُ نحو الحَلّمَةْ

المجموعة الشعرية (تيمَّمي برمادي) للشاعر يحيى السّماوي، هي خروج من قيود السياقات الفنية لصناعة القصيدة الشعرية وما تفرضه من سطوة تعيق حرية الإنطلاق والتدفق ، والتي إمتلك ناصيتها الشاعر وسبر أغوارها، الى حيث المعالجات الفنية الجديدة التي تضمنت هذا النسيج الرائع من المحاور والافكار والمؤثرات الذهنية والثقافية وتجارب الحياة، وتجربة رحلته الطويلة مع الشعر.

 

يوسف عبود

.......................

* من إصدارات مؤسسة المثقف في سيدني استراليا، ودار تموز - ديموزي دمشق لعام 2018

* فصل من كتاب (تفاعلات النص الشعري الحديث) إصدار الورشة الثقافية عام 2020

 

 

نقد في الفلسفة الغربية المعاصرة

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفصدر لي عن دار غيداء بالاردن كتابي الفلسفي الجديد بعنوان (نقد في الفلسفة الغربية المعاصرة)، إليكم تفاصيله:

المحتويات

المقدمة

القسم الاول : اللغة والفلسفة

-  فائض المعنى في فلسفة اللغة

-  توليدية جومسكي في التحول اللغوي

- البنيوية:الانسان خارج منظومة الحياة

- التفكيكية وسلطة تقويض النص

- بول ريكور : فلسفة الارادة والانسان الخطاء

- بول ريكور : تأويل خطاب ما بعد البنيوية

- ادراك الوجود ..الفكر واللغة

القسم الثاني: مختارات فلسفية محكمة

- فويرباخ: الطبيعة ونزعة التفكير البدائي الميتافيزيقي

- عالم الانسان المصنوع والطبيعة

- وحدة الوجود في الصوفية والفلسفة

- الوعي القصدي في فلسفة جون سيرل

- وعي الذات وما بعد الحداثة

- العقل والجسد ...البيولوجيا والفلسفة

-  الفلسفة وما بعد الفلسفة

القسم الثالث: الفلسفة الامريكية المعاصرة

-   الذرائعية والواقعية الجديدة في الفلسفة الامريكية المعاصرة.

-   وليم جيمس... هل الوعي موجود ؟

- المثالية النقدية الاميكية..الطبيعة والعقل والاخلاق

-  تيارات فلسفية امريكية متداخلة معاصرة

-  المنهج الطبيعي في الفلسفة الواقعية النقدية الامريكية

-  النزعة المثالية النقدية في الفلسفة الامريكية

القسم الرابع: هيدجر والميتافيزيقا

-  سؤال هيدجر في الوجود والعدم

-   الوجود مفهوم ميتافيزيقي وليس موجودا انطولوجيا

-   الوجود والموجود.. الثابت والصيرورة

-  هيدجر وميتافيزيقا الوجودية

- تعالق الوجود والموجود في فلسفة هيدجر

-  كلمات فلسفية في الوجود والحياة ج6

- العدم من منظور فلسفي

- الحقيقة البراجماتية والوعي الزائف

القسم الخامس : الفلسفة والمعرفة

- مبحث الابستمولوجيا في الفلسفة المعاصرة

- الابستمولوجيا والخبرة العقلية

- كانط وقالبا الزمان والمكان في الادراك العقلي

- فرويد :الزمن في اللاشعور

-  قضية فلسفية: قريبا من المتن بعيدا من الهامش

- شذرات فلسفية مداخلة وتعقيب ج2

- كلمات فلسفية في الوجود والحياة ج6

- هوسرل:ماهية الانسان في المنهج الظاهراتي (الفينامينالوجيا).

- الجنس البدائي ومشاعية تملك المرأة والثروة

2154 علي محمد اليوسف

المقدمة

كعادتي المتبعة في مؤلفاتي الفلسفية الاخيرة لا يقتصر هذا المؤلف على موضوع محوري مركزي واحد كما يدأب عليه بعض الباحثين في الفلسفة عنونة الكتاب فقط، وغالبا ما يسود مثل هذا التناول الحشو الزائد والاستطرادات الاجتزائية من تاريخ الفلسفة المعادة المكررة التي لا علاقة له بمتن الكتاب المركزي المتناقض مع العنونة من حيث وجوب ربط العنوان الدلالي مع موضوع الكتاب المحوري الواحد قيد البحث الفلسفي، أذ نجد عنونة عريضة مبهرة ومضمون فكري فلسفي فقير ضحل يبتعد عن توضيح ومناقشة صلب موضوعه المعلن في عنوان الكتاب وهو ما نجده واضحا عند المشتغلين في المباحث الفلسفية تعريبا أو شروحات عرضية لا تخرج عن تكرار نفس المفردات نصّيا ونقلا حرفيا عن أصل الموضوع دونما حتى أمكانية عرضها بوضوح.

أختصر القول أن محتوى هذا الكتاب لا يخرج عما كنت دأبت عليه في مؤلفاتي الفلسفية من ميزات أقصدها بالذات ولا تفرض هي نفسها، تلك هي أن القضايا الفلسفية التي أتناولها وهي جميعا تخص الفلسفة الغربية المعاصرة متنوعة جديدة، مقالة ، دراسة ، وبحث، مثال ذلك أني أفردت قسما كاملا يتألف من ثمانية مباحث في الفلسفة الذرائعية (البراجماتية) الامريكية وتياراتها الفلسفية المتعالقة المتداخلة تحقيبا زمنيا معها، التي غالبا لا نجدها في مؤلفات مترجمة عن الانكليزية والفرنسية والالمانية معظمها ترجمات أكاديمية لا تتعرض كثيرا للتيارات الفلسفية المتعالقة مع البراجماتية العملية المزامنة لها من حيث التحقيب التاريخي لنشوء تلك التيارات وتبيان الاضافات الفلسفية التجديدية والاختلافية التي طرأت على الذرائعية الامريكية الفلسفة الأم التي ولدت من رحمها..

مسألة أخرى أن مباحث ومحتويات هذا الكتاب الفلسفية تقع في خمسة اقسام موزعة على ستة وثلاثين مبحثا هي تنويعات فلسفية مختارة بدقة وعناية مكتنزة بموضوعاتها وليست عروضا سطحية مكتفية بالتعريف بها كمواضيع كما هي في الاصل المترجم كأنها مسلمات لا يطالها الشك ولا النقد الرصين في توضيح نقاط الضعف التي تحويها تلك القضايا البحثية المعربة في ألنص الاجنبي المنقول الى العربية ويجري عندنا التعتيم على تحاشي نقد تلك الاراء لغياب توفرالقدرة الفلسفية والامكانية الفكرية في نقدها وتبيان مناحي القصور فيها ومعاملتها كتوثين فكري صنمي معصوم من الاخطاء لا نقد يطاله ولا توضيح حصيف يتقصّاه..

كما أن تخمة العروض الفلسفية المترجمة للعربية أصبحت من الكثرة والتراكم الثقافي والاكاديمي التداولي قرائيا تخصصيا في قاعات التدريس الفلسفي الجامعية ما يستوجب معه ضرورة ممارسة النقد لها وزرع النزعة النقدية لدى طلبة الجامعة المتخصصين بدراسة الفلسفة بغية الشروع بتأسيس مشروع فلسفي عربي يقوم على التكافؤ الندّي في رؤيتنا الفلسفية العربية الخاصة بنا التي بدأت تفرض نفسها علينا..والتحصيل الفلسفي أصبح مكمن قيمته اليوم لنا عربيا أن يكون جزءأ لا يتجزأ من مشروع تحديث عربي مطلوب وأكثر الحاحا بضرورة حضوره في كل مناحي حياتنا..

مسألة أخرى جديرة بالتنويه لها هي أنني أعمد تجنب أستخدام ثبت المصادر والمصطلحات الفلسفية باللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية المعرّبة كما وردت في الاصل والتي أصبح هوس الاكاديمين من نقلة النصوص الفلسفية محموما بأستعراض قدرات لا تتعدى نقل تعريب حرفي للمصطلح الاجنبي على أنه مفتاح التفلسف المحتكر من قبل الفيلسوف المؤلف والتغاضي عندنا عن ضرورة تقريب تلك المصطلحات الفلسفية الاجنبية من ذهنية وتلقي القاريء العربي كبنية نقدية وليس كمسلمة ناجزة لا يمكننا المساس بها..

معظم الباحثين في قضايا الفلسفة عندنا يعاملون المصطلحات الفلسفية الاجنبية على أنها مفاهيم ومباحث فلسفية قائمة بذاتها وهو خطأ..فالمصطلح الفلسفي كما هو المصطلح في كل ميادين العلم والمعرفة هو أجماع متفق عليه من قبل واضعي تلك المصطلحات بينما يكون (المفهوم) مبحثا فلسفيا مشاعا للجميع الاسهام بتناوله وتخليقه وتصنيعه من جديد..بمعنى المصطلح ثابت لا يتغير، والمفهوم متغير متحرك غير ثابت لعدم أمتلاكه أجماعا حسميا عليه..

لا حاجة لتكرار أن القضايا الفلسفية المطروحة في فصول هذا الكتاب هي من الكثرة والتنوع الثري التي تجعل المتلقي المتخصص الفلسفي وغير المتخصص يتنقل بين ثنايا تلك المواضيع بمتعة معرفية نقدية وحصيلة فلسفية تجعل من تلك القضايا الفلسفية نصوصا يمكن للباحث العربي المتمكن من ثروته الفكرية وأدواته البحثية ممارسة نقدها بكل يسر وسهولة ولا تحتاج الفذلكة اللغوية المستعصية الخاوية من المعنى والتنطع وراء المصطلح المستغلق واللغة التي دأبت عليها المؤلفات الفلسفية العربية كتلفيق وتدليس يستغفل المتلقي العربي وليس كتأصيل معرفي حقيقي في مسؤوليته توصيل المعنى المطلوب فلسفيا..

وميزة أسلوب طرح مواضيع الكتاب المنوعة هذه التي أعتمدتها في جميع مؤلفاتي أنها تبتعد عن تقعرات اللغة وطلاسمها العصيّة المربكة في محاولة التضليل المخادعة على أنها فلسفة تمتلك العمق والرصانة وهي في حقيقتها تعمية لغوية وعدم وضوح في التعبير الفكري الفلسفي..

النقد الفلسفي ألذي أمارسه مع منقودات لمواضيع فلسفية أجنبية في محتويات هذا الكتاب أجدها تضطرني مجاراتها بلغة فلسفية من وزنها قد تبدو صعبة على المتلقي القاريء المتخصص وطلبة الدراسات الفلسفية في الجامعات العربية لكنها هي بالاصل كذلك صعبة فلسفيا..فالفلسفة ليست قيمتها في وضوح المعنى ولا قيمتها في أستغلاق لغة التعبير عنها أيضا..وعلى النقد تكافؤ المنقود كقراءة جديدة على صعيد لغة الفلسفة مع الاصل النصي والا انفقد الهدف الذي لا يكتفي بعرض الموضوع الفلسفي فقط..

أود هنا بالختام الاشارة الى أن محاربتي الوضيعة في مدينتي الموصل والعاصمة بغداد كوني باحثا في مجال فكري – ثقافي هو الفلسفة غير متاح ولا متوفر لغيري من عديمي الموهبة والامكانية مجاراتي به من حملة الشهادات الجامعية العليا بوسائل التزويرومزاد البيع والشراء لتراخيص الشهادات الجامعية المفلسة في مجال الفلسفة وحملتها غالبيتهم خلو من القدرة والقابلية في كتابة بحوث في مجال تخصصهم الذي يدعونه أساتذة جامعيين يقومون تدريس الفلسفة في الجامعات العراقية،،

لذا أصبحت محاربتي والتعتيم على منجزي الفلسفي عراقيا وليس عربيا الذي غالبا ما أنشر العديد منه على مواقع عربية فلسفية وثقافية محكمّة مثل موقع المثقف في سدني وموقع الحوار المتمدن، وموقع كوة المغربي وموقع فيلوبريس التونسي وموقع النور بالسويد.. وأني والحمد لله متابع ومقروء في نتاجي الفلسفي بآلاف من القراء العرب بما يسعدني المفاخرة به وبهم بهذا المجال.. عليه تكون محاربتي في مدينتي الموصل والعراق هو شهادة كفاءة أبداعية فلسفية أنتزعها منهم عنوة أن كتاباتي الفلسفية الموزعة في بحوثي ومقالاتي ومؤلفاتي الصادرة عن دار غيداء الغراء بالاردن هي رقم صعب تجاوزه أمام عديمي الموهبة والقدرة الفلسفية ممن يحاربوني بغباء ودناءة وأنانية مرتذلة على الصعيد الشخصي وليس الفكري.. وأجد ذلك من الامور غير الغريبة التي أعتدتها تصدر عن أناس متخلفين يرون في المبدعين الحقيقين جبالا سامقة ويبقون هم صغارا يتصارعون في الحفرالموحلة على سفوح وحافات تلك القامات الثقافية الكبيرة ..

لقد عقدت ببغداد واربيل بالتعاون مع بيت الحكمة الذي لا يمتلك أي نوع من مباديء ورسالة بيت الحكمة العباسي العريق فلسفيا وحضاريا وبالتعاون مع المؤسسات التي ترتبط بوزارة الثقافة أو الاتحادات شبه المستقلة عنها وبعض كليات جامعة بغداد جميع هؤلاء عقدوا مؤتمرات بائسة داخل العراق بأسم الفلسفة لا تمت للفلسفة بأدنى صلة، ومسخوا محبة الفلسفة وقيمتها العليا في أذهان الطلبة والمهتمين بالشأن الفلسفي من العراقيين، ولا يوجد من بين هؤلاء القائمين على مثل هذه المؤتمرات الهزيلة ثلاثة مشاركين على الاقل ممن يمتلكون حضورا فلسفيا على المستوى العربي كباحثين تحترم كتاباتهم أسوة بمفكرين وباحثين كفوئين عربا بهذا المجال كما في الاردن والمغرب وتونس ولبنان ومصر ممن أصبحت منابرهم ومنتدياتهم الفلسفية مفخرة لكل العرب الذين يتطلعون تحقيق نهضة فلسفية متاحة..

أخيرا أود التنبيه ألى مسألة مهمة أن ما سبق لي نشره على صفحات مواقع الكترونية ويجدها القاريء من محتويات هذا الكتاب، تشوبها في العديد منها أخطاء تعتبر من الامور العادية التي يقع بها كل مؤلف وكاتب وأتداركها بالتصحيح  ويعتبر تصويب الكتاب لها هو المرجع الصحيح وليس المنشور منها على مواقع التواصل الاجتماعي.

أتوجه بالعرفان الجميل لكل متابعي نتاجي الفلسفي على مواقع الانترنيت العربية ومؤلفاتي الورقية المطبوعة بدار غيداء في الاردن على ثقتهم بكتاباتي الفلسفية... والى مزيد من الابداع الفلسفي العربي بعون من الله وتوفيقه.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

كانون ثان /2019

 

برنامج "جو شو" والتنكيت المخادع

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليعالم النكته ملئ بالمواقف الساخرة والناقدة والمضحكة، والتي تسري علي ألسنة الناس، كما تسري النار في الهشيم، والنكتة تعبير عن موقف هزلي بأسلوب ساخر يحيي بروح نقدية، ونجاح النكتة، لابد لها أن تكون بأسلوب مقتضب موجز جداً، وساخر يحمل معني كبيراً غير مباشر في باطنه، وكلما تكون مثيرة للضحك فهي أقوي وقعاً وتأثيراً وبالتالي نجاحاً.

والنكتة في حد ذاتها معالجة لوضع، أو حدث غير مرض عنه، وحياة النكتة تطرقت لمواقف عدة في الحياة وجوانيها بأساليب مختلفة، فأخذت الشك الخطابي أو الحركي أو المكتوب أو التحريري أو رسوم كاريكاتورية تعبر عن هذه المواقف .

وتعد النكتة خطاباً ناقداً يختزن حمولات حجاجية، مبنية علي مناقضة الآراء والأفكار، والوقائع، والاحتجاج عليها، هذا الاحتجاج يتخذ صوراً تعبيرية عدة تتيحها الوسائل والوسائط المستعملة في توصيله، وإثارة ردود الأفعال ؛ التي تستجيب – عادة – باستعمال السياق والصورة والشكل التواصلي، ولا تعتمد التواصلية بمختلف أشكالها وأنواعها ومضامينها علي الفكرة تحديداً ؛ بقدر ما تقع بكل ثقلها علي الوسيط، ومفهوم الوسيط هنا يتخذ بعده الألي الوسائلي، كما يظهر بعده الصيغي الذي يتلبس رداءً ثقافياً دارجاً، ومتداولاً يعطي هذه التواصلية بعدها المأمول، وقد يطمح بها في جنوح بعيد إلي أبعاد أخري، تتنامي داخل المحض الثقافي للفكرة، وقد يفيض لتتكتل في وسائط وأفكار أخري تتجاوز المدار الأولي إلي مدارات أحري، ويمكن لهذا الكلام أن يحاكي في شئ من الحقيقة المفهوم القريب والبعيد للنكتة، والنكتة المتعددة النابعة من عمق المعايشة، الرفض، الاستنكار، القبول، اللاموقف الذي يشكل موقفاً بحد ذاته في تجلية صاحب النكتة.

هذا النوع هو ما كان يبغيه الدكتور عزمي بشارة، عندما أختار يوسف حسين ليجسد له برنامج "جو شو"، للدفاع عن فكر جماعة الإخوان المسلمين الذين سقط مشروعه عقب أحداث ثورة الثلاثين من يونيه 2013، هذا من ناحية، واستخدامه كمخلب قط ضدهم في حالة انقلابهم علي مشروع عزمي إسلام الذي يزعم الدعوة للقومية العربية (المزيفة) .

وبرنامج "جو شو" من البرامج التي ما تزال مستمرة حتي الآن، وهو يذاع في العاشرة مساءً بتوقيت السعودية في كل خميس علي قناة العربي؛ وجو شو وسابقًا "جو تيوب"، هو كما قلنا برنامج تلفزيوني سياسي كوميدي ساخر يتألف من فقرات تتناول الأوضاع السياسية في العالم العربي، ويسخر من الأوضاع السياسية في مصر بعد  ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013.

وفي عام 2016، انتقل يوسف حسين من برنامجه على منصة يوتيوب ليقدم برنامجه باسم جو شو عبر شبكة التلفزيون العربي الذي يبث من لندن، بعنوان "جو شو" بداية من شهر رمضان 1438 هـ  وتعرض حلقاته أيضًا على قناة سوريا ؛ وجو تيوب، أو جو شو، أو يوسف حسين، وأبو ليلي ونعنيعة.. وأسماء كثيرة لشخص واحد، وهو برنامج أسبوعي، يتحدث عن الأوضاع الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية ؛ وبخاصة في مصر.

ويوسف حسين ظاهرة إعلامية عُرفت وعرفها الملايين في الوطن العربي من خلال اليوتيوب وقناة سوريا وقناة العربي، بجرأته وخفة دمه .. ظهر في فترة كانت موجودة بكثرة البرامج الساخرة التي تزعم أنها تنقد الأوضاع السياسية في زمن الربيع العربي ؛ وخاصة فيما يتعلق بالقضايا السياسية المستجدة من خلال الكوميديا السوداء وهو ليس له حدود لا في النقد ولا في السخرية .. والعديد من الإعلاميين شبهوه بالإعلامي باسم يوسف المزيف والمخادع، لكنه في فترة قصيرة حاول أن يكون له بصمة خاصة به من خلال الفبربيكات الإعلامية، وصارت لديه قاعدة جماهيرية كبيرة من الشباب والشيوخ (المغرر بهم والمؤهلين للإستماع والإصغاء لأي شئ يقدح في النظام المصري الحالي).

وقد شكل يوسف حسين حالة من التمرد علي نظام الدولة المصرية الحالي بطريقة سلمية تأخذ فكرة تكتيكات حرب اللاعنف عند جين شارب (والتي تمثل النواة الصلبة لحروب الجيل الرابع)، إلي أن اصطدم مع السلطة في المملكة العربية السعودية، وسوريا، والجزائر، واليمن، وفلسطين، وأمريكا، وغيرها الكثير بملوكها وأمرائها ورؤسائها، كانت مادة دسمة عبر برنامجه الشهير " جو شو " الذي أصبح يتناول البرامج العربية والمصرية، وبموقع انتقاد، أو ما يمكن تسميته بالكوميديا السياسية السوداء .

لقد بات جو شو يمثل حاضنة شعبية لبعض المصريين وفي العرب (المغرر بهم كما قلت)، واستطاع أن يحول كل شئ لكوميديا سوداء، إلي أن عده بعضهم أيضا حاضنة لكثير من المؤيدين باطنيا لفكر جماعة الإخوان والسلفيين المسلمين؛ وعلي الرغم من محبي جو شو القلائل فلا يخلو الوضع من انتقاد الآخر (أي الكُثر) له لاتهامه بعدم الموضوعية، وعدم التزام الحياد، واتباع توجهات وسياسة القناة التابع لها، وعدم تخطي ما يمكن تسميته بالخطوط الحمراء .

وحول نشأة البرنامج قال " يوسف حسين" (حسب موقع ويكبيديا): أنه بعد بداية الربيع العربي لم يكن لدى فريق العمل أدنى فكرة بإنشاء قناة جوتيوب في البداية، وأتت الفكرة "بمحض الصدفة" حسب ما قال يوسف حسين في لقاء على قناة سوريا، (بعد ثورة الثلاثين من يونيه عام 2013)، قام يوسف حسين وأحمد الذكيري بإنشاء مقطع فيديو سياسي ساخر مدافعًا فيه عن الرئيس السابق مرسي وتحميله على موقع اليوتيوب، وحقق أكثر من نصف مليون مشاهدة في وقت قصير، وبعد شهر تقريبًا قام جو "يوسف" والذكيري بتكوين فريق عمل صغير، وإنشاء قناة جوتيوب على اليوتيوب، وعلى مدار شهور قاموا بعمل 12 حلقة ساخرة عن تناقضات التيار الليبرالي السياسي، وتناقض الإعلامين (بعد ثورة الثلاثين من يونيه)، فقام فريق جوتيوب بعمل 31 حلقة ناقش من خلالها جميع الأحداث التي مرت بمصر بشكل ساخر، وتخطى مشتركو قناة اليوتيوب أكثر من مليون ونصف مشترك وقامت بعض القنوات التلفزيونية بعرض الحلقات على شاشاتها  مثل الجزيرة مباشر مصر، وقناة الشرق وقناة رابعة.

وقد كان الهدف من برنامج جو شو كما قلت، هو تكرار نفس المهمة التي كان يقوم بها برنامج البرنامج لباسم يوسف، مع اختلاف الغايات والتوجهات (وإن كان كلاهما يصبان في نفس الاتجاه وهو الفوضي الخلاقة)؛ بمعني أن نفس المواضع هو تكرار برنامج جو شو للمواضع المتعلقة بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وخطاباته السياسية، وكيفية تعامل الرئيس السيسي معها من خلال عرضها بطريقة ساخرة، وجاء في المرتبة الثانية موضوع الإعلام، وكيفية معالجته للأحداث السياسية في مصر، وكيفية تعامل الإعلاميين المصريين لهذه المواضيع.

وهذا يشير إلي أن برنامج جو شو قد حرص علي متابعة تطورات الحياة السياسية في المجتمع المصري بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ويظهر ذلك من تركيز البرنامج علي الرئيس السيسي وخطاباته السياسية بشكل كوميدي يغلب عليه التنكيت المخادع، وكذلك معالجة القضايا السياسية التي تهم المجتمع المصري حالياً بشكل ساخر ومضحك، ومن ثم تناوله لمعالجة الإعلاميين المصريين لهذه القضايا، وهذا يظهر أن سر قدرة برنامج  يوسف حسين علي اجتذاب الجماهير ومتابعة المشاهدين له بشكل كبير آتيا من تركيز البرنامج علي حصر المضمون السياسي للقضايا اليومية المستجدة.

أما فيما يخص الموضوع الوطني وتغطية القضايا الوطنية ومعالجتها سواء السياسية، أو الاقتصادية، أو الاجتماعية، فنجد أنها لا تشكل محور اهتمام بالنسبة ليوسف حسين، مما يعكس عدم أهمية مناقشة وعرض هذه القضايا الوطنية في برنامجه، وهذا يعكس غياب الحس الوطني لبرنامج جو شو الذي يقدمه يوسف حسين .

وثمة نقطة مهمة نود الإشارة إليها، ألا وهي أن يوسف حسين كان يتناول المواضيع السياسية التي يطرحها في برنامجه في إطار الخبر التلفزيوني، وهذا يعكس قدرة يوسف حسين علي عرض المواضيع وتناولها بتكنيت زائف كونه ناقل للخبر بأسلوب ساخر، ليترك للمشاهد عدم الحرية في تناول وفهم الخبر، ويعكس ذلك براعة يوسف حسين، وقدرته الإعلامية علي طرح المواضيع والمضامين والمحتوي السياسي، لهذا البرنامج بأسلوب الخبر الصحفي ليظهر، وكأنه ناقل للخبر من ناحية وصانع له بما يثبت عنه صفة التدخل الشخصي وعرض آراؤه الشخصية في المواضيع التي يعالجها .

ومن الأمور الأخرى التي لاحظناها في برنامج جو شو، أن وحدة التحليل الرئيسية التي تم تناولها من قبل يوسف حسين للمواضيع السياسية، كانت تتمثل في استخدام متغير الوقت والفترة الزمنية التي يغطيها برنامج يوسف حسين الساخر، وجاء بالدرجة الثانية استخدام الكلمة، ثم الفقرة، وأخيراً الجملة، ويعكس ذلك مستوي تركيز يوسف حسين وهدفه من إيصال معلومة معينة، أو خبر معين للمتلقي، أو أن يوجه المضمون السياسي باتجاه معين من خلال استخدام متغير الوقت ومستوي تكراره لبعض الكلمات والمصطلحات، وهذا فيه إشارة واضحة لتدخل يوسف حسين علي أنه يريد إيصال معلومة معينة للمتلقي في المضمون السياسي للحلقات التي يعرضها .

كذلك وجدنا برنامج  جو شو الذي يعرضه يوسف حسين كان يتخذ مواقف معارضة لوجهات النظر التي عرضها في برنامجه، وهذه تعبر عن شخصية يوسف حسين ومواقفه الايديولوجية، تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، مما يشير إلي أن يوسف حسين لم يكن صريحا لآرائه الشخصية ومواقفه اتجاه القضايا المطروحة، وهذا يشكل تدخلا أو انحيازا لدي يوسف حسين وينفي عنه صفة الموضوعية إذا تم عرض هذا الرأي بأسلوب صريح وواضح .

أيضاً كشف لنا برنامج جو شو أن الطريقة الهزلية هي الصفة المميزة لبرنامج يوسف حسين، مما يعكس أهمية التركيز  علي هذه الطريقة لتناول يوسف حسين لعرض الموضوع، بما يعبر عن شخصيته وما يميز برنامجه عن البرامج الأخرى، ثم جاءت طريقة عرض برنامج جو شو بأسلوب ساخر تعبر عن القدرة الكبيرة ليوسف حسين في عرض المواضيع، وهذا يشير إلي أن الصفة الأساسية للبرنامج هي عرض الموضوع بأسلوب ساخر هزلي انتقادي، وهذا ما يميزه عن البرامج الأخرى، فقدرة يوسف حسين علي استخدام السخرية في توصيل المضمون السياسي يعكس براعته في إيصال ما يريده للمتلقي بطريقة غير مباشرة.. وهناك أمور أخري سوف نكشف عنها في قابل الأيام لهذا البرنامج.. ونكتفي بهذا القدر.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

.........................

1- الشعيبي، صالح بن عبدالعزيز: الصفحة الأخيرة : عالم النكتة، الأمن والحياة، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مج 8،ع 9، 1989، ص 62.

2- هاجو مدقن: السخرية الرفيعة في النصوص التفاعلية الرقمية: قراءة في الادبيات الساخرة في الفيسبوك، سياقات اللغة والدراسات البينية، العلوم الطبيعية للنشر، ع4،3، 2016، ص 116.

3-  هنيدة أحمد خليل: درجة توجه المضمون السياسي لبرنامج باسم يوسف الساخر، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة الشرق الأوسط، طلية الأعلام، الأردن، 2015.

4- جو شو (برنامج).. ويكيبيديا.

 

 

هل يعيد انتخاب بايدن تشكيل الجغرافيا السياسية العالمية؟

التفاصيل
كتب بواسطة: عبد الله العبادي

عبد الله العباديمن السابق لأوانه الحديث عن التغييرات التي يمكن أن يحدثها انتخاب جون بايدن في ظل ظروف وبائية خطيرة يشهدها العالم بأسره، وفي ظل انقسام أمريكي قد يعصف بالأمن الداخلي خصوصا وأن ترامب توجه للمحاكم وجند أكثر من ستمائة محام لمواجه غريمه وطاعنا في نتائج الانتخابات.

الشارع العربي تابع الانتخابات الأمريكية وكأن شخص الرئيس سيغير شيئا من موقف الولايات المتحدة الأمريكية اتجاه القضايا العربية وعلى رأسها الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ومشروع الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، فكل الإدارات الأمريكية كانت حليفا بدون شروط للكيان الصهيوني على حساب حق الشعب الفلسطيني في إعلان دولته المستقلة.

في تعليقه على فوز بايدن يرى منصف المرزوقي اليساري وأول رئيس لتونس بعد الحراك الشعبي، إنه فوز الديمقراطية على الشعبوية، فوز الانسانية على العنصرية، فوز المبادئ على المصالح، انتصار الذكاء على الخبث، لطمة موجعة من النظافة على وجه الفساد. من الصعب فهم تفاؤل المرزوقي، فالبيت الأبيض لا يختزل في شخص، فالرئيس موظف تنفيذي لأجندة سياسية وأمنية ومصالح قومية.

مستشار الأمن القومي الأمريكي الديمقراطي زمن حكم باراك أوباما بن رودس يقول في مذكراته "العالم كما هو" يقول إن الرئيس الديمقراطي السابق أوباما  يكره العرب بشكل غريب وكان يردد أمام مستشاريه أن العرب ليس عندهم مبدأ أو حضارة وأنهم متخلفون وبدو. وبايدن ليس إلا الرفيق الحميم لأوباما ويحملان نفس الأجندة الحزبية ووجهات النظر حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية الأمريكية.

من حق المواطنين الأمريكيين أن يفتخروا بديمقراطية الاقتراع والعملية الانتخابية، فكل الرؤساء كانوا وبالا على بعض المناطق العربية، لكن مهما اختلفت الألوان الحزبية للمترشحين تبقى مصلحة الوطن وحماية المصالح الخارجية من الأولويات، رغم اعتزازهم بأصولهم فقد قال بايدن ل BBC أنا إيرلندي أما نائبته فقد أكدت أكثر من مرة فخرها بأصولها الهندية والجامايكية، هذا الفخر لم يفهم على أنه ضعف في الوطنية بل اعتزاز بالأصول وولاء تام  وانتماء للوطن الأم ورغبة في خدمته.

رؤية بايدن تختلف عن ترامب حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية والعلاقة مع الدول والمؤسسات العالمية، فترامب كان يرى وطنية أمريكا أولا وتخلى عن العديد من الاتفاقيات الخارجية والمعاهدات الدولية في قراري أحادي. لكن بايدن سيعيد أمريكا لدورها التقليدي الريادي على المستوى العالمي القائم على أساس القيم الغربية المشتركة، والعودة إلى التحالفات العالمية وعودة الإدارة الأمريكية إلى منظمة الصحة العالمية وستحاول قيادة العالم لمواجهة جائحة كورونا.

من أولويات بايدن أيضا محاربة التغير المناخي والعودة للانضمام إلى اتفاقية باريس للمناخ التي تخلى عنها الرئيس المنتهية ولايته، حيث أكد بايدن نيته في بناء اقتصاد يقوم على الطاقة النظيفة من أجل خلق وظائف جديدة. وأكد بايدن أنه مستعد للعودة لاتفاقية العقوبات المفروضة على إيران مقابل التقليص من برامجها النووية التي انسحبت منها الإدارة الأمريكية قبل ستنين وعارضها بعض الحلفاء.

وبمنطقة الخليج، وعد بايدن بالعمل على إنهاء الحرب باليمن بسبب تفاقم الوضع الكارثي وارتفاع الضحايا من المدنيين، وقد تتراجع الإدارة الأمريكية الحالية عن مساندة السعودية وقد تشوب العلاقات الأمريكية السعودية بعض التوتر بسبب نقاط خلاف عديدة، لكن رغم ذلك تبقى السعودية الحليف الاستراتيجي الأول في الخليج العربي.

يحاول بايدن أيضا العمل مع روسيا كقوة عالمية والعودة إلى معاهدتين كانت إدارة ترامب قد انسحبت منهما، سيعود بايدن لمغازلة الدب الروسي والتفاوض من أجل تمديد الاتفاقية الثالثة التي أوشكت على نهايتها للحد من الترسانة النووية للبلدين. أما بخصوص الصين فالسياسة الأمريكية واحدة بين الجمهوريين والديمقراطيين، الصراع الاقتصادي ومحاولة فرض إجراءات تجارية قاسية، الفرق بين الحزبين يكمن فقط في طرق تنفيذ الإجراءات المفروضة.

أما بخصوص القضية الفلسطينية، فبايدن لن يكون استثناء داخل الحزب فكلمة احتلال لم تسمع خلال برنامجه ولا برنامج السياسة الخارجية للحزب، ربما يكون هناك ضغط من الجناح اليساري داخل الحزب الذي سيعمل على الضغط على مرشحه من أجل حماية حق الفلسطينيين وربما ضغط أكبر من أجل إنهاء الاحتلال والاتجاه نحو حل الدولتين، الشيء نفسه يطالب به الجناح اليساري داخل الحزب لإنهاء الحرب في أفغانستان والعراق.

أما بخصوص ملف الصحراء المغربية، فق أعلنت إدارة ترامب موقفها الواضح ومساندتها لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به المغرب لمجلس الأمن الدولي كحل عادل للقضية. الإدارة الحالية وبحسب العديد من المحللين، في انتظار تعيين طاقمة وخصوصا ممثل السياسة الخارجية، ستكون طبق الأصل لإدارة أوباما وربما يستعين ببعض مستشاري هذا الأخير. ويستفيد المغرب من العلاقات الطيبة الذي تربطه بهيلاري كلينتون، كما أن بايدن سيسعى لإيجاد حلول كبرى وأزمات خلقها ترامب مما سيتيح للمغرب التعامل بشكل مريح مع الإدارة الجديدة. ومهما تعددت القراءات فالحل السلمي ومبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب منذ مدة تعتبر الحل الأنجع لنهاية الصراع، كما أن المشروع التنموي الذي يواصله المغرب بأقاليمه الجنوبية يؤكد حرص المغرب على تنمية كل مناطقه من طنجة إلى الكويرة.

المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها.

 

عبد الله العبادي

الكاتب الصحافي

 

عزل ترامب وأبواب الجحيم

التفاصيل
كتب بواسطة: بكر السباتين

بكر السباتينخاتمة الرعونة طريق مسدود.. فمسيرة حكم الرئيس الأمريكي دوناند ترامب منذ أربع سنوات حتى نهايتها، كانت تجربة مريرة بالنسبة لغالبية الأمريكيين على كافة الصعد الداخلية والخارجية، فبدا كأنه زوبعة عصفت بالبلاد فاسترعت المصلحة محاصرتها والقضاء عليها درءاً من عواقب استمرارها المخيف؛ لتنتهي فترة حكمه بكل أطرافها إلى منطقة الخطر، وكان على أحدهم أن يغادر المركب طوعاً أو يُلقى به في البحر؛ كي يصل المركب بالبلاد إلى بر الأمان. من هنا جاء الموقف الأمريكي الرسمي ليحسم معركة المواجهة مع رئيس ثبت بأنه متهور وغير متوازن، مما جعل مجلس النواب الأمريكي يصوت لصالح قرار عزل الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، ويتهمه بـ"تحريض" أنصاره علناً وعلى رؤوس الأشهاد في أعمال الشغب التي شهدها مبنى الكابيتول (مقر البرلمان) الأسبوع الماضي في سابقة غير مشهودة.

وانضم عشرة نواب من حزب ترامب الجمهوري إلى الديمقراطيين في التصويت على القرار، الذي جاء بنتيجة 232 صوتا مقابل 197.. وهو فارق يدل على مدى الاحتقان الذي تسبب به الرئيس المقامر ترامب من جراء سياساته المتهورة وغير المألوفة من قبل الأمريكيين التي يرمي من خلالها إلى وضع العراقيل في طريق الرئيس المنتخب جو بايدن وإشغاله في قضايا لم تكن بالحسبان، بعدما سُدَّتْ المنافذ في طريق استعادته للفوز الذي قال بأنه مُختطف من قبل الديمقراطيين عن طريق التزوير وهو ما عجز عن إثباته أمام القضاء الذي حكم لصالح الرئيس الذي ثبت فوزه بنسبة عالية.

وبهذا، أصبح ترامب أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يُعزل مرتين أو يتهمه البرلمان (الكونغرس) بارتكاب جرائم بمعاونة أنصاره ممن أدرجوا في قائمة الإرهاب اليميني الداخلي.

وسيواجه الرئيس الجمهوري ترامب الآن محاكمة في مجلس الشيوخ. وإذا أُدين، قد يُمنع من تولي المنصب مرة أخرى.

لكن من غير المرجح أن يضطر ترامب إلى ترك البيت الأبيض قبل انتهاء فترة ولايته خلال أسبوع، وهي فترة مناسبة يستطيع من خلالها اتخاذ قرارات مدمرة غير محسوبة في إطار خيارات عديدة يتوقعها المراقبون ولعل أسوأها ضرب إيران نووياً، وإشعال حرب ضروس في الخليج العربي يكون من شأنها أن تعطل آلية تسليم السلطة إلى جو بايدن؛ فيحظى بذلك على أطول مدّة ممكنة للبقاء في الحكم وفق القانون الذي سيجيز له ذلك، وخاصة أن مجلس الشيوخ الذي ينتظر منه المصادقة على قرار العزل، لن ينعقد قبل حفل تنصيب جو بايدن المزمع إقامته في الثاني من فبراير المقبل حيث ستسلم السلطة للرئيس الجديد من قبل مايك بنس، نائب الرئيس المنتهية ولايته، ترامب الذي رفض الحضور احتجاجاً على اختطاف حقه بالرئاسة وفق ما يدّعي.

فهل تأخذ الغطرسة ترامب نحو التصعيد الجماهيري من جديد لإفشال هذا الحفل خلافاً لتصريحاته الأخيره ووعوده بتسليم سلس لسلطة! وخاصة بعد إدانته من قبل مجلس النواب وصدور قرار بعزله!

التقارير الأمنية ترجح هذا السيناريو وفق ما يُنْشَرُ من تصريحات لمسؤولين أمريكيين. منها ما جاء في افتتاحية الغارديان بعنوان: (الديمقراطية في أمريكا: التهديد حقيقي)، " بأن هناك تقارير أوردت في طياتها تحذيرات مكتب التحقيقات الفيدرالي بشأن احتجاجات مسلحة محتملة في العاصمة وفي أنحاء من الولايات المتحدة في الأيام المقبلة. وأغلقت السلطات المنطقة المحيطة بنصب واشنطن، بالقرب من المكان الذي حث فيه ترامب مؤيديه على القتال من أجل حقه في البقاء في المنصب".

فاتخذت الإجراءات الأمنية اللازمة لحماية الحفل على هذا الأساس.. ففي أعقاب الغضب الناجم عن اقتحام أنصار ترامب للكونغرس الأسبوع الماضي، ستنشر السلطات ما لا يقل عن عشرة آلاف عضو من الحرس الوطني في واشنطن بحلول نهاية هذا الأسبوع.

ويبدو إن اختيار ترامب حَشْدِ أنصاره ضد تسليم السلطة يُعد بمثابة مقياس على نرجسيته وغطرسته وإرادته المشوشة.

ويرى مراقبون أن أعمال الشغب في الأسبوع الماضي لم تكن وليدة الصدفة أو عبارة عن مسرحية لمرة واحدة خرجت عن السيطرة، بل كانت ساحة للهجوم على الديمقراطية تدور منذ شهور.. أي استراتيجة لها أهداف محددة، وهنا تكمن الخطورة فاسترعى الأمر رداً حاسماً من قبل الكونغرس بتجريم الرئيس ترامب كونه حرض أنصاره على الفوضى واستغل صلاحياته لإحداث الضرر بالديمقراطية وتشويهها، ووضع سمعة أمريكا على المحك، حتى أن بعض الدول في الاتحاد الأوروبي رفضت استقبال وزير الخارجية بومبيو بذريعة أن التعامل يجب أن يكون مع إدارة الرئيس المنتخب، جو بايدن، بل أن الصين ذهبت إلى أكثر من ذلك أثناء تقديم واجب المواساة للأمريكيين، إذْ شبهت هجوم "الرعاع" على مبنى الكابيتول (مقر البرلمان) بالغوغائيين المعارضين للصين في هونكونغ، كونهم دُعِمُوا إعلامياً وسياسياً من قبل ترامب نفسه، في مفارقة قد تقلل من قدرة واشنطن على ممارسة السياسة الخارجية فيما يتعلق بحقوق الأقليات في الصين، بارتياح،

ورغم تنصل ترامب أخيراً من مسؤوليته إزاء ما جرى من هجوم سافر على الديمقراطية، في محاولة منه لاحتواء الضرر الذي من شأنه أن يصيب مستقبله السياسي، إذا ما صادق مجلسُ الشيوخ على قرار مجلس النواب لعزله.. فقد صرح بأنه سيسهّل عملية انتقال السلطة إلى جو بايدن في الموعد المحدد، وإنه أمر الأجهزة الأمنية لتقديم الحماية الأمنية اللازمة لحفل تنصيب الرئيس الجديد، وإن حركته الاحتجاجية غير مسؤولة عن "الهمجيين الرعاع" الذين هاجموا الكونغرس؛ لا بل أنها تأنف قبولهم في صفوفها، وطالب بمحاكمتهم على الفور وكأنهم كانوا خارجين عن طوعه!. وقال بأن أمريكا هي بلد القانون داعياً إلى تضافر الجهود لتوحيد الشعب الأمريكي المنقسم على نفسه؛ لمواجهة وباء كورونا.. الذي يعتبر العدو الوحيد لكل الأمريكيين.

ولم يتطرق ترامب في كلمته إلى موضوع قرار مجلس النواب الأمريكي بعزله، وفق نصائح مقربين إليه مثل كوشنر ووزير الخارجية بومبيو.

إن الفوضى العنيفة التي حدثت الأسبوع الماضي وأدخلت ترامب في مصيدة كان قد أعدّها لخصومه، والتي أدت إلى مقتل خمسة أشخاص في حادثة اقتحام مبنى الكبيتول، جاءت تتويجاً لاستراتيجية ترهيب وتشويه سمعة المؤسسات الديمقراطية في الدولة التي يقودها. لذلك فإن الأعضاء الديمقراطيين في مجلس النواب محقون كما يبدو، في بدء إجراءات العزل للمرة الثانية ضد رئيس أتهم بأنه "مارق".

وفي سياق الضغط الاقتصادي على مصالح ترامب حتى يخضع لإرادة الكونغرس، صرح محافظ نيويورك، الديمقراطي بيل دي بلاسيو، يوم أمس الأربعاء، أن المدينة ستنهي عقودها مع مؤسسة ترامب الخاصة، بعد اقتحام أنصاره مبنى الكابيتول.

ووفقا لصحيفة "الأندبنتدنت" الأمريكية، نقلا عن أحدث إفصاحات مالية للرئيس، تبين أن منظمة ترامب حققت حوالي 17 مليون دولار خلال العام. وعليه فإن خسائر ترامب ستكون فادحة لو توسع هذا الباب.. وهي فاتحة لتشكيل قوى ضاغطة اقتصادية لتهديد مصالح ترامب من خلال ضربات موجعة كهذه حتى يستقيم أمره ويتوارى وفق الممكن عن المشهد السياسي الأمريكي درءاً لخطورته.

فهل يخرج ترامب إذن من عنق الزجاجة دون ثمن باهظ سيدفعه من مستقبله السياسة، لأن الحزب الجمهوري الذي تضرر من وجوده، لن يتحمل عنه أعباء الفاتورة التي تسبب بها في غضون الأربع سنوات الماضية.

ما زالت التكهنات غامضة فيما قد يحدث في الثاني من فبراير من قبل أنصار ترامب لتخريب الحفل، وقد يصل أسوأها حدَّ الاغتيالات في مقامرة مفصلية قد تحول الانقسامات الشعبية إلى حرب أهلية محدودة قد يصعب الرجعة عنها، خلافاً لما يراه المتفائلون في أن القطار سيمضي وإن نبحت الكلاب مكشرة عن أنيابها.

 

بقلم بكر السباتين..

14 يناير 2021

 

 

أبو تمام!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائيحبيب بن أوس بن الحارث الطائي، (188 -231) هجرية، ولد في قرية جاسم من قرى حوران بسورية، وإستقدمه المعتصم وقدمه على شعراء زمانه، وتولى بريد الموصل لأقل من سنتين، ومات بعد وفاة المعتصم بأربعة سنوات، وقبل وفاة الواثق بسنة.

وفي ديوانه قصائد يمدح فيها المأمون (170 - 218) هجرية، مما يشير إلى وجود علاقة بينهما.

والمعروف عنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة من أراجيز العرب غير القصائد .

وهو أديب ومن فحول الشعراء، وتعرضت قصائده لشروحات متعددة من قبل أساطين اللغة والبيان كالخطيب التبريزي وغيره.

ومن تصانيفه: فحول الشعراء وديوان الحماسة، مختار أشعار القبائل، نقائض جرير والأخطل، الوحشيات، ديوان شعر.

ولشعره دراسات نقدية متنوعة لأنه إنتهج مذهبا جديدا في الشعر، فكان بعيد المعاني غريب الإستعارات، مليئا بالطباق والجناس، وسببا بإثراء اللغة العربية وتطوير مفرداتها وأساليب الكتابة بها.

ويُعد أبو تمام ثورة معرفية وموهبة شعرية نادرة زعزعت أركان الشعر العربي، وصدح صوته في آفاق الدولة العباسية، وهي في أوج قوتها وذروة إنطلاقها الحضاري، فعبّر عن جوهرها ومنطلقاتها الحضارية بشعره، الذي يتوافق وما وصلت إليه من مجد الإبداع.

ولديه العديد من القصائد التي يمدح بها المعتصم، وأشهرها قصيدته التي قالها بعد فتح عمورية، والتي مطلعها:

السيف أصدق أنباءً من الكتب

في حدّه الحد بين الجد واللعب

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

....

وقد أمضى أبو تمام معظم حياته في العراق بمدينة سامراء، وعلى الأرجح أنه رافق المعتصم منذ بداية خلافته حتى وفاته، وهو الذي قدّم البحتري إلى بيت الخلافة العباسية وأجازه.

ولا يوجد ما يشير إليه في سامراء، ولا دراسات عن حياته فيها، وأظنه قد أنشد قصيدته المشهورة في عمورية بسامراء، لكن البعض يرجح أنها في مكان آخر أثناء العودة من الحملة.

 توفى في الموصل أثناء توليه لبريدها في زمن الواثق.

أبو تمام ظاهرة نادرة لا تتكرر، فأثناء عمره القصير أنتج شعرا متميزا وفكرا منيرا، وأسهم في تدوين أحداث دولة ذات كيان سامق، ففي عمر مبكر كان يرافق المعتصم، وينشد قصائده بمجالسه وأمام جهابذة اللغة والعلم والفكر والفقه.

فأية موهبة وطاقة إبداعية كانت تتخلق في دنياه؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

رأي مختلف في المعري

التفاصيل
كتب بواسطة: ناجي ظاهر

ناجي ظاهر(قراءة سريعة في كتابة بديعة)

ينطلق الكاتب الناقد اللبناني الخالد مارون عبود في كتابه عن ابي العلاء المعري "زوبعة الدهور"، من فكر نيّر مستقل، لا يعبأ بأصحاب القول العنيد" عنزة ولو طارت، ويتوصّل بالتالي الى استخلاصات جديدة واجتهادات فريدة، تشمل اضافةً عميقة جدًا الى ما سبق وقيل عن شاعر المعرّة  صاحب " ديواني" سقط الزند"( الشرارة تخرج من ارتطام حجرين)، و"لزوم ما لا يلزم"، الذي انتهج فيه المعرّي نهجًا غير مسبوق متّبعًا نهجًا فريدًا.. ثلاث قواف متتابعة لا قافية واحدة كما درج الشعر العربي عليه في ابداعاته المتنوعة.

الكتاب صدر عام 1945، عن دار المكشوف اللبنانية، وما زال صالحًا للقراءة والاستفادة منه ومما ضمّه من اجتهادات عبوّدية ذكية وجريئة ايضًا، وقد اعدت قراءته مؤخرًا، بعد ان توفّرت لدي نسخة اصلية قديمة منه.

قبل التوغل في التحدث عن الكتاب وما فاض به من اجتهادات لافتة خاصة، اود ان اقدّم فكرة عنه، يقع الكتاب في 276 صفحة من القطع الصغير، ويتطرق فيه مؤلفه، العلّامة، إلى العديد من المحطات الهامة في فهمه لابي العلاء وفي تاريخه وعطائه الثرّ الثمين. مثل: كيف كنت افهم المعري، مدرسة ابي العلاء ومعتقده، مذهب ابي العلاء، وشاعر العقل الفاطمي.

واضح من هذه العناوين، لا سيما الاخير بينها، ان عبّود يقدّم اجتهادًا جريئًا وغير مسبوق في فهمه عقيدة ابي العلاء، وانه يحاول ان يتعمّق في قراءته له عبر نصّه وليس عبر شخصه، كما حاول ويحاول الكثيرون، وفق عبود ذاته.

من الاجتهادات المختلفة واللافتة في قراءة عبود لابي العلاء في كتابه هذا، قوله ان اللزوميات ما هي الا نظمُ متمكن، وانها لا تختلف في كينونتها عن الفية ابن مالك المعتمدة على النظم، وليس على الخلق الشعري، وبعيدا عن تقديس آخرين للمعري، يتقاطع عبّود ويتفق مع الكثيرين من دارسي المعري.. في ان قصيدته " غير مجد في ملتي واعتقادي" هي من عيون الشعر العربي.

يطرح عبود في كتابه هذا السؤال الذي طالما طرحه آخرون عن ابي العلاء مُفكرًا، ويُفهم من حديثه عنه انه لم يكن مبادرًا في افكاره، وانما هي كانت رادًا لأفعال، مثل موقفه من اللذات التي يقول عنها" ولم اعرض عن اللذات الا لأن خيارها عني خنسنه". ويلخّص رأيه هذا في اننا لا يمكننا ان نطلق على المعري صفة الفيلسوف، كما فعل كتّاب مصريون في عدد مجلة" الهلال "المكرس له ولذكراه الالفية، وانما هو يقدّم اجتهاداتٍ متشائمةً للحياة والانسان وحسب.

مع هذا يعرف عبّود قيمة المعرّي مفكرًا وضع العقل في اعلى سلم اولياته " حكّموا العقل لا امام سوى العقل"، وينهي كتابه بخاتمة قصيرة تحت عنوان "عنزة ولو طارت"، ينعى فيها على اولئك الذين لا يحترمون المعري وعطائه بقد ما يقدّسونه. ضمن اشارة ذكية منه للنظر المتمعن فيما خلّفه من تراث ابداعي. ويكفي لفهم هذا الكتاب، جيدًا، ان ننظر في عنوانه" زوبعة الدهور" لنتأكد من ان عبود يحترم المعري.. لكن لا يقدسه.. وفي هذا حكمة تدل على شجاعته وخصوصيته المتفردة.. ناهيك عن انها تدل على ناقد عميق النظر.. وافر الاطلاع.. يقول كلمته ولا يمشي، وانما يتوقف عندها معتبرًا اياها رسالة عظيمةً ومسؤولية تاريخية.

كتاب جدير بالقراءة.

 

ناجي ظاهر

 

لماذا يحتاج الدينار العراقي الى دعم سياسي؟

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنفي 19 ديسمبر 2020 جرى تخفيض قيمة الدينار العراقي بنسبة 23%، نزولا من سعره الرسمي السابق 1182 دينار الى 1450 دينار لكل دولار امريكي. وزير المالية العراقي ذكر ان التخفيض جرى الاتفاق عليه مع صندوق النقد الدولي وهو يخدم التنويع في الاقتصاد العراقي(1).

ماهي الأهداف من تخفيض العملة؟

ان التخفيض يجعل الصادرات ذات سعر تنافسي ومن ثم يقود الى بيع المزيد من الصادرات، رغم ان هذا قد لا يؤدي بالضرورة الى هبوط مماثل في قيمة السلع والخدمات المستوردة. صناع السياسة ايضا يأملون ان تخفيض العملة يقود الى "تحوّل في الانفاق"، بمعنى ان المستهلكين ينفقون نقودهم على منتجات الشركات المحلية بدلا من إنفاقها على المستوردات.

التحول في الإنفاق يمكن ان يُدعم بفرض ضرائب اضافية او جديدة على المستوردات او عبر إدخال حصص (كوتا) سوف تقلل مباشرة من الإنفاق على الاستيراد. هذه الاجراءات كان القصد منها ايضا تحسين كل من ميزان التجارة و(بشكل غير مباشر) ميزان المدفوعات.

اخيرا، اعتمادا على مرونة عرض السلع، فان الضغوط التضخمية قد تبرز في الأجل القصير الى المتوسط.

في العراق، اوضح صنّاع السياسة في وزارة المالية والبنك المركزي العراقي وبشكل صريح اسباب تخفيض الدينار العراقي كالتالي:

1- هناك شعور بان الدينار العراقي عالي السعر مقارنة بالدولار الامريكي(2)، بما يشجع الاستيرادات ويدفع رأس المال للرحيل ويثبط الاستثمار الاجنبي والسياحة، مع وجود اقتصاد يميل نحو التجارة وتجارة التجزئة بدلا من القطاعات المنتجة.

2- في ضوء السعر المرتفع للدينار العراقي، يصبح الاقتصاد العراقي أقل تنافسية، والاسواق العراقية تصبح تحت سيطرة الاستيراد.

3- الدينار العراقي العالي القيمة، عموما، لا يشجع الاستثمار في القطاعات التي يرغب العراق تطويرها مثل الزراعة والسياحة والصناعة والخدمات.

4- ان تعديل قيمة الدينار العراقي سوف يزيد العائدات من البترول بالدينار العراقي وسوف يقلل عجز الموازنة، لكن توقيت تخفيض العملة الآن هو مرتبط عضويا بهبوط حاد في عائدات الدولة من البترول وان سعر الدينار العراقي يجب ان يعكس هذه الحقيقة(3).

يمكن القول، ان خفض الدينار العراقي يمثل اختبارا هاما لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي ووزير ماليته علي علاوي. بهذه العملية هما يكسبان وقتا ثمينا – انها لحظة الحقيقة، حيث ان عملا سياسيا واقتصاديا حاسما مطلوب الآن لحماية الدينار والاقتصاد العراقي من الانزلاق نحو الهاوية. الكاظمي يجب ان يمنع الدخلاء من التخريب المتعمد والمنظم جيدا والمستمر منذ عام 2003 في مفاقمة دورة تفتيت الاقتصاد والمجتمع في العراق. انها مسؤولية عليا للكاظمي للعمل ضد الدخلاء الذين يسعون الى تعميق الشرخ والعمل ضد الصالح العام.

لكي يحميان الاقتصاد العراقي من الانهيار، فان امام رئيس الوزراء ووزير المالية فترة قصيرة من جنوري الى جون 2021. هما يجب ان يركزا على ثلاث قضايا حساسة وهي السياسة والاقتصاد والتنويع الموجّه نحو التصدير.

السياسة

يلخص معتز كمونه، الصناعي العراقي السياسة بدقة :معلقا على تخفيض الدينار العراقي، هو يخشى ان "سيطرة الميلشيات والجماعات المسلحة على السياسة، والاقتصاد والجيش يعطيهم فرصة هامة جدا للمنافسة وإفشال اي مزايا للصناعيين في العراق(4). ونفس الرؤية لدى محمد المعموري، وهو مستثمر في الزراعة، يلاحظ ان "الحكومة دعمت الاستيراد من السلع الزراعية وتجاهلت دعم الانتاج المحلي"

لكي يحقق خفض العملة اي فرصة للنجاح يجب على الكاظمي ان يتحدى، ويواجه بشكل رئيسي الميلشيات المسلحة ويمنعهم من اضعاف سلطة الدولة والاقتصاد لمصلحة الطبقة السياسية الدينية والبلوتوكرات المنتفعين ذاتيا. الميلشيات الاسلامية والجماعات المسلحة بما فيها الحشد، يُزعم انها تُموّل جزئيا من اموال البترودولار العراقية التي يتم تداولها عبر غسيل الاموال وشبكات التجارة والسيطرة على المنافذ الحدودية والفساد الصريح والتام. لم يكن ابدا من مصلحة تلك الجماعات والميليشيات تشجيع الانتاج المحلي لأن مثل هذه الاستراتيجية سوف لن تخدم حماتهم الاجانب.

هذا التحدي لا يمكن معالجته كليا في الستة اشهر. لكن هذه الفترة ستكون حاسمة في اتخاذ خطوات مصيرية لإحتواء النشاطات الضارة للدخلاء، عبر تحقيق اصلاحات اقتصادية في العراق، وان كانت غير تامة كما تبين "الورقة البيضاء". لكي نؤسس توازن مالي فوري، يجب ان تكون الاولوية للفساد واسترداد الاموال المنهوبة (والتي قدرت بحوالي 200 بليون دولار) (5) . الدخلاء يمثلون "الدولة العميقة"، وهو التحدي الامني اليومي الذي يجب ان يواجهه الكاظمي. انهم قوة سياسية واقتصادية مدمرة.

اذا لم يتخذ الكاظمي إجراءات سريعة وحاسمة للقضاء على نشاطات الدخلاء وتلبية مطالب المنتفضين من الشباب المتحمسين العراقيين الذين يسعون لسيادة وطن، عندئذ فان تأثيرات خفض الدينار العراقي، وتنفيذ الاجراءات في "الورقة البيضاء" ومحاولات ادارة المال العام كلها ستتلاشى. ان جموع الناس العاطلين عن العمل، وجماعات اخرى، سوف يفقدون الثقة في قدرة الحكومة على إحداث التغيير الذي يخدم القطاعات الأفقر في المجتمع.

الاقتصاد

في مقابلة مع محطة TRT في اغسطس 18، 2020، يبين السيد علاوي، وكما متوقع فهما عميقا للتحديات التي تواجه الاقتصاد العراقي(6). ورقته البيضاء في اكتوبر 2020 تحتوي على اثنين من التحديات الكبيرة:

1- ترشيد الانفاق التشغيلي بنسبة 13% من الناتج المحلي الاجمالي نزولا من النسبة الحالية 25%، من خلال تقليل حجم ومقدار الاجور والمنافع التي يمنحها الموظفون العموميون لأنفسهم.

2- تنويع الاقتصاد عبر استخدام القطاع الخاص لكي يمتص نسبة البطالة العالية.

هذه تُعتبر مهمة صعبة. لكن، كما في السياسة، كذلك في الاقتصاد، السيد علاوي يمكنه ان يضع الاساس للتغيير في الستة اشهر القادمة (وربما بعدها).

لم يكن هناك جديدا في أي من المهمات التالية. ما هو جديد هو الفورية في اتخاذ الاجراء والفعل المطلوب، والحسم الذي يجب ان ينفذ به علاوي هذه المهمات والتي تتمثل بـ :

1- مزاوجة المشاريع المملوكة للدولة مع الشركات الدولية، لكي يتم خفض تدريجي للاعانات الثقيلة، خلق مهارات جديدة وزيادة الانتاجية . شركة سكود للسيارات هي مثال جيد لملائمتها للظروف العراقية.

2- توسيع وتنفيذ استثمارات هائلة في البنية التحتية. عندما تقترض الحكومة للاستثمار (وليس للاستهلاك) فهي قاعدة ذهبية مقبولة، في بناء الموانئ البحرية ومحطات الطاقة والطرق وسكك الحديد والمدارس والإسكان، هذه الاستثمارات سوف تمتص عدد كبير من العاطلين والداخلين الجدد لسوق العمل.

3- تغيير القوانين الحالية وإدخال قوانين جديدة لخلق بيئة ملائمة للقطاع الخاص للاستثمار ومباشرة الاعمال، كل ذلك يجعلها عامل جذب للاستثمار.

4- إنعاش وتوسيع التصنيع (بما فيه البتروكيمياويات) والقطاع الزراعي.هذه ستراتيجية مجربة وناجحة لتحويل العراق الى اقتصاد قائم على التصدير. جنوب كوريا هي مثال جيد للاختبار.

5- إعادة بناء القطاع المصرفي، وهذا يتطلب تحركا جريئا وسريعا لوقف غسيل الاموال عبر مزاد العملة وشبكة التجارة. يجب بناء الشفافية في المصارف لإزالة الفساد.

6- فرض نظام ضريبي فعال وتصاعدي، النظام الحالي فيه الكثير من الثغرات ويمكّن من ممارسة الفساد من جانب جباة الضرائب. كذلك ضريبة الشركات يجب ان تحفز الاستثمار من جانب القطاع الخاص.

7- الحكومة يجب ان تقوم بترشيد انفاق الموازنة والتخصيصات، والتركيز على الاستثمار والبنية التحتية لمدينة الموصل. الحكومة يجب ان لا تتراخى عن هكذا ترشيد عندما ترتفع اسعار البترول مرة اخرى.

8- يجب على الحكومة ان تبدأ فورا بعملية استرداد الاموال المنهوبة من جراء الفساد والتي تشير التقديرات وبتحفظ على انها بحدود 200 بليون دولار امريكي. يجب على الحكومة ترسيخ الولاء لبناء الوطن، وليس للاحزاب الدينية والطوائف او الاقليات الاخرى، وبهذا تستعيد المبادئ الصحيحة وقيم السلوك. المخالفون يجب ان يواجهوا نظام قانوني عادل.

وفي ضوء أعلاه، من المدهش ملاحظة ان مسودة ميزانية 2021 تخصص اكثر من 83 بليون دولار "للانفاق التشغيلي" اي أقل فقط بمقدار 10 بليون دولار من الايرادات المتوقعة لعام 2021؟ هذا يضع خطة علاوي في سعيه لإنجاز توازن مالي امام التساؤل. والشيء المدهش الآخر هو تخصيص 2.5 بليون دولار للحشد، بما يساوي 40% من الاموال المخصصة للدفاع، واكثر مما هو مخصص لوزارتي التعليم العالي والصحة في زمن جائحة كورونا. ايضا هناك 450 مليون دولار ستذهب الى الوقف الشيعي وما يقارب 200 مليون دولار للوقف السني. ولو جمعنا هذه الاموال المخصصة للاوقاف الدينية نجدها تشكّل ما يقارب ثمان مرات اكثر مما خصص لمدينة الموصل التي دمرها داعش والتي خُصص لها فقط 86 مليون دولار(7).

يمكن القول ان هذه التخصيصات هي انعكاس لقوة تأثير الاحزاب الدينية (وميليشياتها) على الحكومة. في الوقت الذي يكون فيها الاقتصاد في حالة يرثى لها، فان مثل هذه التخصيصات تلقي ظلالا من الشك على خطاب الحكومة بحماية الاقتصاد.

تنويع الاقتصاد Diversification of the economy

ان تغييرات حاسمة وعاجلة في السياسة الاقتصادية مطلوبة فورا في الأشهر الستة القادمة. لم يحصل ابدا شعور قوي في العراق بأهمية المبادرات المتعددة الجوانب لتنويع الاقتصاد. وبينما تعمل الحكومة العراقية مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فان مقترحات الأخير في تنويع الاقتصاد العراقي من خلال المنتجات الزراعية تحتاج الى فحص دقيق (انظر البنك الدولي 2020، فصل 4). ومع ان السياق مختلف، وان تحولات واسعة حدثت منذ ذلك الوقت، لكن مقترحات البنك الدولي تذكّر بمقترحاته للحكومة العراقية في عام 1952 (انظر البنك الدولي، RID، 1952، ص40-97)(8). وبينما هو يعتبر الزراعة ذات اهمية حيوية في سياق العراق، لكن الزراعة وحدها سوف لن تستوعب الـمتوقع من الـ 4.5 الى 5 مليون من الداخلين الجدد الى سوق العمل بحلول عام 2030، دعك من البطالة العالية وحدها. ايضا، لأجل زيادة خزائن الحكومة، يحتاج العمال العودة من القطاع الكبير اللارسمي ودفع ضرائب من خلال عمالة ذات مردود. في العصر الرقمي، لا يمكن للعراق عمل نفس الاخطاء التي ارتكبتها حكومته في الاربعينات من القرن الماضي وحتى 2020. الأدب الاقتصادي الواسع يشير الى مزايا التنويع عبر التصنيع الموجّه للتصدير(9) عندما يدعمه اطار قانوني، وبنية اجتماعية ومادية، وقطاعات ذات تعليم قوي وصحة من الدرجة العالية .

ان الأمن وبيئة الأعمال كلاهما ضروريان للاستثمار الاجنبي المباشر ليشارك مع الحكومة والقطاع الخاص في البدء بالتنمية الاقتصادية، والتي تعني ايضا زيادة مشاركة النساء في سوق العمل.

وفي خلاف ذلك، كما يرى المتشائمون، فان الاهداف البعيدة المدى "للورقة البيضاء" سوف تذهب هباءً، كما حصل للعديد من خطط التنمية القومية السابقة في العراق.

استنتاج

حكومة مصطفى الكاظمي يجب ان تتخذ اجراءً حاسما في الستة اشهر القادمة لحماية الدينار العراقي والاقتصاد من الانزلاق نحو الهاوية. عبر تخفيض قيمة العملة، كسب رئيس الوزراء ووزير المالية وقتا ثمينا، الدينار العراقي يجب ان تدعمه افعال تحمي التغيير (الايجابي) الحقيقي في الاقتصاد وفي تمويل البلاد. وبالنهاية، فان قيمة العملة تعكس مدى صحة الاقتصاد. التنويع في الاقتصاد يجب ان يقوده الاستثمار في التصنيع الموجّه نحو التصدير، مع ارتباطات امامية وخلفية تتغلغل في كل جوانب الاقتصاد.

السؤال هو هل سيحوّل رئيس الوزراء ووزير المالية الصورة القاتمة "Bleak house" (10) الى "توقعات واقعية"؟ هذه هي لحظة الحقيقة.

 

حاتم حميد محسن

.........................

المصدر:

 Iraq-businessnews-com/wp-content/2021/01/IQD-needs-political-support

للباحث والخبير Dr Amer K.Hirmis مسؤول في شركة CBS (Capital Business Strategies Ltd) المحدودة للاستشارات في المملكة المتحدة. في 2009 عمل الكاتب كخبير في التخطيط التنموي في وزارة التخطيط العراقية، وصدر له كتاب (اقتصاد العراق- من الماضي القديم الى المستقبل البعيد) عن دار Grosvenor House publishing، المملكة المتحدة.

الهوامش

(1) انظر

http//www.mof.gov.iq/pages/mofBannerHeadlineDetail.aspx?BannerNewsID=886,and https://cbi/news/view/6224,websites accessed on Dec 20,2020.

(2) هذا الادّعاء مخالف لأخر استنتاج لتقرير من الباحثين في البنك المركزي العراقي، الذي يقترح انه على اساس مبدأ القوة الشرائية (ppp) فان الدينار العراقي هو منخفض القيمة في اي مقدار بين 4 الى 14% عند 1182 دينار عراقي لكل دولار. انظر mahwoos,A.Hussain and Muhammad,B-Qasim(2020)، الدينار العراقي 1200 دينار لكل دولار امريكي؟ (متوفر في

 http//iraqieconomists.net/accessed

 on November23,2020.

(3) انظر الجواب على السؤال الخامس:"اسباب تغيير سعر الصرف؟" المنشور في موقع وزارة المالية المشار اليه اعلاه في (1).

(4) انظر الحرة، في 20 ديسمبر 2020 "تخفيض قيمة العملة العراقية.. قرار صحيح في وقت خطير"

 https//www.alhurra.com/Iraq/2020/12/20

(5) علاّوي، (2020)، الاقتصاد السياسي للتآكل المؤسسي والفساد الرسمي – حالة العراق (متوفر في

 :http//iraqieconomists.net/en/2020/05/19/accessed of June 20,2020

(6) انظر محطة الاذاعة التركية

 TAT(https://www.youtube.com/watch,accessed on Dec14,2020). في هذه المقابلة يبيّن علي علاوي فهما عميقا لمختلف التحديات الحالية التي تواجه العراق – الأمن، البطالة العالية، مشاكل المنافذ الحدودية، الفساد الواسع الانتشار، تضخم الخدمة العامة، ضعف الانتاجية، نقص البيئة الملائمة للأعمال وغيرها. هو قال ان العراق في مفترق طرق. وذكر ان صندوق النقد الدولي يوفر تمويلا من خلال حقوق السحب الخاصة و بعض برامج التسوية الهيكلية عند الحاجة، اما البنك الدولي يساعد في مشاريع التنمية والتمويل ومشاريع دعم الجماعات الاجتماعية.

(7) انظر الجدول B في مسودة الميزانية الاتحادية لعام 2021 متوفرة في http//iraqieconomists.net/ar/wp-content,Dec30,2020

(8) لاحقا، في تقرير البنك الدولي للتنمية والبناء(IBRD) يعترف بانه قبل عام 1958"جرى تجاهل التصنيع في البلاد .. حيث ان الانفاق الكلي على التنمية خلال السنوات المالية 1951/52 – 1958/59 لـ "الصناعة والطاقة كان 13% مقارنة بـ 32% للزراعة، و 24% للنقل والاتصالات، و 28% للاسكان والبناء"(1963:18IBRD,).

(9) صادرات العراق غير النفطية تشكل نسبة ضيلة من الصادرات الكلية في عام 2019، انها شكلت 3.9% من الصادرات الكلية (www.cosit.gov.iq). العراق يعاني من عقود من العجز المزمن في الميزان التجاري. هذا جزئيا انعكاس لحقيقة ان : قطاع التصنيع يشكل فقط 0.86% من الناتج المحلي الاجمالي(النصف الاول من عام 2020 بالاسعار الثابتة لعام 2007)، الزراعة فقط 4.29%، البناء والبنية التحتية 1.93%، وبالمقابل، "الحكومة العامة"7.24% أي اكثر بثمان مرات من مساهمات التصنيع (انظر

 http://cosit.gov.iq/docements/national accounts, table 5,accessed on Dec23,2020). وهكذا، فان استبعاد التصنيع من ستراتيجية التنويع الاقتصادي بالطريقة التي يريدها البنك الدولي، لاتبدو خيارا جيدا.

(10) هي رواية كتبها شارلس دكنز(1852-53)، تتحدث عن قصة عائلة كان افرادها يكافحون ضد بعضهم البعض في المحكمة حول النقود والأملاك التي تعود لهم. النظام القانوني كان معقدا جدا لدرجة ان القضية استمرت لوقت طويل، كان على افراد العائلة دفع مبالغ كبيرة للمحامين، الامر الذي جعلهم في النهاية لن يحصلوا على أي شيء .

 

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (197): الحرية والأخلاق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

majed algharbawi14صادق السامرائيخاص بالمثقف: الحلقة السابعة والتسعون بعد المئة، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، رئيس مؤسسة المثقف، حيث يجيب على أسئلة الأستاذ الدكتور صادق السامرائي:

 

الوعي الأخلاقي

ماجد الغرباوي: تقدم، إذا كان هدف إدراك العقل هو معرفة الشيء دون العمل به، من قبيل إدراك حقائق الوجود، فإن مبدأ الإدراك يسمى عقلا نظريا. ويسمى عقلا عمليا إذا كان هدفه تحديد الموقف العملي، باعتباره معيارا للتميز بين الخير والشر والحُسن والقُبح. فيصدق أنه: مبدأ إدراك "ماذا يجب أن أفعل؟"، بإزاء الواقع. لا بمعنى توقف الفعل الأخلاقي على نتائجة، بل يبقى إرادة خيرة بدواقع إنسانية، لتجسيد إنسانية الإنسان. يمتثل له المكلف كواجب أخلاقي ملزم بحكم العقل العملي، تحققت أو لم تتحقق مقاصده. وهذا شرط الفعل الأخلاقي، ولا خلاف في ذلك. إنما أعني، أن الفعل الأخلاقي يضفي معنى أخلاقيا على الواقع، ويطبعه بطابعه الإنساني، قصده أو لم يقصده... معنى يساهم في ترسيخ قيم الفضيلة والخير والعقلانية وسمو النوايا البشرية، خاصة العلاقات الاجتماعية وعلاقة الـ"أنا" بالآخر. ويحول دون اتخاذ الإنسان وسيلة لتحقيق أهدافه، بغض النظر عن خصوصيتها، فإن الإنسان يبقى إنسانا تحت أي ظرف كان.  وبشكل أدق أن الاستجابة للفعل الأخلاقي كواجب إنساني، يترك أثرا ينعكس على الواقع وروابطه الاجتماعية، وبذلك يكتسب المجتمع طبيعة أخلاقية، تسودها العدالة، ويعم الخير، لأن الأخلاق ممارسة سلوكية، وكل ممارسة تترك أثرا، إيجابيا أو سلبيا. ويغدو تربة صالحة لنمو قيم الفضيلة. فهناك إذاً أثران للفعل الأخلاقي، الأول انعكاسه على النفس البشرية، حينما تنشرح لفعل الخير، وتشعر بسعادة كبيرة، وراحة ضمير، تتلاشى معها أنانية الفرد، وضيق أفقه الأخلاقي، ويغدو مهيأ لتحمل تبعات فعله، مادام منطقه إنسانيا يرى فيه صورته. بينما يحدث العكس مع اقتراف الشر، أو مع عدم الاستجابة لنداء الضمير، فيشعر بتأنيبه، وهو شعور نفسي ضاغط، لمن كان ضميره حيا، وهو ما تصوره آية: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ). ومع كل فعل أخلاقي تسمو الروح وتسمو الأخلاق ويعيش الفرد مشاعر روحانية، تتطلع للكمال.

وأما الانعكاس الثاني فما يتركه الفعل الأخلاقي على العلاقات الاجتماعية، وروح الجماعة والشعور بالمسؤولية تجاه الآخر الذي هو رهان مجتمع الفضيلة. وهذه نتيجة مهمة ربما لم يُكشف عنها سابقا. بمعنى آخر، أن الواقع ماثل أمام العقل العملي حينما يصدر أوامره. ومثوله هو رؤية الأنا ضمن محيطها الاجتماعي، بجميع خصوصياته وتناقضاته وملابساته، فهو فرد له استقلاليته، وبنفس الوقت جزء لا يتجزأ من مجتمعه، حتى قيل قديما: الإنسان اجتماعي بطبعه. وعليه يمكن تصور وعي الفرد لذاته ولغيره على ثلاثة أنحاء:

1- تارة يعي الشخص ذاته بما هي ذات إنسانية مستقلة، ذات مشاعر تشارك بها الآخر الإنسان، وتميّزها عن غيرها من الكائنات، وهي الوسط  الذي يتجلى فيه معنى "حب لأخيك كما تحب لنفسك"، تجليا مرآتياً، يرى فيه الآخر نفسه، فقط يقيسه على نفسه بل يراه نفسه، عندما يقرر ماذا يجب أن يفعل. فوعي الآخر في امتداده الإنساني، هو رهان العقل العملي. وهو القانون الكوني الذي يرتهن له الفعل الأخلاقي. فحينما تقدم على فعل تستحضر الآخر في ذاتك، وتضعه في موضعك وأنت تريد وعي الحالة أو الظرف الذي يمر به، فتبادله ذات المشاعر الإنسانية، وأنت تقرر ماذا يجب أن تفعل. لذا يجب أن تتمنى له ما توده لنفسك من الخير، وتبادر له كواجب إنساني. ويلزمك الفعل الأخلاقي دفع الأذى عنه كما تحب ذلك لنفسك. فتكون نفسك الحرة مقياسك لفرز العمل الأخلاقي عن غيره. ومن شأن هذا إشاعة قيم أخلاقية سامية. وهو ما نتوخاه لتفادي انهيار القيم والمبادئ الأخلاقية. ولازم كون الاستجابه للفعل الأخلاقي، استجابة للواجب، عدم ارتهانه لمقاصده، كالثواب والعقاب. والخوف والرجاء، كي يفقد الفعل قيمته الأخلاقية، ويغدو مقايضة، لا يبادر له ما لم يضمن جزاءه. لذا أكدت أن الأحكام الأخلاقية في القرآن، إرشاد لأحكام العقل العملي. وأما تعلق الآوامر الإلهية بالفعل الأخلاقي، وهو أهم المباحث الأخلاقية، فسيأتي.

2- وتارة ينظر الإنسان للذات بما هي جزء من المجتمع وثقافاته وعاداته وتقاليده ورؤيته الدينية. فالذات هنا تختزن الكل الثقافي، دون الخضوع لسلطته ما لم يضمن الفعل الأخلاقي شروطه في وحدة الموضوع والحكم. غير أن تلك الخلفية تكشف له عن الواقع حينما يريد الاستجابة لنداء الضمير، بدوافع إنسانية خيرة فقط وفقط. فهو كما يعي ذاته مستقلة عن محيطها الاجتماعي، يعي تحيزها الاجتماعي ومختلف انحيازاتها. فقد يتعارض الفعل الأخلاقي مع أعراف وتقاليد المجتمع، وحينئذٍ، ينبغي له التحقق من نواياه ودوافعه.

3- وثالثة يعي الفرد ذاته ضمن حركة الوجود، باعتباره مركز الخلق، فكيف يكون فعله الأخلاقي؟. لا فرق بين من يؤمن أو لا يؤمن بوجود الخالق أو الكائن الأسمى، إذ ليس للإنسان وجود مستقل عن الوجود. هو جزء منه يتأثر به ويؤثر فيه، خاصة في ظل الفتوحات المعرفية المذهلة، التي لا يمكن السيطرة عليها إلا بتمثل القيم الأخلاقية، حيث بات من السهل فناء مجتمعات كاملة خلال دقائق، باستخدام أسلحة محرمة. أو التلاعب بالجينات الوراثية، مما يؤثر سلبا على الطبيعة البشرية للإنسان، أو استباحة القيم الإنسانية بعنوان حقوق الإنسان. لا شك بشرعية حقوق الإنسان لكن ينبغي أن لا تهدر قيمته ومكانته الوجودية، كما تدعو له النظرية النسوية الرادكالية المتطرفة، حيث التمركز حول الأنثى، وإرساء ثنائية صلبة تفصل بين الذكر والأنثى، فتنعدم فرص التكامل البيولوجي والإنساني، الذي يحكم العلاقة بين الرجل والمرأة منذ وطأت أقدامهما الأرض. ويدعو هذا الاتجاه للاستغناء عن الرجل، باللجوء لأساليب جنسية، تستغني بها المرأة عن الرجل. ولا ريب أن دعاة هذه النظرية يستبعدون الأخلاق الإنسانية بالأخلاق الطبيعية بدعوى أنها تبيح للإنسان ما كان يتمتع به في بداية حياته الاجتماعية. لكن من قال أن هدر القيم الإنسانية كانت جزءا من أخلاقياته؟ كيف تكاثرت البشرية، وكيف تطورت وأنشأت علاقات اجتماعية.

 وبالتالي، الفعل الأخلاقي يشتمل على رؤية كونية للكون والوجود والإنسان والحياة وما بعد الموت لمن كان مؤمنا بوجود عالم ما ورائي، ووجود يوم للحق والعدل، هو يوم المعاد، كما تؤكد عليه الأديان. إذاً، ليس الفعل الأخلاقي مجرد إرادة خيرة بل إرادة تنبثق عن إنسانية الإنسان، بعيدا عن أية خصوصية تباعد بينه وبين إنسانيته التي هي إنسانيتك. فيكون فعلا أخلاقيا محضا، مجردا، يحقق معنى الإنسانية التي نفتقدها اليوم في ظل عالم تحكمه القوة وشريعة الغاب والأنانيات البشعة، حتى أبادوا الملايين من السكان الأصليين في أمريكا واستراليا وغيرهما من الدول، بوصفهم شعوبا متوحشة أو غير متحضرة. فهل تعتبر إبادتهم عملا أخلاقيا يراد به حماية المجتمع البشري؟.

إن هذا التصور للفعل الأخلاقي ضمن أبعاده الثلاثة يضفي معنى على سلوك المجتمع، يساهم في تكريس القيم الإنسانية وقيم الفضيلة. فينبغي عدم التعامل مع الأخلاق بنظرة تجريدية بعيدا عن الواقع، كي نحقق نحن / المجتمع ما نصبو له من الفعل الأخلاقي. بمعنى آخر لا تكفي الإرادة الخيرة بمفردها شرطا للفعل الأخلاقي ما لم ينبثق الفعل بدافع إنساني، يعمل على تطوير الواقع البشري، فمع كل فعل أخلاقي نكرس إنسانية الإنسان في تعامله مع الذات والآخر والمجتمع والوجود. إضافة لذلك، إن وعي الفعل الأخلاقي في بعده الإنساني، كشرط أساس لصدقيته، يحول دون تزييفه تحت أية ذريعة، دينية أو عرفية. وهو ما تعانيه المجتمعات فعلا، حيث تمارس الرذيلة والعنف والقتل، بل والإبادات الجماعية واستغلال الإنسان، دون رادع أخلاقي، بذريعة تارة تكون دينية وأخرى عرفية وثالثة المصلحة العامة، التي في أغلب الأحيان مصلحة الأنظمة الشمولية والاستبدادية، التي تستبيح كرامة الإنسان وحيثيته وثرواته. والقضية نسبية، فما تفعله الدول بدافع المصلحة يفعله الأفراد والجماعات بدافع الحفاظ على الهوية أو تأكيد الذات من خلال نفي الآخر، وإقصائه أو قتله. تجده في أكثر الدول تطورا حضاريا، عندما تهدر مركزية الغرب أو مركزية أمريكا كرامة الآخر، باعتباره هامشا يدور حول مركزه، وليست دول الشرق أقل إجراما كروسيا والصين وغيرهما. وعلى هذا الأساس اقترفت الحروب جرائم بشعة، سحقت الإنسان الذي هو هدف الخلق وهدف الأخلاق ورهان الله مع ملائكته. واستباحت جميع القيم، حتى انقلبت موازين الخير والشر، وراح تسويف الأخلاق يطال كل القيم الروحية والدينية.

بهذا يتضح الفارق بين العقلين النظري والعملي. الأول يقصد معرفة الشيء، والثاني يحدد موقفا عمليا من الواقع. وهي وظيفة العقل العملي، باعتباره معيارا للتمييز بين الخير والشر والحُسن والقُبح؟ وهذا يضعنا أمام مسوؤلية كبيرة، مسؤولية حماية الوعي من التزييف كي يأخذ العقل دوره في حماية الإنسان، عندما يكون حرا، قادرا على اتخاذ قراراته بذاته، وهي عملية شاقة في ظل تآمر مستمر لترويضه ومن ثم اغتياله، وذلك عندما تنقلب مهمته من معيار للتمييز بين الخطأ والصواب منطقا، وتمييز الخير من الشر أخلاقيا، وتمييز الحُسن من القُبح جماليا، إلى أداة تربط الحق والخير بالمنفعة دون اعتبار لأية قيم إنسانية. يقول محمد عابد الجابري: (أما اليوم فنحن نشاهد العقل يتحول من معيار منطقي وأخلاقي إلى مجرد أداة حتى أصبح يوصف بالعقل الأداتي: مهمته تحقيق النجاح بدون اعتبار لأي شيء آخر، فأصبح النافع هو الحق وليس العكس. وبعبارة أخرى تعرفون مرجعيتها الفلسفية: العقل الأداتي هو العقل الذي يربط الحق والخير والحسن بالمنفعة والنجاح، شعاره كل ما يحقق النجاح فهو حق وصواب وجميل. ومن الطبيعي أن ينساق هذا العقل الأداتي مع شعار: الغاية تبرر الوسيلة). وعندما يتحول العقل إلى أداة لتزوير الوعي، تنقلب القيم من قيم إنسانية تعلو على الأنانية والمادية والنفعية إلى قيم مادية، شريرة، تجعل من المنفعة مقياسا للفعل الأخلاقي، ولو على حساب إنسانية الإنسان فضلا عن استغلاله واتخاذه وسيلة لتحقيق مآربه. ليست هناك جريمة أكبر من هدر كرامة الإنسان، وقد كرمته السماء قبل الأرض: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً). وهذا يكفي سببا لتأكيد شرط الإنسانية في الفعل الأخلاقي، من أجل خلق واقع عملي، يجد فيه الإنسان إنسانيته، وأجواء آمنة تضمن كرامته وحريته. الإنسان محور الوجود، كما ذهبت لذلك في نظرية الخلافة أو نظرية الإنسان في مقابل نظرية العبودية، التي تضحّي بالفرد لصالح التشريع، وتنسى أن الأحكام الشرعية قائمة بملاكاتها ومصالحها التي هي مصالح الإنسان، وليس الله بحاجه لأحد. وأن هدف حركة التاريخ قرآنيا تحرير الإنسان، واستعادة إنسانيته: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)، بعيدا عن أية ولاية، وهذا معنى تحريره، أن يتولى شؤونه بنفسه، بما أودع الله فيه من قدرات عقلية، وضمير حي يراقب سلوكه وتصرفاته، ليضعه دائما على الطريق الصحيح. فالغاية النهائية للأديان عودة الإنسان لمركزيته، غير أن الخطاب الديني السائد وفي جميع الأديان، سلب الإنسان حريته، وارتهانها إما لنصوص فرضوا ولايتهم على فهمها، أو لفتاوى تسلب الفرد حريته، بدافع القداسة والخوف من اليوم الآخر. وهذا مكمن الخطر، الذي يستدعي وعيا قادرا على تشخيص الحقيقة، بعيدا عن أية سلطة فوقية، مقدسة أو غير مقدسة. سواء عدالة الصحابة أو عصمة الأئمة أو قداسة الفقيه أو رجل الدين بشكل عام أو أي عنوان يسلب الفرد حريته.

إن تحرير العقل غاية سامية نسعى لتأصيلها، من خلال فهم جديد للدين يأخذ بنظر الاعتبار مركزية الإنسان، ويراعي مصالحه، ولا يفرط بحريته وإنسانيته وعقلانيته. إذ نفهم من الآية المتقدمة ومن مقاصد الرسالات السماوية، تحرير الإنسان من عبودياته، الدينية وغير الدينية، واستعادة مركزه، ليتحقق هدف الخلق من وجوده وجعله خليفة في الأرض. وهذا يتوقف على وعي الإنسان لحريته، وعدم ارتهانها لأية جهة سوى عقله المعياري القادر على التمييز والتشخيص. الحرية لازم وجودي للإنسان، لا يمكن لأحد سلبها إياه. وعندما تسعى الأديان لتحريره فهي بالحقيقة تستعيد حريته من قبل النظام العبودي ومن ثم القبلي فالأبوي. بينما راح الفقهاء يكرسون العبودية تحت عناوين شرعية، حتى بات الفرد يفتخر بعبوديته للسلطان مهما كان ظالما جبار متكبرا. لذا لا يتحقق الفعل الأخلاقي ما لم يعِ الإنسان كينونته وحريته. بل لا يصدق الفعل الأخلاقي بدونها. الحرية هنا تعني التحرر المطلق إلا من وعي الذات وإنسانيته. فصدقية الفعل الأخلاقي مرتهن لحرية الفرد، وهذه نقطة مهمة، تقمع منطق التبرير والاعتذار، وتبقي الفعل الأخلاقي فعلا إنسانيا، ينطلق من مشاعر عميقة، غير مرتهنة لأية جهة خارجية. وهذا ما أكده محمد باقر الصدر في تعريفه للعقل العملي: (العقل العملي هو ما يكون لمُدركه تأثير عملي مباشر دون الحاجة لتوسّط مقدّمة خارجيّة)، والأخلاق من مدركات العقل العملي. وعدم الحاجة للمقدمات تعني تحرر الفرد، وعدم خضوعه لأية سلطة وهو يتخذ موقفه من الواقع سوى مدركات العقل العملي.

إن خسارة الإنسان لحريته يؤثر سلبا على قراراته، حداً قد لا يجد بأسا باضطهاد الآخر وربما تصفيته اجتماعيا أو جسديا. وقد يضفي على سلوكه صفة أخلاقية، تقمع ضميره وشعوره الإنساني. مهما كانت الجهة التي ترتهن حريته، دينية أو أيديولوجية. فالحرية شرط أساس في صدقية الفعل الأخلاقي، أو ستنقلب الموازين وتفقد الأخلاق أصالتها، وتستبدل بأخلاق مكتسبة، نسبية، تزرع في الإنسان روح العبودية والطاعة والانقياد. فلا أمل في وجود مجتمع فاضل أو مجتمع إنساني، تسوده القيم الأخلاقية الأصيلة، مع استلاب الحرية وارتهانها لأيديولوجيات متقاطعة في أهدافها ورؤيتها الكونية. فمثلا يغدو التسامح الحقيقي الذي أعنه به كما جاء في كتاب التسامح ومنابع اللاتسامح: (الاعتراف بالاخر وبحقوقه المشروعة حقيقة، لامنّة ولا تكرما، باعتبار تعدد الطرق الى الحقيقة). أو (التسامح يعني: الاعتراف بالآخر، والتعايش معه على أساس حرية العقيدة وحرية التعبير، لا تكرما ولا منّة، وإنما حق، باعتبار تعدد الطرق إلى الحقيقة، لا نسبيتها). (أنظر: ص23). وهذا كفيل أن يجعل التسامح فعلا أخلاقيا، يتقوم بالروح الإنسانية المشتركة، بينما يفقد التسامح الشكلي صفته الأخلاقية، عندما يلغي المشاعر المشتركة التي هي رهان الفعل الأخلاقي. وتبقى خطوط التماس بين الثقافات والأديان والقوميات هشة، تنهار عند أول اختلاف يضر بمصالح أحدهما. لذا لست مع التعريف الاصطلاحي المشهور للتسامح الذي يراد به: (موقفا إيجابيا متفهما من العقائد والأفكار، يسمح بتعايش الرؤى والاتجاهات المختلفة، بعيدا عن الاحتراب والإقصاء، على أساس شرعية الآخر المختلف دينيا وسياسيا وحرية التعبير عن آرائه وعقيدته). (ص21). إذ لا يكفي الموقف المتفهم في صدقية التسامح الحقيقي، وفقا لشروط الفعل الأخلاقي، ما لم يتضمن اعترافا حقيقيا بالآخر. ولا ريب أن هذا الفهم للتسامح ضروري في ظل أجواء التناحر والاقتتال حول احتكار الحقيقة، واحتكار طرق الوصول إليها، لكنه لا يفي بالشرط الأخلاقي. وحينئذ كيف يمكن تكييف هذا التعريف أخلاقيا مع ارتهان الوضع الأمني له؟

يأتي في الحلقة القادمة

 

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

almothaqaf@almothaqaf.com

 


 

المنهج الفلسفي وتفكيرالعقل

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسفهل المنهج ضرورة معرفية تلازم الباحث بالتفكير ومعالجته لقضية أو مشكلة هي قيد الطرح والمناقشة والتجاذب التنظيري المختلف بشأنها؟ مالمقصود بمنهج البحث؟ وهل منهج البحث في العلوم الانسانية هو نفسه منهج البحث العلمي الطبيعي؟ هل منهج التفكير يقي الباحث ويجنبه الانزلاق نحو/ في التشتت التفكيري المليء بالاحتمالات ووجهات النظر المتباينة المختلفة التي تعتورها الاخطاء وتفتقد معيارية المرجع اليقين؟ حينها تكون المادة البحثية أو القضية التي يتم تناولها المعرفي والنقاشي تفتقد الرؤية التفكيرية الممنهجة في رغبة الوصول الى تثبيت حقائق مرسومة سلفا في ذهن الباحث ولا يحققها له غير منهج تناولها التفكيري. كي تخلص قراءة كل نقد لا منهجي من الضياع الفكري المشتت في ثنايا الموضوع المراد بلوغ حقائقه اليقينية.

كل منهج تفكيري هو وعي قصدي عقلي في الوصول لهدف مرسوم سلفا في الفكر قبل أعتماد وسيلية المنهج القائم على قواعد وضوابط وأحكام خارجية تحضر كقوالب أحتواء التفكير العقلي لا يحيد عنها التوزيع المعرفي الممنهج كما هو في قانون وحدة الاواني المستطرقة الفيزيائية.. بمعنى أحكام وقواعد التفكير لا يمكنها الخروج على ما هو معد سلفا لها في تطويعها لما يراد صبّه فيها من منهج.

ومنهج التفكير الفلسفي كان مطروحا ومارسه غالبية فلاسفة اليونان قبل سقراط وبعده وصلنا في أبرز قطبين كانت افكارهما تتسم بالمنهجية الاستقرائية والاستنباطية التي تقود الى قناعات لم تكن موضوعة محتواة خارج تفكير الفيلسوف الوصول لها، كما هو حال أختلاف منهج افلاطون عن ارسطو من حيث الاطار العام وليس من حيث التفاصيل التي يكمن فيها الانزلاق نحو اللامنهج كقالب يمتلك محددات صارمة في الاحتواء. فقد تكون الاطر العامة هي الغالبة في تحديد منهج التفكير ولا تمتلك التفاصيل غير الاجتهاد البحثي الانطباعي الفردي الذي ربما يكون لا ينسجم بالتبعية المنهجية عن الاطار العام للمنهج البحثي.

المنهج الذي يعتبره الباحثون الفلاسفة هو مجموعة القواعد والاحكام والاساليب التي تقود الوصول الى حقيقة الشيء هي محددات خارجية منهجية في اطارها العام لكنها لن نجدها تدخل تفاصيل المبحث قيد الدراسة المنهجية. لذا يكون المنهج اطارا عاما فقط وتغلب على معظم التفاصيل الداخلية الاجتهاد الفكري للباحث ورؤيته النقدية الانطباعية الخاصة به لا بالمنهج..لا يوجد منهج يحكم الموضوع أو قضية البحث في مجمل اطارها العام مع تلازم منهج محتواها.

ديكارت والمنهج

أول من أثار أهمية المنهج في مبحث الفلسفة الحديثة على اساس يقوم على الشك الذي يقود الى الحقيقة الصائبة اليقين هو ديكارت في القرن السابع عشر في كتابه (مقال في المنهج) الذي أصبح ايقونة فلسفية في عصره وفيما تلا عصره ايضا وفيه يجيب ديكارت على سؤال مالمقصود بالمنهج قوله " المنهج جملة قواعد مؤكدة، تعصم الالتزام بها ومراعاتها ذهن الباحث من الوقوع في الخطأ، وتمكنه من بلوغ اليقين في جميع ما يرغب معرفته دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"1.

وربما سبقه بهذا التوجه بيكون في كتابه الاورجانون عام 1630، والفرق بين الاثنين هو أحدهما ديكارت كان يبحث عن المنهج التفكيري الفلسفي العلمي على نطاق منطق الفكر التجريدي فلسفيا، وليس كما سعى له بيكون في رغبته الجامحة أن يكون منهج كل تفكير يروم تحقيق هدف علمي تطبيقي يخدم الحياة يكون مصدره هو العقل لا غيره. ومات بيكون كما هو معروف في اصابته بنزلة برد قوية اثناء تتبعه نتيجة تجربة علمية قام بها حين دفن دجاجة ميتة منزوعة الريش واحشائها الداخلية تحت الثلوج في سعيه البرهنة على أن درجة الانجماد تمنع تفسخ الخلايا العضوية للكائنات الحية. كما هاجم بيكون فلاسفة اليونان وسخر منهم وأعتبرهم اناسا لا شغل يشغلهم غير تصفيف الكلام المجرد المنطقي الذي لا علاقة تربطه بمعنى الحياة وفهمها فهما عمليا، وأعتبر مباحث الفلسفة التي لا تعتمد المنهج العلمي هي مضيعة للجهد والوقت.

ويعتبر مؤرخو الفلسفة أن كتاب ديكارت مقال في المنهج هو الذي خلد اسمه كفيلسوف متفرد في تاريخ الفكر الانساني عبر العصور، والكتاب لم يولد من فراغ بل جاء رد فعل على ما وجده بعصره "ماكان شائعا في زمانه من أختلاف في الاراء بين العلماء والفلاسفة ورجال اللاهوت، حين وجدهم يتخبطون في بحوثهم وأنظارهم ويسيرون فيما يشرعونه على غير هدى دون أن تكون لديهم خطة مدروسة مرسومة أو منهج محدد واضح " 2.

من المهم التنويه الى أن بذرة الشك المنهجي التي زرعها ديكارت لم يكن منحازا فيها تماما ناحية تجريب العلم المعرفي كما فعل بيكون، بل اراد من خلال المنهج خلق نوع من التوليفة التكاملية المفتعلة بين الفلسفة والعلم والدين، واراد ارضاء الجميع على حساب تغييبه منهج العلم بالتفكير الذي يقوم على الواقع وكيفية الوصول الى نتائج قطعية في المباحث العامة. بمعنى رغم النزعة العلمية التي نادى بها ديكارت في المنهج بقيت معلقة على مستويين الاول قطيعته مع اللاهوت الديني وقضايا الميتافيزيقا عموما، والثاني تقاطع المنهج الديكارتي على صعيد الفلسفة مع منهج التجريب العلمي التطبيقي بالحياة.

يترتب على هذا الايجاز الديكارتي حول تعريفه المنهج عدة تساؤلات نحاول طرح بعضها ليست كمسلمات تدحض المنهجية الشكية عند ديكارت فهذا ليس من مهام هذه الورقة بل تحدونا الرغبة الاجابة الصائبة الصحيحة عن سؤال هل المنهج في قواعده وأحكامه قابلا التطبيق الميداني في عمل الفكر المعرفي عبر العصور بكل تنوعاته أم لا؟ وهل بالامكان أعتبار مساواة معنى أحكام المنهج تسري على الافكار الفلسفية المجردة، تماما كما تجري في تجارب العلوم الطبيعية؟ أم لكل منهما منهجه الخاص به المتلازم مع خاصيته المعرفية. لم يكن مثل هذا التمييز ماثلا في ذهن ديكارت في دعوته لمنهج الشك و رغبته دمج علم الرياضيات بمواضيع الفلسفة.

قلنا في أسطر سابقة أن المنهج كما فهمه بيكون هو تفكير العقل التجريبي في ارساء حقائق واقعية تطبيقية بالحياة ولم يهتم بيكون بالنزعة المنطقية للفلسفة على حساب العلم. بيكون اراد أن يكون الموضوع هو ما يستحث منهج معالجته الخاص به، ولم يعتبر الاحكام والقواعد المنهجية أدوات بحثية ليست متداخلة تماما مع موضوع تناولها. وصول منهج العلم لحقائق يقينية لا يمكن دحضها لا كما في النظريات المجردة في منهج وضع أحكام قبلية مسبقة على الباحث أعتمادها في الوصول الى حقائق بحثه على مستوى الفكر المجرد لا تقبل الدحض النقدي وهو ما فهمه تعبير ديكارت من المنهج القائم على الشك بكل شيء لا يقبله العقل كبديهيات معرفية واضحة اكتسبت صدقيتها من تجارب الحياة التي لا تقاطع العلم ولا الدين..

ديكارت اراد المنهج وسيلة اتصال لاعتماد ماهو بديهي واضح بالحياة لا يناقض العقل ولا يقاطع اللاهوت. ولم يكن يدعو لاخضاع كل شيء لمنطق تجريبي علمي صرف لتدارك تحسبه من الوقوع في تقاطع حقائق العلم التجريبي بالضد من ميتافيزيقا اللاهوت الذي كان من محرمات الفلسفة.. .

ميزات المنهج الفلسفي

- الشك الملازم لكل موجود لا يفرض على الباحث منهجا محكمّا بقواعد وأحكام مسبقة هي غير المنهج الانطباعي الذاتي على مستوى الفكر النظري فقط الذي يحمله الباحث كمعرفة قبلية ليست فطرية بل تراكم خبرة مكتسبة. في تناوله موضوعا معينا قابلا للنقاش في تعدد القراءات لكل مادة قيد التناول المنهجي النقدي، الشك ليس بداية ضرورية في تطبيق قواعد منهجية كي لا تذهب بالباحث اراؤه مذهب التشتت التفكيري واستنفاد الجهد الضائع من الوصول الى حصيلة يتوخاها الباحث من تناوله لموضوع هو ملكية مشاعية لكل من يستطيع الدلو بدلوه فيه، بل المنهج في كل الاحوال فعالية نقدية يحدّها التفكير العقلي ولا تقولبها القواعد والاحكام اللاواقعية غير الملزمة التطبيق. والمنهج التنظيري هو غيره المنهج التطبيقي.

عليه يكون المنهج في مباحث المعرفة هو بداية تفنيد كل خطأ يرد بصورة وشكل قضية فكرية مطلوب مناقشة أعتلالها الخاطيء. هنا الخطأ بالاشياء والظواهر هو يقود الشك كلازمة، وليس الشك وحده يقود اكتشاف الاخطاء المحجوبة عن الادراك. الشك يلازم كل شيء يدركه عقل الباحث، وليس كل شيء يلازمه الخطأ. ولا يشترط الانطباع النقدي الذاتي للباحث غير الممنهج على أسس وقواعد ملزمة وتوفره على أحكام واجب تطبيقها هي غير الانطباعات النقدية الذاتية. بمعنى الشك بحد ذاته يمثل منهجا مستقلا بالتفكير لا يحتاج قواعد (قبلية) خارجية توجب السير بمقتضاها للوصول الى دحض كل شك يلازم قصدية الوصول لحقيقة قضية معينة..

الشك هو معالجة كيفية (نوعية) في مراجعة كل قضية معرفية تحمل أخطاءها قبل التزامها توافر قواعد المنهج في معالجتها. مثال ذلك منهج ديفيد هيوم الشكي هو غير منهج ديكارت الشكي وهكذا الحال مع أكثر من فيلسوف تناولوا مباحث مشتركة تتوزعها بينهم رؤى مختلفة لا يحكمها المنهج كقواعد. مثل سبينوزا ومالبرانش وباسكال على سبيل المثال. فالمنهج المثالي بالتفكير عن هؤلاء الفلاسفة وعديدين غيرهم ليس واحدا ولا متشابها، مما يجعل من منهج البحث ليس مجموعة أحكام وقواعد تلغي جهد الباحث، وهذا يصدق على منهج العلم التطبيقي ايضا الذي نفترض فيه الحيادية الموضوعية التي تحكمها التجربة العلمية وليس رغبة الباحث.

الخطأ المعرفي أيا كان مصدره يكون محط نقد انطباعي ذاتي قبل استخدام وسائل تفنيده منهجيا. وتلعب ذاتية النقد الانطباعي دورا ليس في أهمية أسبقية تناول تصحيح أخطاء قضية معرفية فكرية معينة وحسب بل في أعتماد الباحث مكتسبات الخبرة المعرفية المخزّنة لديه قبل تطبيق قواعد وأحكام التفكير المنهجي بمعالجتها.

بمعنى المنهج هو مصطلح تأطيري للظاهرة أو الشيء وليس منهجا تحليليا في الوصول لمعرفة حقيقة تفاصيلها الداخلية الدفينة التي هي من أختصاص علمي وليس من اختصاص تطبيق منهجي تجريدي..حتى النزعة الانطباعية في دخولها مجال نقد التفاصيل التي يؤطرها المنهج تكون معرضة للخطأ اكثر من تحقيقها الصواب.

- هل منهج التفكير الفلسفي في العلوم الانسانية والسرديات الكبرى هي مجموعة القواعد والالتزامات القبلية الماثلة في تفكير الباحث في طرحه فكرة أو موضوعا؟ بمعنى هل ما يحدد التفكير المنهجي بقضية يلزم عنها الالتزام التام بقواعد ومحددات من التفكير الملزم للباحث، أم يكون المنهج يتحدد ضمن قناعات قبلية يؤمن بها الباحث هي انطباعات ذاتية راسخة بالذهن ولا يمكن زحزحتها عن ايمانه المطلق بها خاصة في مجال تطبيقات المنهج على الاداب والفنون ومختلف السرديات التي يصبح نعت ذلك وتلك الممارسة هي الخروج على قواعد وأحكام المنهج تأتي في اولويات تغليب الانطباعات النفسية والمدركات الخبراتية الذوقية الفنية المكتسبة من التجربة الانفرادية الذاتية التي لا تحكمها قواعد وأحكام منهجية. المنهج لا يحد الفكر المجرد كما تفعل معه تجربة المنهج العلمية.

بهذا المعنى هل من الممكن أعتبار المنهج النقدي الثقافي بالادب هو مجموعة القواعد والاحكام الواجب اتباعها كي يكون النص المنقود قائما على تمام الايضاح ما بعد الحداثي؟ وما سبقه من مدارس نقدية هي في حقيقتها غير منهجية تماما وأصبحت مجاوزتها قائمة طواها الزمن؟ بسبب أن المنهج بمفهومنا له أنه مجموعة من القواعد والاحكام الواجب أعتمادها أم المنهج هو خاصية انفرادية لاعلاقة لها بالاحكام القبلية في السعي محاولة قولبتها النصوص الادبية فيها؟ هذه الحقيقة بأسطورية المنهج الكاذبة رافقت البنيوية والوجودية والتحليلية والتاويلية والتفكيكية، اذ تبيّن من خلال ادبيات تلك الرؤى الفلسفية المتباينة فقدانها التام لمنهج قابل التطبيق على كل ظواهر الوجود والحياة. ولا تلزم غالبية تلك الفلسفات الباحث في تطبيق رؤاها الفكرية الفلسفية على منهج كل تفكير.وبهذا يكون منهج الفلسفة هو منهج الفضاء المتحرر من كل قيود واحكام سابقة على أجتهاد ورؤية الفيلسوف البحثية الانفرادية المستقلة.

- ما ذكرناه يقودنا الى صعوبة التزام الباحث مجموعة من قواعد وأحكام خارجية ليست هي خاصية معارف قبلية في منهج لم يبتدعه هو بمخيلة نقدية يلتزمها طيلة مسيرة تجربته في الحياة، ما يجعله هو يستحدث منهجه الخاص في طرح افكاره بحرية تامة ضمن رؤية مسؤولة نسقية لا يعتريها التشتت ولا تتسيدها الاحتمالات غير الموثوقة القابلة لاحتواء الاخطاء.

ثم أن الموضوع مادة البحث هو الذي يحدد نوع التفكير المنهجي الذاتي معه أو ضده لذا تكون الانطباعات النقدية مسالة خلافية خارج قواعد عدم الالتزام بالمنهج كقواعد ملزمة.. وليس معنى هذا أن البحث المنهجي معصوم عن التناول النقدي في تعرية أخطائه وثغراته. ونجاح المنهج قرين وخاصية امتلاكه تطبيق الاحكام والقواعد المسبقة التي تقود الباحث ولا يتمكن من الخلاص من اقتفاء اثره في أعطاء وجهات نظر متحررة من كل قيود تحديد حرية التفكير خارج أحكام المنهج. المنهج رؤية متحررة وليس التزاما باحكام وقواعد لا نجدها على مستوى التطبيق البحثي.

- ما هو الشيء الذي يحكمنا بالمنهج كتفكير نقدي يسعى بلوغ هدف أو محصلة معرفية، هل هو الانطباعات الذاتية التي يحركها الذهن والعقل؟ أم تلك التساؤلات التي يطرحها موضوع التفكير، بمعزل عن الاراء المسبقة التي تأخذ صفة محددات وقواعد المنهج الواجب اتباعها والالتزام بها.؟ أم هي الآراء الانطباعية النقدية التي تضفي على موضوعة التناول أجوبة وقراءات متعددة كفائض معنى خاص تفصح عنه دلالة اللغة في فهم وتفسير الواقع وليس العكس.؟ ولا يشترط أخضاعها لمنهج يمثل مجموعة الاحكام والقواعد والاشتراطات التي بها تحكم الباحث والقضية معا في تطويع موضوعة التفكير النقدي ضمن تلك الاشتراطات التي تسمى المنهج كقوالب لا تتقبل الخروج عنها ضمن الاجتهاد الفردي حتى على مستوى التفاصيل برؤية انطباعية لا يمكن للباحث الفكاك منها..

المنهج والتطبيق

من المسائل المترتبة على أعتماد المنهج في التفكير بقضايا علوم الانسانيات والسرديات هو غيره المنهج التجريبي المعتمد في معالجة أمور وقضايا العلوم الطبيعية  التي تقوم على مباحث تحقيق براهين تجريبية لا تقبل الخطأ، وبهذا تكون حقائق البحث العلمي هي التي تعرض على الباحث منهجيتها المدخرة فيها ولا ترضخ لاحكام وقواعد مسبقة قبلية على التجربة العلمية. ذكرنا أن منهج التفكير في قضايا العلوم الانسانية، هو غيره منهج العلوم الطبيعية التي تقوم على التجربة العلمية التطبيقية، ولا يمكننا مقايسة معيارية النجاح في ميدان التجربة العلمية في سحبها الاسقاطي التطبيقي على منهج تناول السرديات في العلوم الانسانية كنظريات لا تحتمل التجربة ولا التطبيق.

خلاصة القول المنهج هو أجتهاد نقدي ذاتي متحرر من وصاية الاحكام القبلية المسبقة عليه.كما أن مطالبة بعض الفلاسفة المحدثين أن يكون وضوح التجارب العلمية كمنهج تناولي هي التي يجب علينا سحبها التعميمي بوضوح تعبير اللغة في العلوم الانسانية، هذا الوضوح يقودنا على حد زعمهم الى بديهيات اقناعية برهانية لا أختيار لنا فيها غير مقبولية تصديقها.

وضوح اللغة في محاولة تيسير الوصول الى قناعة منهجية صادقة، ليس هو المعيار الصحيح السليم في أن نعتبر كل ما هو واضح لغويا هو قناعة بديهية لا مجال الشك بمصداقيتها. المنهج خاصية ذاتية لا يمكن أستنساخها معرفيا في التعميم. كما أن الاكثر صوابا أن مايدركه العقل حقيقيا صادقا من الصعوبة أدحاضه كمنهج أو بغيره باعتباره أصبح بديهية اثبتها العقل الادراكي في وضوحها المقبول الذي يبطل أهمية التحقق منها في التجربة العلمية.

المنهج والعقل

تميز القرن السابع عشر بميزة هامة هي عناية المفكرين فيه بمسالة (المنهج) أو الطريقة الواجب اتباعها في البحوث العقلية، والكتب التي عالجت قضية المنهج (العقلي تحديدا) عديدة منها ظهور كتاب بيكون الاورجانون عام 1630، تلاه كتاب ديكارت "مقال في المنهج" ثم نشراسبينوزا رسالته بعنوان "اصلاح العقل" ونشر مالبرانش " البحث عن الحقيقة " كما كتب لايبنتيز عدة رسائل تحت عنوان المنهج.3 . من الملاحظ في عناوين هذه الكتب هو قصدية تمرير ما كان محرما تحريما صارما ذلك العصرالقرن السابع عشر دعوة تفكير العقل تحت مسمى اتباع المنهج. فاعادة تغليب نزعة العقل النقدية هي ليست الالتزام بمجموعة من الاحكام والقواعد والمحددات التي تنطوي تحت معنى "المنهج" حيث من المحال أن لا يكون تفكير العقل الغائب والغاطس بميتافيزيقا تلك القرون الاوربية الوسطى أنه اختراع منهجي لا عقلي، فالعقل هو خاصية انفرادية بمنهجية التفكير يمكن لكل فرد العمل بموجبه.

بهذا المعنى لا يوجد منهج لا يهتدي بمرجعية العقل، والعقل يحتوي كل مناهج المعرفة ولكن تلك المعارف المنهجية لاتحتويه وتحتكره منهجا في التفكير لا يكون عقليا. حتى الخروج على مواضعات تحديد احكام وقواعد المنهج والخروج عليها هي بالمحصلة منهج استدلالي يقوده العقل. وبغير هذه الصفة لا يصبح هناك معنى لاتباع رؤى تصحيحية معرفية وفلسفية.

بهذا المعنى نستطيع الجزم  بحقيقة تداخل تسمية المنهج بدلالة اعتماد منهج العقل لا يجعل من تفكير العقل منهجا تم أختراعه الفلسفي في القرن السابع عشر مع بدايات مرحلة التنوير الاوربية بعد عصر النهضة. حتى الاساطير والميثالوجيا والخرافة والسحر والوثنيات الدينية وغيرها كانت تعتمد مرجعية العقل بمفهومين متاضادين أحدهما يعتمد العقل كتفكير في فهم الحياة والميتافيزيقا على حقيقتهما يقابله المنهج التضليلي الزائف الذي أعتمد العقل كاسلوب تفكير منحرف في جعل كل خرافة يقاطعها العقل يمكن تمريرها باسم ايمان ميتافيزيقا العقل ذاته عبر التسليم الغيبي بها. الحقيقة المتداولة عبر عصور غابرة ماضية بعيدة كانت تعتمد التفكير الميتافيزيقي الزائف باسم منهج العقل بالتفكير التضليلي الخادع مع الفرق باسلوب منهج التفكير.

محددات التفكير المنهجي

كيف نثبت فاعلية العقل الفلسفي من الاقتراب المنهجي السليم في تحقيق الالتقاء بيقين العلوم الرياضية والعلمية عموما،كما يراها فلاسفة المنهج في:

- أن لا ننشغل الا بمعاني واضحة متميزة، أي معاني مضمونها بديهيا كل البداهة. وما اطلق عليه الثورة الديكارتية كان مرتزها الذي حدده لها ديكارت هو البداهة والوضوح قبل التسليم بكل يقين، الذي لا يقبل غير حكم العقل. 4

- أن نذهب دوما من المعاني – تعبيرات اللغة التجريدية -  الى الاشياء. المقصود في واقعها المادي وليس التصوري لغويا.5

- أن نرتب افكارنا في نسق خاص حيث يكون كل معنى منها مسبوقا بجميع المعاني التي يستند عليها، وسابقا على جميع المعاني التي تستند اليه.6

لو نحن أمعنا النظر الدقيق بهذه المحددات التي اعتبرها فلاسفة المنهجية الخطوط العريضة التي تحكم القضايا الفلسفية، لوجدناها تتميز بخاصيتين هما اولا (لا) منهجية ممكنة بدون مرجعية عقلية تجعل من كل تفكير هو وعي قصدي في الوصول الى غاية أو هدف معين، والثانية هذه الاحكام التي هي مواصفات المنهجية لا تشكل أسلوبا منهجيا بحثيا وحيدا يصلح لجميع قضايا الفلسفة والفكر والمعرفة بمنطقها العلمي الرياضي.. ربما تنجح هذه الاحكام والمحددات المنهجية في معالجة بعض القضايا الفلسفية التي تحاول التقرب من منهجية العلم التجريبية،لكنها لا تشكل بديلا عنها، ولا تشكل تكاملا معرفيا نسقيا معها.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

....................

الهوامش:

1- د. امل مبروك، الفلسفة الحديثة، ص 75

2- نفسه ص 74

3- نفسه ص 76

4- نفسه نفس الصفحة

5- نفسه نفس الصفحة

6- نفسه نفس الصفحة

 

 

محمد سعيد الصحاف.. شهادة منصف

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. قاسم حسين صالح

قاسم حسين صالحالتقيته بداية السبعينات.. كان رئيس لجنة اختبار المتقدمين للعمل مذيعين باذاعة بغداد، ضمت سعد لبيب، مدير برامج اذاعة صوت العرب، وكبير المذيعين سعاد الهرمزي، و دكتور عبد المرسل الزيدي عميد كلية الفنون الجميلة..

دخلت .. جلست.. قال لي:

- اقلب الورقة التي أمامك وأقرأ رأسا.

قرأت واضفت كلمتين من عندي على الخبر.. فامتدح نباهتي.. وكنت من ضمن عشرة تم قبولهم ودخلنا دورة اذاعية لثلاثة اشهر حاضر علينا فيها بدري حسون فريد في النطق والألقاء، وكرم شلبي من مصر في الصحافة، ومالك المطلبي في اللغة.. وآخرين.

شهادتي هذه تقوم على مواقف، نوجزها في الآتي:

موقف 1

كلفني مسؤول القسم السياسي فلاح العماري بمنتجة تقرير يذاع بعد نشرة اخبار الثامنة مساء يجب ان لا يزيد على عشر دقائق.. تبين انه للحاج خير الله طلفاح في زيارته لمكة ولقائه بأخت الشاه.. وبنصف ساعة..

حذفت منه عشرين دقيقة وأنا خائف.. وما ان اذيع .. رن جرس الهاتف.. وكان الصحاف:

- تعال .. وجيب تيب تقرير الحجي معك.

دخلت .. قلت له :خير سيدي

قال (وهو يستمع): الحاج خير الله زعلان .. هاي انت شمسوي!

خفت حقيقي (شراح يخلصك قاسم).. مرر الشريط سريعا.. وقال: تفضل روح.. يبين فلاح راد يذبها براسك.

موقف 2

كنت اعمل صحفيا بمجلة الأذاعة والتلفزيون، فكلفني رئيس تحريرها الراحل (زهير الدجيلي)عمل تقرير صحفي عن تجربة التلفزيون التربوي في المدارس الابتدائية.. زرت عددا من المدارس فوجدت التجربة بائسة فظهر التقرير بمكان بارز تحت عنوان (التلفزيون التربوي ربي كما خلقتني)..

فكان ان اتصل وزير التربية بالصحاف قائلا له:

سنحيل الصحفي قاسم حسين الى المحكمة، فأجابه الصحاف:

- سيادة الوزير.. اقم الدعوة عليّ انا لأنني انا المسؤول عن المجلة.

موقف 3:

اصطحبني معه الى استديو التلفزيون لكتابة ريبورتاج صحفي عن عمل درامي تلفزيوني يخرجه المخرج المصري المعروف ابراهيم الصحن.

بعد ثلاثة او اربعة مشاهد ابدى ملاحظات فنية واقترح على الصحن حذف واضافة.. فشكره مقتنعا.. وطلب مني ان لا اذكر ذلك في الريبورتاج.

موقف 4:

ظهر مقال الصفحة الاولى بمجلة الأذاعة والتلفزيون بعنوان (مكافحة الأمية في الوسط الأذاعي) فقال مدير اذاعة بغداد السيد عادل الدلّي .. ماكو غير قاسم حسين كاتبه..

وكنت داخلا للاذاعة فقال موظف الاستعلامات: ممنوع تدخل.. السيد المدير انهى خدماتك.

لمحت الصحاف واقفا ومعه صديقه الكاتب ثامر مهدي، فاستأذت لاقابله..

قال الصحاف: ومن اصدر امرك؟

قلت: استاذ عادل

اجاب: خلص .. مديرك وانهى خدماتك.

بعد اسبوع تم نقل السيد عادل وعدت لممارسة عملي.

موقف 5 الأهم:

صار السيد الصحاف وزيرا للأعلام وتم تشكيل (لجنة رأي) بتوقيع الرئيس صدام حسين من اكاديميين ومثقفين كبار بينهم أنا نجتمع اسبوعيا برئاسته. وكنت انا الوحيد الذي اطرح رأيا مختلفا.. فنصحني الدكتور عبد المرسل الزيدي والدكتور محمد عبد الرزاق الدليمي بان لا (أرادد) الصحاف لأن " ما عنده مانع يعتدي عليك".. لكنني لم آخذ بالنصيحة.

وحصل ان طلب منّا تقييم اداء الاذاعة والتلفزيون وكان ذلك في تسعينيات الحصار.. وكانت حصتي تلفزيون الشباب (وأظن أن مديره كان السيد علاء مكي) فوجدت المخرج يضع اصبعه بداخل الجهاز.. سألته لماذا؟

- شاسوي استاذ .. برغي ماكو!

عقد الاجتماع برئاسة الصحاف وقدمت التقارير وجاء دوري فقلت:

- سيادة الوزير.. اذا يبقى الوضع هالشكل .. بعد سنتين ستتوقف الاذاعة والتلفزيون.. ورويت له ما شاهدت.

اجابني بحدّة:

- أخونه.. اليحب الوطن ما يعوفه!

وتمضي الايام.. ويأخذون السيد الصحاف بطائرة خاصة الى الامارات.. ويتصل بي الصديق الراحل دكتور عبد المرسل الزيدي العائد من لقائه في الامارات قائلا:

- دكتور قاسم لك سلام خاص من محمد سعيد الصحاف انقله بالنص:

(سلمنه على استاذنه الجليل دكتور قاسم حسين صالح)

فاجبته بميانة محب: دكتور مرسل.. انا ادري بيك تجذب.. وقبل ان اكمل اقسم انه ينقل الحقيقة.

وتوصلت الى الآتي: ان سيكولوجيا السلطة في العراق عودت المحيطين بالمسؤول ان يقولوا له ما يحب ان يسمعه.. فيما انا كنت اقول له الحقيقة برغم خشيتي منه.. وأنه كان يقدر ذلك في داخله.

الصحاف .. مثقف وشجاع

كان محمد سعيد الصحاف اشجع البعثيين.. فمع أنه كان على يقين بان الاميركان سيدخلون بغداد فانه كان يسخر منهم ويشجع على الصمود مع انه يرى دباباتهم من على جسر الجمهورية تزحف نحوه.

وكان الرجل أداريا ناجحا حقق نقلة نوعية في مؤسسة الأذاعة والتلفزيون بعكس السيد لطيف نصيف جاسم.. واذكر هنا حادثة:

كنا ثلاثة: الروائية لطفية الدليمي والصحفي باسم عبد الحميد حمودي وأنا قد صدر امر لنكون اللجنة المشرفة على برامج الأطفال بما فيها فحص النصوص (نهاية السبعينات هي الفترة الذهبية لبرامج الأطفال). وكانت مقدمة برنامج حروفنا الجميلة (نون..) قد رفضنا لها نصا لأنه ضم فلاسفة اجانب فقط.. وثبت عليه ملاحظة خلاصتها: (ان تاريخنا العربي والاسلامي فيه فلاسفة اشهر واحق.. يعاد كتابة النص).. فحملت النص الى المدير العام (السيد لطيف) معترضة، فأجاز لها تنفيذه (ولو كان الصحاف لأمرها باعادة كتابة النص).. فجاءه بعد عرضه تلفون له من الرئاسة ينتقده، فاجتمع بالعاملين وحين دخل قال: (الله بلانه بهاالمؤسسة القذرة).

فيما كان الصحاف محبا ومطورا نوعيا لها.. مثقف وصاحب ذوق، واليه يعود تقليد اذاعة اغاني فيروز كل صباح من اذاعة بغداد.. فضلا عن انه عمل سفيرا في الهند والسويد وايطاليا ومندوب العراق في الامم المتحدة.

اقول هذا شهادة للتاريخ.. (ولا تعنيني سلبياته).. فانا لا تربطني علاقة شخصية بالسيد الصحاف.. ولكنها الحقيقة.. نقولها للذين تراجعت الدراما العراقية في زمنهم.. وللذين عملوا له تمثالا في متحف الشمع في دولة تعرفونها بقصد السخرية منه وهو يتوعد الأميركان بصوته.. وللشركة الأميركية التي انتجت دمية عنه تردد عبارته (ان الاميركان ينتحرون الآن على اسوار بغداد).. واخرى تردد كلمة (العلوج) التي لم يجدوا لها ترجمة باللغة الانجليزية!.

المشكلة فينا نحن العراقيين أننا لا ننصف من نختلف معه في الرأي والموقف حتى لو كنا نعترف في داخلنا.. انه يستحق.

*

أ. د. قاسم حسين صالح

 

 

شفرات أخطر حواة القوة الناعمة.. وحيد حامد

التفاصيل
كتب بواسطة: سارة فؤاد شرارة

سارة فؤادتُترجَم إلى معنى واحد!

لم أبك "وحيد حامد " فقد أدى الرسالة على أكمل وجه، وأجمل وجه! وربما بكيت أبطال أفلامه ورأيتهم يتسلمون العزاء ويذكروننا بسيرته. قبل وفاته ومنذ ذلك اليوم ٢ يناير ٢٠٢١، قد أخبرنا بالأصل من خلال الكتابة والسينما والإذاعة عن تلك الشخصيات الغريبة وخلقها وسخرها! أدرك من بعد الأستاذ أن لدينا قصص كثيرة مع سبق السرية والكتمان أحياناً، تنهمر على سفح الواقع. ليتحطم ألف برئ وألف جلاد . فأين رسالة الفن اليوم من خرائط الحقيقة، وأين هي من لسان حال الشارع المصري؟!

فيلم البرئ.. ولحظة الإكتشاف الباهرة!

 ثلاثة أنواع من السجناء كإشارة سريعة عن نوعية المعتقلين السياسيين،العالم البيولوجي وقام بالدور جميل راتب، والروائي الكاتب المثقف وجسد ذلك صلاح قابيل، والناشط المدافع عن حقوق المرأة، جسد الشخصية أحمد راتب، فليس في المعتقل السياسي سوى أبرياء متنورين. هناك تجد العقلاء والأكثر جرأة فقط، ومع تطور الأحداث تدرك أن الضحايا ينقسمون إلى:

"الضحية السجين" و"الضحيةالجلاد" وعن الجلاد فهو الذي يراقب الأسير خارج القضبان وينفذ أمر قائده دون تفكير. فالأمر حازم كالسيف نافذ لا محالة، وشخصية الجندي التى قام بها الكبير الراحل "أحمد زكي" كان الجندي الذي يتعرض للاستغلال والخاضع هو نفسه لبرمجة ذهنيه تحتكر قرارته العقلية، سجنه المعرفي من نوع أعنف بكثير من سجون المعتقلات السياسية، كلا النوعين اجتمعا على "حب الوطن" الأسير برئ وأيضاً الجلاد "أحمد سبع الليل" بريء إن لم نقل تحكمه السذاجة والبساطة الشديدة وشيء من الجهل الريفي..! لم يكن وحيد حامد يسلط الضوء على جرائم المعتقلات قدر تسليط الضوء على استراتيجية برمجة الوعي والقرار والتي قد يخضع لها الجندي الذي يتلقى أوامره من قادته، أيضاً هناك مجاز وكناية عن استغلال البسطاء عموماً وتجنيد قواهم للوقوف في وجه المعضلات وتسخير نواياهم الطيبة وطموحاتهم البسيطة، لنجد لدينا العسكري البسيط "أحمد سبع الليل" والذي يحلم ببناء شخصيته وفرديته والتعبير عن حبه لوطنه واستعداده للموت في سبيله بنوايا صافية الولاء للدين والله والوطن والقائد، لم يعد يفرق بين مفهومي الطاعة والولاء وبين إلغاء عقله وقبول الخضوع التام ل"شركس" لدرجة الوصول إلى حالة هي أقرب للتنويم المغناطيسي والبرمجة العقلية إلى حد أنه قتل السجين الذي كان يعمل بمهنة كاتب قصص وروايات، وربما حملت قصصه إسقاطات ترمي إلى الحرية والتي يبدو أنها قد زجت به إلى السجن. " رشاد عويس" القاص أدى دوره "صلاح قابيل" وأظهر فيه قوة وسرعة بديهة ما يعكس سمات الروائي في الفيلم و المتطلع إلى سماء وحريةو إلى الهرب نحو الحياة، فقتله أحمد زكي أثناء ملاحقته وهو ينظر في عيون قائده "حسين فهمي" ويود لو ينال رضاه بهذا القتل، فيشعر بالبطولة والثناء في ذاته ويحس أنه المحارب المقدام صائد العدو اللدود، وفي ذات الوقت تظهر نظرة تعطش إلى القتل غير مبررة وهذيان وشرور في عيون شركس "القائد" فكان واقفاً ينتظر جنديه ليفرغ من القتل بيديه وبما يناسب مصالح أنانيته الفردية التي لا تتصف بالحياد ولا الواجب في شيء، يبتسم بفخر" أحمد سبع الليل" العسكري ذو المعاني الخام دون أن يدرك سوى معانيه طيبة النوايا.. أنه" يحارب أعداء الوطن" ولكن تحت ظل مسميات " حب الوطن والطاعة " كان كبح صوت العقل إن لم نقل الضمير.. ومع تصاعد العقدة يرى نفسه أخيراً لا يحارب أعداء الوطن وحسب.. بل يحارب الوطن نفسه! وتتكشف له حقيقة الدفاع عن الوطن، لقد اختلطت عليه المشاعر فامتزجت بالدماء الطيبة،دماء سجناء الرأي المظلومين والمحبين للوطن عن جدارة .الأوامر العسكرية من" شركس" بدأت تتحول في عين الجندي إلى معاول لهدم ثوابت وقناعات أصيلة لدى "سبع الليل" الحقاني والجندي البسيط يعي تلك اللحظة ما يحدث من حوله . فالوعي هو الأساس.. إيقاظ العقل الناقد، ذلك الموضوع الذي سدد إليه وحيد حامد أكثر من سهم في أفلامه، وكل طريقة لها قصة ولغة.. أن الأسري في المعتقل السياسي الذي يقف أمامه حراسة ليل نهار ليسوا سوى أبرياء، وأنه هو نفسه الجندي الأسير، أسير الطاعة العمياء. في فيلم البرئ.. تتصاعد أغنية من كلمات "عبد الرحمن الأبنودي" تعكس الحوار الداخلي للجندي المصدوم  : "الدم اللى فى أيديا، اللى بينده عليا؛، ويقولى قتلت مين، يقولى يا إنسان، تفرق السجان، أزاى من السجين، قلبى اللى كان برئ، زى الطير الطليق، أزاى ضلت عيونه، لما شاف الطريق.."

الوطن في مفردات وحيد حامد

 ما هو إلا ترجمات الشعب الكادح، وما هو إلا حرية الرأي التي يبحث عنها المواطن في صوته وعقله وكرامته، فالوطن في فيلم البرئ مثلاً هو وجه صديقه" ممدوح عبد العليم" الشاب الجامعي المتنور والذي نشأ في قرية وحلم بمصر كبلد أفضل لأنه يحبها ويحب جيش بلده بل ويفخر به في عباراته في مقدمة الفيلم، أما عن نهايته فقد قتله الضابط "شركس" بلدغة ثعبان ثمناً لكل هذا الحب، إنه العبث الذي يتجلى في نوعية "شركس" الديكتاتور الذي لا يصبر لحظة لرؤية الحقائق من أعلى حتى وهو يمتطي حصانه وينظر بنظرة فوقية من عليه.. فيفقد وجهته وهدفه وفروسيته وبلده من حساباته! والوطن أيضاً يتجلى في وجه العالم الباحث وهو الروائي الذي يكتب عن الجرائم والتجاوزات بحق الشعوب، وهو الناشط المطالب بحقوق المرأة، أما أحمد زكي الجندي الطيب ولكن المدافع عن الحق فيجد نفسه فجأة يحارب الوطن ذاته! بملامحه الحاملة لأهله ولأصدقائه وللذاكرة، والدم على يده يسأله : قتلت مين؟ فتتراءى له ملامح صديقه والذي لطالما كان سنده يصد عنه متحرشيه، فيدرك نواياه البريئة عن ظهر قلب، فليس من الممكن أن ينتعل "حسين وهدان" بعض الكلمات ضد بلده ليزور بها الحق . أو يدنس رسالته كشاب واعٍ صاحب كلمة حق، هو الصديق الذي لطالما سانده ودافع عنه فوثق به. فكيف يقتله بتلك البساطة لمجرد تنفيذ الأوامر وهو الأكيد أنه" بريء" وهنا تجلت لحظة عصيان أمر قائده والتمرد. كانت جرأة وحيد حامد تتجلى في مناقشة البرمجة الدماغية وعرض المفارقة بين حفظ النظام و بين التسلط العبثي ما ينتقل بالجميع إلى حالة فوضى، وحين يتكشف لأحمد زكي الجندي زيف ادعاءات شركس فجأة بعد أن كاد يفديه بدمه بدوافع الولاء والطاعة، يدرك أن شركس هو نفسه عدو الوطن بظلمه واستغلال سلطته وجبروته فيرفض تنفيذ أوامره لأول مرة وتبدأ النهاية! وبالنظر إلى شخصية الضابط "شركس" فحياته الشخصية في بيته ممتلئة بالمشاكل، وتجلى ذلك في لمحة عبقرية بمحادثة هاتفيه خاطفة بينه وبين ابنته التي تشكو له من الوحدة وإهمال أمها لها، فالضابط العاجز عن حل شؤون بيته يصب جام غضبه على الأسير المظلوم ويمارس جرائمه بتجميل وتدليس الحقائق أمام رؤسائه وجنوده والإعلام ليشعر بالقوة لأسباب عميقة خفية جداً. وكان الأولى أن يركز صرامته ليواجه بها مشكلاته الشخصية مع زوجته التي تهمل ابنته الصغيرة، فضلاً عن ذلك يصب جنونه على المساجين وعلى الجنود المنساقين لطاعته رغم أنه يشع بحالة نفسية تقترب من جنون العظمة والفصام بسبب عدم مواجهة حقيقية مع أزماته ومع الذات! فلا أحد في الفيلم يواجه الأعداء الحقيقيين سوى الأبرياء، والأبرياء دائماً يوجدون بداخل المعتقلات، وأحمد سبع الليل يحارب أعداء الوطن مراراً، بينما هو في الواقع العملي يحارب أهله ونفسه بدلا من التركيز على حربه مع الأعداء الفعليين لمصر. والأعداء على الحدود.يقف على رأسه من يكبح حريته ويسخره ببعض الأوامر والنواهي، فلا يهزم فعلاً عدواً حقيقياً، ذلك إلاستبداد الذي لا يتيح السؤال الوجودي عن الجدوى . في مشهد الحل المدجج بالمجازات ما بين رمزية السلاح الذي يسقط على الأرض ويجاوره الناي. عزف الجندي لحظه قبل الإنتقام من شركس ومن ثم مقتله على يد برئ آخر!

إلى أي شيء يدفعنا وحيد حامد لفهمه عبر تلك المجازات ؟ سؤال بسيط.. من العدو الحقيقي؟! وكيف يعيش البعض قصصاً بطوليه تحت شعارات زائفة واهية. فنبل الغاية لا يغني عن شرعية الوسيلة. واجتمع الكل على نبل غاية واحدة هي"حب الوطن" ولذلك كان لابد من اختمار وتطور العقدة في لحظة الكشف . حين اكتشف سبع الليل معنى الدم والحمى وعرف أن العدو الحقيقي ليس في الداخل وعرف "أن المبادئ لا تتجزأ" ! إنها اليقظة نفس الفكرة التي لطالما نادى بها" وحيد حامد" بجهد صادق في أفلامه مثل الوعد والغول والمنسي والنوم في العسل والإرهابي، أبطاله جميعهم يقفون ذات الوقفة مع الذات وذات الإنقلاب على المنظومة الحتمية.. ومع مفردات الأستاذ والكبير الراحل "وحيد حامد" فالمعاني تجتمع بالحرية يموت المؤلف وحديثه لا ينتهي !

الوعد "لا تقتل"

لا تحتاج لعناء البحث عن مجازات التمرد في أفلام الراحل وحيد حامد، فسوف تمتص غليل الجمهور ثورة بعد أخرى، وفي فيلمه "الوعد" انقلب "عادل" أو آسر ياسين أحد أفراد العصابة المسخرين لخدمة " السحراوي" ضد زعيمه وقائده والذي هو بمثابة إله لا يُعصى له أمر. لأنه تأثر بوصية "يوسف" أقدم قاتل في عصابة السحراوي وأدى الدور الراحل الكبير"محمود ياسين" الذي قال له بثبات مؤثر ويقين عارم"لا تقتل" فبدأ آسر ياسين يستفيق من حالة التنويم المغناطيسية والطاعة المطلقة للسحراوي وينقلب ضده؛ مرحلة اليقظة وطرح الأسئلة وقوة العقلية الناقدة التي تشتعل وتنير الطريق لأبطال وحيد حامد. تلك المرحلة المفعمة بالتمرد ونقاط التحول القصوى والتي تجعل من الأبطال ناجين! لحظة رؤية واحدة يكتب لأجلها وحيد حامد. أفلامه تطوف حول مفردة اليقظة.. الوعي! ولكن هل أضاء وجهاً آخر لليقظة؟ أشار دائما للشر الذي يصوب تهديده في وجه من يتمرد على شريعة الشيطان..الشرور الذي يقتل البرئ الجندي في فيلم البرئ..ويهدد آسر ياسين "عادل" بشبح الموت كلما هرب من زعيم المافيا السحراوي، ولكن المفارقة في الوصية الثانية لمحمود ياسين" يوسف "حين قال له " لو لك عدو بيهدد حياتك، يا تهرب منه، يا تقتله" فالقتل حل جيد فقط في حالة الدفاع عن النفس وإلا سيموت البطل، ولسبب ليس بالسهل فعليه مواجهة من لا يرحم "واجه الوحش كي لا يتضخم أكثر" ! بالفيلم عدة مشاهد لمجاز جميل عن القوة في الإتحاد، في مشاهد اتحاد المسلم عادل مع القبطي جرجس من أجل هدف إنساني وعاطفي بحت، هو تحقيق وصية الميت الأخيرة. التصالح مع الاختلاف يتجلى في عظمة مشهد حمل التابوت والدفن أعلى قمة جبل يطل على البحر ونحو الحرية، والمشهد يوحي بسمو متكامل في كل أركانه، مثلاً في تخلي القبطي جرجس عن مخاوفه الصغيرة بعد تجربة دفن يوسف متعاوناً مع عادل المسلم وكل منهما يصلي بعقيدته واختلافه وضعفه وقواه ..فكلنا في النهاية إنسان !

الغول "قانون ساكسونيا"

وبرئ آخر في فيلم الغول لكنه تلك المرة في هيئة الصحفي "عادل عيسى" من فيلم الغول. صاح في وجه العدالة الزائفة بالمحكمة "ساكسونيا" فسجن بدلا من القاتل الحقيقي الغول. فالبرئ سجين في كل فيلم لوحيد، والغول صاحب المال يتحول إلى سجان ويستمتع بالتحكم في مجريات العدالة، فالسلطة والحرية المطلقة يخضعان تحت قدميه دون عائق أو حساب. فليس غريباً أن يتحول" عادل عيسى" الصحفي الحالم بالعدالة إلى آلة قتل بعد تعرضه للظلم، فالنظام بأكمله بادر بصنع آلات القتل ودفع المظلوم نحو الحقد والجريمة والثأر بيده وكأنه قدر عادل المحتوم " عادل الطامح المصدوم بمسوخ الخذلان" كان ممسكاً بكتاب يحمل عنوان" قدر الإنسان " قبل إقدامه_ بكل رغبات المواجهة_على اغتيال " فهمي الكاشف " الغول الحقيقي في حياته الذي يتحكم في كل شيء حتى أنه يبطل العدالة ويغير بديهة الحقيقة في العقول . ليجعلها تنافس قانون ساكسونيا في الغرابة والتضليل! ويجعل من عادل قاتل..!

المنسي "طلعوا لك يامنسي؟!" .

النكرة الخارج من الحسابات إلى حد أن أسرته نفسها تريد له الزواج للخلاص منه تقريباً، هو " الغلبان" الذي نسيته الأيام، وتغافلت عنه الفرص الضائعة "محولجي السكة الحديد" المهمش والمهمل اجتماعياً ونفسيا حتى أنه مهمل في إحساسه بذاته وصورته النفسيه ولا كيان له، يفوته قطار تلو الآخر! وفرصة خلف فرصة يمر ذيلها أمامه، وكل ما يفعله ويطمح إليه أن يمنع القطارات من التصادم ويجانب الحائط.فهو لديه فوبيا التصادم مع الواقع المخيف بأشباحه فيعيش التخاريف والخيالات حتى فيما يخص الشهوة الجنسية، هذا المنسي الذي ينسى كيف يعيش بل وكيف يحلم، يخلق الأوهام والهواجس بأريحية ويخلق متعة الخوف من الضفاف الأخرى لأن عفاريت تشبه أباطر الواقع تسكن هناك، تكفيه القطارات التي تتحشاه ويتحشاها، المنسي من الإعتبار و المنسي من الحقيقة،لم يفكر في الصراعات أصلاً كي يفكر في كيفية حلها ! المنسي هذا الإسقاط الفاضح عن الصراع الطبقي في مجتمع تفسخ إلى طبقتين، طبقة السلطة العامرة برأس المال والحكومة والمتاجرة بالبشر أحياناً لتحقيق الأطماع والثروات ! وتجلى ذلك في رغبة رجل الأعمال الفاسد أت يبيع "غادة السكرتيرة" التي أعجبت التاجر لإتمام صفقتة معه،أما الطبقة الإجتماعية الثانية فهي السفلية،طبقة المنسي.. وطبقة المواطن المهمش في المسودات على الجوانب المترامية الآخذة في الضياع. وفي النهاية لحظة الكشف المضيئة التي يمتاز بها "وحيد حامد" دوماً، فمن يدعون أنهم حكام الأرض ينكشفون بذعرهم وهلعهم أمام أنفسهم لدى أول مواجهة أمام شجاعة إنسان بسيط جعلوه منسياً، قد جاء لينتزع "غادة" هو نفسه البسيط الذي يكتشف قوته و شجاعته وإقدامه وبطولته لدى أول أمل يشع في قلبه وهو يدافع عن "غادة" فقد لجأت إليه واختارته دون غيره، رغم أن آخر ما طلبته غادة من المنسي يعود به إلى واقع القطارات بأن يساعدها في اللحاق بعربة أول قطار لتصبح من الفرص الماضية هي الأخرى..ولكنها فرصة أضاءت له الطريق وساعدته على المعرفة، فمن هي غادة؟ هي فرصة الثقة بالذات؟ أم اليقظة؟ أم المواجهة.. أم المعرفة ؟! فدائما كانت لغة المواجهات تمهد إلى الحل النهائي في أفلام وحيد حامد الذي حرض أبطاله على المواجهة.. فالمواجهة تضع "المنسي" أمام الحقيقة على الأقل، ليتخلى عن خوفه ويدافع عن الذات والهوه والتي تهزم النسيان ليقول "أنا هنا..أنا المنسي لم أعد منسياً "

أتذكر شخصية "حسن بهنسي" من فيلم" اللعب مع الكبار" الذي يشعر بكيانه رغم معاناته البطالة والفساد الإجتماعي، ليقرر اللعب مع الكبار والتعرف على نفسه" أنا حسن بهنسى بهلول.. أنا المسكين فى هذا الزمان.. أنا المحاط بالأوهام.. أنا الذى إذا جاع نام.. أنا المخدوع بالكلام.. " وكأن وحيد حامد لسبب شديد العمق أراد من جميع شخصياته أن تقف وقفة شجاعة واحدة بعد التعرض لعامل الصدمة كي تتعرف على نفسها وتتلمس ما يحق لها لأول مرة في حياتها، تكتشف ولو قيد أنمله حقوقها مثلما تكررت عليها الواجبات الإجبارية وسحقتها الحاجة.. "واجه " و"استقيظ" كلمتان يثيران انتفاضة ذاتية. وفي هيئة فيلم وسيناريو على طريقة المبدع، هكذا يتحدث الفن..!

 

سارة فؤاد شرارة / مصر

 

رواية: ما لم تحْكــه شهر زاد القبيلة

التفاصيل
كتب بواسطة: بشير خلف

بشير خلفصرخةُ الأنوثة المجروحة

إن اعتماد سرْد الكاتبة على التجربة الذاتية، أو المسموعة لبنات جنسها يعدُّ مَعْلَماً مُهماً من معْالم خصائص السرد الروائي النسوي. إذ أن هذه الخاصيةَ معتمدةٌ في معظم روايات السرد النسائي باعتبارها تجربة لصيقة، أو قريبة جدًّا من الذات الساردة أولاً، وموضوعها يسهل تذكّره وسرده ثانيًا من طرفها، وهو تعبير عن هموم حقيقية معيشة بتفصيلات كثيرة تخدم الغرض السردي ثالثاً. كذلك فإن الحميمية في الوصف، والتحليل، والحوار تُعطي السّاردة فرصة لكي تُشكِّل شخصياتها، وأحداثها بطريقةٍ أقربَ. رواية "ما لم تحْكه شهر زاد القبيلة" للكاتبة، السّاردة الدكتورة فضيلة بوهليل تتضمّن الكثير من هموم الأنثى العربية، أينما تواجدت منذ أن ظهرت إلى الوجود القبيلة، وإذا كانت شهر زاد القبيلة حتى تاريخ اليوم لم تحك همومها ومعاناتها كاملة للرجل لأنه منْ أسّس القبيلة، وهو من أخرس شهر زاد، وخنق صوتها، وذبحها من الوريد إلى الوريد، ولا يزال؛ فإن الكثير مـمـّا لم تحكه شهر زاد القبيلة، والقليل مـمـّا حكته كان لبنات جنسها اللواتي يشتركن جميعا في مأساتهنّ الغير المنتهية، ولعلّ  الطالبة الجامعية "وفاء" التي تمكّنت من الانفلات من قيْد القبيلة، والرحيل نحو الشمال طالبة جامعية بمحمول ثقيل تئنّ به ممنوعات ثقافة القبيلة، وكذا مـمـّا رأته، وعايشته، وما سمعته في بيئتها الصحراوية الجنوبية جعلها تُسجّله شبه يوميٍّ في دفترها، كانت حلْمُ وفاء أن تتحرّر بالعلم، وأن تُحرّر نفسها من القبيلة، وقيودها بفرْض نفسها بالمعرفة، وبتبوّئ مكانة اجتماعية تمكّنها من فرْض نفسها، وأن تكون بمنأى عن سوْط القبيلة المادّي والمعنويّ، غير شبيهة بغيرها ك " جُمْعة" الضحية الأرملة الصغيرة، لكن حُكْم القبيلة الصّارم كان لها بالمرصاد، وقف لها صدًّا منيعًا أمامها في ارتباطها زوجة شرعية مع" حكيم" ابن منطقتها، ورفيقها في الجامعة الذي أحبّها، وأحبّته، لـــترحل فارّة إلى قسنطينة.

لئن قطعت "وفاء" أوقاتا ثمينة من لياليها، وحرمت نفسها من راحتها، ومن جلسات حميمية مع رفيقاتها في الغرفة لتدوّن معاناة" جُمْعة، وضاوية"، وغيرهما من سيّاط القبيلة ممثّلًا في حمواتهن؛ فإن" وفاء" كانت لا تدري أنها تدوّن مأساتها الآتية.

الـمتْنُ الروائي

رواية "ما لم تحكه شهر زاد القبيلة" للكاتبة القاصة، الروائية فضيلة بهيليل صدرت في النصف الثاني من سنة ألفين وعشرين عن دار المثقف، من الحجم المتوسط، في 87 صفحة. القارئ المتمعّن، الدّارس يُصدم من السطر الأول الذي يبدأ به النصّ، وهو مثلٌ شعبيٌّ مُتداول في منطقة كاتبة النصّ الروائي:" الله يدخّلها بالرّبْح علينا.. هاذي حمامة زايدة فينا"، الرواية المكونة من ثلاثة عشر لوحةً سردية تتموقع اللوحة الأولى بمثابة ركيزة أساسية فنية للنصّ تتكئ عليها باقي اللوحات؛ فممّا سمعته" جمعة" عندما وطأت قدماها عتبة بيت زوجها عروسًا بدأت تتشكّل أحداث الرواية، وتتحرّك شخصياتها في مجتمع تسيطر عليه الذكورة، والأنثى (مُشيّأة) مثل بقية الأشياء في البيت، وأحيانا الحيوانات أرفع مكانة منها. هذه القادمة الجديدة عروسًا هي دخيلة على مجتمع مغلق، يرفض فتْح مغاليق حِـــماه، ويمنع التزاوج من خارجه."...بينما حماتها اكتـــفت بالجلوس على عتبة الباب تتفرّس في وجه هذا الوافد الجديد إلى بيته ص:9"، الرؤيا السائدة، الراسخة أن زواج الأقارب داخل العرش، والقبيلة من دعائم الاستمرارية:" لن نذهب اليوم عند أهلك، أنا متعبة، وسأُخبر الحاج أحمد بذلك، لست مستعدّة للسفر مئات الكيلومترات؛ لا بارك الله في ابني، لم يجدْ غير بلادكم يتزوّج منها. ص:26"

حتى في شهر رمضان، شهر الرحمة، والتسامح لم يـمرّ بسلام، ولحظات ما قبل آذان المغرب، كان العنف، وكان شيطان الحماة يحرّكها:" وكما اعتادت "جمعة" في مثل هذا الوقت بدأت تُرتّبُ أواني الإفطار؛ إذْ بحماتها ترْمي دلاء الماء بالغُرف زاعمة أنها متّسخةٌ، بدا واضحًا استغراب جمعة؛ فالمغرب على وشك الآذان، وحتْمًا لن يكون هناك وقْتٌ لِما طلبت؛ اعتذرت، قالت إن عليها وضْع الأواني الآن، وستنظفها بعد الإفطار، ألحّت، وبدأ سيْل اللعنات: لـم تعلِّمْكِ والدتكِ شيئا، مثلكِ مثلها قليلات أصل.ص:41"

حتى فشل العريس ليلة الدخلة على عروسه، وعدم قدرته على ممارسة ذكورته، وفي عُرْف القبيلة ذاك الفشل عارٌ لا ينمحي لدى عائلته، وفي سجلّ القبيلة، يُلصق الأمر بشهر زاد العروس: «حملها أهلُها بحياء مطأطئي الرؤوس، كأنما قيامة الدنيا قد قامت عليهم، وهي من تحت الكيس، تُــصدر أصواتا خالطها البكاء، والقسم أن لا أحد قبل زوجها لـمس شعرة منها، ولكن من يسمع؟ وَضْعُ الكيس على رأسها قتْـــلُ كل ذرة كرامة لها، ولعائلتها. ص: 28»

"جمعة" التي أمضت طفولتها محبوبة داخل أسرة متماسكة، تحت حماية أم تحبها، وأب كان حلمه وهو يُدخلها المدرسة في بداية سنتها الأولى أن تغدو طبيبة في المستقبل تداوي أباها الذي سيفتخر بها أمام الجميع، جمعة ما كان هذا حلمها طوال سنوات قضتها متنقلة بين دراستها بالمتوسطة، ثم مدرّسةً لكتاب الله للبنات أيام العطل بإحدى المساجد. جزاؤها:" لـم تُـــعلِّمْكِ والدتكِ شيئا، مثلكِ مثلها قليلات أصلٍ."

الرواية تفضح الذكورة البطريركية

2152 فضيلة بهيليليقوم حجرُ الأساس في النظام الأبوي المتجذّر من نظام العشيرة على هيمنة الذكر على الأنثى واستعبادها، واضطهادها، ونفْي وجودها الاجتماعي، وكينونتها الإنسانية؛ مجتمع أبوي يسيطر فيه الرجل على المرأة لأنها في قناعته أقل درجة منه، مـمّا كوّن عنده ذهنية ذكورية ذات نزعة تسلطية ترفض النقد والحوار، وتعاقِبُ كلّ منْ يخرج على هذا النظام الأبوي؛ فهيمنة الأبوية الذكورية، وكبح التطلعات النسوية، وحجب المرأة عن ميدان الفعل العام، أو إعاقتها بدواع اجتماعية، أو دينية، ناهيك عن الدور النمطي للمرأة في المجتمع. نجد الظاهرة متواجدة بالرواية في أكثر من موضعٍ، ولعلّ أغربها لـمّا تكون مُترسِّخة لدى طلّاب الجامعة، أغلبهم يحملون نظْرتين لشهر زاد متعاكستيْن: نظرة متفتّحة، متحرّرة حميمية للأنثى الطالبة لمّا تكون صديقة، حبيبة، ونظرة ذكورية أبوية لـمـّا تسعى إلى إثبات ذاتها، وممارسة إنسانيتها، أو مشاركة الرجل حتى في رحلة سياحية، فكثيرا ما يُهمَل حقُّها، ونصيبها:

«..في صبيحة اليوم الموالي كانت وفاء وحنان آخر منْ سمع بـخبر إقلاع الحافلة الطلابية، قبل الموعد الذي حُدِّد لها بالأمس. حزنت حنان، وذرفت وفاء دمعة حقْدٍ على المنظّمة التي أخلفت بالموعد، وضاع معها الحلم. ص: 17»..« نعم كريم وصلنا لمكان تجمّع طُلّاب الرحلة، فوجدناهم غادروا قبل الموعد بساعة تقريبا، سمعتُ من إحداهنّ أنهم أخذوا أيضا أصدقاءهم الذين لم تشملهم القرعة.ص:18»

شهر زاد الـمُعنّفة.. شهريار المكلوم

ليس من حقّ شهر زاد ولوج فضاءات الراحة، والتمتع بجمال الطبيعة، والجلسات الحميمية في العلن أمام الجميع، أو المناقشة، والتذاكر مع الصديق، أو الحبيب: « وبدون مقدِّمات وقف أمامهم رجلٌ مُلْتحٍ احمرّت عيناه من الغضب، يسُبُّ ويشتم، ويلعن، ولم يتوقّفْ حتى بعد خروجهم من ذلك العالم الخيالي الجميل.ص:32».. أمام صُراخ العجوز، وبكاء بناتها اللواتي أحطْن بها ومع دهشة "جمعة" لابتكار المشهد (من الأم الحماة)، كان زوجها(جمعة) قد وصل مسرعًا بعد ما سمع صراخ والدته من الشارع، لم يشعر إلّا وكفّه ترتسم على خدّها(جمعة) في حركة ساد بعدها صمْتٌ رهيبٌ.ص:27»..

«..شيء ما انكسر داخلها تلك اللحظة، وهوى من مكان سحيقٍ؛ كيف نسيت لأيّام أنها متزوّجة، وأنها تركت خلْفها رجلًا تـمنّته، وتـمنّاها، فما عادا يريان إلَّا خنجرًا واحدًا يذبحهما.ص:38 »

ثنائية المعاناة نفسها بين أوتاد خيمة القبيلة في الجنوب، وأوتاد الذكورة الطلابية في الجامعة، فشهر زاد لـمُتعة الفراش، والإنجاب، وإدارة شؤون البيت تحت سلطة قهْر القبيلة، والحماة، أو هي فاكهة مأدبة الطلاب في الإقامة الجامعية، أو الشباب الطائش خارج أسوار الإقامة :«..أو أصوات لشبّان يتحدثون من الشارع مع فتيات الإقامة ككلّ ليلة يرقصون على أنغام أحزانهم، وجراحاتهم....ليُختم المشهد كالعادة بتبادل الشتائم، والسّباب بينهم وبين فتيات الإقامة. ص: 12،13»

العنف لم يتوقف عند شهر زاد؛ بل تعدّى إلى من يرتبط بها بحياة المودّة، والرباط الزوجي: «توجّه الزوج عند أمه، أشاحت بوجهها عنه، لم تكلِّمْه، نطقت أخته الكبرى:" الله لا يربحك.. لا أنت، ولا زوجتك، لم تُحضر لنا سوى الهمّ ووجع الرأس" ص: 42 »..«محمد لا يعرف ما يقول، يطأطئ رأسه في ذهول، يـنْسلّ في خجل تاركًا لعنات والدته التي نطقت بعد خروجه لم يسمع منها سوى تهديدات تقول إنها ستتبرّأُ منه إنْ أبقاها على ذمّته، ولن يُصبح ابنها أبدًا؛ كلمات ارتجف لها كيّانه، وسوّدت له كلّ ما كان أمامه. ص: 42»

قبل أن يعلّق الحبلَ على جذْع النخلة التي رافقتهما مستندين إلى جذعها تناجيه ويناجيها تراءت له "جمعة" عروسًا تُزفُّ إليه، تحضنه بزهو، تقبّله، وجهها الباسم، تهمس على ضوء القمر الصيفي، لتتراءى له أوّل منْ رأت عيناه، منْ رعتْ طفولته، منْ أنشأته، وأرضعته، والجنة تحت أقدامها، بين الصورتيْن اللتين أخذتا تتضبّبان باشتداد الحبل على رقبته مغادرا الحياة تاركًا الأولى أرملة في ريعان الشباب، الثانية عجوزا مشلولة.

الرواية طافحة بقيود القبيلة، وممارسة العنف تجاه شهر زاد، بل حتى تجاه شهريار: تنفيذ الأوامر دون نقاش، إرغام الابن على التطليق، انفراد الحماة بمفاتيح بيت المؤونة، حرمان زوجة الابن من مواد التغذية، التزويج المبكر للأنثى وهي طفلة للشيخ الهرم، الترمّل المبكّر، البراءة المحرومة من مباهج الطفولة، لعنة القبيلة المشؤومة تلاحق شهر زاد: « بيت الحاج أحمد، يا حصره لـمّا كان بمقامه، من يوم دخلتْــه كنّتُـــهم "جمعة" لم يروْا خيرًا؛ لا بارك الله في الكنائن، ولا في طلّتهم. ص: 87»

الحوار

الحوار جزْء أساسيٌّ من تقنيات الرواية، ويُــفترض وفق ما يقوله النُّقّاد المتخصصون أن يشكِّل  ثلاثين بالمائة من فضاء الرواية. في هذه الرواية الحوار مُقِلٌّ؛ فالحوار ضروري لتعميق الشخصيات، ويكشف أسرارها، ومساراتها، وتفاعلاتها البينية، ويعبر عن الآراء التي لا يمكن للسرد أن يبوح بها، ويمكّن القارئ من التنوع في قراءة الحكي السّردي، والولوج إلى دواخل الشخصيات. ربـما قلّة الحوار في الرواية، تأتّى من قيود القبيلة التي كبّلت أغلب شخصيات رواية" ما لم تحكه شهر زاد القبيلة" من العيش الهنيء، وما يتبع ذلك من احترام وتقدير، وتثمين للأدوار، وتبادل للآراء، وتسيير سليم للأفراد، والأُسر والجماعات.

الصّياغة الفنية

الرواية محكمة البناء؛ مبدعة النص الدكتورة فضيلة بهيليل تمرّست في إبداع النصوص السردية، فلئن كانت هذه الرواية الباكورة الأولى لها؛ فقد سبق وأن أصدرت مجموعتيْن قصصيتيْن: "على هامش صفحة2017"، "وعادت بـخُـــفّي حنين2019"، إضافة إلى أنها أستاذة جامعية تُدرّس الأدب، مـمّا ساعدها، ويساعدها على أنّ تتميّز نصوصها بنكهة جاذبة في فنّ الحكي، وتقنيات السّرد الروائي، وحُسن توظيف اللغة وسلامتها، وجمالية الحوار الموظف بدقّة (مع قلّته)؛ والوصف الرّائق الذي تألّق في كثير المواضع من النصّ: «..وباستنشاق عطور رجالية امتزجت بروائح نسوة، وبـخور تصاعد نشوةً في ذلك الليل الـمُضيئة نجومُه فرحًا، وزهوةً.»،« أشجار تصطفّ داخل مساحات اتّخذت أشكالًا هندسية مختلفة: دوائر، مربعات، معينات،؛ وبالجهة المقابلة للبوّبة كراسي إسمنتية صُمِّمت على شكل أنصاف أقواسٍ مشدودة بأعمدة حديدية على الأرض.»؛ لـم تخْلُ الرواية من الشعرية التي وشّحت بها فضيلة النصّ هنا، وهناك:« لا أروع من رؤية حبيب يدقّ قلْب الفرح صباحًا فقط ليهديك قبلة، وشوْقًا كقطْر الندى يُــبلِّل قلبك بالرغبة في حُبّ شخْصٍ يستحقُّ. ص:39 »، « ..تلمحه كحلم فيشيح بوجهه عنها، كأنْ لم يرها تُبْصره من تلك الفتحة النديّة بماء الجرّة الموضوعة عليها، يراودها حنينٌ خفيٌّ. ص: 70 »،« هي المرأة الوحيدة بعالمه، عانقتْ جنونَه فضمّ صبْرها إليه، فرح بها  كما لم يفعلْ من قبل، شغفته حبًّا. ص: 73 »

نصٌّ روائيٌّ ماتعٌ جدير بالقراءة أبدعه صوتٌ نسائي جزائريٌّ قادمٌ من الجنوب الغربي يمتلك من المواهب، والقدرات ما يؤهله كي يكون ضمْن الصدارة في الأدب الجزائري المعاصر.

 

بقلم: بشير خلف

كاتب من الجزائر

 

في الفيس.. الغصة في القلب توثق لحظاتنا

التفاصيل
كتب بواسطة: قاسم محمد مجيد

قاسم محمد الساعديسنوات مرت على دخولي لهذا العالم الافتراضي، كنت في البداية، مثل قروي يرى لأول مرة القطار

- كتبت اول منشور (تغيرت معالم مدينتي اين تقع اقرب حانة) لكني مسحته على الفور .

- وايضا كتبت عن الواح سومر لصموئيل كريمر (كان الناس يتكلمون لغة واحدة ويمجدون بلسان واحد إلها" واحد هو أنليل) فأثار المنشور عاصفة من احتجاج البعض الذين يعتبرون انه مخالف للشريعة لكني احتفظت به واعدته بعد شهر من كتابته

- تسبب منشور بزعل اصدقاء حين كتبت فيه ... لا قراء لما نكتب ويجلس بعض الشعراء بوجه بعض في الامسيات – ولا جمهور في المهرجانات الا من الشعراء والكتاب ، ازمة كبيرة لابد ان نعترف بها

- لم اقرا من زمان مفردة ( الكادحين)

هل هم بخير .... او انقرضوا

- تقول صديقة (محبتي لكم والليلاس) ماهي الليلاس بحثت بالغوغل عنها فكانت احد اصناف الورد

- البعض ينطبق عليه قول الشاعر الامريكي روبرت لوديل واغلبهم من الوسط الثقافي

(هذه بوسطن القديمة، الطيبة

موطن الفاصوليا، وسمك القد

حيث عائلة لوديل، تتحدث الى ال كابوت

وال كابوت

يتحدثون الى الله وحده)

- وجود الاهل والاقارب في الفيس احيانا" يسبب الحرج  وماكنة التأويل تشتغل بسرعة البرق لما ننشر

- في شعري، الشهداء، الفقراء، المهمشون، وسكان العشوائيات، سعاة البريد ، الخان، الاهوار . مسقط راس سومر، الاصدقاء، و الموت الذي يحصدنا بلا شفقه، ونساء السبي .

وشتمت الجنرالات، وتجار الحروب،وأمراء الطوائف، وهوانم صنعتهن الصدفة مثل باشوات بلا اصل، وحاملي أوامر الاله على الرماح .

- عناوين دواويني أعتبرها البعض غريبة ( من مدونة مفلس – حياة قاحلة – يوميات رجل منقرض- مرآة ونصف وجه)

- كلما اشعر ان القلب سيبدو مضخة عاطلة ......

الجأ للكتابة عن الاغاني فكتبت (مسامحك، رسالة للولف ، ويا خلي القلب، وزعلان الاسمر، وهذا يا حب جاي تحجي عليه ..اما اغنية رياض احمد (من تزعل) فقد بكيت عند اعادة قراءتها _

- اثار مقالي سيداتي آنساتي -- استياء سيدات وكأني في نظرهن رجل خرج للتو من الكهف و جاء بالخطأ في القرن العشرين

- بعض الرسائل تحمل الغرابة فقبل ان ينبت للنهار شارب ترسل لك احداهن رسالة عن عذاب القبر (شلون صباح ههه) وأخرين رسائل أدعية ويطلبون منك ارسالها لأخرين والا هلكت !!

أمّا رسائل جمعة مباركة فقد تطورت الى (في ليلة الجمعة المباركة) وهلا بالخميس ووو

- في المناسبات الوطنية يبدو الفيس وكأنه سجال قبائل متناحرة !

- كلما أريد ان أكتب عن  مقطع هذه الاغنية لعبدو وهو يختصر عذابه فيها، يحاصرني سؤال مرَّ، وماذا بعد يا قاسم ، والناس تحاصرها هُمُوم لا تحصى .

(على قد الشوق

على قد الشوق اللي في عيوني.. يا جميل سلم

وانا يا ما عيوني عليك سألوني.. ويا ما بتألم

وبخاف لتصدق.. يوم الناس واحتار

أوصف للناس.. الجنه وانا في النار)

- صديق كتبت له رسالة تهنئة بعيد ميلاده رد بإشارة لايك !! يا للتواضع

- الاديب سعد محمد غلام في جلسة احتفاء بمنجزي المتواضع قال (قاسم شاعر الموت) والشاعر كريم عبد الله احصى عدد مفردات الموت في احدى دواويني ، لكن اتمنى ان لا تصيب قصائدي البعض بالإحباط او اليأس

- اخطاء التحريك للنصوص وقعت فيها كثيرا وقبل سنوات كتب لي اخي وحبيبي د محمد ونان عن خطأ في قصيدة نشرتها، لكن حينها لم اعرف كيف اقوم بتعديل ألمنشور وبقي على حاله

- يزعجني جدا ان يكون الرد على منشور لصديق او صديقة على التعليقات ، بانتقائية، ووصفته ذات يوم (بالقفز بالزانة)

- (هاي العايزه التمت) صديق يتوسل محبوبته ان لا تهجره  يا للحب شو بيذل كما يغني الساهر

- كتبت قصيدة (رئيس) وتذكرت قول الشاعر الارجنتيني ارنستوا كاردينال .

(يوم اخبروني بانك تعشقين آخر

ذهبت الى حجرتي

وكتبت ضد الحكومة

هذه القصيدة

التي بسببها انا معتقل الان)

- ندمت لأنني لم اكتب عن احتفالية كان الحضور اليها محفوفا بالخطر وطرق مغلقة وحراس مدججين بالسلاح ، كانت امسية الشاعر جواد الحطاب وكنت اريد ان اركب الباصات للوصول الى مكان الجلسة لكن هاتفني د محمد ونان قائلا (خذ تكسي وانا سأدفع لك) كان ذلك اليوم الثالث لتظاهرات شباب العراق وصوت الرصاص والقنابل المسيلة للدموع يسٌمع مع قصائده، التي تغنى بها بشباب التكتك وعن وطن الملاحم، لكن لم توثق هذه الاحتفالية للأسف التي ادارها بنجاح جاسم العلي

- لا اعرف ألنكز وقبل اسبوع سئلت صديقة عن ماذا يعني قالت هو تنبيه، حتى لا أعرف أيهما أفضل لايك الأعجاب أَمْ ألتفاعل

- اعترف في السنوات الثلاث الاخيرة بدأت أدقق في طلبات الصداقة، فقد سبب لي قبول الصداقة دون قراءة البروفايل بمشاكل وقرصنة .

- صديقة طلبت صداقتي كتبت على صفحتها (الخاص ممنوع) لكن كانت تأتيني رسائل، على الخاص دون ان ارد، فكتبت لي هذه أخر رسالة لك ايها (المتكبر) لم استطع ان ارد لأنها سارعت بالحظر -- حسنا فعلت

- ساعدني الفيس بنشر قصيدتي (للقمر عاصمة) بين شباب تشرين في ساحة التحرير وشعرت بالزهو

- حواري عن الكتابة مع الراحل قيس مجيد المولى منحني فرصة لكتابة  قصيدة (من يتذكرنا بعد الموت) بعد شعور بمرارة واقع لم يمنحنا فرصة لالتقاط انفاسنا ونستريح من عناء حياة

- أمنياتي ألبسيطة ان أوفق برضا أصدقائي وصديقاتي في الفيس ولم تعد تغريني نشر الصحف او المواقع لمنشوراتي.

 

قاسم محمد مجيد

 

حسن حماد والريادة الفكرية في الفلسفة الحديثة والمعاصرة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور “حسن محمد حسن حماد”- أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة بكلية الآداب -جامعة الزقازيق، من أبرز المفكرين المصريين التنويريين الجدد بفضل أفكاره وآرائه الجريئة الشجاعة، التي أثارت جدلاً كبيراً وسجالاً واسعاً بين الأوساط الثقافية والاجتماعية والدينية العربية، حيث دعا في معظم كتاباته إلي إطلاق مشروع “تنوير عربى” لمجابهة الأفكار الظلامية والمتطرفة التى شوهت الدين الإسلامي، مشيراً إلي رفض الفكر السلفي التكفيري والعمل علي التصدي لكل الأفكار الظلامية والمتطرفة التي يبثها بعض دعاة الإسلام السياسي، وذلك من أجل مكافحة الإرهاب وتصحيح الصورة السلبية المأخوذة عن العالم العربي وصحيح الدين الإسلامي ورسالته التى تدعو للحرية والعدل والسلام، فكان له دور بارز في النهوض في الحياة الثقافية بمصر من خلال مؤلفاته وأعماله الفلسفية التي كان لها دور تنويري في تشكيل الوعي لدي العديد من الباحثين والمفكرين في مصر والعالم العربي.

كما كان حسن حماد واحداً من الأساتذة المصريين الكبار الذين استطاعوا بحوثهم ومؤلفاتهم أن ينقلوا البحث في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من مجرد التعريف العام بها، أو الحديث الخطابي عنها – إلي مستوي دراستها دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارمة إلي أبعد حد: فالنص الفلسفي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

علاوة علي أنه كان قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وقد ولد حسن حماد بمحافظة المنيا في الثاني والعشرين من شهر مارس عام 1957، وقد حصل علي ليسانس الآداب من قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة المنيا بتقدير ممتاز عام 1979م، الأمر الذي أهله بعد ذلك للتعيين في إعلان وظيفة معيد بكلية الآداب جامعة الزقازيق عام 1983م، وفي نفس العام بدأ في إعداد أطروحته للماجستير حول “الاغتراب عند إريك فروم”، الذي وجد في أفكاره إجابة عن الكثير من الأسئلة التي شغلته في هذه المرحلة، عن تيارات الإسلام السياسي والأصوليات الدينية الإسلامية الكارهة لكل مظاهر الحياة: الفن، الحرية … إلخ؟، إلي أن فرغ منها عام 1989م.

ثم بدأ بعد ذلك في إعداد أطروحة الدكتوراه حول “النظرية النقدية عند هربرت ماركيوز”، تحت إشراف د. صلاح قنصوه. وكانت لدرسته الأولى عن إريك فروم فاتحة للتعمق أكثر في دراسة مدرسة فرنكفورت التي شعر أنها الأقرب إلى تفكيره. يقول عمار بن حمودة في مقاله المنشور بعنوان “حسن حماد: ذهنية التحريم (منشور ضمن مجلة أوراق فلسفية –إشراف د. أحمد عبد الحليم):” يخبرنا عن نفسه، أنه يساري وجودي ومدرسة فرنكفورت بوتقة فكرية انصهرت فيها أفكار الماركسية والفرويدية والوجودية، ولذلك فقد وجد فيها ملاذا للكثير من الأفكار التي اعتنقها”.

وقد تقلد حسن حماد خلال مسيرته الجامعية العديد من المناصب نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : تقلده رئاسة جمعية الفنون والآداب، وتولية عمادة كلية الآداب بالزقازيق لأكثر من دورة، وتمثله عضوا بلجنة الفلسفة بالمجلس الأعلي للثقافة، وعضوا باللجنة الدائمة لترقيات أساتذة الفلسفة …الخ. وفي نفس الوقت توالت دراسات حسن حماد الفلسفية بعد ذلك داخل هذا الإطار فكتب عن دوائر التحريم : السلطة والجسد والمقدس، و”قصة صراع الفلسفة والسلطة”، و”آفاق الأمل”، و”الخيال البوتوبي”، و”الخلاص بالفن: التراجيديا نموذجاً”، و”الاغتراب الوجودي”، و”العبث بين الفلسفة والفن”، و”البحث عن السعادة عند نيتشه”، و”قصة الصراع بين الفلسفة والسلطة “، و”محنة العبث ورحلة البحث عن خلاص، قراءة وجودية في أدب نجيب محفوظ”، وقد نال هذا العمل الأخير جائزة الدولة التشجيعية بعد صدوره بعامين.

هذا إلى جانب عدد من الدراسات التي نشرت لحسن حماد في دراسات منفصلة في مجلات أو في كتب، ونذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : جدل الغربة والزمان عند مارتن هيدجر، وتطور مهوم العقل من ديكارت إلي هيجل، والاغتراب عند أبي حيان التوحيدي، ودور الفلسفة في تحرير الوعي أو الخروج من قبضة الفاشية، وفلسفة الجسد عند أفلاطون، وسؤال الهوية، البحث عن السعادة عند نيتشه، وأزمة التقدم في العالم العربي، والمشاعر عند جان بول سارتر، وسؤال العبث في رواية ثرثرة فوق النيل، وقراءة هيجل بين التمرد علي الدين والثورة علي الواقع.. الخ. وكلها برغم تنوعها تنتمي إلى دائرة ما يمكن تسميته بفلسفة التمرد، فهو يعتقد أن الفلسفة عبر تاريخها الطويل مارست دائما هذا التمرد : على التقاليد، على التابوهات، على السلطة، على الأنظمة السياسية، وحتى على نفسها، لا فلسفة، فيما يرى، بغير تمرد بغير فلسفة، وحتى أشد الفلسفات مثالية لا تخلو من تمرد لأنها ترفض الانصياع للواقع القائم وتفتش عما ينبغي أن يكون .

ولذلك لا فرق عند حسن حماد بين الوجودية والماركسية كلتيهما تمارسان فعل الانتهاك بأوسع معانيه. وبعد أحداث الربيع العربي وتصّدر جماعات الإسلام السياسي للمشهد شعر حماد بأن على الفلسفة أن تستحضر في بنية وجودها وفعلها ومقولاتها فكرة التمرد بأعمق معانيه، ومن هنا كان كتابه “ذهنية التكفير، الإسلام السياسي والعنف المقدس.

لقد تمكن حسن حماد في هذا الكتاب من أن يلم بالمناهج الفكرية والاجتماعية التي أنتجتها الحداثة في قراءته للتراث الإسلامي، فمزج بين المنهج التفكيكي للنصوص بما سمح له بإعادة النظر في مجمل الأسس المعرفية، وعمد بعدها إلى استخدام منهج الحفر الأركيولوجي للعودة إلى الجذور والأسس، ليخضع هذه النصوص التراثية إلى منهج النقد التاريخي، وليصل أخيرًا إلى إعادة التركيب وبناء المفاهيم في صورة صحيحة انطلاقاً مما يكون قد حصّله من نتائج النقد الذي أجراه.

والناظر لبنية الكتاب يدرك ذلك فهو يقسم الكتاب في بنيته العامة علي مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، فأما المقدمة فحفر في مفهوم المقدس وأثره في الوعي الإنساني، وقد استعان حماد في فهمه للظاهرة بمقاربات “روجيه كايوا Caillois Roger ” و”مرسيا إليادMercia Eliade ”، وأما الفصل الأول فمقاربة لمنابع التطرف الديني، إذ بين أن المقدس مفهوم تاريخي عرفته الإنسانية باختلاف حضاراتها وأديانها، وما القرآن سوى تجّل من تحليلاته التي جعلت الفرق الإسلامية توظّفه في صراعها التاريخي حول الحقيقة الدينية. وقد كان لحديث الفرقة الناجية دور كبير في تضييق آفاق التأويل، وإقصاء المختلفين، فترسخت بذلك عقلية إقصاء الآخر.

ولكن دائرة إشعاع المقدس اتسعت لتشمل المجالات السياسية والاجتماعية والنفسية، وهو ما دعا حماد إلي اعتبار أن توظيف الدين لخدمة الأغراض السياسية والدنيوية والحياتية للبشر، وهو من أبشع أنواع السيطرة التي يمكن أن تمارس علي الإنسان. وهو الذي أورث الحركات الأصولية والإسلام السياسي عقلية احتكار الحقيقة وحق التحدث باسم الإله وباسم المقدس.

وهو يطرح في مقدّمته مشروع لنقد التّراث والتحرر من بذور التعصب، فكّل تفكير في مقاومة الأصولية دون استحضار التّراث يعد علاجاً ظرفياً غير مجد، لأن علل الحاضر ضاربة بجذورها في الماضي، والمقدس أشبه ببقعة زيت يتّسع أثرها في محيط الفكر ما دمت الينابيع التي تتفعر منها قائمة إلي اليوم، بل إنها زادت فيضا على أشياء وشخوص وأفكار ليست في الأصل مقدسة بفعل الإعلام، ولذلك تلازم مع الإرهاب وصار إلزماًمواجهته في ساحات شرعيته وخطاباته التاريخية المعاصرة.

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة للأستاذ الدكتور حسن حماد الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

رحلة الحياة.. طريقٌ لمْ يـتّخِــذْهُ آخرون (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. بهجت عباس

بهجت عباسالنصف الثاني من مقدّمة كتاب لم يُنشر بعدُ

الحظّ بيئيّـاً ومجتمعيّـاً

لا أحد يعرف لماذا يولد طفل من عائلة فقيرة ومن أبوين جاهلين في بلد متخلف فيحيا ليقاسي في الحياة، وبعضهم ينطبق عليه المثل الصيني أو الفارسي (ولدوا فتعذبوا فماتوا)، بينما يُولد طفل آخر من أبوين مرفّـهـيْن في بلد متطور فيحيا حياةَ طفولةٍ سعيدةً  وتسنح له الفرص فيعيش بهناء، وآخـر

أتـتْـه الخلافـةُ مُنـقـادةً**إليه تجــرّرُ أذيــالَهـــا

فلمْ تكُ تصلحُ إلّا لــهُ**ولمْ يكُ يصلحُ إلّا لَهـا

ولـوْ رامَها أحدٌ غيرُهُ**لزُلزلتِ الأرضُ زِلزالَها   (أبو العتاهية)

بل وحتى ثمّة اختلاف بين طفلين في دارين متجاورين من منشأ واحد، أحدهما من أبٍ حنون على أطفاله يسعى جاهداً ليسعدهم فيضحّي من أجلهم، والآخر من أب بخيل قاسٍ أنانيّ يعتبر أيَّ طفل يولد له، وخصوصاً إذا كان أنثى، عبئاً عليه. إنه لغز عصيّ على العقل . وهكذا كان حظّ مدرس اللغة الإنكليزية (علاء) في مدرستنا، متوسطة الكاظمية في الخمسينات من القرن العشرين، حيث كان يدرّس الملك فيصل الثاني أيضاً. كان يأتينا بقميص وبنطلون لا يتغيّران مع فقر واضح على سيماه، ولما سألناه بمزاح عما نراه من حاله، ابتسم بمرارة وقال؛ نحن نعلم أن الأب يورث أولادَه مالاً أو ملكاً ولكن أبي أورثنا ديوناً وعلينا تسديدها! أمّا الفتى (صالح) فقد أرسله أبوه إلى أميركا، وهو في السابعة عشرة عاماً من عمره المديد، ليدرسَ فيكونَ مهندساً بارعاً ثريّاً وكلاهما من جيل واحد في بلد واحد! لا تفسير! إنه الحظّ العجيب أو القدر الذي لا مردّ له . ولكن هل يستطيع الإنسان أن (يعكس) القدر لصالحه؟ ربّما، إذا أراد وصمّم وكافح وثابر ولم يتخاذلْ عند النوائب ويستسلم للقدر العتيد وعرف ما وجب عمله. ولذا أمثلة لا حصرَ لها.

 على أنَّ ثمّة من يعتقد أنّ الصّدفة coincidence أو ما تسمّى بالألمانية   der Zufall، التي قد تكون نتاج العقل الباطن أو اللاشعور، لها ارتباط بالحظّ وقد تلعب دوراً في حياة الإنسان، وكمثل بسيط على ذلك ما حدث لي في الستّينات من القرن العشرين، ذلك أنني كنت عاطلاً عن العمل بعد استقالتي من وزارة الصناعة في نوفمبر 1964 (لأسباب سيأتي ذكرها) فكنت أبحث عن عمل في الصيدليات الأهليّة. حدث ذات يوم أنْ كنت أسير في شارع السعدون في بغداد فمررت بصيدلية (القزويني) فلمحني صديقي الصيدلي حسين القزويني فحيّيته فدعاني للدخول إلى صيدليته وقال لي: كنتُ أبحث عنك، حيث كان السيد قاسم الشمّاع، الرجل الثاني بعد الدكتور خير الدين حسيب، رئيس المؤسسة الاقتصادية العامة التي تضمّ المؤسّسة العامّة للأدوية، هنا في الصيدلية يوم أمس وكان صديقه، فسأله إن كان يعرف بعض الصيادلة الأكْـفـاء لتوظيفهم في المؤسّسة العامة للأدوية التي كانت تابعة للمؤسّسة الاقتصاديّة، لأنّ الناس ضجّوا من قلّة وجود الأدوية ويلومون التأميم (حدث حينذاك تأميم المذاخر والأدوية وإناطتها بالمؤسّسة المذكورة، فلم تستطع القيام بواجبها في توفير الأدوية في الأسواق.) يقول السيّد حسين القزويني ذكرتُ اسمَك للسيّد قاسم الشمّاع وقلتُ له أنّك قادر على توفير الأدوية، فطلب منه (من السيد القزويني) أن يتّصل بي لأقابله في دائرته (البنك المركزي) ولكنني لا أعرف رقم تلفونك لأتّصل بك (لم يكنْ لديّ تلفون حينذاك) ولكنّه (القدر) ساقك إليّ وهنا ساتّصل بالسيد قاسم الشمّاع فاتّصل به فطلب منه هذا الأخير أنْ يُكلّمني فأخبرني أن آتي إليه غدا في دائرته (البنك المركزي) فكانت المقابلة في اليوم التالي، رحّب بي وأعطاني بطاقته (كارت) بتوصية إلى المؤسّسة العامة للأدوية التي رفضت طلباً لي للتعيين من قبلُ. وهكذا كان تعييني فيها ووظيفتي التي دامت أربعة عشر شهراً، وبعدها تعرّفتُ على الشركة الألمانية أ. ميرك للأدوية فصرت مدير مكتبها العلمي في بغداد،  فكانت نقطة التحوّل كما يسمّيها الشاعر ريلكه. ولولا تعييني في المؤسّسة العامّة للأدوية (كيماديا) التي كان ممثّلـو شركات الأدوية العالمية يزورونها لغرض تصدير (بيع) أدويتهم وتعرّفي عليهم ومقابلتهم، لربّما كان (حظّي) في العثور عليهم ضئيلاً أو معدوماً. لماذا كان مجيء من الكاظميّة إلى شارع السعدون ذلك اليوم ومروري بصيدلية القزويني الذي أدّى إلى حصولي على الوظيفة؟ أهو (الصّدفة) أو (الحظّ) الذي قادني إليه العقل الباطن؟ هذه الحال وغيرها الكثير (تؤيّد) قول الدكتور إبراهيم ناجي (لا تقل شئنا فإنّ الحظّ شاء) ولكنْ هذا (الحظّ) قد يكون ضد ّ مصلحة الفرد، فقد يقوده إلى طريق ضالّ أو أقلّ نفعاً من طريق آخر لو سلك هذا الأخيرَ، فما العلة أو العلل؟

وأخيراً أحبُّ أن أذكر شيئاً آخر قد يكون تفسيراً للحظّ، حسناً كان أم سيّئاً، تبعاً لـ(مخزون) العقل الباطن، ذلك أنني عندما كنتُ في الصف الرابع الإعدادي، كما سيأتي ذكره لاحقاً، خطّطتُ لدراسة الصيدلة لأكون صيدلانيّاً مستقلّاً لا أعتمد على الوظيفة للعيش. وكان زملائي يعرفون ذلك، فمثلاً، عندما اندلعت شرارة المظاهرات في عام 1952 والتي بدأت من كلية الصيدلة والكيمياء الملكية (كما كانت تُسمّى حينذاك) وأنا في الصف الخامس (الأخير) من الدراسة الثانوية، كان بعض الزملاء يقولون لي، لماذا لا تتظاهر تضامناً مع طلاب (كليّتكَ؟!) ولكنّي بعد التخرّج من الثانوية وتقديمي طلباً للحصول على بعثة وزارة النفط لدراسة الكيمياء الصِّناعية في إنكلترا، فشل  مسعاي، وعندما قُبِلتُ في كلية الطبّ للدراسة على نفقة ووارة الدفاع للتخرّج برتبة رئيس (نقيب) طبيب، فشلت، لأنّ طبيب الأذن والأنف والحنجرة (د. محمد الشوّاف) لم يقبل أن يفحصني لتأخّري عن  الفحص (سيأتي ذكره) وبعد ذلك إلغاء بعثة وزارة الإعمار إلى أميركا، مما جعلني مضطراً للدراسة في كليّة الصيدلة التي قبِلتُ فيها. هل لعب الحظّ دوره (الجيّد) في هذا؟ ربَّما، فقد كانت شهادة الصَّيدلة (قارب النجاة) في معترك الحياة التي خضت غمار بحرها، فبواسطتها استطعت الحصول على إجازة ممارسة الصّيدلة في كندا التي (سهّلت) أمور حياتي كثيراً ولولاها لكانت الحياة قاسية! ومن قال إنني سأنجو بعد تخرّجي من الطبّ (العسكري) لو تمّ، بعد انقلاب 1963 الأسود! فهل كان ما خُزن في العقل الباطن في الدراسة الثانوية من التركيز على دراسة (الصيدلة) أدّى إلى (تعثّر) دراسة ما سبق ذكره و(سهّل) التوجّه إلى دراسة الصيدلة وكان حظّاً حسناً؟ وهل كان (المخزون) في الدماغ، وهو التركيز على الصّيدلة، وفقَ نظريّة د. لبتون، موجباً وليس سالباً كالدراسات الأُخرى، حيث أنتج الحاسوب الضخم (العقل الباطن) الأول ورفض الثاني لأنّ كلّ ما تخزن فيه، تحصل عليه، رضيتَ أم لم ترضَ. وهل نسمّيه (الحظّ؟) بنوعيه، نتيجة اختيارك طريقاً معيّناً، تسعد فيه أو تشقى، أو يأتيك تلقائيّاً دون أنْ تفكّر فيه أو تسعى إليه؟ المسألة غامضة، وهناك الكثير من الحوادث التي مرّت عليّ في مسيرتي الطويلة الكأداء أحياناً في هذه الدّنيا الجميلة والقبيحة في الوقت ذاته، وكلّ حدثٍ ينطِقُ بذاته ولا أعرف حقّاً، هل اختياري ذلك الطريق وليس  آخر بديلاً، كان في منفعتي أم في ضرري، أو بالأحرى حظّاً حسناً أم عاثراً، ولربّما كان تفويت فرصة، ويا لكثرةِ ما فاتني من فرص، ندمتُ على تفويتها، كانت خسراناً مبيناً إنْ اغتنمتُها! لا أدري، ولكنّني أدري أنّ اتّخاذَ القرار الصّحيح يلعب الدور الأكيد في النجاح، وهذا ما يتّخذه العقل المبدع المفكّر (الظّاهر!) أمّا نتيجة اتّخاذ قرار (اعتباطيّ)، إيجاباً أو سلباً، فهي شأن العقل (الباطن!) وهنا في هذه السيرة ذكرتُ الحوادث الرئيسة الني مرّت عليّ أو مررت بها ممزوجة بواقع المجتمعات التي عشت وأعيش فيها واتّخاذ الطرق المتعدّدة المتشعّبة في مجالاتها، فما انسدّ طريق في وجهي إلّا وحاولتُ فتحه والسير فيه، وإن لم تعذّر، فطريق آخر، ولو كان شائكاً، ولنْ أقعدَ مذموماً مدحوراً، وقد قال الشاعر العربيّ منْ قبلُ

إذا لمْ تكنْ إلّا الأسنّةُ مركباً**فما حيلةُ المضطرِّ إلّا ركوبُـها

(كميت الأسدي)

وهذا طبعاً لم يكنْ ولن يكون، فهو من باب المجاز (metaphor) ليس إلّا. فالارادة لتغيير الواقع المتعثّر في الحياة هي الحياة الحقّة للعيش بكرامة، والتخاذل أو الاستسلام هو النهاية المؤلمة لها، ولاتَ حينَ مّناصٍ.

 

د. بهجت عباس

ماركس في الجزائـــر..

التفاصيل
كتب بواسطة: ابراهيم مشارة

ابراهيم مشارةقراءة في رسائله إلى ابنتيه ورفيقه إنجلز

وصل كارل ماركس إلى الجزائر في 20 شباط ومكث فيها إلى غاية 02 أيار من عام 1882 فقد كان يعاني من ذات الجنب والتهاب في القصبة التنفسية وقد نصحه أطباؤه وبعض رفاقه بمن فيهم إنجلز بضرورة المكوث أسابيع في شمال إفريقيا حيث الشمس مشرقة والهواء صحي وكان القصد هو توجه ماركس إلى مدينة بسكرة لكن تردي صحته حال دون توجهه إلى هذه المدينة الداخلية حيث يستغرق السفر إليها أسبوعا ناهيك عن مشاق الرحلة واكتفى بالمكوث في الجزائر العاصمة حيث أقام بنزل الشرق أولا ثم نزل فكتوريا في شارع ميشليه (ديدوش مراد) اليوم، يزوره الطبيب "اسطفان" في النزل يفحصه ويعالجه بمختلف الأدوية ويوصيه بالمشي والتنزه صباحا والإقلال من القراءة والاكتفاء فقط ببعض الصحف التي لا تتطلب إمعانا في التفكير فقد كانت حالته تنتكس أحيانا وتتحسن قليلا، وفي رسائله التي بعثها إلى ابنتيه جيني ولورا لافارج وصديق عمره فريدريك إنجلز يتحدث دائما عن الأرق الذي كان يلازمه وعن السعال الشديد أحيانا حتى إنه بصق دما ذات مرة وعن فقدان الشهية وعن صدمته من كون الجو في الجزائر كان استثنائيا منذ عشر سنوات فقد ظلت الأمطار تهطل والبرد شديد والسماء دائما ملبدة بالغيوم وهذا الجو بالذات لا يناسبه، إنه يزيد في معاناته، ولذا لم يكن مستريحا في إقامته بالجزائر وظل ينتظر الرحيل بفارغ الصبر لكن الأطباء لم يسمحوا له بذلك. إن البقاء في البلد ضروري فهو مرهق وحالته الصحية هشة وعلامات التعب على وجهه ما تزال ظاهرة فالراحة وأخذ الدواء والامتثال للتعليمات الطبية والحرص على الرياضة الصباحية والمتمثلة في النزهة الصباحية لازمة وهذا أمر يتطلب أسابيع إضافية لذا يمكن القول إن ماركس أقام على مضض في الجزائر متسليا بقراءة الصحف الكولونيالية الصادرة في الجزائر خاصة "المعمر الصغير " والصحف التي تصله مع البريد من أوروبا ويتسلى بكتابة الرسائل إلى إنجلز وابنتيه جيني ولورا لافارج وقد كتب خلال إقامته في الجزائر 16 رسالة أغلبها إلى جيني وإنجلز .

لم يتحرك ماركس خلال إقامته في مدينة الجزائر كثيرا حيث كانت آنذاك تقسم إلى ناحيتين مصطفى الأعلى حيث شارع "ميشليه "و"اسلي" (العربي بن مهيدي) اليوم ومصطفى الأدنى حيث حديقة التجارب وقد زارها مرة، إذا كانت نزهة ماركس اليومية وغالبا صباحا في ناحية شارع ديدوش مراد أو العربي بن مهيدي وقد سجل ماركس في إحدى رسائله إعجابه بالريف الجزائري أي ضواحي مدينة الجزائر حيث أبعد في خرجاته هذه المرة وامتدح كثيرا دفء العاصمة وجمال الجو والشمس مسفرة والإطلالة البحرية على خليج الجزائر كما امتدح كثيرا الاخضرار والزهور التي تزين بعض المناطق وفيما عدا ذلك ظل يستعد للرحيل فالآلام والأرق والسعال ظل يلازمه وأنحى باللائمة على إنجلز الذي من فرط حبه لصديقه حرص على رحيله للاستشفاء-وقد قتله حبا كما قال- لولا أن الحظ كان عاثرا فالجو كان مكفهرا ،بارد ا متلبدا إلا من أيام قليلة تشرق فيها الشمس ويعتدل الجو .

إذا هي رسائل قصيرة فقد كانت حالته لا تسمح له بالإطناب كما لا تسمح له بالتنزه بعيدا واكتشاف مناطق هذا البلد الإفريقي وعاداته وتقاليده وثقافته ومعاناته من الاستعمار الوخيم الذي دمر كل البنى التحتية والفوقية وكان بحق أجرم استعمار في القرن التاسع عشر والعشرين معا.

إن الذي يهم في هذه الرسائل اكتشاف مدى المعرفة السطحية التي يحملها ماركس والمفكرون الغربيون عن الآخر المختلف خاصة إفريقيا والعالم العربي ومن ثمة كانت مقولاتهم وتنظيراتهم أوروبية محضة، ثقافة متمركزة على ذاتها حيث تهيمن نرجسية متعالية فالحضارة البيضاء هي المتن والمركز وغيرها هو الآخر غير الأبيض، الهامش والحاشية واعتراف ضمني بان الآخر ليس عنده ما يستحق النظر أو الاهتمام ولا أدل على ذلك من سذاجة المعلومات الجغرافية والتاريخية عن البلد والاكتفاء بالاطلاع عليها نتفا من موسوعات وقواميس ذلك العصر وهي لا تخلو من ابتسار وأخطاء بكافة أنواعها ،ولقد وجد ماركس نفسه في ورطة فهو لم يدن الاستعمار الفرنسي للجزائر لأنه اكتفى بالنظر إليه اقتصاديا إنه في مصلحة الرأسمالية التي تدخل التحديث الضروري إلى هذا العالم البدوي المتخلف، إنه تغاضى سياسي وتركيز على الجانب الاقتصادي للاستعمار حيث تتأزم الرأسمالية وتبحث عن حلول لأزماتها بتشجيع الهجرات وما يتبع ذلك من اكتشاف للموارد الأولية وهجرة لرؤوس الأموال ومن ثمة خلق دينامكية اقتصادية وتجارية وصناعية وعلمية وثقافية في تلك البلاد المتخلفة منددا أحيانا من الناحية الأخلاقية بالفظاعة التي يرتكبها الجنود الفرنسيون والاستعمال الزائد للقوة وواصفا المعمرين الجشعين باللصوص أو بنات آوى الذين استولوا على أرض الأهالي ودمروا الملكية الجماعية للأرض (المشاعية) وبالتالي قضوا على الرابطة الأسرية والدموية وارتباط الأهالي بالأرض وهي حيلة كان يهدف المعمرون من خلالها إلى تشتيت العائلات بتشجيع الملكية الفردية بامتلاك الغير للأراضي وبذر بذور الفرقة والانقسام بينها حتى لا يتهيأ أمر الوحدة والتمرد جماعيا ، ندد بهذا لكن لم يندد بالاستعمار على أنه انتهاك للحق الإنساني وبربرية وجرائم للرجل الأبيض باسم نشر الحضارة والتمدين وهذه إحدى ورطات ماركس فهو ظل مركزيا ولم يكن يعني له الآخر المختلف غير تابع لا حظ له من حضارة ولا من رقي ولا من تاريخ . نظر ماركس إلى الاستعمار الفرنسي للجزائر على أنه عملية تعمير للأرض وهجرات بشرية مثل الهجرات الأوروبية إلى أمريكا وأستراليا فهؤلاء المعمرون الأوروبيون بنوا حضارة ونشروا التقدم وتطورت الحياة والمعارف العلمية والحضارية بهجرة أولئك المعمرين ولكن ماركس لم يتذكر كافة أشكال الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر والتي كانت بالملايين ولم ينظر في الاستعمار من الناحية الثقافية حيث يطغى عليه الشعور بالتفوق والغلبة فيبيد الثقافة الأخرى لصالح ثقافته المتنصرة والمهيمنة وهذي جريمة أخرى من جرائم الاستعمار.

2150 ماكرس

نظرة ماركس للاستعمار الفرنسي للجزائر نظرة اقتصادية بحتة أهملت الجانب الحضاري والثقافي والإنساني واهتمت بالجانب الاقتصادي حيث تحتل النظرية المادية حجر الزاوية في تنظيراته وهذه إحدى مآزق كتاباته فهي فكر مركزي منغلق على ذاته فالواقع ليس إلا مقولة غربية .

في إحدى رسائله إلى لورا لافارج يكتب ماركس ما يلي: "كان المنظر مدهشا كان بعض أولئك المغاربة يرفل في ثياب أنيقة بل فاخرة وكان بعضهم الآخر يرتدي ما سأجرؤ على وصفه بأنه بلوزات كانت فيما غبر من الصوف الأبيض وحالت اليوم إلى مزق وأسمال لكن مثل هذه الاحتمالات من يسر وعسر لا يمكن في نظر المسلم الحق أن تقيم من فروق بين أبناء محمد وهي لا تؤثر في شيء على المساواة المطلقة التي يظهرونها في علاقاتهم الاجتماعية"

كتب هذه الرسالة بعد زيارة قام بها إلى حديقة التجارب بالحامة وقد رأى مقهى في الهواء الطلق يجتمع بعض الشباب والكهول من الأهالي على موائد خشبية يلعبون لعبة الأوراق ويرتشفون القهوة العربية الإعداد.

وواضح أن ماركس وجد نظريته في الصراع الطبقي لم تفسر سبب هذا الاجتماع الحميم بين موسرين ومعدمين وهم يلعبون الورق ويحتسون القهوة فمن المفروض أن الصراع الطبقي والحقد الطبقي لا يترك فرصة لاجتماع الموسرين والمعدمين بهذا الدفء والحميمية والروح الأخوية وماركس يستبعد الإيديولوجيا – الدين - في تفسيراته للتاريخ الإنساني مما حدا ببعض النقاد إلى اعتبار هذا النص بالذات دليلا على تمركز ماركس على نفسه وانغلاقه على ثقافته الأوربية وإحساسه بالاستعلاء وبالتالي فتحليلاته للصراع الطبقي لا تخص إلا الواقع الأوروبي فالواقع مقولة أروبية لا غير، أو لعله انقلب في هذا المشهد مثاليا ولا تفسير لذلك إلا بالإقرار بأهمية البعد الروحي في الحياة الاجتماعية بله والتأثير فيها بصرامة ولكن يا للعجب يحدث هذا في الشرق وليس في الغرب !

وفي إحدى رسائله أيضا يتحدث عن فجيعة إعدام الفرنسيين للص مسكين وهذا توصيف ماركس ولا شك أنه يعرف سبب كثرة اللصوصية في الجزائر في ذلك الإبان والسبب في انتشارها إنه الاستعمار الذي جعل الشعب مشردا وأخذ أرضه وماله وقتل ناسه أي دمر البنى الاقتصادية والثقافية برمتها للشعب فظهرت الآفات الاجتماعية بكثرة مثل اللصوصية والسكر وقطع الطريق وهي مثالب تسبب فيهال الاستعمار وقد أدانها ماركس سطحيا لكنه لم يتعمق المسألة .وبروح النكتة والطرافة يقص على لورا لافارج فاجعة إنسانية حيث أعدم الاستعمار رجلا بالمقصلة وقطع رأسه وكان الأهالي يريدون استرجاع الرأس ليلصقوه بالجثة ويدفنوها كاملة لكن السلطات الاستعمارية رفضت ويعلق ماركس أن هذا المسكين حين يصل إلى الجنة يجد محمدا يرفض دخوله إلى الجنة حتى يعود إلى الكفار ويأخذ رأسه فالجنة لا يدخلها مسلم بلا رأس. هكذا روى ماركس هذه النكتة بروح الاستخفاف والتندر عن فاجعة إنسانية وعن استخفاف بثقافة ودين ولو أنه وصف الضحية بالمسكين لكن هذا لا يشفع له قلة اعتباره لثقافة الآخر واحترامه للتجارب الحضارية والروحية عند الشعوب غير الأوروبية.

وتجدر الإشارة إلى أن القاموس اللغوي الذي يستخدمه ماركس في رسائله في حديثه عن الأهالي مثل :عصابة من العرب،البدو ،ملكوت المسدس ، العروق الدنيا، وهي كلمات كان ينتقيها من الصحف الكولونيالية الصادرة بالجزائر - يخففها بالتعاطف البسيط مع الضعفاء دون إدانة عميقة للجريمة وسببها الرئيس- وهي صحافة ناطقة باسم المعمرين الكبار أو المعمرين الصغار حيث اهتم ماركس بتحليل الصراع الطبقي بينهما ولم يهتم بإدانة جريمة الاستعمار في حد ذاتها.

وإلا فكيف يسوغ لنفسه أن يكتب في إحدى رسائله مثل هذه العبارة:

"الزنوج عبيد للبربر والعرب أحرار في العهد الفرنسي"إن الشعب برمته من بربر وعرب وزنوج صار عبدا للاستعمار الفرنسي.

أخيرا يعلق جورج طرابيشي على أن سطحية معرفة ماركس بالجزائر وإدانته الخفيفة للإجرام الفرنسي كانت بسب أنه رأى الجزائر بعين القاضي الفرنسي "فرميه" والذي كان لا يندد في   الاستعمار إلا بالشدة وينقل إليه صورا غير كاملة وما يحب هو أن يسمعه من وجهة نظر طبقة من المعمرين الصغار الذين كانوا في صراع طبقي مع المعمرين الكبار وبالتالي أدانوا القسوة الزائدة فقط ولا يمكن أن يكون تبرير طرابيشي مقبولا فالاستعمار هو الاستعمار والظلم هو الظلم منذ أن خلق الله الأرض والإنسان والسماء إنه فعل بربري لا إنساني همجي ولم يكن الأمر يحتاج إلى بروز الإمبريالية وتنامي الاستعمار وينتظر العالم المخلص لينين ليدين الإمبريالية ويمجد الحركات التحريرية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ليعرف فداحة الظلم وجريمة الاستعمار منذ عصر الرومان إلى يوم الناس هذا.

كما أن المغالاة في الاعتقاد بصدقية النظريات الماركسية مع حرفيتها –وهي مجرد أدوات لفهم الواقع وتحليله تخطئ وتصيب- والهوس بها إلى درجة الإيديولوجيا يولد العمى الإيديولوجي ذلك العمى الذي يجعل الفرد يرى في الحياة لونا واحدا وجهة واحدة مسطحة ذات بعدين على الأكثر أحدهما عماه الإيديولوجي ، فهو الهوس بالماركسية إلى حد الماركسوية وهي أصولية أخرى على غرار الأصولية القومية والسلفية والعلمية التقنية وما شئت من أشكال العمى الإيديولوجي.

و قبل أن يعود ماركس إلى إنجلترا عبر فرنسا حلق ذقنه وتخلص من شعره المستعار وأرسل لابنته صورة شمسية بلا لحية ولا شعر مستعار وغادر الجزائر فرحا بالعودة يوم 02 أيار من عام 1882 ليموت بعدها بأشهر قليلة.

 

ابراهيم مشارة

 

طَرق على الجدار (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد ناجي

محمد ناجي(موقف الطاغية هو موقف ذلك الذي يقطع شجرة لكي يقطف ثمرة) مونتسكيو

المتابع لما ينشر في مختلف وسائل الإعلام من مواقف النخب والشارع العراقي والعربي، والتي تتعلق بالحكام والأنظمة الدكتاتورية، يراها بعيدة عن الصواب، لأكثر من سبب لا مجال لذكرها هنا . وبدلا من أن تسلط الضوء على جوهر أنظمة الاستبداد، باختلاف مسمياتها، وهو الانفراد بالسلطة والقرار، وبالتالي قمع الرأي الآخر المعارض، يراها تبتعد وتلجأ إلى تبرير الدكتاتورية وتحسينها بمفردات رطانة خطابية مع ذكر الصفات الشخصية الإيجابية للديكتاتور، لتوحي بأن الدكتاتور ينفرد ويتميز بها على غيره، وكأنها المؤهلات المطلوبة لتولي مسؤولية الحكم، أو بما تنسبه له من إنجازات، وتجهل أو تتجاهل أن الكثير إن لم يكن أغلب الدكتاتوريين لهم انجازاتهم أيضا . أو تطالب وتدعو لتقدير ظروف الحدث، وهذا المبرر دائم التكرار، رغم أنه عاجز عن استبعاد وصمة الدكتاتورية .

في هذا المقال الذي حرصت على ترجمته بعض المعلومات، منها الصفات الشخصية لسالازار وبعض إنجازاته، وأيضا مدى شعبيته، والتي لم تمنع أن يوصف شخصه ونظامه بالدكتاتورية . آمل أن يكون فيها ولو شيئ من الفائدة، وتساعد في تصحيح العيب في الموقف من الطغاة حيثما كانوا .

 

محمد ناجي

............................

(سيرة شخصية) جديدة تتحدث عن سالازار الفاشي المختلف

في العام الماضي 2020 مر 50 عام على وفاة ديكتاتور البرتغال أنطونيو سالازار، الذي حكم البلاد لمدة 36 عام، وهي أطول مدة حكم لدكتاتور في أوربا في القرن العشرين . هنريك برانداو يونسون (1) قرأ كتاب عن سيرة شخصية جديدة عن السياسي المتقشف، الذي لا تزال أعماله تثير نقاش محموم .

القصيدة الاولى لـ(توماس ترانسترومر) (2) التي تركت أثرها في نفسي كانت " لشبونة " والتي نشرها الشاعر في ديوان (اصوات وسكة) عام 1966 .

في حي الفاما غنّت عربات الترام الصفراء /

على الطريق المرتفع /

هناك يوجد سجنان . أحدهما للصوص /

ها هم يلوحون بأيديهم من خلال قضبان النافذة /

يصرخون يريدون من يصوَّرهم ! /

" لكن هنا " قال بائع التذاكر بـضحكة مكبوتة مثل انسان منكسر /

" هنا يوجد سياسيون" . انا شاهدت الواجهة، الواجهة، الواجهة /

وفي الأعلى هناك نافذة وشخص يقف معه منظار ويتطلع باتجاه البحر .

البناية التي يقصدها ترانسترومر هي سجن اليوبه، مقابل الكاتدرائية في لشبونة، هناك وضع الدكتاتور سالازار المعتقلين السياسيين . قبل خمس سنوات تحول السجن إلى متحف المعارضة لنظام دكتاتوري حكم أطول مدة في أوروبا، امتدت من 1926 ولغاية 1974 . الجزء الأكبر من هذا الوقت - 36 عاما - حُكمت البرتغال من قبل أستاذ الاقتصاد الدكتاتور أنطونيو دي أوليفيرا سالازار . أن لايجري الحديث عنه بنفس القدر عن بقية الفاشيين الآخرين - موسوليني وفرانكو - لا يعود فقط إلى نسيان ذكر البرتغال في التقارير التي تكتب عن جنوب أوروبا، بل بالرغم من وجهه الشبيه بالطيور الجارحة، كان من الصعب وضعه معهم . كان فاشيا مختلفا .

بمناسبة الذكرى الخمسين لوفاته أصدر المؤرخ الاسكتلندي توم كالاگر كتاب "سالازار - الدكتاتور الذي يرفض الموت"، وهذه أول سيرة ذاتية شاملة عن الدكتاتور تكتب باللغة الانكليزية . ومنذ بداية الفصل عن الحرب العالمية الثانية، يبين الكاتب الفرق بين أعمال فرانكو المؤيد لهتلر وبين سالازار، الذي اتبع موقفا أكثر قربا من موقف السويد، فكان يبيع المعدن الخاص بصناعة اسلاك التنگستين للصناعة الالمانية، وفي نفس الوقت سمح للحلفاء باستخدام جزر الأزور كقاعدة للتحري عن الغواصات الألمانية في المحيط الأطلسي .

لعب سالازار دورا في إنقاذ اليهود، ليس فقط بتوفير امكانية هروب المئات منهم من جبل طارق إلى جزيرة ماديرا، بل أنه فسح المجال لمبعوثه إلى بودابست - الدبلوماسي كارلوس دي ليز تيكسيرا برانكوينهو - وأطلق يده للقيام بنفس العمل الذي قام به الدبلوماسي السويدي راؤول فالينبري . وخلال خريف 1944 أنقذ الدبلوماسي اكثر من الف يهودي من معسكرات الاعتقال بواسطة تزويدهم بوثائق سفر برتغالية .

السيرة الشخصية القت ضوء جديد على سبب حدوث حرب المستعمرات في أفريقيا، التي وقعت ما بين سنوات 1962-1974 في أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو . فعندما اندلعت انتفاضة الاستقلال في شمال أنغولا طلب الرئيس الامريكي جون كندي من البرتغال بأن تغادر المستعمرات، والا فان الولايات المتحدة ستطرح القضية في مجلس الامن التابع للامم المتحدة وسوية مع الاتحاد السوفييتي تطالب بانسحاب البرتغال من المستعمرات . شعر سالازار بالجنون، فهو يرى المستعمرات كجزء من الجسد البرتغالي ولا يمكن أن تقطع جزءا من الجسد . في اليوم التالي لتصريح كندي جمع الديكتاتور عشرة آلاف متظاهر خارج سفارة الولايات المتحدة وهم يهتفون ( أمريكا لسكانها الأصليين) .

وكان لدى سالازار الورقة الرابحة في كُم معطفه . فمنذ بداية الحرب العالمية الثانية سمحت البرتغال للولايات المتحدة بوجود قاعدة جوية في جزر الأزور . والاتفاقية تُجدد كل خمس سنوات، واذا استمرت الولايات المتحدة بالتدخل بالمصالح البرتغالية في أفريقيا فسوف لن يجدد سالازار الاتفاقية، وحينها ستفقد الولايات المتحدة أهم قاعدة من قواعدها الجوية خلال الحرب الباردة . لعب سالازار أوراقه واستخدمها بقوة وبمستوى عالي وربح . ومن ذلك الحين لم تذكر الولايات المتحدة حرب المستعمرات البرتغالية ولا بكلمة واحدة، وهي لاتزال باقية حتى اليوم في قاعدة لاجيس الجوية في جزر الأزور . هذه التسوية الجيوسياسية كانت على حساب أرواح مئات الآلاف من البشر في افريقيا، واجبرت عشرات الآلاف من البرتغاليين على الهرب من البلاد لينجو من الخدمة العسكرية.

أحد الاعتراضات على السيرة الشخصية هو أن الكاتب گالاگر لم يخصص مساحة كافية لنتائج حرب المستعمرات، وكتب أن البرتغال فقدت 8.290 جندي في الحرب، وقارنها مع عدد ضحايا حوادث السير، التي بلغت 9.694 شخص بين سنوات 1990-1994 . لقد شعرت بالاستفزاز من هذه المقارنة . كما لم يذكر المؤلف في أي مكان (من الكتاب) عدد الضحايا الأفارقة، ولم يذكر أيضا أن ما بين 120.000 - 140.000 برتغالي لا يزالوا يعانوا من الآلام والآثار البدنية والنفسية لما بعد الحرب .

سالازار كان ذو شخصية قريبة من التوحد، وكان صارم، ومتحفظ، ولا يملك سكن خاص به . ملكيته الوحيدة بيت ريفي لا يساوي كثيرا . كان مثل الرئيس مازاريك أول رئيس لجيكوسلوفاكيا - سياسي متقشف، ذو موقف بعيد عن مظاهر الفخامة والترف والمنفعة الشخصية . وهو لم يتزوج ولم يكن له أطفال او عشيقات . الشخص الأقرب له كانت المسؤولة عن ادارة شؤون المنزل ماريا دي يسوس، وعلاقة الحب الوحيدة لديه كانت مع الصحفية الفرنسية كريستين غارنييه التي ألفت كتاب "عطلة مع سالازار"، بعد عطلة نهاية أسبوع قضتها معه في بيته الريفي .

وفاة سالازار لم تكن مثيرة أيضا . قبل ظهر يوم 3 آب/أغسطس 1968 استلقى على كرسي الاستلقاء للتشمس، الذي تحطم وسقط على ارضية الشرفة في القلعة التاريخية في المنتجع البحري استوريال، الذي كان مقر إقامته الصيفية . ارتطم رأس سالازار بالأرض، وأصيب بجلطة دموية وبعدها بنزف في الدماغ، وفقد النظر بإحدى عينيه، والشلل في احدى ذراعيه . على إثرها سلّم السلطة إلى أستاذ جامعي وقانوني مخلص له . بعدها بسنتين في 27 تموز/يوليو 1970 توفي سالازار وهو بعمر 81 سنة . وعندما حققت الدولة في تركته وجدوا أن له مبلغ لا يساوي أكثر من قيمة شقة بثلاث غرف في لشبونة في ذلك الوقت .

 قبل 13 عام عرض RTP (راديو وتلفزيون البرتغال) مسلسل وثائقي عن شخصيات البلد التاريخية، حيث صوت المشاهدون وبفارق كبير لصالح سالازار فكان (البرتغالي الأكبر على مر العصور)، وجاء بالمركز العاشر فاسكو دي غاما . هذه النتيجة تفصح عن علاقة غير عادية يكنها البلد للدكتاتور المتوفى .

رغم أن البرتغال هي إحدى البلدان القليلة في أوروبا التي تديرها حكومة اشتراكية ديمقراطية منذ عام 2015، مع ذلك لا يزال ظل سالازار موجود، والبعض يراه أب البرتغال، بينما يرى آخرون أنه كان جلادا، وفي سجن اليوبه، الذي كتب عنه ترانسترومر قصيدته، كان شرطة الأمن PIDE يعدموا او يعذبوا آلاف المعتقلين السياسيين .

عندما زرت المتحف في الخريف الماضي اعجبني المظهر الحديث للمعرض وسألت موظف الاستعلامات عن انطباع جيل الشباب عن المتحف، فأخبرني أن غالبية طلاب المدارس معجبون بالمعروضات، لكن غالبا ما يظهر أحد الطلاب ويقول أن المعرض مزيف، أحدهم قال لي : " سالازار كان رجل جيد "، سألته : " كيف عرفت " أجاب : " هذا ماقالته جدتي " .

هوَس الحنين لسالازار في الفترة الأخيرة أثار جدل ساخن في البرتغال . الذي أشعل فتيل النقاش كان مقترح لتأسيس متحف في كومبا داو مسقط رأس سالازار في وسط البرتغال . الفكرة كانت أن المدرسة التي درس فيها كطفل، أرادت عرض الحاجات الشخصية للدكتاتور، وخوفا من أن يتحول المتحف إلى مكان يحج إليه الفاشيين، وقّع 11.000 برتغالي على نداء طالبوا فيه بوقف المخطط . استمر النقاش ووصل إلى البرلمان حيث شكلت لجنة . أحد الأعضاء من الحزب اليميني PSD دافع عن المشروع :" الذاكرة مهمة، كلاهما الجيدة والسيئة، كليهما ينبغي أن تُتذكر " . كلماته جعلت رئيسة اللجنة، التي تنتمي للحزب الاشتراكي PS، أن تقول بتهكم " عندما كنت مؤخرا في ألمانيا لم اشاهد اي متحف تذكاري للنازية.

الحنين لسالازار استدعى بالمقابل ما كان مكبوتا لدى الكثيرين، ومنها أن موقفه المعادي للتعليم هو السبب في أن البرتغال لا تزال أكثر بلدان غرب أوروبا تهميشا - مع أدنى مستوى للأجور . فسالازار لم يريد ان يكون البرتغالي ذكيا . في احدى المقابلات قال "الكثير من أي شيء، غالبا ما يسبب الفساد" . دولة سالازار الجديدة (3) خلقت جو رمادي منقبض، جعل البلد وكأنه أشبه بموقع امامي لدول أوربا الشرقية في شبه جزيرة ايبريا، فأكثر من نصف مليون برتغالي، ربع السكان تقريبا هربوا من دكتاتوريته . اكثريتهم ذهبوا إلى فرنسا، لهذا تسمى باريس ثاني أكبر مدينة برتغالية .

عندما تركت سجن اليوبه، الذي يسمى حاليا متحف المقاومة والحرية، حجزت سيارة تكسي سائقها مولود بعد ثورة القرنفل عام 1974 . عندما عبرت عن أسفي للتعذيب الذي حدث في السجن حدّق في المرآة الأمامية ونظر إلي قائلا :

لكنهم كانوا شيوعيين !

حين يدافع الذين نشأوا في ظل الديمقراطية عن سالازار، فهذا يشير إلى أن البرتغال هي أيضا أصيبت بحالة الاستقطاب السياسي في الوقت الحاضر، وكل شخص يختار المعلومات التي تناسبه .

 

هنريك برانداو يونسون

صحيفة (داغنس نيهتر) السويدية 27 - 12 - 2020

.....................

( الملاحظات والروابط إضافة من المترجم م.ن. )

1- هنريك برانداو يونسون مراسل الصحيفة في اميركا اللاتينية .

2- توماس ترانسترومر 1931-2015 شاعر سويدي ونفساني ومترجم .

3- الدولة الجديدة أو الجمهورية الثانية هي التي أعلنها سالازار عام 1933 .

https://www.youtube.com/watch?v=-VZRDO4aY-Y لقطات عن بداية (الدولة الثانية) لسالازار وعدد من منجزاته

https://www.youtube.com/watch?v=2k7X_o42nVQ لقطات عن تشييع سالازار وشعبيته

 

قصيدة التانكا

التفاصيل
كتب بواسطة: حسني التهامي

حسني التهامييكتبُ بعضٌ من المبدعينَ في عالمِنا العربيِ قصيدةَ التانكا دونَ درايةٍ بخصائِصِها وجمالياتِها، ولا يكادونَ يعرفونَ عن هذا الفنِ سوى إنهُ نصٌ مُكونٌ من خمسةِ أبيات. لذا حاولتُ البحثَ في مصادرَ عِدةٍ كي أقفَ على ما كُتِب عنْ هذا الفن، وآملُ - من خلالِ هذه الورقةِ - أن أُقدمَ شيئاً ذا نفعٍ وقيمة. لا شك فقد سَلطتْ بعض المنتدياتِ الأدبية المختصةِ في الهايكو الضوءَ على خصائصِه وجمالياتِه من خلال مقالاتٍ وسجالاتٍ ونقاشات نقدية، نتج عنها نصوصٌ اتسمت بالجمال والتفردِ. ولا زالت قصيدة الهايكو العربية ونظائرها من السنريو والتانكا والهايبون إلى مزيد من الأقلام المُبدعةِ التي تهدفُ إلى تأْصيلِ قصيدة الهايكو  وتقديمها إلى الذائقةِ العربية.

تعريف التانكا:

نصُ التانكا أحدُ أشكالِ الواكا waka، وهي أغنيةٌ يابانيةٌ قصيرةٌ، تُعد من أقدمِ الأَنواعِ الشِعْريةِ اليابانيةِ. نشأتْ التانكا في القرْن السابع، وسُرعانَ ما أصبحتْ الشكلَ المُفضلَ في البلاط الإمبراطوري الياباني، حيث تنافسَ النُبلاءُ في كتابتِها، ثمَ انتقلتْ إلى عامةِ الناس وكُتبتْ كنوعٍ من التغزل. كان قِصرُ التانكا ومدى ملاءَمَتِها للتعبير العاطفي عاملينِ مِثاليَينِ لرَواجِها وحب الناس لها.

شكل التانكا:

تتكونُ قصيدةُ التانكا على الأغلبِ من واحدٍ وثلاثين مقطعًا صوتيًا، (5/7/5/7/7)، مكتوبةً تقليديًا في سطر واحد غير متقطع. يُمكن أن يتجاوزَ النص في عدد مقاطعِهِ المتعارفِ عليها على سبيل المثال، (5-7-5-8-7) ؛ وهذا يسمى ji-  amari أو ربما يقل ( 5-7-5-7-6)؛ وهذا ما يسمى ji-tarazu. .هناك نصوصٌ تحتوي على مقاطعَ أقلَ،

( 5-7-5-9-5 و8-4-5-7-7) لكن الشكلَ السائد هو الذي يحتوي على 31 مقطعاً صوتياً.

تُشبه التانكا السوناتا، من حيثُ كونِهما نَصَّيْنِ غِنائيينِ يَخْضعانِ للضوابطِ الموسيقيةِ، كما يهتمان بالمعالجةِ الموضوعِية من خلالِ الصورةِ الشعريةِ التي تعمق النص وتثري المعاني. أيضا كالسوناتة، تَسْتخدمُ التانكا ما يُعرف بالصورةِ المحوريةِ التي تعني بالانْتقالَ من عرضِ المشهد أو الحدث إلى الالتفاتِ لذاتِ الشاعرِ. في السوناتا يكونُ هناكَ مزيجٌ من التناغمِ الصوتي بين الأربعةَ عشرَ بيتاً. تلك الأبيات مؤلفة "من تشْكيلٍ ثُماني وسُداسي، ولهذا التقسيمِ بُعدٌ نَغَميٌ مميّزٌ فضلا عن كونِه يُكسِبُ القصيدةَ تناسقا و تجانساً بين الأصوات التي تتردّدُ في ثنايا البيْتِ الشِعري الواحد."(*) في الثمانيةِ مقاطع الأولى دفقاتٌ شُعوريةٌ عاليةٌ تتسمُ بالتوترِ، بينما تخفتُ حِدةُ هذا التَوترِ وتقلُ الشُحنةُ الشُعوريةُ في المقاطعِ الستةِ الأخيرةِ، في التانكا يقعُ هذا المنعطفُ في السطرِ الثالثِ، الذي يرْبطُ بين الثلاثة أبيات الأولى  (kami-no-ku)و البيتين الأخيرين ( shimo-no-ku)

في بعضِ الأحيانِ يتمُ فصلُ "الأبياتِ الثلاثةِ الأولى التي غالبا ما تأخذ شكل الهايكو عن البيْتينِ الأخيرين. يُشيرُ الدورانُ من الأعلى إلى الأسفل إلى حُدوث تحولٍ أو توسُعٍ في فكرةِ النصِ، وهذا أيضاً ما يُقاربُ التانكا مع السوناتة. يُعدُ هذا الفصلُ  استراحة تأملية وتَحَولاً في السَرْدِ والحالةِ المزاجيةِ.

التانكا والهايكو:

تشْتَملُ التانكا على قواعدَ أقلَ من الهايكو، في الجدول التالي أدرج أوجه التمايز بينهما في الشكل والموضوع:

الهايكو: يتكون من بيت واحد مكون من سبعة عشر مقطعا موزعة على ثلاث شطرات

التانكا: تشتمل التانكا على بيت واحد مؤلف من إحدى وثلاثين مقطعا صوتيا على خمسة أسطر على الأغلب

الهايكو: تتوَفرُ خاصيتا الكيغو (الموسمية) والتنحي (الموضوعية)

التانكا: يكونُ النصُ أكثرَ انفتاحًا؛ هُناك َفسحةٌ للتعبير عن ذاتية الشاعر

الهايكو: يبتعد الهايكو عن اللغة المجازية، لأنها تذهب بالبساطة التي هو جوهر الهايكو

التانكا: يُسمحُ للشاعرِ استخدامُ المَجازِ الصَرِيحِ      

الهايكو: يتجنبُ الهايكو التعبيرَ عن المشاعرِ والأحاسيسِ المُباشرةِ، أو يُخفيها عبرَ صُورٍ حِسيةٍ ملموسةٍ من الطبيعة (الهايكو الكلاسيكي) أو من تفاصيل الحياة اليومية والواقع (الهايكو الحداثي) ويبتعدُ عن الخيالِ الشعريِ الذي يحتوي على الاستعارةِ والتشبيه

التانكا: تنشأُ المشاعرُ التي تتنامى في نصِ التانكا من الذاتِ الشاعرةِ و من العلاقاتِ الإنسانيةِ بكل تشابكاتِها وتعقيداتِها مع الآخرِ، أو مع الأشياءِ التي تُحيطُ بهذهِ الذَاتِ وتتفاعلُ معه   

موضوعات التانكا:

كانتْ التانكا قديماً تتناولُ عددًا محدودًا من الموضوعاتِ، كالحُبِ والتِرْحَالِ والمَوتِ، بينما تعالجُ التانكا المُعاصرة مجموعةً واسعةً من الموضوعاتِ كالقضايا الذاتيةِ والاجتماعيةِ، إلى جانبِ النماذج القديمة.

(أ) الأنا الذاتية:

في التانكا المعاصرة غالباً ما تكونُ "الأنا"ً هي الموضوع الخفي؛ تتخللُ حياةُ الشاعرِ الخاصةُ ُثنايا النص. يعودُ تاريخُ "الأنا" إلى مدرسةِ أراراجي، حتى فترة التسعينياتِ من القرن التاسعِ عشر، وهي الفترةُ التي بُذلت فيها جهودٌ كبيرةٌ لـ"تحديث" الشعر الياباني. في الخمسيناتِ، خلالَ ذُروةِ حركةِ ما يُسمى طليعةُ التانكا،كانت "الأنا" دارجةً،حيثُ تغنى بعضُ الشعراءِ "بالذاتِ" في آفاقٍ شعريةٍ جديدة. في ذاتِ الوقتِ ابتعدَ شعراءٌ آخرونَ عن تناول الذات أو الحياة الخاصة، وكان شعرهم انعكاسا للقضايا الاجتماعية السائدة. على الرَغْمِ من ذلك،ظلتِ "الأنا" بلا شك الموضوعَ الأهمَ في التانكا:

كل ّواحدٍ منا

حافظةُ أسًى

رأسي يتدلى، وعقلي

هائمٌ في قطار اللّيل

(هيروهيكو أوكانو 1924)

(ب) أحداث الواقع:

في النص التالي يُصورُ الشاعرُ حدثاً من الواقعِ الحياتيِ الذي يُصادفهُ ويُثير في داخلِه مشاعرَ الحزن والأسى:

حادثٌ مدوٍ

يتبَعُه صمتٌ مطْبقٌ

قبلَ عويلِ صافراتِ الإنذار

يُرجِّعون أغنيتَهم المُفْجعةَ

فيما يَشْرئِبُ الموت.

ليس مُسْتغْرباً أن تجدَ الموتَ موضوعاً أساسياً في كثير من النُصوصِ، فقضيةُ الموت تقليديةٌ حتى في الأشكالِ الشعريةِ الأُخرى، لكنها شائعةٌ في التانكا، لارتباطِها الوثيقِ بالمشاعرِ والمواقفِ الإنسانيةِ والاجتماعية في الأساس. في النصِ أعلاهُ يُخيمُ الموتُ بأوجاعِه، وينْشرُ الذُهولَ والصمتَ المُطبَق على الوُجوه.

(ب) الطبيعةُ والموسميةُ:

أسْودُ كالليلِ، فوجي-

الجبالُ ترتفع عند البزوغ

حالما تظهرُ الشمسُ

يعودُ السلام بعد العاصفةِ

الجميعُ متأهبون لليوم الجديد

في هذا النص لـ"نيل لاورينس" تظهرُ المَوْسميةُ الخافتةُ غيرُ المباشرةِ في عبارة "بعد العاصفة" التي ترمزُ لفصلِ الشتاء. يتأهب الناس وينشطونَ عند جبلِ فوجي، وهو أعلى قمةٍ في اليابانِ بعد بزوغِ الشمسِ وهدوءِ العواصفِ في الليل. نلحظ هنا أن مشهديةُ النصِ وتوفر الكيغو، الكلمةُ الفصليةُ جعلا النصَ أقربَ إلى الهايكو، لكن تفاصيلَ المشهدِ بشكلِه المُمتدِ في خمسةِ أبياتٍ إلى جانبِ تحولِ الشاعرِ من رسمِ صورةِ الطبيعيةِ في الثلاثة أسطر الأولى إلى التفاصيل الإنسانية جعل منه نص تانكا خالصاً.

نوردُ نصاً آخر يتخذُ من الطبيعةِ موضوعاً حياً يُصورُ من خلالهِ تغيرَ الفصول :

ورقةُ الخريفِ

تركت الغُصنَ

في تنهدٍ هامسٍ

وهبطتْ مُذعِنةً،

لتلقى حتفها.

(ج) الحُبُ والعاطفة:

كما هو الحالُ في أشكالِ الشعرِ العربيِ التي تَكْتظُ بمشاعرِ الحُزْنِ والعاطفةِ، نجدُ نصَ التانكا اليابانيَ يُعالجُ مِثْلَ هذه الأحاسيسِ والمَشاعرِ المُرتبطةِ بالذاتِ الإنسانية، لذا نجدُ الكثيرَ من النماذجِ الشعرية اليابانيةِ التي تُعبرُ عنْ لوْعةَ الشَوْقِ ومرارةِ الهجرِ. هُناكَ أيضاً العديدُ من النصوصِ التي صورتْ لحظاتٍ خاصةً من الإِلْهامِ أو الشعورِ المُفعم بالنشوةِ أو الغُموض. واستُخدمتِ التانكا قديماً كنْوعٍ من الصلواتِ أو "الحديثِ مع الآلهة". إذا افترضْنَا أنَ الشعرَ فيما مضى جاءَ على شكلِ أغانٍ أو صلواتٍ إلى الآلهةِ، كذلك كان حال التانكا، لكنها تَحولتِ بعد ذلك إلى مخاطبةِ الحُكامِ كدليلٍ على الوفاءِ والإخلاصِ لَهُم، ثم أخيرا تناقلهَا العُشاق.

هناك نصانِ يُصورانِ موضوعَ الحُبِ وما يتبَعهُ من مشاعر:

وددتُ لو كنتُ لصيقاً بك كما تلتصقُ التنورةُ المبتلةُ بجسدِ الفتاةِ التي تجمعُ المِلح فأنا لا أكفُ عن التفكيرِ فيك. آكاهيتو

...

لن أُسَرِّحَ شَعْري هذا الصباح فقد أتخذُ من يدِ حبيبتي وسادةً له طوالَ الليل.(**) هيتومارو

تفضلُ "جين روشهولد" التانكا التي تُعبرُ عن أعمقِ المشاعرِ حين تقول " بغضِ النظرِ عن ماهيتِها. لأنَهُ من خلالِ قصائدكَ،يُمكنُ للناسِ رؤيةُ رُوحِكَ. تسمحُ التانكا لأعماقِ شخصِكَ الداخلي بالتَألُق"

لحظةُ التانكا:

إذا كانَ المشهدُ آنيا في الهايكو عبرَ التقاطةٍ عابرةٍ، على الأغلبِ في زمنِ المضارعِ، فإن التانكا تتحررُ من هذه الخاصيةِ، حيثُ يمكنُها تناولَ لحظةٍ ماضيةٍ أو مستقبليةٍ، وهذا ما يحدثُ نادراً في الهايكو، أحياناً نجدُ بعضَ نصوصِ الهايكو مُشْتملةً على زمنِ الماضي أو المستقبلِ، لكن بنظرةِ تأمليةٍ نجدُ أن السياقَ العامَ للقصيدةِ يكونُ في الزمنِ المُضارعِ. في التانكا يُمكنُ للشاعر أن يتناولَ الثلاثةَ أزمنةٍ، ربما يستطيعُ الجمعَ بينَهم في نصٍ واحدٍ، طالما أن هناكَ نقلاتٍ شعوريةً بين الثلاثةِ أسطرِ الأولى وبينَ السطرينِ الأخيرين. يمكن للشاعرِ كتابةُ كلٍ من الهايكو والتانكا حَوْلَ الذكرياتِ (عندما تفكر في ذلك ، فكلُ حدثٍ يتمُ وصفُه في الهايكو هو ذاكرةٌ لمشهدٍ ما، نظرًا لأن لحظةَ حدوثِه في الماضي)، لكن عادةً ما يستعرضُ الهايكو حَدثًا تَمَ بالفِعْلِ،كما لو أنهُ يَحْدُثُ الآن. في واحدةٍ من أهمِ المقالاتِ المتعلقةِ بالهايكو لـشينشو أستاذِ الأدبِ اليابانيِ بجامعة كولومبيا، هارو شيران بعنوان: ما بعد لحظة الهايكو (باشو ، بوسون وأساطير الهايكو الحديث) يقولُ:

طريقة كتابة التانكا:

لكتابةِ التانكا طريقةٌ أعجبتني كثيراً وهي التي انتهجَها اليابانيون. من خلالها يُمكنُ للشاعرِ كتابةُ الثلاثةَ أسطرٍ الأولى على نمطِ قصيدةِ الهايكو التي تَتناولُ مشهداً من الطبيعةِ، ثم يُختتمُ النصُ بسطرينِ إضافيينِ يتناولان تجربةً إنسانيةً بشكلٍ مجازيٍ أو رمزي . لا يُعدُ الهايكو الافتتاحي أو استخدامُ خطٍ محوريٍ أمرًا ضروريًا في التانكا بشكل عام. على الرغمِ من أن هذا الشكلَ غيرُ إلزاميٍ، إلا أنه يحمل جمالا وفنية عالية.

سحابةٌ ثلجيةٌ قصيرةٌ

عندما تضربُ الفأسُ شجرةَ البلوط

ضربةً مُذهلةً

بعدَ تشخيصِه

لا يمكنني سماعَ صوتِ الطبيب

تتوفرُ في الأسطرِ الثلاثةِ الأولى خصائص الهايكو الكلاسيكي الذي يَصفُ الطبيعةَ، لا نكاد نرى ملْمَحاً إنسانياً إلا في السطرينِ الأخيرين. تعتبر العبارة المحورية "ضربة مذهلة" رابطاً بينَ النصَّيْنِ، حيث لها وقعٌ على كلٍ من شجرةِ البلوطِ وعلى الشاعرِ المريضِ ، حين سمعَ تشخيصَ الطبيبِ لحالتهِ، لم يعدْ يسمعُ صوتَهُ.

من مختاراتِ الإمبراطورية اليابانية The Kokinshu ،التي نُشرت عام 905 بعد الميلاد ،كتبَ هذا النصَ شاعرٌ غيرُ مَعْروفٍ، مما يدل على أنه يحمل العبق النسائي:

لو أن هناك بذرة

سوف ينبت الصنوبر

حتى بين الصخور

 

لو أني عشقتُ ولا أزالُ

ألا نلتقي يوما ما؟

هذا المثال يبينُ الطريقةَ التي انْتهجَها اليابانيون في تناولِهم للطبيعةِ في التانكا. ابتدأتْ الشاعرةُ كلا المَشْهدينِ بنفسِ الكلمةِ "لو" لتُحدثَ نوعاً من التناغمِ الموسيقي. استخدمتْ عبارةَ "بينَ الصخور" التي تَصِفُ طبيعةَ الأرضِ التي تَسْقطُ عليها البذورُ وتنمو عليها، في ذاتِ الوقتِ تُوحي كلمةُ "الحجارة" بمدى وعورةِ طريقِ العُشاق والآلامِ التي يلاقونَها، كي ينالوا لذةَ الوِصالِ ونعيمَ اللقاء. يُطْلَقُ على مثلِ هذهِ العبارةِ "المحور "، لأنها تُمثِلُ نقطةَ تحولٍ في النصِ من مَوْضوعٍ لآخرَ.

اعتمدَ هذا النمطَ الياباني التقليديَ الكثيرُ من الشعراء في العالم، أحدُهم جيرارد جون كونفورتي،من مدينة نيويورك، مضى على هذا النسق في ديوانهِ "الآن بعد أن ينتهي الليل" (1996)ِ:

هذه الليلةُ الشتويةُ الباردةُ

يتشبثُ الثلجُ بأغصانِ الشجرةِ

في ضوءِ القمرِ الشاحبِ

قبلاتُ شفاهِك الناعمةِ

تشعلُ قلبي المُوجَع

تنتقلُ قصيدةُ كونفورتي من أغصانِ الأشجارِ المُغطاةِ بالثلوجِ إلى التعبيرِ عن المشاعرِ المُباشرةِ عبرَ تصويرِ القُبلات.

وغالباً ما يُحاك هذا التغييرُ والانتقالُ بدقةٍ وفنيةٍ عاليةٍ على حسبِ قدرةِ الشاعرِ وبراعتهِ. في بعضِ الأحيانِ يكونُ المِحْورُ، إذا تحققَ ، مخفيًا بحنكةٍ وذكاء، كما في نص السيدة ايسي، في القرن العاشر :

كما لو جسدي

هذهِ الحقولُ التي أحرقَها الشتاءُ

رغمَ احتراقي

يمكنُني أن أصبوَّ

إلى ربيعٍ قادم

هنا يحترقُ كلُ من جسدِ الشاعرةِ وحقولِ الشتاء، لكنَ ليست تلك مشكلتها الحقيقية. إنها تشعرُ بالأسفِ لفقدانِ الأملِ في الربيعِ / الحبِ / الثمارِ والحياةِ، وهو أمرٌ كئيبٌ للغايةِ عندما ترى الحريقَ يَطالُ الحقولَ التي أحبتها. هُنا نستشفُ "المحورُ" في انتقالِ الحريقِ من الحقولِ إلى الجَسَدِ.

على الرغمِ من أن كثيراً من المبدعينَ، عند كتابةِ التانكا، يَنْسونَ هذه التقنيةَ أو يتجاهلُونَها، إلا أنها تُعد جانبًا مهمًا للغاية، لأنها الطريقةُ التي تملأُ النصَ ثراء وتنوعا، إذْ يتوسعُ الشاعرُ من خلالِ تِقْنيةِ "المحور" في المعاني والصورِ والرَبْطِ بينها. في النصِ أعلاهُ كان الربْطُ والتماهي بين حالةِ الحُقولِ وجَسَدِ المَرْأةِ مُذْهلاً ومتناسقاً، لا يُمكنُ للقارئِ عند قراءتِه أن يُهملَ أو يَتجاهَلَ تلكَ المشاعرَ المُنبثقةَ منْ هذهِ العلاقةِ.

نماذج من شعر التانكا:

(1)

تاكوبوكو إيشيكاوا

ولد تاكوبوكو إيشيكاوا عام 882، في محافظة أيوات في اليابان. تركَ الحياةَ الدراسيةَ في السادسةَ عشرَ من عمره، وبدأ كتابةَ الشعرِ، وُصفَ بأنه سيدُ التانكا. نشرَ مَجْموعتَه الشعرية الأولى في التاسعةَ عشر. انتقلَ إلى طوكيو في عام 1908 ليُصبحَ جزءًا من المشهدِ الأدبيِ الصَاخبِ. تُوفي تاكوبو إيشيكاوا في رَيعانِ شبابِه في الثلاثينَ من عمرِه، مريضاً بالسُل.

ماءُ الدلو

انسكبَ ،

قطرةً قطرةً

يتقاطرُ الندى مثلَ اللؤلؤِ

من زهورِ الخريف

(2)

تادا شيماكو

وُلدتْ تادا شيماكو عام 1930في فوكوكا باليابان. قضتْ مُعْظمَ طفولتِها في طوكيو، في خِضمِ الحربِ العالميةِ الثانية. تخرجتْ من جامعةِ طوكيو النسائيةِ المسيحية، حيثُ درستِ الأدبَ الفرنسي، ثم انتقلتْ إلى جامعةِ كيو لتُواصلَ دراسةَ الأدب. نالَ شعرُها استحسانَ كثيرٍ من النقادِ، بما في ذلك الهايكو والتانكا:

الماءُ الساخنُ

في غلايةٍ مهْجورةٍ

يبردُ ببطء

لا يزالُ يحملُ استياء

الماءِ البارد.

***

هناك نص آخر للشاعرة كيلي روبار:

قَبلَني حبيبي ،

ارتعشتْ رُوحي بنشوةٍ

عندما تقابلتْ شفتانا بلُطْفٍ كما الفراشاتُ

وهي تهبطُ

على أزهارِ الربيع.

...

كان العديدُ ممن برزَ في كتابةِ شعر التانكا نساءً، من بينِهنَّ السيدة أكازون إيمون ويوسانو أكيكو والسيدة موراساكي شيكيبو، هن من كتبن "حكاية جينجي"، وهي عبارة عن نثْرٍ ياباني يضمُ أكثرَ من 400 تانكا. لم ينتقلْ كُتابُ اللغة الإنجليزية إلى شكل التانكا بالطريقة ذاتِها -والتي أشرنا إليها- ، لكن هناك العديد من الاستثناءات البارزة، بما في ذلك إيمي لويل وكينيث ريكسروث وسام ساميل وسيد كورمان وكارولين كيسر.

 

حسني التهامي

.....................

المراجع العربية:

(*) قصيدة السّوناتا بين الأنا البودليريّة والذّات الدرويشيّة ـ عبد العزيز صالحي

(**) اقتراب «التانكا» اليابانية من جوهر الشعر وصفائه / عبدالوهاب أبو زيد

المراجع الأجنبية:

(1)https://poets.org/glossary/tanka

(2) Michael Dylan Welch , Tanka and the Five W's,by, Yellow Moon 15 Winter 2004.

(3)https://tankainenglish.com/essays-articles/

Amelia Fielden (Australia), Denis M. Garrison (USA), and Robert D. Wilson (The Philippines), DEFINITION OF THE IDEAL FORM OF TRADITIONAL TANKA WRITTEN IN ENGLISH By

(4)TANKA ARTICLE PUBLISHED IN FEELINGS - A JOURNAL OF POETIC THOUGHT AND VERSE

JANE REICHHOLD

 

 

جنائز الحرب الأخيرة.. إشراقة واعدة

التفاصيل
كتب بواسطة: ثامر الحاج امين

ثامر الحاج امينجميل ٌ ان تولد تجربة شعرية شابة تؤمن بالسلم وتتبنى قيم الجمال والعدالة والتحرر، وسط عالم تسوده الفوضى والعنف وتزيّن دروبه دعوات الانحراف والتطرف، فما قرأته في (جنائز الحرب الأخيرة) ــ المجموعة الشعرية البكر للشاب اسلام كاظم ــ عالم مضيء يدعو الى الفخر والتفاؤل، فهذه التجربة رغم وعورة طريقها الا انها اهتدت الى طريق الشعر ببوصلة سليمة، فهي ولدت من رحم انتفاضة تشرين الخالدة وتلونت بسخام قذائفها واكتوت بهراوات عسعسها ومع كل ماشهدته هذه الشعرية الفتية من قمع واختطاف الا انها ظلت مشرقة بالأمل، عصية على الخذلان وبعيدة عن القبح، حالمة في ارض (لاتنزف دما ومقاتلين) ومؤمنة بقدرة الانسان العراقي على تحقيق هذا الحلم متخذة من صمود امهات الشهداء أملا في التغيير المنشود:

كلما تمتليء ساحة التحرير

بالغاز المسيل للدموع

وحدهن أمهات الشهداء

يقفن كالنخيل بلا أية دموع

لأن فقد الأبناء

يكسبهن مناعة ضد هذا الغاز

بهذه الروح الثائرة والمؤمنة بقيم الثورة يلج بنا " اسلام كاظم " الى عالمه المثخن بجراح المتظاهرين وغازات القنابل وصراخ الثوار وخسة العسعس وشجاعة المرأة وخراطيش الصجم المنطلقة من بنادق القتلة صوب طيور التحرير التي لم تكن احلامها سوى التحليق في سماء آمنة والغناء بحرية على اشجار الوطن الوارفة لهذا يدعو الثوارفي قصائده الى السلمية والوفاء لدم الشهداء:

كن أمينا للدم الذي يسيل عليك

احفظ اسماء الشهداء عن ظهر قلب

واطلق رائحة الحب في الدم

فالعراق يجري في العروق والحبيبات ايضا

قصائد المجموعة رغم عالمها المتشح بالسواد والحزن نتيجة الخطوب والملمات التي أصابت العراق اذ انها تستحضر الموت ورموزه من حروب وجثث ومقابر و جنائز وقرابين وتوابيت ورصاص ومشانق وشهداء والتي استحوذت على مساحات واسعة من المجموعة بدءاً من عنوانها (جنائز ....) مرورا بالاهداء (أقف هادئا انظر الموت) وصولا الى نصوصها الداخلية التي تظهر وكأنها قادمة من الجحيم لكنها ضمت اشارات واشراقات تبعث على الأمل بنهاية هذه اللوحة المعتمة، ففي قصيدة (سيناريو لقيامة شهيد) يطرح الشاعرايمانه اليقين بحتمية انتصار الثورة وبقاء جذوتها متقدة لن تنطفيء وان تعثرت ولاقت من البعض الخذلان والتراجع فالطغاة مصيرهم الزوال:

ربما يربحون المعركة

وتضيق القبور بشهداء الثورة

لكن يوم ينفخ في الصور

لقيامة أخرى

لن يجد الطغاة وقطعانهم

إلهاً ليستنجدوا به

كما ويحذر فقراء الوطن من الغفلة والاطمئنان الى سلطة القتلة:

لاتنامي ياجياع الشعب

الآلهة التي تحرسك

تطهو مستقبلاً أسودا

كما ان قصائد المجموعة وان بدت واضحة الخطاب الا انها تحاشت المباشرة الفجة في الطرح، فقد انطوت على توليفات ذكية وبراعة في تكثيف الصورة الشعرية بقدر كبير تجاوز فيها الشاعر مستوى الخطاب البسيط فهو يكشف عن جمال الحياة في ظل السلام والحب وجمال الانسان عندما ينبذ العنف ويتسلح بالأمل:

التوابيت ستعود أشجارا جميلة

اذا ما ألقينا كل البنادق في البحر !

وكذلك في تقديم النصح لمن ابتلى بالحزن فهو يهمس له بلسان العارف الكبير .

سأقترح للحزن حلا ً

خذ قلبك للنجار

وصيره بابا

يصد كل قادم جديد

وكذلك استخدام الشاعر المفارقة السوداء حيث يشير في قصيدة (رصاص الصكاكة) الى الغدر فيصفه على انه موغل في القدم وان تبدلت الأدوات حيث صارت الآن أكثر راحة وأمان:

الصكاكة) الأوائل استعملوا السيف    (

الرصاص مريح الآن

لا تضطر لتلطيخ ملابسك بالدم

الدم العراقي حار

يتدفق منذ ان تدفق دجلة والفرت

وثمة قصائد غير قليلة في المجموعة ينحوا فيها الشاعرالخوض في المناطق المحظورة، قد يجد فيها الكثير من الشعراء مغامرة لا تخلوا من عواقب في ظل وجود التابوات المتعددة، مغامرة تحتاج الى شجاعة وجرأة في اثارة الأسئلة حول الموروث الديني، وقد يرى البعض هذه المحاولة انها مبكرة على تجربة ماتزال في مرحلة التجريب، فالشاعر في هذه النصوص يطرح جملة من التساؤلات تتعلق بوجود الكون وحيرة الانسان فيه، نقرأ ذلك في قصائد (من سفر الخليقة) (حوار مع سلحفاة محتضرة) (خطة لكون فاشل) (حجر البدايات) ومنها مايتعلق بوجود الانسان على البسيطة في كونه مسيرا أم مخيرا:

تولد عاريا من كل شيء

أنت جاهز لتركبك الأفكار والمسميات

الى ان تعرى من جديد

من سوق الأديان الكبير

ينتقي لك والداك ماكان عليه اجدادك

لتعتنق اليهودية، المسيحية أو الاسلام

أو ربما تكون هندوسيا يعيش في الهند

فالجغرافية هي التي تُلبسك درقة السلحفاة

وكذلك في نظرته لنشأة الخليقة على الأرض التي يتخيلها وفق رؤيته البريئة في قصيدة (من سفر الخليقة):

قد استمع لبعض الأغنيات

عن الأرض التي تشكلت قبل 4 مليار عام

وأين التقت أولى الخلايا بحبيبها الفريد

لم أكن مخطئا في اعتقادي البريء

القبلة هي أولى الوسائل لارتقاء الحب وانتشاره

حيث لا قضيب ولا فروج طازجة بعد

(جنائز الحرب الأخيرة) تجربة تستحق الالتفات اليها وقراءتها بتمعن ووعي وشاعرها " اسلام كاظم " ينطلق فيها الى فضاء الشعر بثقة كبيرة ويحاول ان ينسج خيمته الخاصة وسط مضارب الشعراء الشباب وهو قادر على ذلك لما يمتلكه من مقومات شعرية جديرة بالتطور يضاف الى ذلك مثابرته واصراره على ان يقدم شيئا مختلفا ينال به ثقة الشعر .

 

ثامر الحاج امين

 

قراءة في رواية (هروب وردة) من الظلم الاجتماعي

التفاصيل
كتب بواسطة: جمعة عبد الله

جمعة عبد اللهيظهر الروائي المبدع (ضياء الخالدي) مهاراته وتقنياته التكنيكية في فن الحبكة الفنية الحديثة، ويسلط الضوء الكاشف على احلك فترة مدمرة في حياة العراق السياسي (وقائع صيف 1995) أي بعد كارثة حرب الكويت مباشرة، وانهزام الجيش العراقي بالانهزام الشنيع، وتبعياته المهلكة في فرض الحصار الاقتصادي الدولي وفقر البلاد الى حد الشحة والكفاف، والغوص في المستقبل المجهول في الحياة الصعبة والمضنية، وبهبوط قيمة الدينار العراقي الى الحضيض، حتى أصبح لا يساوي قيمة ثمن طباعته . واصبح المورد المعيشي يعتمد على البطاقة التموينية (النفط مقابل الغذاء) وكذلك يتطرق النص الروائي الى مسألة ارهاب السلطة والتقاليد الاجتماعية والعشائرية، الصارمة والقاسية والظالمة موجهة ضد المرأة في انتهاك حريتها واختياراتها حتى في مسألة تقرير مصيرها، ضمن هذه الاجواء الملبدة بالغيوم، تنعكس سلباً بالخيبة والاحباط حتى في مسألة الحب والزواج . يأخذنا المتن الروائي بالدهشة التي تخنق الانفاس في ملاحقة الاحداث الدرامية والدراماتيكية المتواصلة والمتسارعة نحو ذروة الاختناق . وكذلك يدخلنا النص الروائي في مسألة الصدفة والصدف، التي ترمي طوق النجاة، في تمزيق طوق الحصار . لذلك اعتبر السرد الروائي هو البراعة الاحترافية المدهشة في تناول الصدف المتلاحقة، فهي رواية الصدف الايجابية . وبالحيلة والابتكار والخلق في اساليب المتن السردي، التي تحمل المشروعية والمعقولية في خضم توارد الصدف . كأنها حالة انقاذ من الوقوع في الفخ . والبراعة المتمكنة للمؤلف بأنه بدأ بالحدث السردي من النهاية الى البداية من (سدني / أستراليا عام 2007 الى بغداد صيف عام 1995) . وهذا الاسلوب الروائي صعب في قيادة دفة الاحداث السردية، لان القارئ يفهم خاتمة المطاف من الحدث المتن السردي. لكن التقنية والحيل الروائية (والكاتب ملهم في هذه الخاصية الروائية) نجده بأن يجعل الخاتمة كتنفيس ورحمة للقارئ الذي ينشد بقوة وبتأزم الاحداث الى الذروة وتشده اكثر في تعاطي أسلوب المطاردة البوليسية، في المطاردات والملاحقات في خيوط النص الروائي، التي تلعب فيه شخصيتان، وهما (بسام علوان) و (وردة الشطب)، التي هربت من زوجها، ووقعت في مطاردة الشرطة والامن للامساك بها . ونجاتها من هذه المطاردات، كالناجي من فم الذئب .

يبدأ الحدث السردي من هزيمة الجيش العراقي وانسحابه من الكويت بالفوضى العارمة والانفلات غير المنظم، حتى شاهد (بسام علوان) الشاحنة العسكرية وهي تدهس الجندي (أسماعيل) وتسحله على اسفلت الشارع ملطخاً بالدماء، دون ان ينتبه سائق الشاحنة الى ذلك، مما علق في ذهنه هذا المشهد، في توارده في كوابيس الاحلام التي لاتفارق ذهنه، وهذا الكابوس يذكي الفاجعة الاليمة بفقدان شقيقه الاكبر (عبدالعليم) في الحرب العبثية العراقية الايرانية . وكان آنذاك لم يتجاوز عمره (14) عاماً، وبعدها دخل شقيقه الاخر (يحيى علوان) في سلك الشرطة كضابط أمن، وتخلص من ارساله الى جبهات القتال . بينما (بسام علوان) بعدما انهى خدمته العسكرية، اختار ان يكون بائع الكتب القديمة على ارصفة (ساحة الميدان / سوق هرج) وارتضى ان يكون بائع في بسطية على الرصيف رغم شحة المورد المالي، ولكن يأتي الكسب المالي الاكثر من الكتب الممنوعة، وهوايته بالكتب رفض ان مساعدة شقيقه ضابط الامن، ان يجد له فرصة عمل أخرى، وانه تعمق في صداقات حميمية مع اصحاب البسطيات على الرصيف . وتعود ان يزور ليلاً صديقه الحارس الليلي لمركز الطلبة والشباب، وفي اثناء تجوله انقطعت الكهرباء واصبح الشارع موحش ومظلم، وشاهد من بعيد بعض الرجال المدنيين يسحبون بعنف وقوة ثلاثة نساء، تصور بأنهم يرومون اغتصابهن، فأرتفعت الشعور الانساني بالحمية وخطف أحدى النساء من ايديهم، وهرب معها ولاحقته رصاصتين، لكنه نجى منها . واخذها الى شقة اصدقائه وهي ترتجف من الخوف . وعرف بأنها بائعة الهوى بالمتعة الجنسية، وان الرجال هم رجال الامن داهموا بيت البغاء والدعارة، وحكت قصتها المأساوية الى (بسام) واصدقائه، بأنها هربت من زوجها وهو أبن عمها (فياض) لانها ارغمت عنوة من اهلها واهله على الزواج، وكانت تصر على اكمال دراستها حتى الحصول على الشهادة الجامعية . ولكنها لم تفلح بذلك، ورضخت بترك الدراسة والقبول بالزواج من أبن عمها (فياض) ومنذ الليلة الاولى كانت تنوح في داخلها بحزن وألم . كأنها فقدت من حياتها شيئاً ثميناً وعزيزاً سلب منها . حاولت بكل الطرق على عدم الانجاب، في ظل معاملة زوجها الوحشية واسلوبه الخشن بضربها وأهانتها . حتى احدى المرات حرق ظهرها بملعقة الطعام، حتى فاحت رائحة الشواء من جسمها . وبذلك فكرت بالهروب حتى على موتها . حتى لاتكون رخيصة ومهانة بالاذلال في حياتها الزوجية (- أنا جبانة، وهروبي من عائلتي ليس شجاعة، بل كان يأساً من حياة لا يمكنني الاستمرار فيها، حتى وصلت الامور الى كي ظهري بملعقة الطعام، أتريدون رؤية آثار الحرق ؟!) ص51 . فتعاطف (بسام) واصدقائه مع قضيتها المأساوية وقبلوا في أيوائها حتى تدبر الحل بنفسها، ولكن من تطور الاحداث المتسارعة، وحدس شقيق (بسام علون) الضابط الامني (يحيى علوان) بأن شقيقه ربما متورط في قضية تهريب (وردة) من قبضة الشرطة ونجاته من اطلاق الرصاص عليه، لذلك بدأ تحريات في متابعة وملاحقة شقيقه من بعد حتى يمسك برهان التورط . وخاصة ان الزوجة الهاربة من عائلة غنية ومتمكنة، وزوجها (فياض) وعد رجال الشرطة بمكافئة مالية كبيرة، اذا افلحوا في القبض عليها وتسليمها اليه . حتى يفرغ الرصاصات في جسدها، لانها جلبت العار الى اهله وعشيرته، ولا يتم غسل العار إلا بقتلها . وساندته عشيرته بقتلها ودفع المال الى الشرطة حتى يطلق سراحه . لذلك كان اهتمام الشرطة في المتابعة القضية، هي من أجل الحصول على المال ليس غير، وتعهدوا الى زوجها بأيجادها حتى لو طارت الى السماء . ومن هذا المنطلق كان اهتمام ضابط الشرطة بالقضية ومتابعة شقيقه في اسلوب بوليسي ليسرع في القبض على الزوجة الهاربة للحصول على المال الموعود . لذلك استدرج اصدقاء شقيقه وهددهم بالعواقب الوخيمة، في اخفاء الزوجة الهاربة، بمثابة عمل عدواني تجاه الثورة والحزب، وتصل العقوبة الى المؤبد أو الاعدام، وتحت لغة التهديد العنيفة والخوف من العواقب، اعترفوا بأن (وردة) موجودة في شقتهم، وانهم ابرياء من ورطة التهريب في اخفائها، ولكن حين وصلوا الى شقتهم مع ضابط الامن، كان (بسام علوان) نقل (وردة) الى مكان آخر، الى سكن المرأة العجوز (حورية) الفنانة والرسامة، واستقبلتها بفرح . وكانت هذه المرأة العجوز رفضت الهجرة خارج العراق، رغم ألحاح ابنائها الثلاثة الذين هاجروا الى اوربا، ويرسلون مساعدات المالية الى أمهم . وبعد علم (بسام علوان) بأعترافات اصدقائه الى شقيقه الضابط الامني، لم يتحمل الصدمة ووقع مغشياً عليه فاقد الوعي . ونقل الى المستشفى وبعد أيام من شفائه . صارحه شقيقه الضابط بلطف وحنان، بأن يتخلص من الورطة العويصة قد تضيع مستقبله، بتسليم الزوجة الهاربة، حتى يستطيع ان يغلق القضية (المرأة التي تهرب من زوجها واهلها تستحق العقوبة، فليس كل أمرأة تعاني من المشاكل الزوجية يحق لها الفرار، وان تتحول الى عاهر،وإلا اصبحت كل النساء فاسقات، فتنهار القيم والعادات) لاشك أن (بسام علوان) يملك مشاعر الحب والشفقة تجاه (وردة) ووصلت عاطفته الروحية الى مشارف الحب، ليس لانها بريئة ومظلومة من زوجها واهلها وعشيرتها، وانما الانفعال العاطفي يصعد في سخونته كلما التقى بها (في أعماق بسام ميول لوردة تقترب من تخوم ما يسميه الناس عشقاً، فثمة ارتياح كلما طالع وجهها وسمع نبرات صوتها المميزة ببحة، أحاسيس يختلط فيها العطف بحلاوة سرية، بيد أنه لا يبوح لنفسه حتى ولو بخيط متلبساً بتلك المشاعر) ص101 . ولم يجد (بسام) وسيلة للتهرب وقد انكشفت الحقائق بأنه المسؤول والمتورط في اخفاء (وردة) واعترف بمكان اقامتها ومستعد في تسليمها، ولكن المرأة العجوز (حورية) دبرت أمر تهريبها الى الاردن عبر مهرب وحين وصلت الى عمان سجلت في مفوضية اللاجئين، وبعد (12) عاماً وجدها (بسام) تتسوق في مركز مدينة (سدني) مع طفلين، وتقابلا وجها لوجه، وشرحت مسيرة حياتها بأنها تزوجت وانجبت هذين الطفلين وتعيش في بحبوحة العيش وتشعر بالهناء والاستقرار، فقال بسام بفرح وسرور :

(- لقد نجوتي .. نجوتي بالفعل يا وردة

وقالت وردة:

 - أتعرف حزني الاكبر لا علاج له ؟ بلدي أشتاق اليه، ولدي أصدقاء كثر من جنسيات مختلفة يزورون بلدانهم الام ثم يعودون) ص217 .

 

× الكتاب: رواية هروب وردة

× المؤلف: ضياء الخالدي

× اصدار: منشورات نابو العراقية عام 2020

عدد الصفحات: 255 صفحة

***

جمعة عبدالله

 

 

المدرسة الجعفرية

التفاصيل
كتب بواسطة: قيس العذاري

2149 المدرسة الجعفرية 1تأسست المدرسة الجعفرية العام 1908 في بغداد محلة صبابيغ الآل بعد ان رفضت من الوالي العثماني بحجة ان مديرها لا يحمل شهادة دراسية او شهادته الدراسية غير معترف بها من السلطات العثمانية واضطر الى الموافقة بعد موافقة باشا اسطنبول، تأسست بتبرعات: السيد جعفر السيد هاشم (30) ليرة ذهب. الحاج داود ابو التمن (50) ليرة ذهب. أمين الجرجفجي (40) ليرة ذهب. الحاج مهدي الخاصكي (20) ليرة ذهب.

وتكون ملاكها التدريسي العام (1923) من:

المدير ـ الحاج كمال.

والمدرسون: محمدرضا الفتال، ملا مصطفى، عبد الستار الشيخلي، صادق الملائكة "والد الشاعرة نازك الملائكة"، سامي خونده، نوري ثابت، الشيخ جواد الزنجاني، كاظم شكاره، عزيز البغدادي، احمد مدحت، ناصر عوني.

وكان اول من تولى رئاسة جمعيات المدارس الجعفرية وادارة مدرستها الشيخ شكر الله بن احمد، منذ تأسيسها سنة 1908 الى 1918 وهو من علماء بغداد والكاظمية .

الى جانب شخصيات معروفة ساهمت في الهيئة الادارية لجمعية المدارس الجعفرية على مر السنين . نذكر منهم: سلمان داود ابو التمن، صالح جبر "رئيس وزراء سابق"، فاضل الجمالي "رئيس وزراء سابق"، جعفر الشبيبي، عبد الكريم الازري، صادق البصام، سلمان مهدي التميمي .

2149 المدرسة الجعفرية 2

استمدت المدرسة الجعفرية اسمها من الامام جعفر الصادق الذي رفع راية العلم عبر مسيرته التي اطلق عليها: "مدرسة الحضارة الإسلامية والإنسانية الشاملة" وكتب من بين ما كتب عنها من لدن علماء عصره: "لم يشهد التاريخ الإسلامي ولادة حضارة إسلامية علمية عظيمة أثرت الفكر الإسلامي والإنساني بأرقى العلوم أعظم من مدرسة الإمام الصادق، فلم تقتصر هذه المدرسة في علومها على العلوم الإسلامية كعلوم القرآن والفقه والحديث والأخلاق وغيرها، وإن كانت هذه العلوم من أساسياتها، بل تناول التدريس فيها مختلف العلوم والأبحاث، فكانت مدرسة علمية موسوعية."

ويقول عنها محمد أبو زهرة المصري من علماء الأزهر الشريف: "ما أجمع علماء الإسلام على اختلاف طوائفهم في أمر كما أجمعوا على فضل الإمام الصادق وعلمه، فأئمة أهل السنة الذين عاصروه تلقوا عنه وأخذوا، وأخذ عنه مالك، وأخذ عنه أبو حنيفة واعتبره أعلم الناس).

اسم المدرسة الحعفرية الاساس: السنتان "مثنى سنة" .

ولأبي حنيفة النعمان قوله مشهورة "لولا السنتان لهلك النعمان" فهو يفتخر بهذه المقولة أن سبب شهرته العلمية هي من فضل السنتين التي درس فيها .

من اشهر طلاب مدرسة: السنتان موسى بن جعفر وابو حنيفة النعمان قال الحسن الوشّاء عن محمد بن جعفر عند مروره بمسجد الكوفة: "أدركت في هذا المسجد 900 شيخ كلهم يقول: "حدثني جعفر بن محمد" الصادق .

2149 المدرسة الجعفرية 3

وقال الخليفة هارون الرشيد عن الاول: "ما ظننت ان في الارض خليفتين حتى رايت عمي موسى بن جعفر" وامر بسجنه .ومات في سجونه مسموما . وسير بنعشه وحيدا على جسر الرصافة ليوارى الثرى في المقبرة المعروفة بمقبرة قريش .

واوضح الشبلنجي الشافعي عنه على لسان اهل العلم في زمانه: "قال بعض أهل العلم: الكاظم"موسى بن جعفر"، المُسمَّى لفرط حلمه وتجاوزه عن المعتدين كاظماً"

اما المدرسة الجعفرية في سامراء فقد تعرضت للتخريب بعد الاحداث والاضطرابات السياسية والعسكرية التي حدثت في العراق العام 1991 واعيد بناؤها العام 2018 .

وللمدرسة الجعفرية: "السنتان" التي اسسها جعفر الصادق والت الى موسى بن جعفر اثر استقلال ابو حنيفة النعمان بمدرسة خاصة به في بغداد مجاورة للكاظمية على الجهة الثانية لنهر دجلة، وسمي اتباعه بالحنفية وهي احدى الطوائف الاسلامية السنية المنتشرة بمعظم الدول العربية والاسلامية ولا تختلف كثيرا عن المدرسة الجعفرية،وللسنتين او المدرسة الجعفرية نظائر في كل من دولتي البحرين والكويت .

 

قيس العذاري 

12.1.2021

..........

للتوسع بمعرفة اسماء الاعلام مراجعة: "وكبيديا" .

 

 

لنتذكّر كيف تهيمن قوى الاستبداد

التفاصيل
كتب بواسطة: قصي الصافي

قصي الشيخ عسكربقلم: نايثن جي روبنسن

المصدر: مجلة شؤون معاصرة Current Affairs

ترجمة: قصي الصافي

اقتحام بناية الكابتول عمل هزيل، ومع ذلك يجب ان يخيفنا، تلزمنا الافادة من دروس التأريخ.

في عام 1923 حاول مئات النازيين السيطرة على الحكومة الإقليمية في بافاريا، وكانت محاولتهم جد هزيلة، فقد أحاطوا بصالة (بير) حيث يجتمع القادة المحليون، وحاولوا أخذهم رهائن  بقصد الاستيلاء على المباني الحكومية. تم صدهم بسرعة من قبل الشرطة وقُدّم زعيمهم، أدولف هتلر، للمحاكمة بتهمة الخيانة. وصدر عليه حكماً مخففاً، اذ تسنى له كتابة مذكراته في السجن، وأفرج عنه بعد تسعة أشهر. سيمر عقد آخر قبل أن يطلق العنان لأبشع أعمال الإبادة الجماعية في تاريخ البشرية.

ربما لم تكن خطة "انقلاب بير هول" ناجحة، وكان الحزب النازي عام 1923 ضعيفاً. لكنها كانت نذيراً مبكراً بأن فصيلًا يمينيًا متطرفًا يستجمع قوته، فصيل لا يحترم حق النظام اللبرالي في الحكم، وسيستخدم كل الوسائل المتاحة له للاستيلاء على السلطة. لم يدرك الجميع خطورة الامر في ذلك الوقت، فقد نشرت صحيفة نيويورك تايمز بالمانشيت العريض " تم إستبعاد هتلر عمليا"، وأشارت إلى أنه بعد الحكم على هتلر بالسجن، فإن المحاكم قد أخرجت اليمين المتطرف من المسرح السياسي إلى الأبد. 

في 6 كانون الثاني (يناير) 2021، اقتحم أعضاء من أقصى اليمين مبنى الكابيتول في الولايات المتحدة، في محاولة لإلغاء نتيجة انتخابات عام 2020، وإبقاء دونالد ترامب في السلطة كحاكم غير منتخب، وقد نجحوا في إيقاف عملية التصديق على نتائج انتخابات 2020، وإجبار السياسيين على حمل أصوات الهيئة الانتخابية والفرار بها عبر أنفاق تحت الأرض.

 لبعض الوقت، كان الانقلابيون يتجولون بحرية في ما يُفترض أنه أحد أكثر المؤسسات أمانًا في البلاد، ويتسكعون في مكتب نانسي بيلوسي (المتحدثة باسم الكونغرس... المترجم)، ويحطمون النوافذ، ويسرقون الأشياء، ويرشون طفايات الحريق، ويلوحون بعلم الكونفدرالية، ويحطمون محتويات المبنى. قال أحد المشاغبين في وقته الذي قضاه في مكتب نانسي بيلوسي " كتبت لها ملاحظة بذيئة، ووضعت قدمي على مكتبها، وحككت بيدي خصيتي"، ولم يتم القبض عليه بتهمة التعدي على ممتلكات الغير، بل ترك "لتسلية زملائه المتظاهرين وهو يروي مافعله علانية".

من اللافت للنظر أن شرطة العاصمة لم تبذل أي جهد جاد على ما يبدو لمنع مثيري الشغب من اختراق المبنى. حتى أن بعض مقاطع الفيديو تظهر وكأن الشرطة تفتح الحواجز للسماح للحشود بالدخول. من غير الممكن رؤية حشود ترامب وهم يتجولون بحرية ويدمرون مبنى الكابيتول، دون أن نفكّر في مدى ضعف موقف قوات حفظ القانون، مقارنةً بأساليبها في التعامل مع اليساريين والملوّنين. (ونحن نسمع الرجل الذي يداعب خصيتيه في مكتب بيلوسي مفاخرًا بإنجازاته، دعونا نتذكّر كيف أن المراهقين السود يُسجنون لعدم قيامهم بواجبهم المدرسي، وكيف أرسلت امرأة سوداء إلى السجن بسبب جريمة محاولتها التصويت دون أن تدرك أنها كانت ممنوعة من الاشتراك في الانتخابات).. (كانت المرأة سجينة سابقة، وقانون ولاية فلوريدا يحرم تصويت السجناء حتى بعد اطلاق سراحهم، وقد الغي هذا القانون مؤخراً باستفتاء  شعبي عام2018 ... المترجم ).

لا يمكن لأحد أن يصدق أن قوات حفظ القانون لم تكن قادرةً على منع حشود ترامب من إحداث الفوضى. كان الترامبيون يتوعدون منذ أشهر بحرب أهلية في اليوم السادس من يناير - حتى أنهم طبعوا ذلك على قمصانهم-. بالنظر إلى حجم جهاز الشرطة وأجهزة الأمن الامريكيه، لا يمكن للمتظاهرين احتلال مبنى الكابيتول بحرية إلا إذا اتخذت الشرطة قرارًا متعمدًا بالسماح لهم بذلك.

صورة الحشود العسكرية الضخمة في الصيف الماضي بالعاصمة رداً على الاحتجاجات الجماهيرية ضد التمييز العنصري تقدم لنا نموذجاً صارخاً للمقارنة. لا يسع المرء إلا ان يتأمل، لو أن انتيفا (منظمة لمناهضة الفاشية....المترجم) هي التي تجمعت بهذه القوة والعنف، فسوف تصرف الشرطة بالتأكيد وقتا في اطلاق الرصاص المطاطي ومسيل الدموع أطول من الوقت الذي صرفته بأخذ صور سلفي مع مثيري الشغب، (انظر على سبيل المثال، ما حدث لمتظاهري 20 يناير بعد تنصيب ترامب.).... " تم اعتقال أكثر من 200 من اليساريين والرافضين لترامب ووجهت لهم تهم تزيد في احكامها على 75 عاماً في السجن٠٠٠ المترجم "، (هذا لا يعني أن الرد المناسب هنا هو تعزيز الدولة البوليسية ومعاملة جميع المتظاهرين بالطريقة التي يعامل بها المهمشون حاليًا ؛ الحق في احتلال المباني السياسية هو حق قد نرغب فيه نحن أنفسنا من وقت لآخر)

في نهاية المطاف، تم طرد الغوغاء من المبنى، وبدأ أعضاء مجلس الشيوخ بإلقاء خطابات عاصفة مكررين عبارة "هذه ليست أمريكا "، ثم ظهر دونالد ترامب ليهنئ المشاغبين على حسن ادائهم، قائلاً إنه يجب علينا "تذكر هذا اليوم إلى الأبد" ..." لأن هذه هي الأشياء والأحداث التي تحدث عندما يتم تجريده من (انتصار ساحق مقدس في الانتخابات بشكل غير قانوني وسافر) ". دعا بعض المسؤولين المنتخبين، مثل إلهان عمر وأوكاسيو كورتيز، إلى محاكمة ترامب بسبب رفضه الانصياع  لمبدأ التداول السلمي للسلطة واستمرار تحريضه لمؤيديه لمقاومة قبول نتائج الانتخابات.

من الواضح أنه يجب عزل ترامب وإقالته من منصبه، فقد أثبت مراراً أنه غير قادر على المشاركة في العملية الديمقراطية القانونية وهو عازم على تقويضها وإثارة روح التمرد على حكم القانون، بيد أن دعواته لبقاء أنصاره سلميين، ليست إلا حلقات جوفاء طالما تأتي مصحوبة بإصرار مستمر على أن الانتخابات كانت مزورة وأنه هو الرئيس الشرعي. إذا كانت الانتخابات مزورة وكان بايدن مغتصبًا، كما يحاول ترامب إقناع الناس، فمن المؤكد أن الانتفاضة المسلحة ليست انقلابًا بل فعل وطنيين محترمين للحفاظ على الديمقراطية. في جملة يدعو المشاغبين الى العودة لبيوتهم، وفي أخرى يخبرهم أن حكومتهم يتم الاستيلاء عليها حاليًا بشكل غير قانوني من قبل اوتوقراط. ان أي شخص يتعامل معه بجدية يشعر بالميل إلى حمل السلاح، حيث يُقال له إنه ما لم يتم فعل شيء ما، فإن الرئيس المنتخب حسب الأصول على وشك أن يُطرد من منصبه بشكل غير قانوني.

هذا شيء يجب أن نفهمه عن المتظاهرين، فهم لا يرون أنفسهم على أنهم انقلابيون. إنهم يرون أنفسهم يحاولون استعادة الديمقراطية، لأنهم يعتقدون أن الانتخابات قد سُرقت. يأتي غضبهم من وهم خطير سيجعل من الصعب عليهم العودة إلى ديارهم بهدوء. إذا استمر ترامب في قول أشياء مماثلة بعد تركه منصبه (ربما على موقع التواصل الاجتماعي اليميني Parler بدلاً من Twitter، حيث سيأخذ صدى كلماته تأثيرا أكبر في ابعاد انصاره بعيداً عن الواقع الحقيقيّ، ليس من المستبعد أن نستمر لفترة طويلة مع أعداد كبيرة ممن لا يعترفون بادارة بايدن كحكومة شرعية.

سارعت صحيفة نيويورك تايمز في نشر مقال وصفت فيه الأحداث على أنها "نهاية حقبة ترامب" و" فعل أخير يائس من معسكر يعاني من الافلاس السياسي". لست واثقاً من صواب ذلك. تذكرني نبرتهم كثيرًا بذات النبرة في عام 1923 عندما كتبوا أن "أي احتمال بأن يلعب هتلر دورًا رائدًا في السياسة البافارية قد تلاشى تماماً "...، بل من الممكن تمامًا أن يعود ترامب. لا شيء يمنعه من الترشح مرة أخرى في عام 2024، وهو أكثر حزنًا واضطرابًا من أي وقت مضى. إذا كانت إدارة بايدن ضعيفة ولا تحظى بشعبية، وانحسر فشل ترامب الهائل بسبب COVID-19 في الذاكرة الجماعية (ننسى كل شيء في خمس دقائق هذه الأيام، حتى الجرائم ضد الإنسانية)، أعتقد أنه من الممكن تمامًا أننا سنرى ثانية ترامب، ولست متحمسًا لمعرفة كيف ستسير الأمور. (قد يؤدي عزله ومحاكمته إلى حرمانه من الترشح في عام 2024، لكن يبدو أنه أمر غير مرجح).

لا يوافق الجميع على أن ما جرى يمكن وصفه بمحاولة انقلابية، فلم يكن واضحًا تمامًا ما الذي يعتزم مثيرو الشغب فعله في مبنى الكابيتول، ولم أتوقع أن يبدأ الرجل الذي يرتدي قرونًا وجلدا مرقطأ، ووجهه مطلي باللون الأحمر والأبيض والأزرق، في إصدار الإعلانات التشريعية وأوامر الطوارئ من منصة مجلس الشيوخ. لكن انقلاب بير هول كان أيضًا فاشلاً وعبثيًا. أخذ الامر عقدًا آخر حتى تولى النازيون السلطة بالفعل. خلال ذلك العقد، على الرغم من ذلك، ارتكب العديد من الناس نفس الخطأ الذي ارتكبته صحيفة نيويورك تايمز، وافترضوا أنه بسبب فشل الانقلاب، فإن الحركة التي مثلتها لم تكن تهديدًا. كان هذا خطأ فادحًا تمامًا، وإذا ارتكبناه مرة أخرى فقد فاتنا أحد أهم الدروس في القرن العشرين.

يمكن أن يكون المستبدون مهرجين، مما يجعل من السهل السخرية منهم. أنا متأكد من أن بايدن سوف يتم تنصيبه وأنه ستكون هناك رتابة سطحيه تتمثل ب"العودة إلى الحياة الطبيعية" في هذا البلد. سيكون من المغري الاعتقاد بأن أولئك الذين اقتحموا مبنى الكابيتول فعلوا ذلك بدافع اليأس ولم يعد هناك داعٍ للقلق منهم. قاوموا هذا الإغراء. بالنسبة لي، الشيء الوحيد الذي يمنع اليمين المتطرف من الاستيلاء على السلطة في هذا البلد هو أنه ليس لديهم زعيم فعال وكاريزمي. دونالد ترامب كسول وأبله، وليس ايديولوجيا ملتزما مثل هتلر.

يجب على المرء أن يكون حريصًا بشأن إجراء مقارنات كثيرة جدًا بين فاشية عشرينيات وأربعينيات القرن الماضي والوضع الحالي. ما يمكننا فعله هو استخلاص الدروس حول كيفية تعزيز القوة، في الثلاثينيات من القرن الماضي بألمانيا، كانت الحكومة الليبرالية المتعسرة والتي لا تستطيع حل المشكلات الاجتماعية الأساسية عرضة لحركة يمينية متطرفة محكمة التنظيم، لم تحصل على أغلبية الأصوات ولكنها كانت قادرة مع ذلك على إدارة حلقات حول السياسيين الذين افترضوا أن دستورهم وقوانينهم ستكون حبل نجاة. اليوم، علينا أن نتجنب التفكير في أن تعرض اليمين لانتكاسة انتخابية، سيمنع عودته بقوة أكبر. (وقد تعلمنا أن الشرطة والجيش قد لا يكونا حلفاء يمكن الاعتماد عليهم في حماية الديمقراطية باللحظات الحرجة).

أفضل حماية للديمقراطية وتقويض تأثير اليمين أن يقدم جو بايدن للشعب الأمريكي من المنجزات والمكاسب ما يجعله محصناً من خداع الخطاب اليميني. فرانكلين روزفلت تمكن من تأمين رضا ومساندة قطاعات واسعة من الشعب، عبر تقديم بعض المنجزات لهم، مثل التأمين الاجتماعي، وادارة تطوير العمل، وقانون GI... (ادارة تطوير العمل: حزمة من مشاريع البناء وانشاء الجسور والسدود وفرت ملايين الوظائف للعاطلين عن العمل، قانون GI:  تم وفقه صرف تامين صحي ورسوم تعليم ومخصصات تقاعد للجنود العائدين من الحرب العالمية الثانية... المترجم)، أن عددًا كبيرًا من الناس العاديين سيفكرون بشكل إيجابي إزاء حكومتهم، اذا ما وضعت المال في جيوبهم، أو وفرت لهم تعليمًا جامعيًا مجانيًا، أو أنتشلتهم من البطالة.

 إذا ما قام الديموقراطيون بتمرير حزمة الانقاذ (في فترة الوباء) ذات الشعبية الكبيرة والتي تتضمن صرف 2000 دولار للفرد، وأعقبوها بتشريع زيادة الحد الادنى للأجور الى 15 دولارًا بالساعة، وإقرار حق العامل بإجازة عائلية مدفوعة الأجر، وجعل الدراسة في الكليات مجاناً، وإعفاء الطلاب من الديون، واصدار قانون تأمين صحي مجاني للجميع،  والبدء بمشروع الطاقة البديلة - تلك الخطوات التي لا توجد أعذار لعدم القيام بها الآن بعد أن أمسكوا بزمام السلطتين التنفيذية والتشريعية - عندها سيحصل كل شخص في البلاد على شيء ملموس من الإدارة. سيشمل ذلك القدرة على الذهاب إلى المدرسة دون القلق بشأن الديون، والقدرة على الذهاب إلى الطبيب دون الحاجة إلى التفكير في الفاتورة، والقدرة على إنجاب طفل دون القلق من أنك ستحتاج إلى العودة إلى العمل في اليوم التالي، واطمئنان الفرد أن أحفاده قد يعيشون على كوكب صالح للسكن مع حضارة مستدامة. الحكومة التي تقدم تلك الخدمات لشعبها انما تزوده بلقاح مضاد لإغراءات خطاب الديماغوجيين الفاشيين.

أنا بالطبع لست واثقًا على الإطلاق من أن جو بايدن سيبذل أي محاولة جادة لتنفيذ هذه السياسات. لقد حنث بالفعل بوعوده، وكانت اختياراته المعلنة للمناصب مخيبة للآمال وعديمة الجدوى، وأوضح أنه لا يزال يسعى إلى تحقيق ذلك الحلم الخيالي غير المثمر، والمتمثل في حكم مشاركة بين الحزبين، الامر الذي يرعبني، لأن أولئك الذين لا يلاحظون أن حياتهم تتغير للأفضل في ظل الإدارة الديمقراطية، لن يروا أي سبب لإعادة الديمقراطيين إلى السلطة. الجمهوريون الذين ما زالوا يسيطرون على المحاكم ومصممون على تآكل الديمقراطية قدر الإمكان، سيعودون إلى السلطة بغفلة منا إذا أفسد الديمقراطيون هذه اللحظة المحفوفة بالمخاطر. لسوء الحظ، لم يتضح لي على الإطلاق كم منهم يعرف حتى أنها لحظة محفوفة بالمخاطر، ناهيك عن فهم ما يجب القيام به.

يجب أن لا نطمئن للافتراض القائل أنه لا يمكن أن يكون هناك انقلاب ناجح في الولايات المتحدة المعاصرة. سيكون اليوم الذي نكتشف فيه أننا مخطئون هو اليوم الذي فات فيه الأوان لفعل أي شيء حياله، التاريخ لم ينته. أمامنا الكثير، وخياراتنا اليوم تحدد الطريق الذي سنسير فيه.

 

...................

https://www.currentaffairs.org/2021/01/lets-remember-how-authoritarianism-takes-hold

 

حديث عن العصاميّة والعصاميين (1): حول المفاهيم

التفاصيل
كتب بواسطة: فتحي الحبوبي

فتحي الحبوبيفي يقظتهم يقولون: “أنتَ والعالَم الذي تعيش فيه حبَّةُ رملٍ على شاطىء غير متناهٍ  لبحرٍ لا حدَّ له”.

وفي حلمي أقول لهم: “أنا البحر الذي لا حدَّ له، والعالم كلُّه حبَّاتُ رمل على شاطئي ”.

جبران خليل جبران


 

بعيدا عن مفهوم فلسفة القوّة للفيلسوف "نيتشة"، ومفهوم الوجوديّة - الملحدة وغير الملحدة- خاصة لدى"جان بول سارتر" و"مارتن هايدغر، وفلسفة العبث لرائدها ألبير كامي. وبعيدا عن المفهوم الديني السطحي للقدر الذي يروّجه من يسمّونهم- تجاوزا- علماء الأمّة،  فإنّ مقاربة جبران خليل جبران مطلع المقال،  لمفهوم الإنسان الحقّ، المنسجمة مع مقولة أبو القاسم الشابّي الشعريّة "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر" تفيد أنّه ذو قدرات لا محدودة، كفيلة بتمكينه من نحت مستقبله ونيل ما يريد بقلب كلّ الاوضاع لفائدته، بما يتّفق مع مفهوم التنمية البشريّة حديثة الظهور. ولا يتسنّى ذلك للإنسان إلاّ إذا  «عرف نفسه بنفسه» كما جاء على لسان سقراط، وتفطّن الى مواطن القوّة فيه ووجّهها الوجهة الصحيحة.

ومن مفاعيل ذلك، أن بات اليوم من البديهيات التي لا يختلف فيها عاقلان ولا ينتطح فيها عنزان كما قالت العرب، أنّ الإنسان- أيّا كان سوء وضعه ومهما كانت الاكراهات والعقبات وقساوة المأساة التي يعانيها- لا تفيده، لا اللطميات والبكائيات، ولا الندبيات ولا حتّى المآتم على  الحظ المنكود الذي قد يلازمه كظلّه في مرحلة ما من حياته،  ولكن ما يفيده، بالتأكيد، ويثري تجربته الحياتيّة، إنّما هو النظر إلى الحياة من زاوية نظر جديدة غير التي كان ينظر من خلالها وأدّت إلى معاناته. ويترتّب عن ذلك -حتما- رسم غاية وتكريس كلّ الجهود لبلوغها وفق منهج مرسوم بدقّة لا يخضع للصدف، في إطار زاوية  النظر الجديدة، بدل التعلّق بالأوهام الكاذبة وتنبّؤات الدجاجلة الهلاميّة أو بالأماني التي لا تتحقّق. وهنا يكتشف المرء أبعادا أخرى للحياة كان يجهلها وتظهر له صورتها شديدة الوضوح بتجلّياتها المختلفة، وما تنطوي عليه من تعدّد للرؤى، متجاوزة للأسوار الحاجبة لرؤية جمال الكون وورديّة المستقبل. ولكن- للأسف- السواد الأعظم من النّاس لا يغيّر زاوية نظره للحياة، ولو باتت شديدة الضيق، فيحكم على نفسه بالعيش في الضيق بما هو عيش ضنك.  ولعلّ من نافلة القول، في هذا السياق، التأكيد على أنّ الحياة رغم أنّها فسيحة طولا وعرضا كما الأرض، إلّا أنّ آفاقها المضيئة، غير المتناهية في سعتها، لا يبصرها بوضوح وجلاء تامّ إلّا  القليلون، الذين ينظرون إلى الحياة من الزاوية المناسبة بما ينسجم مع مقولة «إذا رأيت الصحراء تمتدُّ وتمتدُّ، فاعلم أنَّ وراءها رياضاً خضراء وارفةّ الظِّلالِ“ (1). ذلك أنّ الآفاق الرحبة لا تتجلّى إلّا لغير النمطيين ممّن أومأنا إليهم، الذين يرسمون الغايات، والمناهج لبلوغها ، فضلا عن توفّرهم على جذوة التعويل على النفس لصنع الذات الفاعلة، المؤثّرة، في المجتمع أو بالحدّ الأدنى، في محيطها القريب. ما يعني أنّ هذا الصنف من النّاس، يدخل معترك الحياة ولا يبالي بالمتاعب و يركب البحر ولا يخشى الغرق. وهو لإثبات ذاته يروم امتطاء صهوة المصاعب مهما بلغت من الشدّة والقسوة، ومهما بلغ وخز الأشواك المحيطة به من كل جانب. وهو كذلك يقبل- ساعة الفصل- بنتيجة مواجهة متاعب الحياة، وحيدا، في حالتي النجاح و الإخفاق، رغم نزوعه الشديد إلى النجاح والتفوّق. لأنّ الفشل، بمعنى من المعاني،  إنّما هو حافز للنجاح وأوّل خطوة على الطريق لبلوغه. بهذا المعنى، فهؤلاء لا يهزمهم الدهر، ولا يستسلمون للهزيمة،  ولا يرفعون الراية البيضاء منذ أوّل فشل، لا بل ولو تكرّر الفشل 99 مرّة كما كان الحال في تجارب "توماس أديسون"   Thomas Edison)) التي أدّت  في النهاية إلى اختراع المصباح الكهربائي ، فضلا عن تسجيل أكثر من  1000 براءة  اختراع باسمه.  وهي المقاربة ذاتها التي أيّدها لاحقا  "ألبرت أينشتاين" : (Albert Einstein) بقوله  "المعرفة ليست المعلومات، فالمصدر الوحيد للمعرفة هو التجربة  والخبرة". فالحياة من منظور هذا الصنف من الناس ليست في نهاية الأمر سوى مغامرة - وليست قصيدة كما يرى الشاعر محمّد آدم-(2)  ممتدّة في الزمان كما في المكان، بما هما (الزمكان) (3) بتعبير الفيزياء.

لا أعتقد أنّ أحدا يجادل في  أنّ هذه المعاني -مجتمعة- تكاد تتماهى مع مفهوم العصاميّة كمصطلح يدلّ  منذ العصر الجاهلي على "اعتماد المرء على نفسه حتى ينال الشَّرف والمجد" ويسودَ "بشرفِ نفسِه (فيكون عصاميّا) لا يشرّفِ آبائه" فيكون عظاميّا، كما جاء في المعاجم العربية.

للتذكير، فإنّ عصام بن شَهبَر الجِرمي، حاجب النعمان بن المنذر- أحد ملوك المناذرة قبل الإسلام - هو من نسب إليه هذا المفهوم  بعد أن أشاد به  الشاعر المسيحي، النابغة الذبياني، لإرادته القويّة وعزيمته الفولاذية واجتهاده المستمرّ الذي أهّله عن جدارة أن يصبح من أقرب المساعدين للملك المذكور، وهو الذي بدأ مشواره المهني عاملا بسيطا في قصر النعمان  ثمّ حاجبا له. وقد قال فيه النابغة الذبياني  :

نفس عصام سوّدت عصامِاً ... وعلمته الكر والإقداما

وجعلته ملكاً هماماً ... فتعالى وجاوز الأقواما

وقال فيه الملك النعمان نفسه" إنّ عصام بن شهبر بألف جندي".

 ما دعاني إلى هذا المبحث في العصامية، وهذه المقدّمة التي قد تكون ممطّطة وركيكة لدى البعض هو، بداية، إسهامات العصاميين ممّن عرفوا مكامن القوّة فيهم وطاقاتهم الخلّاقة، فحوّلوها إلى إكتشافات وآختراعات وإبداعات وخدمات جليلة لفائدة مجتمعاتهم، وأحيانا لفائدة المجتمع الإنساني. وقد كان لي شرف الإطّلاع الواسع على السير الذاتيّة للكثير منهم في بعض المؤلّفات الغربيّة  كما الشرقيّة -ولو بدرجة أقلّ- تلك الإسهامات التي كان لها عظيم الأثر في النهضة العلميّة و التقدّم الإنساني في مختلف مجالات النشاط الإنساني عبر الزمان والمكان بما هو الفضاء بأبعاده الأربعة (4) . وما شدّني، ثانية،  هو كوني أنا أيضا عصامي في مجالي الصحافة والكتابة الأدبيّة، باعتباري علمي التكوين والمباشرة العمليّة. وإن كنت من غير صنف المؤثّرين، فأنّ  ذلك لم ولن يثنيني عن ممارستي لهواية الكتابة. تلك الهواية بالغة المتعة، الممتدّة لنحو نصف قرن.

ولأنّي إزاء مبحث غير أكاديمي، والعصاميون كثر -وأكثرهم تأثيرا من الغربيين المعروفة سيرهم لدى الجميع مثل فلتة الدهر "توماس أديسون" سالف الذكر- فإنّي سأكتفي في المقالة القادمة، بعرض نموذج ملهم ووحيد، من العصاميين العرب؛ وهو الكاتب اللبناني النابغة جرجي زيدان، الذي دشّن عالم الشغل، وهو في سنّ الحادية عشرة، بالعمل في مطعم، بما يشبه ما كان لاحقا، حال الشاعر التونسي الموهوب صديقي منوّر صمادح، الذي، إن كتب لي البقاء رغم الوباء، قد يكون مادة لمقالة لاحقة، وهو العصامي الذي دشّن عالم الشغل كعامل بمخبزة، وكان لا يزال فتى يافعا، واللعب أنسب إليه من العمل، فإذا  به يصبح رجلاً غير الرجال وشاعرا غير الشعراء، ويلقّب بشاعر الثورة والحريّة.(يتبع)

 

المهندس فتحي الحبّوبي

..............................

الهوامش

(1) وردت هذه المقولة في كتاب "لا تحزن" لعائض القرني الذي يستشهد بقال الله وقال الرسول،  لكنّه  يسمح لنفسه بسرقة  الكتاب المذكور من "دع القلق وأبدأ الحياة" للأميركي ديل كارينجي، المتوفّي عام، 1955، في تعارض تام مع العصاميّة موضوع مبحثنا.

(2) لأنّ القصيدة  في وجدان الناس ممتعة في كل الأحوال وبالتالي ترفع مستوى هرمونات السعادة لدى المتلقّي: بنسقها الشعري،  وجمال صورها الفنية وكثافتها اللغوية،  ما يفتح المجال أمام الفكرة للتمدّد في ذهن القارئ  ، فيما المغامرة يترتّب عنها الخوف و التوجّس من القفز إلى  المجهول.

 

(3) و(4) الزمان والمكان معا أو الزمان المكاني المعروف باسم زمكان مينكوفسكي (Spacetime) ، بما هو الفضاء بأبعاده الاربعة أي أبعاد المكان الثلاثة من طول وعرض وارتفاع، وبعد الزمن، وهو البعد الرابع.ويرجع الفضل في ذلك إلى نظرية النسبية الخاصة لألبرت أنشتاين التي برهن على صحّتها هندسيّا أستاذ أنشتاين مينكوفسكي الذي اشتهرت بأسمه.

 

 

اتفاق العلا : تسوية ثنائية أم مصالحة خليجية؟

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليتزوج الأخطب بن عوف من "فتنة"، وهي فتاة من قبيلة "الأرمكي"، أوحي اسمها له بأنها من سلالة الحسن والجمال، لذلك أسموها "فتنة"، فعقد قرانه عليها قبل أن يراها، ولما جاء موعد ليلة الزفاف نظر إليها فلم تسره، وكانت بعكس ما تخيله عنها من جمال، فانشغل عنها حتي نامت، ثم حزك أمتعته، وهم بالمغادرة.. أمه في الدار شعرت بحركته المفاجئة، فأدركته قبل أن يغادر، وقال له: إلي أين تذهب يا ولدي في ليتك الأولي من الزواج؟.. فأجاب إلي أرض الكوفة يا أماه!.. وماذا عن فتنة؟.. فقال : الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها؟..

قصدت أن أبدأ مقالي هذا بهذا الاستشهاد لأقول بأن العالم العربي خلال الأسبوع استيقظ  على أخبار بوادر انتهاء الأزمة الخليجية، وما بين مشككٍ ومصدق، ظهر على شاشات التلفزة عناق، وصف بـ"التاريخي"، بين أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لدى استقباله في مطار العلا السعودي، قبيل عقد أعمال القمة الخليجية الـ 41. وقد وصف البعض هذا العناق بأنه "كسر لقواعد البروتوكول وبداية لصفحة جديدة.

وهنا خرج علينا كثير من الإعلاميين علي قناة الجزيرة ليعلنوا بأنه إذا كان رسول الله "محمد" صلوات الله عليه وسلامه، قد وضع إصلاح ذات البين في درجة أعلي من الصلاة، والصيام، والصدقة، فمن يتجرأ أن يسفه التصالح الذي طال انتظاره غير المارقين، وهم كُثر.. وحدة الشعب الخليجي في دويه المتعددة أكبر من كل الكتاب والمتحدثين.. بل أكبر من كل الحكام والنافذين.. كلنا سنزول وستبقي الشعوب إلي ما شاء الله .

هذه خلاصة أقوال الإعلام القطري، ولكن علينا ألا ننسي بأن فيما مضي السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر، قد أعلنوا في يونيو من عام 2017 قطع علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع قطر، وسط اتهامات لها بدعم الإرهاب والتدخل في شؤون دول المنطقة، وهي اتهامات تنفيها الدوحة.

بيد أنه من الخطأ الاعتقاد (كما يري البعض)، بأن قطر لم تتغير أو لم تستوعب الدروس، ولم يكن اتجاه خطابها إلى مستويات أعلى من العدائية خلال تلك السنوات إلا محاولة لدفع أطراف الأزمة لإعادة النظر في مواقفهم، أخذاً في الاعتبار أن قطر ظلت فعلياً محصورة مجتمعياً وسياسياً في الواقع الخليجي خلال تلك الفترة.

والسؤال الآن: الذي يطرح نفسه بعد قمة العلا يتركز حول اتجاه التحالفات الإقليمية بعد القمة؛ فعلى مدى الأشهر الأربعين منذ بدء الأزمة في 2017، تغير شكل التحالفات والمصالح في الإقليم، وطغى على المنطقة فاعلون جدد وقضايا جديدة، جميعها ستكون في حاجة إلى إعادة نظر في ضوء مستجدات المصالحة. ومن خلال ما كشفه الوزير القطري عن بنود الاتفاق والذي سيتم عبر لجان ثنائية بين قطر وكل دولة على حدة، هناك احتمال لإحراز تقدم بين قطر والرباعي على نحو متفاوت، بالشكل الذي قد ينتهي إلى تبدل في التحالفات، فهل ينتهي تحالف الرباعي كتحالف مؤقت دعت إليه الضرورة وتأسس في مواجهة قطر، أم يستمر كجسر تنمية واستقرار عابر بين الخليج وباقي العالم العربي؟

وللإجابة عن هذا نقول أنه بالنسبة لمصر فإن غياب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقيام وزير الخارجية المصري سامح شكري بالنيابة عنه في أعمال القمة، قد يعطي مؤشرا لوجود تردد مصري حول المصالحة الخليجية.

وهذه الشكوك تدعمها تصريحات كثير من السياسيين والإعلاميين المصريين بأن: "مصر لن تتصالح مع النظام القطري..." وهذا ما جعني بأن أكتب مقالي بعنوان " رسالة للرئيس السيسي : لا تصالح ولو منحوك الذهب" خلال الأيام الماضية ونشر علي صحيفة المثقف الزاهرة.

ورغم أن القاهرة رحبت بالمصالحة بشكل عام، إلا أن غياب التفاصيل حتى هذه اللحظة يجعلها مترددة، حيث إن المفاوضات على محتوى المصالحة مستمرة، وسوف تتضح لاحقاً، وبناء على محتواها فإن الموقف المصري سوف يتضح بالتزامن.

كما أن مراقبة الإعلام القطري ورصد خطابه تجاه القاهرة، قد يكون مؤشراً حول ما إذا كانت الدوحة حريصة على علاقتها مع نظيرتها المصرية، ورغبتها بتضمينها في الاتفاق، وأن مشاركة وزير الخارجية المصري في القمة استثناء، لأن مصر ليست دولة خليجية، ومشاركتها جاءت على خلفية كونها طرفاً في المقاطعة، مشيراً إلى أن الخلاف القطري-المصري ربما سيستمر بشكل ثنائي، لأن الخلاف كان موجوداً قبل المقاطعة، وذلك بسبب دور دولة قطر في دعم الإخوان المسلمين المصريين.

هذا الموقف يعززه بيان وزارة الخارجية المصرية الثلاثاء الماضي - الموافق (الخامس من يناير/ كانون الثاني 2021)، عقب توقيع الوزير سامح شكري على "بيان العلا" الخاص بالمصالحة، والذي ذكرت فيه أن مصر "تدعم العلاقات بين الدول العربية الشقيقة انطلاقاً من علاقات قائمة على حسن النوايا، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية".

وهناك حسابات عدة دفعت إلى المصالحة الخليجية بقرار سياسي مسبق، وليس لتوفر شروطها أو استيفاء أسبابها، فهناك عوامل ضاغطة على صناع القرار بدول الخليج لأجل إنهاء الأزمة وتغليب المصالحة، أهمها التحديات السياسية والاقتصادية، والخسائر التي لحقت بدول المجلس من جراء الأزمة، بجانب التكاليف الاقتصادية الناتجة عن وباء "كوفيد-19"، وتراجع أسعار النفط، وهو ما انعكس في خفض الموازنات العامة، وعجز الميزانيات، وتسريح العمالة، وتحولات سوق العمل، الأمر الذي جعل خليج 2021 غير خليج 2017.

أضف إلى ذلك الاحتفال هذه السنة بمرور 40 عاماً على إنشاء مجلس التعاون الخليجي، واستقبال عقد جديد في تاريخ المجلس، تفرض الضرورات أن يكون مختلفاً عن أصعب عقد مر على دول المجلس (2010 – 2020) من ناحية الأزمات والخلافات البينية و"التفسخات" المجتمعية التي عكست نفسها بوضوح على أدوات التواصل الاجتماعي.. وننتظر ما تسفر عنه الأحداث.. وللحديث بقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

مقاطع من فصول كتاب: الاعتقال السياسي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جاسم الصفار

جاسم الصفارصفحات لم تنطوي بعد.. المهيأ للنشر

من الفصل الأول "زائر الفجر"......

في الدول التي حكمتها انظمة دكتاتورية كانت معظم الاعتقالات السياسية تُنفّذ قُبيْل الفجر، وهي أهدأ فترة في الليل، يخلد فيها الانسان للنوم، تاركا حذره جانبا، وتخلو الشوارع من المارة، فلا يشهد على الظلم الا ألله. وقد استوحيت عنوان الفصل الأول من الفلم المصري المعروف (زائر الفجر) لممدوح شكري 1975، الذي ترددت في أحد مشاهده عبارة "البلد دي ريحتها فاحت... عفنت... بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق". وكان مصير معتقل "قصر النهاية" الرهيب، الذي ارتبط اسمه وسمعته بنظام البعث الإرهابي الهدم، بعد ان فاحت رائحته العفنة.

ولكيلا يكون هدمه سببا لنسيان ما اقترفه البعثيون من جرائم بين جدرانه، تأتي شهادتي المتواضعة عن تلك الأيام لتضاف لشهادات اخرى كثيرة، أوسع اطارا وأعمق تأثيرا لتوقظ في الذاكرة تاريخ المظالم التي تعرض لها عدة أجيال، من خيرة أبناء شعبنا العراقي، ابان حكم البعث. تصرخ فيهم كما صرخت ماجدة الخطيب (نادية) في فيلم (زائر الفجر): "الناس اللي تظلمت.... اوعوا تنسوا، اوعوا تنسوا....".

من الفصل الثاني "حكايات من قصر النهاية".....

وانا أعود بذاكرتي الى ما قبل خمسين عاما مسترجعا بعض من ذكرياتي عن تلك الأيام وشخوصها، خطر على بالي ما كتبه الروائي الروسي الرائع فيودر دستيوفسكي في (ذكريات من بيت الموتى) عن شخصيات عاشت في سجن في سيبيريا عانت جميعها من عالم يفرض عليهم قوانينه ويستلب حريتهم. أما بالنسبة لطبيعة هذه الشخصيات وسلوكياتها ومكنوناتها الروحية والعقلية، ففي رواية دستيوفسكي يختلف السجناء في سجيتهم، وهم كذلك في المعتقلات التي اكتب عنها في مذكراتي المتواضعة التي بين ايديكم.

تجدر الإشارة الى ان الحكايات التي سأسردها هنا، تشمل شهادات شخصية إضافة الى شهادات من كان معي في ذلك المعتقل الرهيب تلك الفترة، بعضها قاسية وبعضها لا تخلو من الطرافة. وسيدرك القارئ أني في سردي لتلك الحكايات لا ادعي بطولة، كما أني سأتجنب ذكر أسماء من لم يتحمل الموقف المذل والقاسي في المعتقل فاضطروا الى الاعتراف بأسرار تنظيمية او تعاونوا مع رجال الامن بعد ان استنفذت قواهم طاقة التحمل. وهناك حقيقة لا يجب ان تغيب عنا، وهي ان قدرة تحمل ظروف الاعتقال وأساليب التعذيب القاسية لا علاقة لها بحزب او قومية او طائفة او دين، فكم من المحسوبين على أحزاب دينية او طائفية او حركات قومية صمدوا وتحملوا ولم تنكسر ارادتهم طيلة فترة مكوثهم في المعتقل.

ما يحيي فينا انسانيتنا ليس البحث عن عثرات الاخرين فمن منا بدون اخطاء وبدون عثرات. ان ما يجعلنا انسانيون هو اندماجنا بالجزء الانساني من اقراننا في الانسانية وليس شحذ ذاكرتنا وخيالنا من اجل تضخيم سقطات الاخرين والبحث عن أسباب سقوطهم في زيف انتمائهم. ولكن هذا لا يعني اطلاقا تحرير الاخرين من مسؤوليتهم تجاه تنظيمهم وتجاه رفاقهم الذين شاطروهم الفكر والموقف.

رغم ادعاء البعثيين بتمسكهم بشعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين الا انهم كانوا يحتجزون في قصر النهاية مواطنين فلسطينيين واردنيين ومن المغرب العربي. معي في المعتقل كان عدد من الفلسطينيين وفي المطبخ الخاص بجلاوزة القصر كان يعمل معتقل من الأردن، لا ذنب له سوى انه تجاوز الحدود مع ماشيته فصودرت الماشية واستعبد صاحبها. وفي مكان اخر ليس بعيدا عن الصالة التي احتجزت فيها، كان هناك معتقل من تونس، تهمته اشتباه أحد رجال الامن بتلاعب مادي في صفقة تجارية شاركه فيها!

كان معي في المعتقل شاب، يكبرني في العمر ببضعة سنوات، معتقل بتهمة انتمائه للبعث اليسار (وهو جناح بعثي مؤيد لحزب البعث في سوريا)، لاحظت عليه دماثة الخلق مع مستوى لا بأس به من الثقافة، فأصبحت اتحين الفرص للحديث معه. في حديثنا كان قدر من الصراحة، رغم ما في ذلك من خطر علينا نحن الاثنين. لم اعرف انه من القومية الكردية الا بعد خروجي من المعتقل وزيارتي لأهله حاملا وصية منه. فاستغربت وقتها ان كرديا يتحمل كل هذا القدر من التعذيب دفاعا عن شعارات قومية عربية، بينما من يعذبه يدعي انه امينا على هذه الشعارات.

من الفصل الثالث "في معتقل مديرية الأمن العامة".......

في صباح يوم خريفي من عام 1970 نودي عليَ من زنزانتي ليجري اقتيادي برفقة أحد رجال امن القصر الى مكان قريب من بوابة الخروج لأصطف في انتظار السيارة المخصصة لنقلي، الى جانب اثنين من المعتقلين الذين كانوا معي في معتقل قصر النهاية وهما كريم احمد (ابو شروق)، عضو اللجنة العمالية للحزب الشيوعي العراقي، والمعتقل الثاني هو اخي باسم، الى معتقل مديرية الأمن العامة. وبعد طول انتظار دُفعنا نحن الثلاثة الى المقعد الخلفي لسيارة صغيرة، وكان ترتيبنا انا وأخي في طرفي المقعد الخلفي يتوسطنا كريم احمد. أما المقعد الامامي الى جانب السائق فقد احتله نائب رئيس الهيئة التحقيقية الثانية حسن المطير.

في طريقنا الى معتقلنا الجديد في مديرية الامن العامة، خاطبني حسن المطير ناصحاً بالابتعاد عن السياسة والاهتمام بمواضيع اخرى كغيري من الشباب، فالحياة بالنسبة لي، كما قال، في بدايتها وعلىَ ان لا اضيع مستقبلي وان استفيد من فرص الحياة الأخرى دون الدخول في مغامرة سياسية غير مضمونة العواقب. تحدث حسن المطير طويلا في هذا السياق، بينما كان كريم احمد يندسني خفية على قدمي استخفافا بكلام حسن المطير. كانت تلك بداية تعزيز الثقة بالمناضل المغدور كريم احمد (أبو شروق)، بعدها قدر لنا ان نصبح صديقين حميمين، وبقينا كذلك الى ان جرت تصفيته في بداية الثمانينات من القرن الماضي.

من الفصل الرابع "في معتقل الفضيلية".....

بعد معتقل الامن العامة تم نقلنا انا وابي وأخي وعدد من المعتقلين الاخرين الى معتقل الفضيلية الذي كان اشبه بمركز احتجاز لمعتقلين بتهم تنوعت بين الجريمة العادية والسرقة والاغتصاب وتهريب وترويج المخدرات وغيرها الى جانب المتهمين بممارسة النشاطات السياسية أو المغضوب عليهم من النظام السياسي القائم. وكما تنوعت التهم التي بسببها تم احتجاز مرتكبيها او المتهمين بارتكابها فقد تنوعت مباني المعتقل.

كانت هنالك الصالات الكبيرة او القواويش المنفصلة عن بعضها ببوابات صغيرة، وقد حشرت فيها فئة السجناء العاديين الذين لا نفوذ لهم ولا حظوة في المعتقل بينما خصصت غرف منفصلة صغيرة تتوفر فيها بعض وسائل الراحة للمعتقلين المتنفذين من امثال جبار كردي وعمار علوش وهما من كوادر البعث القديمة وشقاواته، وقد كانت لهم سطوة بعد انقلاب شباط الاسود في عام 1963 وكانوا من المسؤولين عن حمامات الدم ضد الشيوعيين في معتقل قصر النهاية السيئ السمعة.

جرى حشرنا في أحد القواويش الذي كان اغلب المحتجزين فيه بتهم سياسية. وقد بدى لي بعد تعرفي الاولي على المعتقلين، بحسب طبيعة علاقتهم بنا، ان هنالك تصنيف للقواويش وفقا لنوعية التهمة، وأغلب الظن ان هذا التصنيف قد حصل حسب العرف وليس بتخطيط من ادارة المعتقل. اضافة الى القواويش والغرف الخاصة كانت هنالك زنزانات الاعتقال الانفرادي، وقد عرفت ان من بين المحتجزين فيها (كريم حواس) شقيق (مطشر حواس) عضو تنظيم الحزب الشيوعي العراقي-القيادة المركزية والذي اصطدم بقوى الامن في بغداد وجرح أحدهم بطلق ناري قبل ان يقتل.

أعود مرة أخرى لرواية (ذكريات من بيت الموتى) للكاتب الروسي فيودور دستيوفسكي والتي يحكي فيها عن علاقة السجناء في سجن اومسك السيبيري ببطل روايته، والتي تميزت في البداية بالشك وبعض من الكراهية بسبب انحداره من طبقة النبلاء وعلاقته هو بهم كسجناء غلاظ النفوس، ثم تبدلت هذه العلاقة لتحل محلها علاقة، ان لم تكن ودودة فهي طبيعية. هذا، تقريبا، ما حصل لنا في معتقل الفضيلية، فقد تغيرت علاقتنا بغيرنا من المعتقلين بغض النظر عن طبيعة التهم الموجهة لهم واصبحت أكثر ايجابية وأحيانا ودية.

توطدت العلاقة بجبار كردي الذي وجد في حضورنا متنفس له للحديث عن امور يهتم بها كالسياسة والتاريخ السياسي للعراق، وقد افاجئ البعض إن ذكرت بانه قد اظهر اهتمامات ادبية وخاصة بالأدب السوفيتي مما اوجد ارضية للحوار الادبي بنكهة انسانية. وربما ان ما عزز العلاقة معه اننا قد تجاوزنا اي حديث عن تاريخه الشخصي الدموي. ومما لاحظناه عليه هو انفتاحه علينا (أنا ووالدي) بحيث انه كان يطرد وكلاء الامن في المعتقل عند الاقتراب من مجالسنا.

أما عمار علوش فلم يكن سوى شخصية قميئة، كان جبار كردي يحتقره. وهو من جانبه كان يحسد جبار كردي على نفوذه وسطوته في معتقل الفضيلية ويتمنى ان يحظى باهتمام المعتقلين السياسيين به كما هم يهتمون بجبار، وكان عندما أمر بغرفته يدعوني لتبادل الحديث معه ويفتخر كما جبار بانه قرأ "كيف سقينا الفولاذ" للكاتب السوفيتي نيكولاي استروفسكي اضافة الى كتابات مكسيم غوركي، ولكن شخصيته الى ان غادرت معتقل الفضيلية لم تولد عندي اي ثقة بانه يمكن ان يتمسك في ساعة بمفاهيم الانسان وهموم المجتمع.

الشخصية الاخرى التي بودي الحديث عنها من معتقلي الفضيلية هي شخصية الشرطي (هتلر) الذي كان يعمل في مركز شرطة قريب من وزارة الدفاع. كان (هتلر)، وهذا هو اسمه الحقيقي، متزوج من قريبة له عضوة في الحزب الشيوعي العراقي وكان الحزب يختزن في بيتها اسلحة وقنابل يدوية خاصة بالحزب، دون علم زوجها هتلر. ولم ينكشف هذا الامر له الا في أحد الايام عند عودته من عمله، حيث لاحظ وجود رجال امن امام باب بيته فسألهم عن غايتهم، ولكنهم حال ما عرفوا بانه صاحب الدار اعتقلوه واتهموه بخزن اسلحة في داره.

زوجة (هتلر) تمكنت من الفرار قبل وصول رجال الامن، أما هو فتعرض لصنوف التعذيب القاسي وهو لا يعرف اي شيء عن الاسلحة التي في داره، وبعد ان يئس المحققون من الحصول على معلومة مفيدة منه قرروا احتجازه في سجن الفضيلية لحين الوصول الى زوجته. وفي أحد الايام جيء بأحد اقارب زوجة (هتلر) الى معتقل الفضيلية. فتم فسح مجال له لوضع فراشه في نفس القاووش الذي كنا نحن فيه، وصادف ان يكون هذا المكان قريبا مني فاستمعت الى حديثه مع (هتلر) الذي كان يهدد بطلاق زوجته حال الافراج عنه، بينما قريبها يقنعه بالحفاظ عليها كونها قريبة هتلر كذلك، أما ألأسلحة فقد خبأتها في البيت، كما قال قريبها مستغفلا هتلر، فهي لحمايته شخصيا، ليتساءل هتلر بسذاجة "يعني شلون؟ اذا فد يوم اتعارك ويه جاري تكوم هيه تضربه بقنبلة...."

من الفصل الخامس "ما بعد الاعتقال".....

بعد مغادرتي العراق للدراسة، زارني الشهيد عبد الكريم احمد (أبو شروق) في موسكو وتعرفت من خلاله هناك على الممثلة العراقية المعروفة ناهدة الرماح (احدى بطلات النخلة والجيران)، فأصبحنا ثلاثة اصدقاء نلتقي ليس فقط لمناقشة هموم الوطن بل ولنقضي ساعات جميلة فيها النكتة والمرح. أذكر مرة اننا، أنا وابو شروق، زرنا الفقيدة ناهدة الرماح في قسم داخلي كانت تقيم فيه، وبينما غادرت هي غرفتها لتغسل اكواب الشاي، لمح ابو شروق وجود باروكة نسائية في احدى زوايا الغرفة فلبسها مازحا، وكان جالسا وظهره الى الباب، لذا تفاجأت ناهدة عند دخولها مع اقداح الشاي فسألتني اين ابو شروق ومن هذه الفتاة التي معك؟ فضحكنا جميعا وعلقت ساخرا "كيف يمكن ان يمر هذا المشهد المسرحي على ممثلة قديرة مثلك يا ناهدة".

قررنا يوما انا وناهدة الرماح وابو شروق ان نقضي امسيتنا في مطعم (بودابيست) الذي كان يقع مقابل تمثال مايكوفسكي في مركز موسكو تقريبا. تمتعنا هناك بعزف موسيقي جميل ادته الفرقة الموسيقية التي تعمل في المطعم والتي كانت تعزف اضافة الى الاغاني الكلاسيكية الجميلة المناسبة للرقص البطيء، اغاني تتطلب من الراقصين مهارة في الحركة. راهنت ناهدة على ان يطلبها للرقص أحدهم، بعد ان اعتذرنا انا وابو شروق من اداء هذا الدور. ولما لم يتقدم أحد لطلبها خاطبتنا بحزم "شوفوا، إذا محد منكم يكوم وياي راح اكوم اركص لوحدي" فتعين على أحدنا ان يرافقها الى الرقص، وكنت انا.

تركت ناهدة حذائها بكعبه العالي تحت الطاولة وتقدمت نحو صالة الرقص حافية. ومن حسن الصدف ان الفرقة الموسيقية عزفت اغنية فيها المزيج من اللحن الروسي والشرقي، مما وفر فرصة كبيرة لناهدة كي تظهر مؤهلاتها في الرقص فكانت لوحة جميلة انسجمت فيها المعزوفات الموسيقية مع حركات ناهدة الرشيقة مما اثار اعجاب الحاضرين الذين تركونا في المنتصف متنحين جانبا واكتفوا بالتصفيق لنا.

يحضرني في استذكاري لتلك الساعات الجميلة ما قاله الكاتب البرازيلي جورج امادو من اننا، حتى في أحلك الظروف، حتى في ايام العبودية، يجب ان نحتفل ونفرح، ذلك لأننا لا يمكن ان نحافظ على الامل دون ان نفرح ونعزف الموسيقى ونرقص. قول امادو هذا يصلح لمواجهة كل اشكال العبودية سواء تلك التي سادت بمضمونها السياسي او تلك التي تسود اليوم بمضامين جديدة هي خليط من السياسة والدين والقومية والطائفية.

 

د. جاسم الصفار

14/12/2020

 

الرأسمالية تعانق الاشتراكية في دول الرفاه

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان ابو زيد

عدنان ابوزيدأصبح ملفِتا في عصر تلاشي الأيديولوجيات السياسية، انتعاش النقاش مجددّا بين النخب السياسية والاقتصادية الغربية حول اليسار واليمين، واشباح الاشتراكية التي تنسلّ الى الرأسماليات الغربية، ووفقًا لمجلة غالوب، يبصر الرأسماليون الديمقراطيون في الغرب الآن إلى الاشتراكية بمنظور أكثر إيجابية، ونجم عن ذلك ارتقاء سياسيين يؤمنون حتى بإبدال الرأسمالية بالاشتراكية، فيما المحافظون يدركون الخطر ويتداركونه برفع شعار "الموت أفضل من الأحمر" وهم في حالة من انفعال فكري، معتبرين انّ من غير الممكن، على سبيل المثال لا الحصر، التعامي عن رؤية نجاحات الرأسمالية، العظيمة، والسير على هدي تجارب مثل فنزويلا الاشتراكية، حيث "يموت الناس جوعًا".

لا يخلو النقاش حول رواج "الاشتراكية" في المجتمع الرأسمالي من استقطاب لمشاعر الناس على حساب الحقائق الاقتصادية والاجتماعية، ومخرجات التطبيقات الفعلية، طالما ان السياسة تلوي اعناق الحقائق، فالقول ان الرأسمالية قد خذلت الناس وأن الاشتراكية هي الحل، ما هو في الحقيقة الا تبسيط كاريكاتوري للواقع، لا يخلو من ارهاصات سياسية انتهازية، فيما الواقع ان الاقتصادي الغربي واقتصاديات روسيا والصين واليابان، بإنجازاتها العظيمة، ماهي الا مزيج ناجح بين مؤسسات السوق الرأسمالية، والحكومية المركزية، والتجزئة الاشتراكية.

لعقود عديدة، تساجلت القيم الرأسمالية والاشتراكية على نيل الاعتراف بشهادة "الاصلح" لبناء اقتصاديات الدول، وخلّف اليسار واليمين، الكثير من المعارك الأيديولوجية، لكن الحقيقة انّ كل ذلك لم يُبرِز منتصرا، لان الخاتمة كانت للنظام الهجين الذي يزاوج بين الاشتراكية والرأسمالية.

يحتاج اليسار ووراءه الاشتراكيون، إلى تقدير دور الرأسمالية في تعزيز انتاج الوفرة، وما صاحبه من ترف، فيما يحتاج اليمين إلى الإقرار بالدور الذي لا غنى عنه لشبكات الأمان الاشتراكية والضمان الصحي، في تهدئة مشاعر عدم اليقين بالرأسمالية.

الاشتراكيون الديمقراطيون الجدد في الولايات المتحدة، مثلا، الذين يترشحون للمناصب لا يطالبون بتأميم الصناعة أو إلغاء الملكية الخاصة، بل يدعون إلى دولة رفاهية معزّزة بشكل كبير بضمانات الضبط الحكومي لمختلف الصناعات. 

فرق كبير بين الديمقراطية الاجتماعية كما في هولندا و الدنمارك أو السويد وبين مثيلاتها في الاقتصاديات الرأسمالية لانها تمارس منهج الحرية الاقتصادية، اذ تتفوق الدنمارك والسويد، -حيث الضرائب مرتفعة والإنفاق الواسع على الرفاهية-، على الولايات المتحدة في أمن حقوق الملكية، وسهولة التأسيس للأعمال، والانفتاح على التجارة، و الحرية النقدية. 

وفي التطبيق الفعلي، فان الضمانات الاشتراكية الناعمة المصحوبة بالابتكار الرأسمالي والمنافسة والكفاءة والتجارة والنمو، تعطي درسا مفيدا عن جدوى الديمقراطيات الاجتماعية في بلدان الشمال الأوروبي. 

إنّ أشدّ أنصار الرأسمالية مثل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ومذهبه التجاري البحت، الذي يؤمّن تدفقًا ثابتًا من الفرص، يدعو أيضا الى الأسواق العادلة ذات القواعد التي لا تجعل الأغنياء يأخذون كل شيء، ويتعلق الأمر بالأقوياء أيضا، ومثلما نجحت تجربة الاقتصاد الهجين بين الاشتراكية والرأسمالية في خلق أسواق أكثر ثراءً، فإنها أيضا جعلت جميع المواطنين، أكثر غنى. 

 

 عدنان أبوزيد

 

الفلسطيني د. منصور عباس وتحطيم قصور الوهم

التفاصيل
كتب بواسطة: حسين فاعور الساعدي

حسين فاعور الساعديهل مصير الفلسطينيين سكان إسرائيل مرتبط بتواجدهم أو بتمثيلهم في الكنيست؟ الجواب على هذا السؤال يحدد نظرتنا إلى الأمور وكيفية تحليلها. من يدعي أن مصير الفلسطينيين في دولة إسرائيل مرتبط بتواجدهم في الكنيست يبني على هذه الرؤية الكثير من  الأوهام والأمور غير الواقعية. منها أن الكنيست هي ساحة النضال لتحصيل الحقوق. وأن الكنيست هي المكان لمحاربة اليمين المتطرف وأن الكنيست هي الموقع لمنع تهجير الفلسطينيين مواطني إسرائيل من ديارهم وما إلى ذلك من مزاعم وهمية خلقها أناس أرادوا المحافظة على أحزابهم\مزارعهم وأرادوا تبرير وشرعنة تواجدهم في هذه المؤسسة الصهيونية. والأسوأ من ذلك على مدار عقود طويلة غطوا على كسلهم واستهتارهم بمصالح الجمهور الذي أوصلهم إلى مواقعهم بخلق صراعات وشجارات وهمية مع زملائهم في هذه المؤسسة التشريعية. ألبسوا أنفسهم ثياب المناضلين والمجاهدين ضد هذه المؤسسة وسياساتها فأعطوا المبرر للقائمين عليها بنبذهم ومقاطعتهم. وبين الحين والآخر افتعلوا وأمام كاميرات وسائل الإعلام مشاهد وشجارات مع بعض أعضائها المتطرفين. هذه الشجارات التي في حقيقتها ما هي إلا مسرحيات متفق عليها من قبل الطرفين جعلت من منفذيها أبطالا فجلبت لهم الكثير من الأصوات وحافظت على مكانتهم وعلى تغذية التوتر والتباعد بين الصهاينة والفلسطينيين داخل الكنيست وخارجه. هذا التباعد الذي يدفع ثمنه الباهظ البسطاء بينما يحافظون هم والمقربون منهم على مصالحهم وعلاقاتهم الجيدة ومن وراء الكواليس مع مختلف أذرع المؤسسة أو السلطة الحاكمة.

أما من يدعي أن وجود الفلسطينيين كمواطنين في دولة إسرائيل غير مرتبط بتواجدهم في الكنيست فلديه رؤية مختلفة للأمور. رؤية مصدرها الواقع والمعطيات الكثيرة والمتراكمة والتي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا التواجد ليس لا قيمة له فقط بل أضر ضرراً بليغا وكبيراً بمصالح الجمهور العربي إذ تم عرض هذا الجمهور من خلال ممثليه في الكنيست وبشكل يومي على الفضائيات وكأنه جمهور متطرف وفي حالة شجار مع الجمهور اليهودي وهو أمر غير قائم في حدود إسرائيل 1967. هذه الرؤية تخدم أذرع السلطة المختلفة التي تخاف من النضال المشترك بين الجمهور العربي والجمهور اليهودي في هذه البلاد. النضال المشترك في قضايا اجتماعية واقتصادية يرعب السلطة ويخيفها. ولذلك أعتقد أن هذه السلطة منذ عقود تجند أعضاء الكنيست من كلا الطرفين للعمل على منع ذلك.

معروف للجميع أنه لا يمكن ولا بأي شكل من الأشكال تمرير قانون معين في الكنيست إن لم يكن يخدم الوسط اليهودي بالأساس. بكلمات أخرى كل القوانين التي تشرعها الكنيست هي قوانين لخدمة المواطن اليهودي والعربي يستفيد منها لكونه مواطن في الدولة. وهذا يعني أن عضو الكنيست العربي لوحده لا يستطيع تمرير قانون واحد دون دعم الأعضاء اليهود حتى لو كان للعرب 59 عضواً في الكنيست وهو رقم لا يمكنهم الوصول إليه. إذن المنطق يقول أن التعاون مطلوب بين أعضاء الكنيست العرب والأعضاء اليهود. ومطلوب أكثر التعاون مع أعضاء الحزب الحاكم في القضايا الكبيرة والملحة. وإلا فما جدوى تواجد الأعضاء العرب؟ هل نتوقع أن تكون حكومة يسار في إسرائيل؟ أين هو هذا اليسار؟ وماذا قدم للفلسطينيين منذ قيام الدولة؟ وهل يمكن ترك الكثير من القضايا الملحة التي يعاني منها جمهورنا أو تجميدها حتى يولد يسار ويصل إلى السلطة فنجلس معه؟

إذن علام كل هذا الهجوم على منصور عباس؟ ألأنه جلس مع نتنياهو؟

هذا الهجوم على د. منصور عباس ليس لأنه جلس مع نتنياهو فكل أعضاء المشتركة جلسوا ويجلسون مع نتنياهو وغير نتنياهو. هذا الهجوم على د. منصور عباس لأنه كسر نهجاً تم ترسيخه على مدار عقود طويلة وبدعم خفي من السلطة ذاتها. نهج القطيع والبقرات المقدسة.

هذا النهج (نهج القطيع والبقرات المقدسة) وفر الأجواء والأرضية لطرح شعارات ليس فيها ذرة منطق ومبنية على الوهم والسراب كشعار "إسقاط نتنياهو". هذا الشعار لا يمكن طرحه على جمهور لديه ذرة من عقل. لماذا؟ لأن العرب حتى لو كان لهم 59 عضو كنيست لن يستطيعوا إسقاط نتنياهو إن لم يرد اليهود ذلك. والأصعب من ذلك أن من يطرح هذا الشعار يقول بلغة واضحة ودون أدنى شك أن نتنياهو هو المشكلة ويبرئ السياسات العامة التي انتهجتها وتنتهجها الحكومات المتتالية منذ قيام الدولة، وهذه مغالطة وتشويه للواقع وللتاريخ. كما أن مجرد طرح هذا الشعار يظهر مدى استهتار من طرحوه بعقلية جمهورهم وبمدى مقدرته على الفهم والتحليل. طرح هذا النوع من الشعارات هو نمط ونهج سلكته وتسلكه قيادات تنظر إلى الجمهور العربي على أنه قطيع يمكن التحكم به باللعب بغرائزه وعواطفه. فجاء الدكتور منصور عباس ليغير قواعد اللعبة مما يمس بمراكز البقرات المقدسة ويشكل خطراً على استمرار وجودها.

الجمهور مل الشعارات الجوفاء وما عاد يصدق الحروب الدونكيشوتية والمعارك الوهمية. الجمهور يريد عنباً ومل من لعبة مقاتلة الناطور المضبوطة والموجهة من اذرع المؤسسة المختلفة.  وبما أن الدكتور منصور عباس فلاح ابن فلاح ولا زال التراب يخالط مسامات جلدة فقد استشرف ما يشعر به الجمهور ولم يستطع إلا القيام بما يمليه عليه ضميره النقي الذي لم يغرق في أوهام الزعامة بعد.

د. منصور عباس لا يزال يرى بنفسه موظفاً في مؤسسة صهيونية من واجبه أن يخدم من أرسله لهذه الوظيفة. هذه الرؤية الواقعية تتناقض وتختلف مع رؤية من يتسترون وراء بطولات وهمية وشجارات مفبركة مع ممثلي اليمين المتطرف. شجارات متفق عليها مسبقاً لدغدغة مشاعر القطيع الذي يريدون رضاه ودعمه ليحافظوا على مواقعهم. لعبة الشجارات هذه لا تناسب فلاح ابن فلاح كد. منصور عباس ولا يقبل القيام بها لأن أخلاقه وعقيدته لا تسمح له بذلك. من هنا فهو يشكل خطراً على من كل رصيده هو هذه الشجارات المفتعلة مع ممثلي اليمين المتطرف والمدعومة بالشعارات التي لا معنى لها.

نهج الدكتور منصور عباس يغيظ البقرات المقدسة في المشتركة ويغيظ بنفس القدر أذرع السلطة التي لا تريد لفلسطينيي الداخل مندوبين حقيقيين عنهم في الكنيست الإسرائيلي يساهمون في حل مشاكلهم وقضاياهم الملحة.

هذا الإدراك أن العربي الفلسطيني في برلمان صهيوني يستطيع حل قضايا اجتماعية واقتصادية معقدة وكثيرة يخيف السلطة ويحملها مسؤوليات كثيرة وكبيرة تنصلت منها على مدار عقود طويلة بتغطية جيدة وكاملة من حملة الشعارات الوهمية مثل شعار "إسقاط نتنياهو".

وهذا الإدراك أن عضو الكنيست هو موظف في الكنيست مثله مثل أي موظف في بنك أو شركة أو مؤسسة من واجبه التعامل مع كل مكونات هذا الجسم الذي يعمل فيه وإلا لا معنى ولا مبرر لوجوده. لماذا عضو الكنيست تحول إلى قائد قومي يوزع المهام ويصدر التعليمات والتوجيهات؟ كيف لموظف في مؤسسة صهيونية أن يكون حامل شعار القومية؟ لماذا هذا الجمع بين متناقضين؟ وهل يقدر عليه إلا ثعلب متلون؟ سكوت الجمهور على هذا الأمر غير المنطقي هو ما شجع أعضاء الكنيست على الاستهتار بمصالح الجمهور وعلى لعب هذا الدور المتناقض مما خلق كل هذه الفوضى التي تجتاح وسطنا العربي.

د. منصور عباس كما يبدو استشعر أن صبر الجمهور قد نفذ ولم يعد بالإمكان السكوت على مهازل المشتركة فقرر القيام بواجبه وما يمليه عليه ضميره النقي كموظف في مؤسسة صهيونية غير خائف من تحريض المغرضين. فهو يؤمن أن شعبنا ليس قطيعاُ وهو يملك القدرة على التمييز بين الغث والسمين.

***

حسين فاعور الساعدي

 

 

قراءة في رواية: الكواز و رحلة التيه

التفاصيل
كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا

حيدر عبدالرضاللكاتب عبد الرضا صالح محمد.. السارد المركزي وتعدد مواقع الشخوص الرواة

توطئة:

أن مساحة التجليات السردية في محاور فضاءات الرواة الشخوص في رواية (الكواز ورحلة التيه) للقاص والروائي الصديق عبد الرضا صالح محمد، تتخذ لذاتها وظائف بنائية ـ ملفوظية، متباينة من حيث مسار الحكي وعلاقاته الموصولة في جملة تحصيلات مواقع خاصة مستقلة من حدود المسرود المتعدد في الرواية.

فالروائي ومن خلفه المؤلف الضمني، يشكلان مرحلتان خاصتان من (التضمين ـ الاستطراد التداخلي) وصولا منهما إلى موقعية وحدات الاسترجاع الداخلي ـ الخارجي، من خطاب السارد المركزي نفسه، والذي بدوره راح يؤسس لذاته وقفة تناوبية متحولة ومستقلة في تمفصلات أحاديث ومرويات مواقع تعدد الأصوات الساردة في شعاب منحى الرواية.

ـ الراوي المتعدد بين زمن الحكاية وصيغة العلاقات السردية .

ففي معرض حديثنا حول عاملية (الراوي المتعدد) في سياق السرد، يمكننا معاينة تأشيرات الروائي ذاته ومن خلفه المؤلف الضمني نحو بلوغ مستويات توظيفية من (المؤلف الضمني الراوي المتعدد/ السارد المعدول به إلى تبئيرات ـ خارجية ـ داخلية/ السارد المتماثل حكائيا) وعلى هذا النحو من معدلات ومقادير الساردون في الرواية، نلحظ منظور الشخوص قد حصلت على مقاربات ذاتية من ذاتها حيال مراجعة نقطة منظورها الداخلي تعديداً وحدود مواقعها التمفصلية في زمن حكاياتها، لذا نجد أن كل واحدة من الشخصيات الروائية، قد أخذت دوراً لها في تداول دورة زمن حكايتها إلى جانب معرفاتها الموقعية والعتباتية الدالة في مضمار كفاءة الفاعل الذاتي المركز في زمن الحكاية الروائية: (الراوي: دخل المدينة بقامته الطويلة وضخامة جثته ماشيا يجر قدميه عائدا من عمله، رافعا ثوبه من الأسفل ليتزر به في حزامه فبانت ساقاه المفتولتان، وعقد يديه خلف ظهره .. ولما رآه الأطفال وهم يلعبون في الشارع خافوا منه وفروا بعيدا. / ص9) .

1ـ الراوي في مواقع فاصلة ومتقاطعة من مواقع الشخوص:

إجمالاً نعاين وظيفة السارد ـ الفاعل المشارك، فتبدو لنا من وجهة نظر الروائي، هي من ينتج تأثيراً ممهداً في أشكال ومحاور الخارج والداخل من المبئر الروائي، ولكننا عندما ندقق في الشخصية ـ عبود ـ نجده شخصاً عاملاً في مسار النص المحوري، وليس سارداً فاعلاً كما يظن الروائي أو القارئ، وذلك نظراً لأنه في عتبة الراوي صار يحتل لذاته موقعاً مباشراً في مشاهد التمثيلات النصية كشخصية روائية، وليس من ضرورة ما من الروائي لوضع عتبة (الراوي) لأننا أدركنا ضمنا بأن السارد في نص الراوي ليس مشاركاً في النص، بل أنه الراوي المتوافق في سرد المشاهد والحوارات تعقيباً ظاهراً في سياق الخطاب: (أشار لها بأن هناك عملاً متراكماً قام بإنهائه، كانت زوجته ـ غانمة ـ مشغولة بترتيب غرفتها وكنسها بالعرجون سمعت صوت حماتها صفية، وهي تستقبل أبنها عبود وتتحدث معه. / ص9 الرواية ) وعندما نطالع عتبة ـ عبود ـ نلاحظ تحول المسرود من خلال السارد الفاعل العليم إلى جهة سردية عبود كسارداً مشاركاً وكعلاقة في خطاب النص، حيث يجرى التبئير الداخلي والخارجي كوظيفة متعددة وضمن موجه (تبئيرا داخليا ذاتيا) وهذا يعني أن الزمن الروائي في الرواية غدا مجبولا على مواقع خطية متعاقبة من تعدد المحاور الشخوصية الساردة أو الساردون، كما أنه يعرض أفق الاسترجاعات في نقطة وحيز من كلا الشخصيات المتعاملة وذاتية المبأر كوحدة فاعلة بذاتها حيال تفاصيل السرد بين حاضراً وماضياً، ولكن في أطار وتيرة متباطئة من حركتي السرد ومسرود الاسترجاعي، ويمكن توضيح حركة تنام السرد في إطار ثنائية حاضرية المسرود الاسترجاعي بالترسيمة الآتية: ( نقطة بداية السرد = حاضر = استرجاع/ الراوي ـ أجزاء سردية ـ تعدد الرواة = مواقع مستقلة للمسرود/ امتثالات السارد العليم ـ الاستباق الداخلي المتنمي للحكاية ـ الاستباق غير المنتمي إلى الحكاية) يحدث الاستباق الداخلي من طرف السارد المضمن في وظيفة الحكي، وفي بنية الحكي الداخلي الشخوصي، تتكرر المحاور الشخوصية كأستدعاءات محملة بخواص المشاهد المنتمية إلى حالة الشخصية المزمع محورها السارد في اللحظة الفاصلة عن الخارج السردي، كما يحدث الاستباق الداخلي لدى الشخصية كنقلة معدولة على لسان صفات وأفعال الشخصية ذاتها، كما ويبقى الاستباق الداخلي غير المنتمي إلى الحكاية الروائية، كحال استشراف السرد المستقبلي الذي هو غير داخل في مضمون النص، وبالمقابل منه يقودنا الاسترجاع الداخلي الذي هو خارج الحكاية إلى خروج النص عن الأحداث الماضوية التي تسبق زمن حكاية النص كحال هذه الوحدات قاب قوسين: (سألته عن سبب همه أجابني بأن الشيخ طلب يد غانمة لأبنه عواد! أنتقل همه إلي، فقد كانت غانمة صغيرة وعواد شخصاً سيئاً. / ص86 ) .

2148 عبد الرضا صالح

ـ راوي الرواة والأصوات الروائية

أن الاشارات الوظائفية في محكي رواية (الكواز رحلة التيه) تضعنا إزاء وظيفة (راوي متعدد/ راوي الرواة) اقتراناً له بذلك المؤلف الضمني والذي هو ليس بالمؤلف الحقيقي، بل أنه المؤلف المعادل للمؤلف الحقيقي في أشد اللحظات الداخلية من زمن مراقبة السارد المتماثل حكائيا، وقد تتسع مقاربة المؤلف الضمني إلى حالة مرويات السارد، كخاصية مفترضة أيضا في الملفوظ الروائي لا أكثر، وقد تواجهنا وظيفة راوي الرواة في الرواية، كعلاقة واصلة بين الشخصية الساردة وتمظهرات الأصوات الروائية الساردة في الرواية أيضا، وأي كحال من الأحوال التي تخص الأصوات الشخوصية التي تحكي مسرودها داخل سياق من سياقات السارد المشارك: (عبود: دبة الحياة في المدينة، وخرج من تبقى من رجالها للعمل وللبحث عن لقمة العيش، أعدت أهلي إلى بيتنا وتوجهت للعمل في الكورة بعد أن اضناني التعب في دفن الموتى./ ص102) هذان الحضوران لصوت السارد المركز والمشارك في النص كشخصية، هما صوتان واقعان ما بين الخارج والداخل من زمن المتصل في المتن، وهذه العلاقة تشمل الأصوات غير المحورية في الرواية كحال الحاج محمود والحاج علي واللصين وأبو عبدالله والنوخذا والشيطانة الفاجرة والحاج خضر وأسماء أخرى كثيرة هي خارج فعلية المحاور المهيمنة في الرواية. وتبعاً لهذا نواجه وظيفة السارد المركزي وهي تتشكل بين المحاور المركزية والشخوص المتكلمة في السرد عن حكايتها، وصولا منها إلى جملة علاقات خاصة من مواقع الشخوص المحورية كعبود وصفية وغانمة وحمدة وسالم وصاحب وفالح وخديجة وجابر.

ـ الفاعل الذاتي ومنظورات التبئير

لقد أصبحت الشخوص في الرواية الحديثة أعلى صوتا إذا ما قورنت بصوت الراوي، وذلك نتيجة لظهور تقنية تعدد الأصوات في البناء الروائي./ سعيد يقطين ـ تحليل الخطاب الروائي ـ ص 284/. وعلى هذا المستوى تتعالق محفزات التبئير ضمن ثنائية (المنظور الموضوعي ـ المنظور الذاتي للفاعل المنفذ).

1ـ الحكي ذو التبئير الخارجي:

و يمتد السرد في هذا النوع من التبئير الخارجي من خلال تقديم الأحداث، اعتمادا على وعي أحدى الشخوص، وقد قسمه جيرار جينيت على أنه يتم عن اختيار الراوي لوعي شخصية معينة يقدم الأحداث من خلالها ـ جيرار جينيت ـ خطاب الحكاية، ص 220/. كما ويبقى المحكي ذو التبئير الخارجي في شخوص رواية ( الكواز ورحلة التيه ) يعرض مسرودة ضمن منطلقات تنبري وحدود إنتاج العلاقات والدلالات في رصد العلاقة ما بين السارد الشخصية وزمن الحكاية: (سالم: أوكلوا مهمة نفينا إلى سجن بومباي لثلاثة حراس هنود وهم آرجون وأميتاب وديليب الذي يتكلم العربية بطلاقة، في حافلة بهيكل خشبي، صعدنا مقمعين بالسلاسل أنا والسجينان الآخران عبود وصاحب ومعنا الحراس./ ص127) وعلى هذا النحو نستدل على أن المبئر يتم من خلال الناظم الخارجي، إذ يقدم المنظور برانياً وعمقه خارجياً.

2ـ المحكي ذو التبئير الداخلي:

في الحقيقة أننا لم تعاين ذلك التوغل في الأعماق الشخوصية في أحداث رواية عبد الرضا صالح محمد، إلا من حدود جوانب أن يكون المبئر برانيا، ويقدم المبأر من الداخل، وبذلك يكون المنظور برانياً وعمقه داخليا كما أسلفنا، حيث تتداعى صور وحالات الذاكرة في علاقة مسرودة من الحكي المنقول: (فتلعثم في كلامه وخرجت كلماته بصعوبة، لم تفهم الصبية إجابته فنادت على أمها. / ص233)

ـ تعليق القراءة:

في ختام علاقتنا بدراسة مقالنا للرواية نقول أن دلالات رواية (الكواز ورحلة التيه) للروائي المثابر عبد الرضا صالح محمد، أخذت تطرح دلالات مرجعية خاصة من حكايات لها جذورها الواقعية في أرض الذاكرة وعمق الذاكرة، لذا بدت شخوصها كيانات محسوسة ومشخصة من مدار زمن وقائع لها من التأثير على ذائقة المعاينة القرائية المتحاورة وأقطاب محكيات الرواة الشخوص في مواقع فضاءات الأزمنة والعلامات السردية المتباينة في مساحة جمالية المبنى الروائي الدال والدليل في الاستجابة الروائية الجانحة في شعاب المخيلة المؤثرة.

 

دراسة الناقد حيدر عبد الرضا

 

 

الافتراء على منظمة التحرير الفلسطينية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشوكأنه لا يكفي أن تل ابيب وواشنطن تناصبان العداء لمنظمة التحرير الفلسطينية وتصنفانها كمنظمة إرهابية، ولا يكفي أن يعاديها ويرفضها أيضاً البعض الإسلاموي من منطلق أن المنظمة تعبر عن مشروع وطني بينما فلسطين بالنسبة لهم وقف إسلامي وملك للأمة الإسلامية وبالتالي فأصحاب (المشروع الإسلامي) أولى بتمثيل الشعب الفلسطيني وكل الشعوب الإسلامية!، وكأنه لا يكفي أيضاً التهميش الذي تعرضت له من طرف أصحابها عندما تم إعلاء شأن السلطة الوطنية على حساب المنظمة في مراهنة بأن زمن المنظمة كتجسيد وتعبير عن حالة الثورة والتحرر الوطني قد ولى وأن الشعب يمر بمرحلة تأسيس السلطة والدولة، وحسابات واستحقاقات السلطة والدولة تختلف وتتعارض مع حسابات الثورة .

كأنه لا يكفي كل ذلك ليتنطع البعض من الفلسطينيين والعرب للنبش في الماضي للتشكيك بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبقرار قمة الرباط 1974 باعتبارها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني ويعتبرون ذلك مؤامرة لتجريد فلسطين من بعدها القومي العربي، ويزعمون أنه لو تركت فلسطين بيد الأنظمة العربية ما جرى للفلسطينيين ما جرى، بل وذهب البعض للزعم بأن الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني في قمة الرباط  كان باقتراح من وزير الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كسنجر للقادة العرب حتى يلجوا عملية التسوية السياسية دون أن يكونوا مكبلين بالمسؤولية عن الشعب الفلسطيني.

لا شك أن مسيرة الشعب الفلسطيني مع منظمة التحرير لم تكن كلها مكللة بالانتصارات والانجازات بل شهدت انتكاسات وأخطاء، كما أن واقع المنظمة اليوم مترد بسبب تهميشها وطنياً وترهل بنيتها المؤسساتية وعدم فعالية لجنتها التنفيذية، كما فشلت كل محاولات استنهاضها، ولكن هذا لا يبرر إسقاط الواقع الراهن للمنظمة على مبدأ وفكرة وشرعية تأسيس المنظمة، لأن الخلل كان وما زال في تحديات خارجية وفي الأدوات التنفيذية للمنظمة ومراهناتها وليس في مبدأ وشرعية ومبررات وجودها في مرحلة التأسيس.

منظمة التحرير ليست حزباً سياسياً وليست القيادة الراهنة وسياساتها بل هي تعبير عن الهوية والثقافة الوطنية وعنوان للشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري الذي يمثل النقيض للمشروع الصهيوني ويميز الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب ويمنع تذويبه في المجتمعات الأخرى، وبالتالي لا داع لإسقاط الحالة النفسية والعقلية للبعض المستاء والغاضب والرافض لقيادة المنظمة وسياساتها على منظمة التحرير بشكل عام،  فالقيادة مجرد أداة تنفيذية يمكن تغييرها وتبديلها، كما أن السلطة أداة للمنظمة وللمشروع الوطني وليست بديلاً عنهما، وكان من الأولى على منتقدي المنظمة أن يناضلوا من أجل استنهاض المنظمة بدلاً من إطلاق رصاصة الرحمة عليها. . 

 مع التذكير بأن سبب معاداة إسرائيل وأمريكا لمنظمة التحرير الفلسطينية واتهامها بالإرهاب وتجفيف مصادر تمويلها لا يعود لأن منظمة التحرير تمارس الإرهاب أو أنها فاسدة كما تروج إسرائيل وأمريكا، ولا يمكن أن تكون كذلك وفي نفس الوقت يعترف بها أكثر من مائة دول في العالم، بل يعاديانها لأنها استنهضت الهوية والثقافة الوطنية للشعب الفلسطيني بعد أن كان مجرد جموع لاجئين ولأنها مؤسِسة المشروع الوطني التحرري ومنذ تأسيسها وهي تقارع الاحتلال بكل الوسائل العسكرية والسياسية والدبلوماسية،  وكانت ويجب أن تستمر عنواناً لكل الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات وتتمسك بحقه بالعودة وإقامة دولته المستقلة.

لو لم يكن وجود المنظمة وتمثيلها لكل الشعب انجازاً وطنياً ما حاربتها إسرائيل طوال هذه العقود، ولو انساقت منظمة التحرير مع السياسة والمخططات الأمريكية والإسرائيلية وقبِلت بما كان يُطرح عليها من تسويات ما تم محاصرة المنظمة ورئيسها أبو عمار في المقاطعة 2002 ثم اغتياله بالسم، ولو انساقت المنظمة مع صفقة القرن وخطة الضم لكانت القضية الفلسطينية في وضع أسوأ مما هي عليه الآن.

ودعونا نتساءل ونسأل المشككين بشرعية ومبررات قيام المنظمة واعتبارها ممثلاً للشعب الفلسطيني، أولئك الذين ينطلقون من منطلق قومي أو إسلاموي، كيف كان الموقف الرسمي العربي تجاه فلسطين قبل 48 وما هو موقفها من الثورة الفلسطينية عام 1936-1939 وكيف خذلت الشعب الفلسطيني؟ وما جرى في حرب 1948 ؟ وماذا فعلت الأنظمة العربية لفلسطين بعد أن انتكب الفلسطينيون بهزيمة الجيوش العربية؟ وهل كان عند العرب استراتيجية قومية لتحرير فلسطين؟ ألم يقل الرئيس جمال عبد الناصر لوفد فلسطيني كان في زيارته عام 1962 (من يقول لكم أن عنده استراتيجية لتحرير فلسطين يضحك عليكم)، وهذا ما كتبه ووثقه المرحوم حيدر عبد الشافي.

ولو لم تكن منظمة التحرير موجودة واستمرت القضية بيد الأنظمة العربية التي انهزمت في نكسة 67 وكانت نتيجة هزيمتها ضياع بقية فلسطين بالإضافة إلى أراضي عربية أخرى ما زالت محتلة، فهل سيكون حال الفلسطينيون أفضل؟.

وعندما ترفع مصر أكبر دولة عربية وزعيمة العالم العربي بعد حرب 67 شعار استعادة الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وتساندها في ذلك جامعة الدول العربية وتدخل مصر وسوريا في حرب أكتوبر 1973 تحت هذا الشعار، فهل كان للشعب الفلسطيني أن يراهن على الأنظمة العربية لتحرير فلسطين؟

ونقول للذين يتباكون على فك تبعية القضية الفلسطينية للأنظمة العربية، أين هي هذه الأنظمة العربية التي يمكن المراهنة عليها لتحرير فلسطين؟ هل هي دول الخليج العربي؟ هل هي دول المغرب العربي؟ أم الدول التي انهزمت في حرب 1967 ؟ وهل فكر المنتقدون والمشككون والرافضون لمنظمة التحرير بما سيكون حال الشعب الفلسطيني لو استمر تابعاً وملحقاً بالأنظمة العربية التي نشاهد حالها بعد فوضى ما يسمى الربيع العربي ومع سياسة التطبيع ومع تواجد قواعد عسكرية أمريكية في غالبيتها؟

هذا لا يمنح قيادة منظمة التحرير والسلطة الوطنية شهادة براءة أو حسن سلوك وطني لا تشوبها شائبة، فالأخطاء والتجاوزات كثيرة بل يمكن القول إنه قبل أن تعلن حركة حماس الحرب على منظمة التحرير وبتزامن مع الهجوم الأمريكي والإسرائيلي عليها فإن قيادة منظمة التحرير أساءت، بوعي أو بدون وعي، للمنظمة وهمشتها، في مراهنة فاشلة على أن تحل السلطة محل المنظمة في سياق عملية التسوية السياسية والانتقال من مرحلة التحرر الوطني لمرحلة الدولة.

المطلوب من كل الحريصين على منظمة التحرير وعلى المشروع الوطني التحرري، سواء ممن ينتمون للمنظمة من فصائل معارضِة لنهج القيادة كالجبهتين الشعبية والديمقراطية أو ممن هم خارجها كحركتي حماس والجهاد، أن يعملوا على استنهاض منظمة التحرير والتمسك بالمشروع الوطني التحرري بثقافته وهويته الوطنية وليس الهروب نحو مشاريع بديلة غير وطنية ومحاولة إطلاق رصاصة الرحمة على المنظمة لأنهم بذلك يصطفون إلى جانب إسرائيل وأمريكا.

وفي خضم الحديث عن الانتخابات كان من الأجدر أن يتم البدء بالمجلس الوطني الفلسطيني لإعادة بناء وتأسيس واستنهاض المنظمة لتشمل الجميع وبعدها يتم الولوج بالانتخابات التشريعية والرئاسية، ولا ندري كيف يتم التوافق على انتخابات للشراكة في السلطة ولا يتم التوافق على المشروع الوطني والبرنامج السياسي الوحدوي!؟.

 

إبراهيم ابراش

 

 

هادي الجيار.. فنان من الزمن الجميل

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليتلعب الفنون دائما ًدَوراً مُهِماً فِي المُجتمع الإنساني، حيث تجعَلُ الإنسان أكثر رقياً، ودائماً ترتبط بالإبداعِ والعبقريّة، لذلِكَ أهميّة الفنون تكمن في حياةِ الإنسان بـ: إشباعُ الرّغباتِ الرُوحِيّة؛ ولذا فإن الفنون، هي إفراز لثقافة المجتمع، ومن ثم فإن ثقافة المجتمع، هي صورة عكسية، أو مرآة ونتاج لهذه الفنون، وعندما تكون اللوحة معبرة عن الضمير الإنساني وعندما يعبر الفنان عن قضايا مجتمعه، تكون الرسالة التي يحملها الفن في أسمى معانيها، بعيدا عن الارتكان إلى أبراج عاجية يسكنها الفنانون، حالمين بنشر صور رومانسية بعيدة عن الواقع، وإن كنا بحاجة إليها أحيانا للخروج من الدوائر المغلقة والأنفاق المظلمة.

ليس هذا فقط بل هناك علاقة تبادلية بين الفنون، كقيمة ثقافية تطرح على العامة، وبين عموم المجتمع، كتجسيد حي متفاعل مع هذه القيم، يجب أن ترتقى دوما إلى أعلى ولا تنحرف أبدا ولو بقدر ضئيل إلى أسفل؛ ليس فقط على مستوى إعلاء قيمة الإحساس بالجمال، ولكن أيضا على المستويات الأخرى كإعلاء قيم الأخلاق والفضيلة والعمل الجاد وقيمة العلم وقيمة الدفاع عن الوطن إلى آخر هذه القيم التى تمثل عصب نجاح وتطور أي مجتمع متحضر معاصر.

لذلك فإن دور الفنان على كل مستويات يجب أن يرتقي وأن يكون دائما عنصراً إيجابياً مؤثرا يرتقى بهذه العلاقة التبادلية إلى أعلى ولا يهوي بها أبدا إلى أسفل…خصوصاً أن عموم الفنانين في كافة مجالات الإبداع يشكلون صفوة المجتمع ويحظون بإعجاب خاص من عموم الناس، وإفتتان العوام عن أهمية الفنون بهم شيء ملحوظ، مما يوقع على كاهلهم في الواقع مسؤولية أكبر وأعظم في قيادة المجتمعات إلى التزكي الثقافي والترقي الحضاري على وجه العموم

وفي اليومين الماضيين رحل عن عالمنا فنان من هذه النوعية؛ ألا وهو الفنان القدير "هادي الجيار" ، عن عمر ناهز 71 عاما ، بعد اصابته بفيروس كورونا منذ أيام قليلة، ولكن الفيروس تمكن منه وأصابه بالتهاب رئوي حاد نُقل على لإثره للعناية المركزة بمستشفى الهرم،  فارق الحياة تاركًا إرثًا فنيًا وإبداعيًا جديرًا بالاحترام والتقدير.

ولم يتوقع الكثيرون أن يُصاب الفنان هادي الجيار بفيروس كورونا ، فهو منذ بداية الجائحة كان حريصًا على نشر التحذيرات لجمهوره و متابعيه عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ، فكتب في إحدى تدويناته " "ليه الناس مش مصدقة إن إحنا في خطر.. خليك في البيت" ، الي أن جاء اليوم الذي كتب فيه الجيار على الفيسبوك "ضربنى فيروس كورونا اللعين، نسألكم الدعاء بالشفاء".

ونعى الدكتور أشرف زكي، نقيب الممثلين في مصر، الفنان القدير هادي الجيار، معلنا في تصريحات لصحف محلية أن الراحل كان يعاني من مشاكل صحية أخرى بالإضافة إلى فيروس "كورونا".

وُلد الفنان هادي الجيار في أكتوبر عام 1949، والتحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية وتخرج فيه عام 1970، حصل الجيار على بكالوريوس من المعهد العالي للفنون المسرحية، وقد بدأ مشواره الفني من خلال مسرحية مدرسة المشاغبين بدور «لطفي»، وإلى جانب مسرحية "مدرسة المشاغبين" أبدع الجيار في المسرح، في أعمال مثل: "أحلام ياسمين"، "لما قالوا دا ولد". .

وكانت انطلاقته الفنية مع مسرحية " مدرسة المشاغبين " التي ذاع صيته من خلالها وتعرف عليه الجمهور والوسط الفني، وكان يتقاضي أجرًا يُقدر بـ 15 جنيها شهريا، ثم زاد أجره في العام الثانى إلي 20 جنيها، وكشف الراحل عن بعض كواليس مدرسة المشاغبين في لقاء سابق مع برنامج صاحبة السعادة على فضائية "دي أم سي"؛ حيث قال الجيار إنه لم يكن يستطيع في البداية أن يجاري نجوم المسرحية في "إفيهاتهم" قائلا: "كانت إفيهات جديدة لدرجة أنني كنت أضحك عليها مثل الجمهور" وهو ما دفعه للجوء إلى إخبار الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي بأنه  لن يستطيع أن يكمل العمل".

وتابع الراحل: "قلت للأستاذ عبد المنعم مدبولي مش عارف أروح فين وأجي منين في وسطهم، قالي أقعد وأتعلم وجرب وحاول تعمل زيّهم، واتمشى على المسرح كأنك في فسحة بيتكم، وأقنعني أكمل".

وعقب نجاحه في مسرحية " مدرسة المشاغبين " ، اتجه هادي الجيار إلي التليفزيون؛ حيث كانت له مشاركات في أهم المسلسلات الدرامية المصرية مثل " المال و البنون ، العصيان ، ولد الغلابة ، الضوء الشارد، ملاعيب شيحة، بطة وأخواتها عام 2004م، من غير ميعاد، مسائل عائلية جدًا، سيف الدولة الحمداني، القاهرة ترحب بكم، نعمة، عمارة الشبوكشي، سوق الخضار، الجبل، امرأة من الصعيد الجواني، السماح، الملك فاروق، وحق ميت، وسلسال الدم".

وكان مسلسل " شديد الخطورة" بطولة الفنان أحمد العوضي آخر أعمال الفنان الراحل ، الذي لم يستكمل تصوير مشاهده في الجزء الثاني من مسلسل "الاختيار"، من بطولة النجمين الكبيرين كريم عبدالعزيز، وأحمد مكي، سيناريو وحوار هاني سرحان، وإخراج بيتر ميمي، والمقرر عرضه خلال موسم رمضان المقبل، وكذلك لم يكن قد انتهى من تصوير دوره في مسلسل " موسى" مع الفنان محمد رمضان من تأليف ناصر عبد الرحمن وإخراج محمد سلامة.

كذلك لم يتم استكمال مشاهده بمسلسل «موسى» مع الفنان محمد رمضان، من تأليف ناصر عبد الرحمن، إخراج محمد سلامة، وهو من بطولة محمد رمضان، سمية الخشاب، عبير صبرى، رياض الخولى، سيد رجب، صبرى فواز، منذر رياحنة، هبة مجدى، فريدة سيف النصر، عارفة عبد الرسول، أمير صلاح الدين، ضياء عبد الخالق وعدد آخر من الفنانين، وإنتاج شركة سينرجى وتدور أحداثه فى إطار صعيدى.

أما في السينما فقد شارك الجيار في العديد من الأعمال التي لم تحقق نفس نجاح نجاحاته في التليفزيون ، مثل "ثم تشرق الشمس" ، و"احترس عصابة النساء" ، و"رحلة المشاغبين" ، و"سوزي بائعة الحب" ، "ابن مين في المجتمع" ، "مقص عم قنديل" ، و"عزازيل" .

وفي نهاية حديثي أقول نسألك يا الله أن تغفر للفنان هادي الجيار وترحمه، وأن تتغمده بواسع رحمتك ورضوانك وأجعله يا ربي من عبادك الفائزين في أعلى الجنان، وأجرنا في مصيبتنا وألهمنا الصبر والسلوان.. إنا لله وإنا إليه راجعون.. أيها الأخ إلى جنات الرحمن مع الشهداء والانبياء والصديقين.. حسبنا الله ونعم الوكيل إنا لله وإنا إليه راجعين .. اللهم لا نسألك رد القضاء وإنما نسألك اللطف بنا يا أرحم الراحمين.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم  الفلسفة بكلية الآداب وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

...............................

1-مي عبدالله: وداعا هادي الجيار.. الكورونا تنتصر على "رابع المشاغبين".. مقال..

2-ضحى محمد : مفيد عاشور ناعيا هادي الجيار: «وداعا يا أخي الأكبر كنت أصيلا»".. مقال..

3-خالد كامل - السعودى محمود: وداعًا هادي الجيار.. ابن البلد فنان كل فئات الشعب".. مقال..

4-د. منال عبد الكريم الرويشيد: الفن التشكيلي والقضايا الاجتماعية.. مقال..

5- حسان البشير : كيف يتمكن الفن من خلق مجتمع أرقى.. مقال..

 

 

ماركسيّ على سنة الله ورسوله

التفاصيل
كتب بواسطة: نضال البيابي

لكل حقبة أوهامها، ولكل مؤدلج هلوساته وهذياناته وأحلامه، والواقع ليس معطى أزلياً ولكنه نتاج "بنى الهيمنة"، والواقعي ليس عقلياً بالضرورة كما أن "الحياة الواقعية" قد تكون نقيضاً للعقل، لكن هذا لا ينفي صحتها سيكولوجياً، وإذا استدعينا مقولة هيجل الشهيرة عن أنّ ما هو معقول هو واقعي حقيقة، وما هو واقعي حقيقي هو معقول، فإننا سنميز بين الواقع الحقيقي والواقع الحادث أو الفعلي، إذ يمثل الأول واقعاً تغلب على التعارض بين الممكن والموجود في حين أن الآخر يمثل الواقع المتعارض مع العقلي، والعقل هنا ليس عقل الأصولي أو الأيديولوجي أو حتى "المثالي" وإنما كما عبر عنه كانط بمبدأ الحكم الذاتي أو العقلانية النقدية لبوبر، وبهذا سوف نخضع الواقع المعطى إلى معايير العقل وليس تكييفه وتدجينه حسب ما يقتضيه النظام القائم والقيم السائدة أو التفكير الرغبوي.

مثلاً فكرة أفلاطون عن أن لدى كل إنسان مصدراً إلهياً للمعرفة يكمن في روحه التي كانت تعرف كل شيء قبل أن يولد ولكنه بعد الولادة ينسى كل شيء إلا أنه يمكن أن يتذكر تلك المعرفة القبلية إذا رأى الحقيقة وتأكد منها، لأن الحقيقة تعلن عن نفسها، وهذا ليس معياراً للحقيقة كما أنه ليس هناك معيار ثابت للحقيقة، وطالما أن المعرفة شيء إنساني فإنها رهينة بكل مظاهر النسبية التي تشكل الوجود الإنساني، لأن منتج النظرية قد يكون عرضة للتأثر ولو بشكل لا شعوري بآماله ومعتقداته الشخصية ومهما تكن عبقريته فهو محدود بتراثه الثقافي وأفقه المعرفي، لذلك أفلاطون بعد أن استحوذ عليه اليأس تراجع عن هذه الفكرة وحَصَر المعرفة في عدد قليل من الصفوة المختارة في كهفه الشهير، فلو غادر أحدهم الكهف لوجد صعوبة بالغة في فهم ذلك العالم الجديد.

إن كثيراً من المفاهيم الأخلاقية ليست ذات طابع كوني وأبدي بل تخضع للبعد الزمني، إذ المراحل اللاحقة للفكرة الأخلاقية الأولى تحوي ضمناً المراحل السابقة كتقدم ديالكتيكي وأن الفكرة الأولى مهدت الظهور للمرحلة الثانية وهكذا دواليك، وعلى سبيل المثال، لاحظ الفيلسوف ألسدير ماكنتاير أن كلمة أخلاقي "moral" كما نفهما اليوم، لم تكن هناك أي كلمة في اللغة اللاتينية، وهي لغة التواصل في أوروبا قبل عصر التنوير، ولا في اللغة اليونانية القديمة، يمكن ترجمتها بصورة صحيحة إلى كلمة أخلاقي بالمفهوم الحديث، بل لم يكن ثمة كلمة مثل هذه إلى أن ترجمت كلمة "moral" بالمعنى الحديث إلى اللاتينية. ويتسق هذا مع أطروحة وائل حلاق عن "الدولة المستحيلة" الذي ينفي أيضاً وجود مرادف دقيق في اللغة العربية قبل القرن التاسع عشر لكلمة "أخلاق" بكل ما تحمل من دلالات اليوم في الفلسفة الأخلاقية والقانونية. ويمكن أن نجادل أن مفردة "أخلاق" عند مسكويه، في تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، أو مكارم الأخلاق للطبرسي، التي اتسعت دلالاتها مع القراءات الحديثة، لا تعدو عن كونها إسقاطاَ للحاضر على الماضي واستعادة الماضي مُحَدَّثاً في الحاضر. وإذا كان هذا الاستقراء فيه فيه نظر؛ فماذا يمكن أن نقول عن مفهوم لا خلاف على حداثته كمفهوم "حقوق الإنسان" مثلاً وإن كان له إرهاصات في الفلسفة اليونانية وكذلك الفلسفة العربية وحتى عند كبار المتصوفة ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا؟ ولكن هل يمكن اعتباره مكافئاً أو مرادفاً للمفهوم الحديث؟

من هنا كان مأخذنا على الراحل عبد الوهاب المسيري في محاولته ابتكار نموذج إدراكي تحليلي جديد لدراسة دور الدين وقضية الجنس والنزعة الاستهلاكية أو"الإمبريالية النفسية" في المجتمع الأمريكي، المسيري الذي كان مفتوناً بهيجل وماركسياً على سنة الله ورسوله، أراد أن يروض "الذئب الهيجلي" في داخله فوقع من حيث لا يدري فريسة له، لأن هوسه بالمابعديات وتجاوز ما سمّاه بالقوالب الإدراكية الجاهزة، دفع به إلى أن يجمع أشتاتاً من حقول مختلفة، كالجمع بين التجريد والتنظير والشمول الهيجلي ونقد مدرسة فرانكفورت، وبأن يكون تحليله مركباً متعدد الأبعاد وبأن لا يسقط في هوة "النسبية العدمية" وأن يستنير كبديل عن ذلك بـ"النسبية الإسلامية" التي تعني بأن يؤمن الإنسان بأن هناك مطلقاً واحداً هو كلام الله وما عداه اجتهادات بشرية، وأن يدمجها مع مقولاته التحليلية مثل نهاية التاريخ والفردوس الأرضي والثالوث الحلولي، بعبارة أن لا يكون اختزالياً تبسيطياً في قراءته لعوالم شديدة التعقيد والتركيب، عوالم الإنسان وأسراره. فماذا كانت النتيجة بعد كل هذه الهرطقة والتوليفات غير المتجانسة في الجمع بين الشيء ونقيضه؟

يجادل المسيري أن الإنسان لا يمكن أن يشعر بحريته ومسؤوليته الأخلاقية إلا إذا جمع بين الثنائية الأساسية، ثنائية الخالق والمخلوق، لا الثنائية الفضفاضة، ثنائية الإنسان والطبيعة، لأنه يستحيل حسب تصور المسيري تفسير الإنسان ضمن إطار الطبيعة بسبب أسبقيته عليها، كما أنه لا أحد يعلم حقيقة الإنسان في كليته إلا الله، فهو، أي الإنسان، ليس جزءاً لا يتجزأ من العالم الطبيعي كما يقول المسيري، إنما جزء يتجزأ منه.

إن هذا مدخل ضروري لفهم النموذج الإدراكي التحليلي للمسيري، الذي يغلب عليه الغرق كثيراً في التعميمات والانطباعات الشخصية وتحويل الجزيئات إلى كليات والعكس وإطلاق الأحكام المتسرعة والتفسيرات الاختزالية ذات البعد الواحد، فتجده مرة يتحدث بلغة الباحث البارع والحاذق عن صور التنميط والضبط الفوكوي والتحكم في السلوك والاغتراب التي تسم أشكال الحياة في المجتمع الرأسمالي مستعيناً بأجود أدوات هيجل التجريدية ودمجها مع خلاصة من نظريات فرويد والماركسية المطورة وبشيء من أصالة فيبر وحرفية مدرسة فرانكفورت النقدية وأطروحة ماركوز عن الإنسان ذي البعد الواحد فتهتز طرباً لموسوعيته وهضمه لتلك المقولات والنظريات كما أنه أجاد في مجمل تحليلاته للخطاب العقدي المناصر لإسرائيل في أمريكا وتأكيده على أن الخطاب الرسمي وجانباً كبيراً من الخطاب الديني سيما أغلبية المتشددين من البروتستانت هو خطاب برجماتي وأحياناً عدائي عنصري حينما يتعلق الأمر بحقوق الفلسطينيين والعرب وكذلك عقدة الإثم التي تسم الخطاب الأمريكي في تعامله مع اليهود ورغبته في تعويضهم عما نالهم من أذى في الغرب المسيحي، فإسرائيل أصبحت ملاذاً ووريثة لملايين من ضحايا المحرقة وحارسة دين "لم يعامله التاريخ بلطف"، لكن سرعان ما تشعر بخيبة أمل كبيرة وصفعة تعود بك من سكرات الافتتان إلى الواقع حينما يتعثر بقضية الجنس أو الدين فيغفو "الذئب الهيجلي" ويستيقظ الشيخ أو الدرويش المتربص في داخله، فيعزو مثلاً "السعار الجنسي" في بعض جوانبه إلى رغبة إنسانية في الوصول إلى نقطة ثبات يقينية كردة فعل على عالم "النسبية السائل" أو سيولة القيم، ويسوق في هذا السياق حكماً غريباً وهو أن النسبية "المعرفية والأخلاقية" تنزع القداسة عن العالم وتجعل كل الأمور متساوية، فيصبح الظلم مثل العدل، والنزعات الثورية والراديكالية لا تختلف عن بواعث المحافظة، وهذا على عكس المقولة الهيجلية عن صراع الأضداد وأن كل سلب تعيّن وأن كل تصور يحمل في داخله ضده، فالنقيض كامن في ذات الشيء وقد يجتمع النقيضان على الصعيد النفسي لا العقلي وحسب، وهذا الضد في صيرورته يشكل حركة تصاعدية بلا نهاية، وبصراع الأضداد تولد الحركة ويبعث التطور في الواقع الاجتماعي، بل لا توجد حالة قط إلا وهي "تنطوي على ما يناقضها، فلا تبلغ تمامها إلا ظهر منها النقيض الذي تنطوي عليه"، فالحرب تكون ضماناً للسلم واللاحرية شرطاً للحرية، كما يكمن الإلحاد في الدين، والوثنية أو الكثرة في الوحدة، والثورة في المحافظة، والشيطان أيضا لم يكن سوى ذلك "الملاك المخلوع"، وكما يقول المثل العربي:" العنب إن صح فسد وإن فسد صح"، ومن هوية الضدين يمكن أن يتشكّل مركّب جديد أو هوية جديدة تحتفظ بشيء من الضدين معاً في ذاتها، وهذا الطابع الدينامكي للمعرفة يؤكد على طبيعة التغير والحركة المستمرة حتى في صميم المجتمع الذي يبدو ظاهرياً متماثلاً وخاملاً وثابتاً، بل هو سيرورة الحرية التي تهتدي إلى نفسها أو قل هو "المقاومات العشوائية" ضد تفاقم قوى القمع، غير أن المسيري يؤكد في حديثه عن "المغترب" على أنه من "المستحيل على الإنسان الفرد أن يتخذ أي قرارات بشأن أي شيء" وبالتالي من السهل الهيمنة عليه، وهذا التحليل الذي توخى التركيب والشمول لا يصح حتى على الخراف المدجنة وفئران التجارب في المختبرات العلمية فما بالك بالإنسان، كما أنه لا يصح حتى مع توخي أقصى درجات التجريد في ديالكتيك السيد والعبد عند هيجل.

لا يوجد علاقة شرطية ضرورية صارمة بين الهوس الجنسي أو إدمان الجنس الذي هو مرض كمرض الإدمان على القمار مثلاً وعدم إيمان المرء بشيء مفارق، فالنشاط الجنسي وإمكانات المتعة في أي مجتمع سواء تعلق الأمر بمحرضات التحليل والتحريم النبذ والتثبيت لا يمكن أن تفهم دوافع هذا النشاط من خلال الاستعانة بالبعد الإيماني للباحث أو بالدين كمقولة تحليلية لتفسيره هذا إذا أردنا أن نفهمه، كما أن خضوع المرء لأنظمة الدولة والمؤسسات الثقافية حد العبودية ليس مرتبطاً بسيولة القيم وغياب "قاعدة أخلاقية صلبة"، وكذلك فإن "اختفاء المعايير وفقدان المقدرة على الحكم" لدى "المغترب" لا يعزى إلى كونه كائناً نسبياً وحسب وكأن هذا الافتراض بل هذا الكلام المُرسل يضمر مثلاً أن المتدين أو المؤمن سيكون أكثر قدرة على الحكم على الأشياء فقط لكونه متديناً ولديه مرجعية متجاوزة للطبيعة. بيد أن المسيري يصر على الربط بين مفهومه المشوه عن "النسبية المعرفية" و "الانحلال الأخلاقي"، وهذا طبعاً تبسيط مخل ولا يليق إلا بقارئ مبتدئ في الفلسفة، فيقول إن أستاذاً للفلسفة وهو أحد دعاة الحرية الأخلاقية والنسبية المعرفية، رغم أنه كان "إنساناً فاضلاً" وكأن ذلك أثار غيظ المسيري لأنه يشي بأن ثمة تناقضاً بين الفكر والممارسة بحسب تصوره، ولذلك قال له المسيري ساخراً:" إذن ستذهب أنت إلى الجنة أما أفكارك فستذهب للجحيم". كما أن المسيري يبالغ في الربط المتعسف بين ضمور النزعة الطوباوية وتفاقم السعار الجنسي وكأن عالم الجنس هو التعويض المادي للمدينة الفاضلة، وكلما توارى المطلق في حياة الفرد زاد هوسه بالجنس، وربما لو تصفح بعض كتب الفقه لكان له رأي مغاير، إن الجنس كما يقول المسيري "ميتافيزيقا من لا ميتافيزيقا له" ثم يفسر "المثلية الجنسية" أو "الشذوذ الجنسي" بتعبيره، بأنها بسبب البحث عن "اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية"،  ولست أدري ما الذي يعنيه باللذة الجنسية الفردوسية، ولا أظن أن أحداً قد وصل لهذه اللذة الفردوسية ولا يزال حياً. ويرى المسيري أن هذه الممارسة الجنسية هي النتيجة المنطقية والترجمة الأمينة لمبدأ اللذة النفعي، فالمثلي يحاول أن يتغلب على اغترابه وضياعه في هذا الكون الذي ترك فيه بلا رعاية مفارقة بشكل مؤقت فيرتبط في علاقة عابرة مع شخص من جنسه دون التورط في متطلبات "العلاقة الحقيقية"، وكذلك يربط بين "حركة تحرير المرأة" وازدياد عدد "الشذاذ من النساء" على حد قوله. فهل كان أبو نواس مثلاً يستعيض بعلاقاته المثلية كبديل عن شعوره بالضياع في عالم هجره ربه؟ وهل يا ترى أن أبا نواس ورفيقه والبة بن الحباب شعرا بهذه اللذة الجنسية الخالصة الفردوسية؟

لكن الأغرب من هذا وذاك هو حديثه عن رواج أفلام "snuff movies" وبأنها كانت تعرض في دور السينما الأمريكية، وهي أفلام إباحية عنيفة وغالباً ما تنتهي بحسب رواية المسيري بمشهد قتل بطلة الفيلم وهي في حالة نشوة جنسية، ويتم "قتلها في اللحظة التي تقذف فيها". والقتل هنا حقيقي على حد زعمه، أي أن البطلة تذبح كرمى للمشاهدين، لأن هذه الأفلام صورت في أمريكا اللاتينية، وإن كانت تعرض في دور السينما الأمريكية تحت دعاوى "حرية الإبداع والثورة الفنية" كما يقول المسيري ساخراً. وطبعا هذا نتيجة للموقف النسبي وإنكار الحدود الأخلاقية باسم الحرية المطلقة! ولست أدري في أي دور عرض شاهد المسيري هذه النوعية من الأفلام! ولتعزيز هذا الوهم يستمر في ذكر أمثلة غرائبية فيقول مثلاً: هناك أستاذة علم اجتماع في جامعة كاليفورنيا دربت طالباتها في الصف الدراسي على "الاستمناء" كي "يمكنهن الاستغناء تماماً عن الرجال" في مادة "سوسيولوجيا الحياة الأمريكية". ثم يقارن بين المجتمع الأمريكي والمجتمع المصري في أواخر الستينيات فيصف عالم الإنسان المصري بأنه أكثر امتلاء وأكثر صلابة، لأنه قادر على الحب والكره، التعاون والتآمر، حب الذات وحب الوطن، ولذلك ليس من السهولة أن يصدق كل ما يقال له، وكاد يقول إنه ديكارتي بالفطرة، بينما الأمريكي فهو على عكس المواطن المصري، يُسهل خداعه، ويؤمن تماماً بكل ما يُقال له، وعلى الرغم من أنه يدعي الاستقلالية والاعتماد على النفس فإنه يقذف بأطفاله إلى سوق العمالة في مرحلة مبكرة. وهكذا تفرغ من قراءة كتابيه وإذا بك لا تعرف شيئاً ذا بال عن المجتمع الأمريكي اللهم إلا جزءاً من الجانب "الإمبريالي" للإمبراطورية وبعض الشذرات عن "عالم السلع الفردوسي"، أما الجانب الاجتماعي والديني والثقافي فإنك ستعرف عن طبيعة القوالب الإدراكية الجاهزة للمسيري أكثر من الحقول والمواضيع التي خضعت لمقولاته التحليلية. رحم الله المسيري ووقانا لوثة الأصول!

 

نضال البيابي

.............................

المصادر

1- عبد الوهاب المسيري، الفردوس الأرضي: دراسات وانطباعات عن الحضارة الأمريكية الحديثة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1979 الطبعة الأولى

2- عبد الوهاب المسيري، رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 2000 الطبعة الأولى

3- هيجل، فنومينولوجيا الروح، ترجمة ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة بيروت 2006 الطبعة الأولى

 

 

دلالات كلمة دين في القرآن الكريم

التفاصيل
كتب بواسطة: علي جابر الفتلاوي

علي جابر الفتلاويوردت عدة آيات في القرآن الكريم فيها كلمة دين ومشتقاتها، قبل أن نبحث في الآيات ومعانيها ودلالاتها، نبين المعنى اللغوي لمفردة دين.

الدِّيْن: واحد الدّيون؛ تقول دِنْتُ الرجل أقرضته، فهو مَدين ومَدْيون كثُر عليه الدَيْن. الدِين: الجزاء والمكافأة، يقال: دانَه دِيناً أي جازاه، يقال: كما تدين تُدان، أي كما تُجازِي تُجازَى، أي تُجازَى بفعلك وبحسب ما عملت.

 قال تعالى: (أئنّا لمدينون) الصافات:53. أي مجزيون محاسبون، ومنه الدّيان، في صفة الله تعالى.(1) المعنى اللغوي في الاتجاهين وارد في القرآن الكريم، دَيْن بمعنى القرض، ودِين بمعنى الجزاء والمكافأة بحسب العمل، مع اشتقاقات لمعاني أخرى من المعنى الثاني الذي فيه دلالة على الثواب والعقاب والجزاء، ودلالات اخرى.  قال تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَيْن إلى أجل مسمّى فاكتبوه وليكتُبْ بينكم كاتب بالعدل) البقرة: 282. الآية تتحدث عن الدَّين بمعنى القرض، وهي أطول آية قرآنية أقتبسنا منها ما له علاقة ببحثنا، وفيها عدة أحكام فيما يتعلق بالمعاملات: (ينظّم الاسلام المعاملات ويجعلها في مسيرتها الصحيحة، تخدم التداول وتسدّ الاحتياجات في إطار من الثقة والاطمئنان، بعيدا عن أي نزاع أو سوء تفاهم. فالمجتمع الإسلامي المفروض عادل متعاون لإحقاق الحق.)(2)

بداية الآية تؤكد أنه إذا تعامل مسلمان بدَيْن: وهو كلّ معاملة فيها تأجيل لدفع أحد العوضين فالمستحسن لهما أي الدائن والمدين كتابة وثيقة التعامل بما لا يدع مجالا للنزاع في كيفيّة التعامل ومقدار الدّين، وليكن الكاتب شخصا عادلا فلا ينحاز إلى أحد الطرفين، ولا يتعدى الحدود والحقوق. (3)

أمّا كلمة دِين فقد جاءت القرآن المجيد في عدد من الآيات، وتعطي معنى الجزاء والمكافاة، وأن الدِين عند الله الإسلام وأن الدِين لله، ومعاني أخرى ضمن هذا المحور، قال تعالى: (إنّ الدِّين عند الله الإسلام) آل عمران: 19. يقول ابن كثير في تفسير الآية: إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرّسل فيما بعثهم الله به في كلّ حين حتى ختموا بمحمد (ص) الذي سدّ جميع الطرق إليه إلّا من جهة محمد (ص)، فمن لقي الله بعد بعثة محمد (ص) بدين على غير شريعته فليس بمتقبّل كما قال تعالى (ومن يبتغِ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) آل عمران: 85 . أضاف ابن كثير: الله يخبر بانحصار الدِّين المتقبّل بالإسلام.(4) ويقول محمد متولي الشعراوي: إنّ معنى ذلك أنّ هناك دينا لغير الله، فيه خضوع واستسلام، وفيه تنفيذ لأوامر، ولكن ليس دينا لله ولا دينا عند الله، إنّ الدين المعترف به عند الله هو الإسلام، والدين يُطلق مرّة على الملّة، ومرة أخرى على الشريعة فإن أراد المؤمن الأحكام المطلوبة، فلك أن تسميها شريعة، وإن أراد المؤمن الطاعة والخضوع وما يترتب عليهما من الجزاء، فليسمها المؤمن الدِّين، وإن أراد الإنسان كل ما ينتظم فليسمها الملّة.(5) أرى انّ الشيخ محمد الشعراوي لا يعتمد في تفسيره للآية: (إنّ الدِّين عند الله الإسلام) على الاختلاف اللغوي، بل يعتمد على أرادة المتكلم في المعنى الذي يقصده، فعنده أنّ الدين قد يأتي بمعنى الملّة أو الشريعة أو الدِّين بمعنى الطاعة والجزاء، حسب إرادة ونيّة المتكلم.

قوله تعالى: (إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتُنّ إلّا وأنتم مسلمون) البقرة:132. أي أثبتوا على الإسلام حتى الموت، لأنّه الدين عند الله، كي تٌبعثوا عليه، وتقابلوا الله به. (6) ومن الآيات في هذا المحور ايضا قوله تعالى:(أفغير دين الله يبغون وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه يُرجَعون) آل عمران: 83.  جاء في التفسير المعين: أسلم: خضع وانقاد، طوعا: بإرادتهم واختيارهم، وكرها: رغما عنهم.(7) وجاء في تفسير المختصر المفيد: إنّ دين الله هو الإسلام الحقيقي، فإذا صدق أهل الكتاب في دعواهم اتباع دين الله فليتّجهوا إلى الإسلام الذي تصدّقه الفطرة والأدلّة القاطعة، حيث أسلم الجميع طوعا أو قهرا لله الخالق العظيم والغنّي المطلق، إذن فلتسلّم الإنسانية أمرها لله خالقها، ولترجع إليه في تنظيم حياتها، كما سترجع إليه يوم القيامة فيحاسبها على مسيرتها، ومدى التزامها ميثاقه وعهده. (8) ومن الآيات التي تؤكد أن الدين لله، قوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدِّين لله) البقرة: 193 .(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله) الأنفال: 39. يقول محمد جواد مغنية: إنّ الجهاد من أجل الإيمان بالله والقضاء على الجحود واجب، فإذا آمن الناس جميعا بالله سقط وجوب الجهاد، أما الجهاد من أجل انتشار الإسلام مشروط بإذن الإمام العادل، ولا يجوز من غير أمره، أمّا الجهاد دفاعا عن الدين والنفس فإنّ وجوبه مطلق غير مقيد بشيء. (9)

قوله تعالى: (وله الدين واصبا) النحل: 52. المراد بالدين هنا الانقياد والطاعة والواصب الدائم، وإذا كان الله خالق ومالك كلّ شيء، وجب الثبوت والاستمرار في طاعته دون سواه.(10) قوله تعالى: (فإذا ركبوا في الفُلك دَعَوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البّرِ إذا هم يشركون) العنكبوت: 65.قوله تعالى: (وإذا غشيهم موج كالظّلل دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرِّ فمنهم مقتصد) لقمان:32 يقول البيضاوي في تفسير آية سورة العنكبوت: هم على ما وصفوا به من الشرك فإذا ركبوا البحر صاروا في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، إذ لا يذكروا إلّا الله ولا يدعون سواه، لعلمهم بأنه لا يكشف الشّدائد إلّا الله، فإذا أنجّاهم الله ووصلوا البّر عادوا إلى الشرك.(11) والآية من سورة لقمان، تفسيرها: الإنسان المتقلب يؤمن بالله ويلجأ إليه عندما يغطيه الموج كالسحاب، فإذا منّ الله عليه وأنجاه إلى برّ الأمان راح البعض يجحد بآيات الله، نتيجة عنادهم وكفرهم. (12)

 نستوحي من معنى الآيتين أن المشركين والكافرين والمعاندين يعرفون أن الله هو الخالق المنجي ولا يوجد سواه، لكن عندما يعيشون في الراحة والنعيم ينسون أو يتناسون الله الخالق العظيم. هناك آيات تشير إلى يوم الدين، وهو يوم القيامة، نذكر هذه الآيات: قال تعالى: (مالك يوم الدين) الفاتحة:4. الدّين الجزاء والحساب، هذا تأكيد على حقيقة المنتهى، حيث يقوم الناس لربِّ العالمين، ولهذا التصور الواسع للحياة أثره في مجال حمل المسؤولية والترغيب والترهيب، والتوفيق بين المصلحة الذاتية والاجتماعية.(13) قوله تعالى: (وإنّ عليك اللعنةَ إلى يوم الدِّين) الحجر:35 الخطاب إلى الشيطان الذي عصى أمر ربّه، (وستشمله اللعنة الإلهيّة إلى يوم القيامة)(14) وهناك آيات تصف يوم القيامة أنّه يوم الدين منها: (والّذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يومَ الدين) الشعراء: 82.

 يقول الطباطبائي: أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة، ولم يقطع الله تعالى بالمغفرة فهي ليست بالاستحقاق بل هي فضل من الله، فليس يستحق أحد على الله سبحانه شيئا لكنّه سبحانه قضى على نفسه الهداية والرزق والإماتة والإحياء لكلّ ذي نفس، ولم يقضِ المغفرة لكل ذي خطيئة.(15) قوله تعالى: (وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدِّين) الصّافات: 20. وقوله تعالى:(وإنّ عليك لعنتي إلى يوم الدين) ص: 78. يقول الشيخ محمد هويدي: يوم الدين هو يوم الحساب(16) قوله تعالى: (فأقم وجهك للدِّين حنيفا فطرة الله الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) الروم: 30.

فسّر الطبري الآية بقوله: سدّد وجهك نحو الوجه الذي وجهك إليه ربّك يا محمد لطاعته وهي الدين، (حنيفا) مستقيما لدينه وطاعته، (فطرة الله التي فطر الناس عليها) صنعة الله التي خلق الناس عليها.(17) وفسّر الطباطبائي الآية::أقم وجهك للدين والزمه، فإنّه الدين الذي تدعو إليه الخلقة الإلهية. فقوله: (فأقم وجهك للدين) المراد الإقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشيء بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا وشمالا، والظاهر أن اللام في الدين للعهد والمراد به الإسلام، للإنسان فطرة خاصة تهديه إلى سنّة خاصة في الحياة، وسبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له إلّا أنْ يسلكها خاصة، وهو قوله تعالى في الآية الكريمة.(18)

الشيخ محمد جواد مغنية، فسّر الآية بتفصيل أكثر مع تضمين التفسير رؤاه كعالم مجتهد عاش عصر الحداثة والتطور العلمي، ننقل تفسيره باختصار:

هذه الآية تقرر أصلا هاما يرتكز عليه الإسلام عقيدة وشريعة، ويدلّ أنّ تعاليم الدين تهدي إلى الرشد والوفاء بمطالب الحياة ونموها وتقدمها، إذا فُهِم الإسلام على أساس فطرة الله التي فطر الناس عليها، وتعني كلمة الفطرة عند تعميمها واطلاقها غريزة في داخل الإنسان، تقبل الخير حين تعلم أنّه خير وتلتزمه لا لشيء إلّا لأنّ الخير يجب أن يُقبل ويُلتزم، وترفض الشّر حين تعلم أنّه شرّ أيضا، لا لشيء إلّا لأنّ الشرّ يجب أنْ يُرفض ويُجتنب .. هذا إذا خُلي الانسان وفطرته التي فطره الله عليها، ولم تدنسها العادات والتقاليد، وتلوثها الأهواء والأغراض، وهذه الغريزة عناها الرسول الأعظم (ص) بقوله:  كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصّرانه. وكلمة (حنيفا) تعني من استقام على فطرة الله التي فطر الناس عليها مبتعدا عما يدنسها من الأهواء والاغراض. والمراد من قوله تعالى: (لا تبديل لخلق الله) أنّ الدين عند الله قائم وثابت على أساس هذه الفطرة لا يحول أو يزول عنها. وهذا إشارة لأن يلتزم العباد الدين قولا وعملا. الآية بمجموعها تدلّ على أنّ الدين يرتبط بالفطرة، ولكن ليس معنى هذا أنّ الفطرة هي المشرّع والآمر الناهي، وأنّ وظيفة الدين هي الكشف والتعبير عن أحكامها.. كلا، فإنّ الله الذي خلق الدين والفطرة هو المشرّع الأول، القصد من الآية هو تحديد المقياس الذي نقيس به دين الله، وأنّه بما فيه من عقيدة وشريعة وأخلاق ينسجم مع فطرة الناس ومصالحهم، هذا هو الضابط والفاصل بين أحكام الله وأحكام غيره، أما أقوال العلماء من الفقهاء والمفسرين والفلاسفة ليست هي أصل من أصول الإسلام ولا يصح الاعتماد عليها كدليل شرعي – لا يعتمد على الاجماع في العقائد، ولا في المسائل الفقهية مع الاحتمال أنه لم يكشف عن رأي المعصوم – لأنها تعكس اجتهادهم وفهمهم للدين وأحكامه، ولا تعكس الدين كما هو في حقيقته، ويخلص مغنية إلى نتيجة، أن الإسلام لا يرفض بقية الأديان والمذاهب بكل ما فيها، بل ينظر إليها نظرة المدقق المنصف فيقر منها ما يتفق مع الفطرة، ويرفض ما عدا ذلك.(19)

 

علي جابر الفتلاوي

.............

المصادر

(1): اسماعيل بن حماد الجوهري، معجم الصحاح، ص380 .

(2): محمد علي التّسخيري، ومحمد سعيد النعماني، المختصر المفيد، ص48.

(3): المصدر نفسه.

(4): اسماعيل بن كثير، تفسير ابن كثير (تفسير القرآن الكريم)، ج2،ص52. عن موقع القرآن الكريم للجميع، www.quran-for-all.com.

(5): محمد متولي شعراوي، عن موقع: مصراوي: www.masrawy.com.

(6): محمد جواد مغنية، التفسير الكاشف، م1، ص209.

(7): الشيخ محمد هويدي، التفسير المعين للواعظين والمتعظين، ص60.

(8): محمد علي التسخيري، ومحمد سعيد النعماني، مصدر سابق، ص60.

(9): محمد جواد مغنية، مصدر سابق، م1، ص299.

(10): محمد جواد مغنية، مصدر سابق، م4، ص520 – 521 .

(11): عبد الله بن عمر البيضاوي، تفسير البيضاوي، م3، ص335 .

(12): محمد علي التسخيري، ومحمد سعيد النعماني، مصدر سابق، ص414.

(13): محمد علي التسخيري، ومحمد سعيد النعماني، مصدر سابق، ص1.

(14): محمد علي التسخيري، ومحمد سعيد النعماني، مصدر سابق، ص264 .

(15): محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج15، ص203 .

(16): الشيخ محمد هويدي، مصدر سابق، ص446، ص457 .

(17): محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، ج18، ص407.

(18): محمد حسين الطباطبائي، مصدر سابق، ج16، ص417 – 418 .

(19): محمد جواد مغنية، مصدر سابق، م6، ص141 – 142 .

 

 

الصفحة 4 من 147

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2

(195)،(196)،(197)،(198)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • موسكو تحتفل بمئوية الموسيقار باباجانيان
  • رسالة دكتوراه في إيران عن شعر المقاومة العراقي
  • هل وعد الله بني إسرائيل بأرض فلسطين؟!
  • حفني بدقة.. المعلم المثالي والشاعر المرتجل
  • أستراتيجية للتعامل مع الكورونا الطويلة المدى
  • الإبيجرام الشعري بين التراثِ والمعاصرةِ
  • صِناعةُ الظّل
  • قراءة في كتاب علم النفس السياسي تأليف: دايفد باتريك هوتون
  • قراءة في رواية: الأم
  • أرنست هرتسفيلد!!
84 mahmod mohamad ali200

القائمة البريدية



العدد: 5257 المصادف: الثلاثاء 26 - 01 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: