المواقع والجيوش الإلكترونية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم الموسوي
يعج الفضاء الالكتروني، باللغة العربية، اضافة الى برامج ووسائل التواصل الاجتماعي والمنصات والبرامج الاخرى، بالمواقع الاعلامية ورديفها الجيوش الالكترونية، وتلك فرصة ثمينة للبشرية بفضل التطور التقني والثورة الالكترونية التي تتصاعد تطوراتها الى مراحل وموجات متقدمة جدا، وفي تطور مستمر لن يتوقف او يلحق به على مدى الاجيال. ولكن كيف تستخدم ولمصلحة من ومن يستفيد منها؟ واسئلة اخرى بالتاكيد. وهنا يتوجب التوقف والاجابة بروية وبوعي ووضع الاهداف من كل ذلك في المقدمة، التي تصب في خدمة الانسان في مجتمع انساني متطور ومتقدم. فهل تستخدم هذه الوسائل التقنية لخدمة الانسان؟ ولتطور المجتمع؟ ولتحديثها هي ذاتها كما حصل في تاريخ تطورها؟.
نحن امام معضلة كبيرة وخطيرة، لان هذه الوسائل متاحة وبلا رقيب مباشر او حدود معينة او حسابات مقننة، وهذا يعني انها قد تستخدم لاهداف خطيرة مضرة للانسان الفرد والبشرية جمعاء. الامر الذي يتطلب دائما الحذر والتحذير في الاستخدام والممارسة. فوسائل التواصل الاجتماعي مثلا استخدمت لغايات تضر بالامن العام والسلم المجتمعي، واستفادت منها تنظيمات الارهاب الدولي او المنظمات المتطرفة والعنصرية واستثمرتها في نشر الكراهية والعنصرية والتطرف والغلو في الايديولوجيات او المواقف او الاعمال التشاركية. وكذلك وظفت مواقع الكترونية وجيوش الكترونية ومنها ما اطلق اصحابها عليها بالذباب الالكتروني، وهذه ايضا استخدمت لاغراض معادية واهداف خبيثة ووجهت عكس المطلوب والمنشود من استخدامها التقني والاجتماعي والسياسي والثقافي والاخلاقي.. وربما تستغل هذه الاستخدامات لقيام إدارات المنصات الإلكترونية في التحكم في الاستخدام لمن يحقق لها ما كانت تضعه هدفا لها وتخلط الاوراق بين الاستخدام الحر والمستقل والمخالف لها، وهو ما تقوم به إدارة الفيس بوك مثلا او التقييمات التي تضعها إدارات الوسائل الأخرى. وهذا على صعيد المستخدم وإدارة الوسائل والمنصات الإلكترونية، ومثله بين المستخدمين، سواء كافراد أو مجموعات وجهات ومشاريع مخطط لها ومنتظمة وتستغل هذه الإمكانيات بيسر وسهولة.
ومع كل هذه الفوائد والمكاسب وعكسها المخاطر والاضرار، هناك ما هو الأخطر في الحالين، وهو تناقضات الحكومات التي تهيمن على صناعة هذا الفضاء الإلكتروني، في رقابتها المتطابقة مع توجهاتها العامة على مختلف الصعد والمستويات، والتلاعب بمفاهيم الحريات وحقوق الإنسان والاستقلال والاستقرار، فهي في الوقت الذي تمنع أو تتدخل في حرية الرأي تفتح المجال واسعا أمام من يتخادم معها أو يخدم اهدافها، خاصة العدوانية والعنفية والعنصرية واشباهها. ومن هنا لابد من الحذر والتحذر، مرات اخرى، من كل هذه المجالات أو الفرص أو الخدمات. فثمة غرف سوداء تمارس وظيفتها التخريبية والتضليلية، ولهذه الممارسات تاريخ معروف ومنشور، يتحرك حسب التطور التقني والمهني ويتسابق معه.وظلت المهمات نفسها في جمع المعلومات والتجسس . وهذا يعكس أن هذه الخدمات المجانية في الاتصالات ليست مجانية لوجه الله.
حسب مجلة الفورن بوليسي، ان "وكالة الأمن الوطني الأمريكية أو مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية لم تنفذ عملياتها لجمع المعلومات في عصر الإنترنت من خلال الاتفاقيات المشبوهة التي توصلت إليها مع شركات التواصل، عوضًا عن ذلك وضعت تشريعات تسمح بذلك. ونجحت وكالة الأمن الوطني في فعل ذلك، واستطاعت تأسيس قاعدة بيانات شاملة جمعت عددا من المكالمات الهاتفية من خلال تنفيذ القسم 2015 في القانون الوطني الأمريكي. وحسب تقارير فإن وكالة الأمن القومي تمكنت من جمع 534 مليون مكالمة هاتفية وسجلات رسائل نصية. وفي بريطانيا استخدمت مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية اتفاقيات غامضة وقديمة من أجل جمع البيانات والمعلومات." وتمارس الحكومات أدوارها اوسع في الاختراق الالكتروني والتجسس لكل منها، وخلال الأعوام السابقة كشف الكثير منها، ومن بينها برامج مكافحة الفيروسات فاغلبها ترتبط باجهزة المخابرات وتتقاسمها للصراعات الدولية فيما بينها وعلى حساب المستخدمين لها. وتفننت بعضها في الحروب السيبرانية التي فضحت هي الأخرى أيضا.
واذا كانت هذه من اعمال الحكومات واجهزتها الاستخبارية وصراع شركاتها فإنها هي توفر خدمات من نوع المواقع وبرامج منصات التواصل ووسائل الإعلام الأخرى لخدمة مشاريعها واهدافها، وصولا الان إلى تأسيس الجيوش الإلكترونية والذباب الالكتروني ومجموعات التضليل الإعلامي الصفراء..
واستخدمت هذه الوسائل في الإعلان والدعاية لمنظمات الارهاب، كداعش، أو لمنظمات عنصرية يمينية لها اسماء متعددة حسب البلدان التي ترعرع فيها أو لنشر الكراهية والتمييز العنصري والاثني، بمختلف الطرق والاتجاهات. وتتوفر لهم إمكانات كبيرة واحيانا بلا رقيب أو ضمير مهني أو أخلاقي. ويلعب غسيل الاموال دورا فيها.
حتى جائحة كورونا بعد انتشارها كشفت عن معلومات مضللة عنها بمختلف وسائل الإعلام الإلكترونية. مما دفع شركات ومجهزي هذه الوسائل والمنصات اتخاذ إجراءات ردعية ومراقبة لها. وهذه تسجل إيجابا ولكن في الوقت نفسه تمارس رقابة واغلاقا لحسابات أو مواقع تعتبرها معادية لتوجهاتها وأهداف مموليها واصحابها، والقصص كثيرة ومعروفة، خاصة في الفضاء العربي.. مع تناقضات لافتة، إذ جاء في تقرير أصدره «مركز التصدي للكراهية الرقمية» أن المئات من المنشورات التي تروج لمعلومات كاذبة عن الفيروس بمواقع التواصل الاجتماعي لا تجري إزالتها من الإنترنت. وتم إبلاغ موقعي فيسبوك وتويتر بنحو 649 منشوراً تتعلق بعلاجات وهمية ودعايات مضادة للتلقيح ونظريات مؤامرة حول شبكات الهاتف من الجيل الخامس والسادس وغيرها. وأن 90% في المئة من هذه المنشورات ظلت متاحة على الإنترنت بعد الإبلاغ عنها من دون أن تكون مصحوبة بتنبيه. وتمتد مثل هذه الحالات إلى ما يقابلها من أمور مشابهة أو قضايا مقاربة.. وكلها تعطي فرصا أو تتيح أساليب مفتوحة للرقابة والتجسس وحتى المنع أو القطع أو ما شابهه. كما أن مساحات التضليل والخداع والكذب تتوسع الى مواضيع اخرى، ولها ابحاث ودراسات واستقصاء يمكن أن يلقى الضوء عليها. وليس الأجهزة الاستخباراتية وحدها، فقد يتبرع أفراد لخدمتها بشكل أو اخر، من خلال استغلال البرامج أو شهادات لتقديم طلبات تعيين لديها.
في كل الأحوال لا يمكن إنكار دور الفضاء الإلكتروني، بما يكونه أو يرتكز عليه عمليا، سواء في المواقع والمنصات والجيوش الإلكترونية وما يتعلق بها، وضرورة التقيد بقواعد وضوابط العمل فيه ليكون فعلا فضاء مفيدا ونافعا للمستخدمين والمستفيدين من كل تطوراته التقنية وبرامجه التي باتت تتنافس وتتسابق في المشاركة الفعالة في خدمة المجتمع والبيئات التي تعتمد عليه. مع التقيد المستمر بالحذر والتحذيرات والإنتباه لكل ما تحمله وسائل الإعلام الإلكترونية واجهزتها الذكية.
كاظم الموسوي
بلاغة السرد في قصة "من العيون قفة"
- التفاصيل
- كتب بواسطة: منذر فالح الغزالي
للكاتبة التونسية زهرة خصخوصي
مدخل إلى البلاغة النوعية:
تنقسم البلاغة العربية إلى ثلاثة أقسام:
علم البيان، التشبيه والاستعارة والكناية....
علم المعاني الخبر والإنشاء...
علم البديع: المحسنات اللفظية والمعنوية، السجع، الطباق، المقابلة....
"الصورة الشعرية ما فتئت تحظى بمكانة كبرى في دراسة النصوص، في حين أغفل النقد الأدبي دراسة الصور في النصوص السردية... إن الصورة التي يتناولها د. محمد أنقار، وحلقة تطوان، هي صورةٌ سرديّة... بمعنى أن أنقار يؤسس دعائم البلاغة السردية... الصورة الروائية (السردية) هي صورة لغوية تخييليه وإبداعية وإنشائية تتشكل في رحم السرد، وتتفاعل مع مجموعة من المكونات التي تشكل الحبكة السردية. ومن ثمّ يمكن الحديث عن صورة الموضوع، وصورة اللغة، وصورة الفضاء، وصورة الشخصية... وغيرها من الصور التي تستنبط من داخل النص السردي... تتمثل جدة هذا المشروع في تأسيس بلاغة جديدة تسمى بالصورة الروائية، أو بلاغة الصورة السردية، أو البلاغة النوعية."( *)
بلاغة العنوان
العنوان هو العتبة الأولى التي تواجه القارئ ، والذي كشف عن قصد منه، بنية النص، أو يضع إطاراً تخييلياً لدى القارئ ويفرض أسئلة تحاول تأويل معناه، ودلالته، وبالتالي الوصول إلى فهم دلالة النص، أو المساعدة في فهمها، من خلال محطات متعاقبة أثناء القراءة، يقف فيها القارئ، محاولا الربط بينها وبين العنوان. قد يصل إلى غايته في إحدى تلكم المحطات، وقد لا يصل. وقد يصبح العنوان، بصفته حقلاً دلالياً منفرداً، حقلاً للتأويل يتعاضد مع النص بأكمله في فهم المعنى الكلي الشامل.
من العيون قفّة... هو تناص مع مثل شعبي، كما أوضحت الكاتبة في هامش أسفل النص. بلاغة العنوان تأتي من تناصه مع المثل الشعبي، في هذا التناص يستعير ليس فقط لغة المثل، بل يختزل، كما المثل الشعبي تجربة حياتية، مرّت عليها العصور الطويلة ورسختها في أذهان الأجيال المتعاقبة.
وبلاغة هذا العنوان تأتي أيضا من انزياحه الدلالي حيث هو صورة مبنية على الكناية، قفة العيون هي الكثرة التي تحاول أن تعوّض فقداً للنظر، وشوقاً للرؤية، لا تطفئه عينان اثنتان.
بالإضافة إلى ذلك الغموض الذي يغلف العبارة بغلالة شفيفة، لا تحجب ولا تكشف؛ غير أنها تبقي القارئ معلّقاً بخيط أملٍ وفضولٍ لذيذ لمسح كنه ذلك العنوان.
بلاغة الفضاء السردي(المكان والزمان)
1- بلاغة المكان القصصي:
"كلّ الأدراج خاوية…ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ"
بهذا الفضاء المكاني الغامض والمفتوح في آن، تفتتح الكاتبة القصة. خواء من جهة، وفراغ من جهةٍ أخرى... ولا شيء واضح أو محدد.
"فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة"
بهذا الوصف الشاعري الحامل لتأويلات لا تنتهي، يتوضح الفضاء المكاني قليلاً؛ لكن دون أن يحده أو يحدده أي جوار مكاني آخر، سوى سقف تخشى أن ترتطم به، وجدارا تخشى أن تصطدم به... وهذا الوصف الشاعري الحامل للتأويلات يزيد من بلاغة المكان، فليس كل سقف هو سقف مادّي، وليس الجدار جدا را من حجر.. لكننا نمضي مع الكاتبة في رحلة اكتشاف لحدود المكان...
"تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجأ لأسرارها الشّحيحة". صورة تتلوها صورة، وغموض يقود إلى فراغ...
وأخيراً، يكتمل بناء المكان القصصي بهذا السطر الذي يقع في منتصف القصة تقريباً... "طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة". لكن مع اكتماله ما زال المكان صورة شاعرية، ليس مجرّد بيت، وليس مجرّد باب، ولا أريكة.. هو مكان مفعم بالسحر، بالذكريات، والفراغ المحيط.. صور شعرية أساسها التشبيه والاستعارة والكناية، استثمرت الكاتبة البيان لأقصى طاقة ممكنة في رسم مكان غير محدود، رغم أنه محدّد، يصلح أن يكون أي مكان، الجدار والسقف، والباب، كلها عناصر تصلح أن تكون مادية مكونة لمكانٍ مادي محسوس ومحدود، وفي الوقت نفسه تصلح أن تكون أي مكان، ولا مكان... هو مكان اصطلاحي، كوني، حامل لكل تأويل ممكن من القارئ... هو الوطن في أحد تجلياته. هو الحياة في تجلٍّ آخر... هو كلّ ما يراه القارئ، أيّ قارئ، كل ما يحتاج أن يتمثله.
يكفي أن نقرأ إحساس البطلة بالمكان، بهذا المونولوج الشاعري الجميل:
"وتضيق حولي الدّائرة.
تضيق وتضيق وتضيق…
ولا ضلع في الدّائرة يسندني.
لا ضلع في الدّائرة…”
2- بلاغة الزمان القصصي:
كما بنية المكان في القصة، جاءت بنية الزمان، شاعرية منفتحة على التأويل مالكة للإيحاء...
أول مرة نلتقي بالزمن في سيرورة الحدث بهذا الوصف: "أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين".
نعلم أنها سنين... وهذا كل شيء.
"كان خريف..."
"وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب "
"الشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى"
زمن القصة في السرد جاء في الزمن الماضي، أما الزمن الحاضر، زمن الحدث المرتبط بالمكان القصصي، فلا خبر عنه، كأنه لا وجود له في خارطة الزمن... أو كأنه كلّ الزمن.. كل لحظة، لا اسم لها. إذا كان الزمن في ذاكرة يقين توقف عند ذاك الخريف، فلأنّ الكاتبة، وعن قصد لا تريد أن يأتي الشتاء... لأنّ الشتاء يجلب الربيع، ولا ربيع يأتي بعد الحروب... هكذا يخبرنا النص، في إحدى قراءاته.
يتعانق المكان والزمان، بصور بليغة، تؤدي إلى الضياع، والضيق، والعدم... إلى انعدام الإحساس بالزمن. في الناحية الخلفية للصورة، نقرأ الهروب من الزمان، من العمر المقيّد بحياة كأنها دائرة تضيق وتضيق.
بلاغة الشخصيات
يقين، وحلمي. هما شخصيتا القصة الوحيدتان.
بلاغة الشخصيات القصصية تتبدّى في ناحيتين.
الناحية الأولى: اسم الشخصية، وتعاضد الاسم مع جنسها.
يقين هو اسم الشخصية المؤنثة، الذي يوحي بالثقة المطلقة، بالإيمان المطلق. المعنى المعجمي للاسم يقين هو: العلم الراسخ و المعرفة الحقة.
واسم الشخصية المذكرة هو حلمي، المنسوب إلى الحِلْم. وهو : الصبر والأناة مع القدرة والقوَّة، والعقل .
اليقين والصبر، الإيمان والعقل... في القراءة النسقية مع موضوع النص تكون قيمة الاسمين وأهميتهما. إذا كان المكان يوحي بالضيق، والزمان يوحي بالعدم، والخاتمة عماء مع عجز، فالعدم والضياع والعجز هو ضياع لليقين، والصبر، والقدرة، والعقل... هو ضياع للحياة الإنسانية بقطبيها المذكّر والمؤنث، لينتج عن ذلك العقم والجدب. أو ينتج مجتمعاً تائهاً عاجزاً، منحرف الخطى، أعمى البصر... والبصيرة.
بلاغة السرد
الحدث، من حيث البنية، جاء وفق خط زمني متكسّر متقطع، يمضي إلى الأمام في استرجاعاتٍ عديدة حملها على عاتقه مونولوجٌ هو قطعٌ شعريةٌ، أو نظراتٌ فلسفية:
“كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !
كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !
فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.
تضيق وتضيق وتضيق…
ولا ضلع في الدّائرة يسندني.
لا ضلع في الدّائرة…”
يلاحظ القارئ بسهولة استثمارها للطباق: قِصَر – استطالة؛ ضيق – اتساع.
والرمز: الدائرة
والكناية: لا ضلع في الدائرة يسندني.
بالإضافة إلى بلاغة تكرار المفردة: تضيق وتضيق وتضيق؛ والتنويع في الأسلوب بين الخبري والإنشائي
أو:
"“أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين
وأنا أنتظر معجزة الإياب…
قالوا “مات”…
لم قالوا ” قد مات”؟
لمَ ذريتني لقمة للشتات…؟
أنّى ذريتني وعانقت الغياب…؟
كم سنينا مضت…؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين… !”
وكذلك يجد القارئ تلك المتعة البيانية باستغلال تقنيات اللغة الشعرية، من ناحية التنوع الأسلوبي بين الإنشائي والخبري، إضافة إلى التكرار، والإيقاع. بل وطبوغرافيا رسم الأسطر على الورقة، والتقطيع إلى مقاطع على غرار قصيدة النثر.
بلاغة الحدث
الكاتبة لم تأت بالحدث جاهزا مقيّداً، ولم تكتف بالتقطيع الزمني؛ إنما بنت الحبكة على أعمدةٍ بيانية متفرّقة، إما بشكل وصفٍ بليغ، غاية في الجمال، مكتنز بالتراكيب البيانية من ترميز و مجاز واستعارات متنوعة.
"ويقين تمسي ذوباً في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف".
" كانا معاً، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء
والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى…
كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع"
أو جاء بعرضٍ حواريّ، كأنه، لجمال بيانه، مناظرةٌ شعرية:
"تهمس: ”الحمد لله أن ظللت حيّاً سليما”
يتمتم: ”ما أدراك أيقين؟
ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى؟
الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين…
وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعاً! ثمّ ألا ترين سا…”
“الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة…
الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة…”
كأنها تضمّ حبات لؤلؤ في خيط من حرير، لا يظهر جمال صنعته إلا بعد اكتمال عقد خيطه...
هكذا جاءت بنية الحبكة في القصة: مروجاً، أو بقعاً من الزهور، أو بركة ماء شفافة؛ كلُّ عنصرٍ جميلٌ بذاته؛ لكنّ جماله لا يكتمل إلا في اكتمال الحبكة وخاتمتها، تلك الصورة التي تفيض أسىً وفلسفة:
"يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك”
تصرخ يقين:” ما هذا…؟”
يردّد حلمي:” لا تجزعي، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن…”
تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين…
جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين…
تهمس:” لأراه… ربّاه، قفّةَ عيون”.
بلاغة الموضوع
حبكة القصة غُزِلت على موضوع الحرب، وأثرها على الأنسان والمجتمعات، وما تخلّفه من دمار لبنية الأوطان وبنية الإنسان معاً.
غير أنّ البناء الجيّد للحبكة، واختيار الاسلوب والصور السردية، وتوظيفها التوظيف المناسب استطاع أن يرتفع بقيمة النص من قصةٍ عاديةٍ فردية إلى قصةٍ إنسانية، وكونية شاملة.
الحبكة انبنت على رجل وامرأة، تفرّقهما الحرب، وتفقدهما ابنهما المنتظر، يلتقيان بعد أن فقدا الأمل باللقاء، فيكون الرجل مبتور الساق، وتكون المرأة عمياء.
لأنّ الرجل، في ثقافتنا المحلية، وفي الذاكرة الجمعية للإنسانية، هو المسؤول عن السعي للرزق، لأن الرجولة قوّة وصبرٌ وأناة، فإنّ بتر ساق بطل القصة يعني التوقف عن السعي، العجز، وفقدان القدرة.
ولأن المرأة هي العين الساهرة على الأبناء، المراقبة لشؤون الأسرة الحانية العطوف... لأن الأنوثة جمال وحنان وثقة بالقوة مستمدّة من قوّة (بعلها)، فعماها هو فقدان الأسرة البصر والبصيرة، الحنان والرأفة، وانهيار الثقة بالقوة.
الأسرة هي المجتمع الإنساني، بذكره وأنثاه، بقوته ويقينه وجماله واكتماله، والحرب تحوّل المجتمعات إلى كتلٍ من بشرٍ عاجزين، فاقدي البصيرة، فاقدي الحلم والجمال.
خاتمة
الصورة السردية، في استثمارها الجيد آن الكتابة، وفي قراءتها قراءة واعية، تؤدي مجموعةً من الوظائف من الناحية الجمالية، وفي تحسين البنية السردية من حيث التكثيف وآلياته وتقنياته، وفي بناء الحبكة بناءً متماسكاً، وبناء الشخصيات وإعطائها الدلالات الأوسع التي تنتقل بالحدث من حدث بسيط آنيّ، أو فردي إلى تجربةٍ إنسانية شاملة، تجعل النصّ أيضاً كونياً في تجلياته وقراءاته.
أما شعرية اللغة فتتبدى في ارتفاع مستوى البيان والبديع، باستغلالٍ كامل لطاقة اللغة، وتوظيف وهج البلاغة وقدرتها في احتواء الحدث والسير به نحو الذروة والتنوير الختامي، بعدد من التراكيب والصور البديعة، التي تعيد إحياء البلاغة العربية التقليدية، بتجديد عصري، يمثل حداثة سردية خاصة، في بناها المختلفة.
وهذا النّصّ "من العيون قفّة" مثال للبلاغة السّرديّة صورا ولغة.
منذر فالح الغزالي
بون 23/12/2020
..........................
(*) د. جميل حمداوي (أحد تلاميذ الدكتور محمد أنقال)
..........................
مِنَ العيون قفةٌ(*)…
قصّة قصيرة بقلم لأديبة التونسية زهرة خصخوصي
كلّ الأدراج خاوية… ترتطم يدها بالخشب البارد أنّى مدّتها، فتعود إليها موجوعة حانقة، ثمّ تعاودها الرّغبة في عناء البحث من جديد لتغرق في الفراغ…
تجمع أشلاء حيرتها وتنتصب واقفة.
"كم أجدني في قصر مداي قد استطلت !
كم أجدني في ضيق مداي قد اتّسعت !
فجأة أضحيت أتسمّر مكاني أخشى بالسّقف ارتطاما، أخشى بالجدار اصطداما، وتضيق حولي الدّائرة.
تضيق وتضيق وتضيق…
ولا ضلع في الدّائرة يسندني.
لا ضلع في الدّائرة..."
تمدّ يدها بحذر إلى يمينها، تتحسّس الفراغ، تحاول العبور إلى مكتبها المحشور في الزّاوية، آخر ملجإ لأسرارها الشّحيحة.
يئنّ الدّرج المنخور تحت قبضتها وهي تسحبه إليها، يُشرق وجهها بابتسامة ظفر، تسحب لفافة قطن، تتحسّسها كأنّها رضيع في قماطه، تفكّ عقدة صغيرة تلفّها، ثمّ تضمّ كفّها عليها كأنّها عصفور تخشى فراره.
ترفع كفّها واللّفافة القطنيّة، تقرّبها من وجهها، تتشمّها، فيغزو خدّيها توهّج فرح طفوليّ.
تضع في فمها حبة اللّبان المرّ وترتمي على أريكة باهتة الألوان، ألوان ما اغترفت منها نظراتها منذ الصّعقة والشّهقة وطوفان الشّتات…
حبّة اللّبان المرّ شهد يمحو لبرهة من الزّمن علقم الحياة الذي تكابده…
حبّة اللّبان المرّ حلوى الذّاكرة، فاكهة مجلس أمّها الحنون، تمائم العرس في كفّ الصّبايا، وباقة ورد في قفّة السّوق الأسبوعيّة…
وكم باتت حبّة اللّبان، في عتمة خطى يقين، مشاعل لمتاهات الحكاية ...!
وكم صارت يقين تعشق كؤوس حبّات اللّبان !
طرقات خفيفة على باب الغرفة تنتزعها من تلك الأريكة البالية ومن متاهة الذّاكرة.
تتّبع صدى الطّرقات…
تسوس الطّرقات خطاها.
بصوت كالرّجيف تسأل:” من…؟”
صوت هامس رهيف يأتيها من خلف الباب: "يقين…؟"
يهتزّ قلبها لصدى الصّوت الهامس الرّهيف، تعضّ على شفتها، تشدّ قبضتها على فستانها، وتسند رأسها على الباب كالخدرة مردّدة:”من…؟ من أنت؟”
ويفترّ ثغرها بالضّياء، كأنّها ترى ابتسامته النّضّاحة عذوبة وهو يجيب:" أنا حلمي … زوجك أيقين، افتحي الباب."
تأسرها رعدة تجتاح كامل جسدها حتّى لكأنّها تسمع أسنانها تصطكّ.
"أوّاه…كم سنينا مضت تلتهم السّنين
وأنا أنتظر معجزة الإياب…
قالوا “مات..."
لم قالوا "قد مات”؟
لمَ ذريتني لقمة للشتات…؟
أنّى ذريتني وعانقت الغياب…؟
كم سنينا مضت…؟ كم ذريتني مضغة في فكّ السّنين... !"
تزداد حدّة الطّرقات، وحلمي خلف الباب ينادي:" أيقين افتحي الباب، أيقين..."
يزغرد المفتاح في أكرة الباب، وتفيض أنهار العناق.
ذات الرّائحة الحبيبة تؤوب إليها والصّوتَ الحبيب، والجسمُ النّحيل ذاته، كعهده، في العناق رحيب، وكثير من البكاء الغريب الغريب…
ويقين تمسي ذوبا في كفّ الوصال، ذوبا من حنين كم جمّدته بيض اللّيالي تعقلها مذ ذاك الخريف.
كان خريف…
والأخبار هلّلت لانتهاء القتال، الحرب لملمت أوزارها، تركت للرّياح أن تكنس أوراق الأزيز، أن تضمّد جراح الغيمات حتّى تعشق وجه الشّتاء…
وكانت الشّمس في خفر تقبّل ثغر الغروب.
كانا معا، تحت جدار البيت يقصّان الخشب قطعا لمواقد الشّتاء.
والشتاء مذ ذاك الخريف ما أتى…
كانا يقطعان الخشب المتيبّس، وفي رحم يقين قد شُدّ إلى المشيمة بذار فرح للرّبيع…
قال:” أسمّيه جمالا”.
قالت:” أسمّيه ربيعا”.
لكنّ قصفا جائرا شوّه ذاك الجمال، أجهض ذاك الرّبيع، وبسط رداءات الخريف على كلّ الخطى، واستيقظت يقين على جسد يخنقه البياض، على بصر يخنقه الظّلام، على خبر يقول: "زوجك ضمّه موكب الأموات..."
تتخلّل أصابع يقين شعر زوجها، تبتسم، تهمس:” الحمد لله أن ظللت حيّا سليما”
يتمتم:” ما أدراك أيقين؟
ألا ترين جزز الشّيب من هول أنياب الأسى؟
الشّيب راية الألم، راية الوجع الدّفين…
وكم أثخنني مساء ذاك الخريف وجعا ! ثمّ ألا ترين سا…”
تلذعه سياط نشيجها، يبتعد عن حضنها قليلا، يمسح بكفّه دموعا حرّى وهو يهمس بصوت رجيف : "زال الخريف أيقين… ها قد عدت، ها نحن نجتمع من جديد…
مواجعُ الفقد تذبّها ساعة الوصال.
المواجعُ ريح يكسر أمواجَها دوامُ الحال من المحال، و لله الحمد أن ما دامت حال… "
يشتدّ النّشيج، يحتضنها حلمي من جديد، لكنّها تسحب نفسها منتفضة وهي تصيح: ”أعماني ذاك المساء يا حلمي… إنّي عميت.”
يتأمّل الزّوج عينين لا تريانه، يشرق فؤاده بالنّحيب، يعقل سيّاف الفرح لسانه.
"الوجع سيّاف الفرح يا عبارتي الهائمة…
الوجع، واحرّ قلباه، سيّاف الأوينات الحالمة…"
تكنس العينان المعتمتان ابتسامته وإشراقات النّظرة المشتاقة.
يتفحّص زوجته الضّريرة فلا يرى غير الأسى.
مشارط الآه تنقضّ على الفؤادين العليلين بلا رحمة.
يضمّ حلمي زوجته إليه ويمدّ رجله إلى الوراء ليغلق الباب. فجأة تدوّي قرقعة: تاك، تاك: تكككك”
تصرخ يقين:” ما هذا…؟”
يردّد حلمي:” لا تجزعي ، هي عصاي أتّخذها ساقا وبها أغالب الوهن… ”
تشهق يقين فزعا ممّا سلبتها السّنين…
جزعا ممّا يحجبه عنها العمى، تشهق يقين…
تهمس:" لأراه… ربّاه، قفّةَ عيون*"
زهرة خصخوصي/ تونس
..............................
(*) إحالة على مثل تونسي ترجمته إلى الفصحى هي:” والأعمى يتمنّى قفّة عيون”
لا يمكن النهوض بالبلد إلا بانهاء حالة الاقتصاد الريعي بتنويع مصادر الدخل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد توفيق علاوي
أساس المشكلة الاقتصادية هو الاقتصاد الريعي والاعتماد شبه الكلي على موارد النفط، ولا يمكن الخروج من هذا المأزق إلا بتنويع مصادر الدخل وهناك عدة مشاريع كبيرة يمكنها أنْ تجلب موارد ضخمة للبلد، للأسف لا توجد جدية من قبل الحكام منذ سبعة عشر عاماً حتى الآن لتنويع مصادر الدخل ونذكر ادناه بعضاً من هذه المشاريع:
1) الربط بالطيران بين الشرق والغرب: فالعراق ذو موقع جغرافي مميز حيث يمكن تحويل مطار بغداد ومطاري البصرة والموصل إلى محطة وصل بين الشرق والغرب وتوسيع أسطول الخطوط الجوية العراقية وتوسيع مطار بغداد الدولي ومطاري البصرة والموصل ومطارات أخرى، إنْ استطاع العراق أنْ يكسب خُمس السوق العالمي في هذا المجال كمطارات دبي أو إسطنبول فإن ذلك يمكن أنْ يحقق وارداً إضافياً كبيراً للبلد، حيث يجب ابتداءً الاستجابة لشروط السلامة وقواعد الطيران ال(ICAO) العالمية لاستكمال الاجراءات لرفع الحظر الاوربي على الطائرات العراقية؛ ومن ثم جلب شركات عالمية لإدارة المطارات الدولية، واختيار مدراء عالميين ذو كفاءة وخبرة لإدارة أكثر من شركة للخطوط الجوية، الوارد من هذا المشروع يمكن ان يتجاوز الخمس وعشرين مليار دولار سنوياً.
2) مشروع القناة الجافة: مشروع ميناء الفاو وخطوط سكك حديد ثنائية تربط العراق بالقارة الاوربية يمكن وضع الخطط والتعاقد على هذا المشروع من خلال استثمار الاتّفاقية مع الصين لتمويل هذا المشروع؛ الوارد من هذا المشروع يمكن ان يتجاوز الثمان مليارات دولار سنوياً.
3) مشروع البتروكيمياويات: يمكن مضاعفة أسعار النفط بتحويل الغاز والنفط الخام إلى منتجات بتروكيمياوية فإنشاء مصانع متكاملة للبتروكيمياويات يعتبر من المشاريع الاستراتيجية المهمة وتضاعف موارد البلد من الغاز والنفط، وتشكل قاعدة لنشوء صناعات أخرى كثيرة في مختلف المجالات، لذلك يعتبر هذا من المشاريع التي لها أولوية ويمكن بكلّ سهولة الحصول على قروض عالمية على مثل هذا المشروع المهم والذي يمكن ان يدر دخلاً لا يقل عن خمسين مليار دولار سنوياً .
4) استثمار الغاز المهدور واستخراج الغاز من حقول أخرى: هناك كميات كبيرة من الغاز المصاحب الذي يحرق هدراً في كثير من الحقول والمصافي، وهناك حقول للغاز الحر في عدة مناطق غير مفعلة، وإنَّ الحاجة العالمية للغاز ستزداد في المستقبل على خلاف النفط وسيزداد سعره، يجب التفكير الجدي بعدم هدر الغاز وبإنتاجه وطريقة بيعه وتحويله إلى منتجات بتروكيميائية، كما يجب وخلال اقصر فترة زمنية ايقاف استيراد الغاز من خارج العراق لتوليد الطاقة الكهربائية او الاستخدامات الاخرى.
5) إعادة تأهيل وتشغيل المصانع المتوقفة: وذلك بإعادة تأهيلها من قبل كادر عراقي ما كان ذلك ممكناً، أو حتّى جلب شركات عالمية لتأهيلها وإدارتها لفترة زمنية محددة وتدريب كادر عراقي لإدارتها وتشغيلها، وإشراك القطاع الخاص وتحوّليها إلى قطاع مختلط، وطرح أسهمها للمواطنين، ومنح مقدار من الأسهم بمبالغ رمزية لكافة العاملين فيها من كادر هندسي وإداري وعمال.
6) المشاريع الصناعية الاستراتيجية: أما المشاريع الصناعية الاستراتيجية الكبرى فيمكن للعراق أنْ يستدين القروض الميسرة لمشاريع استراتيجية منتجة بحيثُ إنَّ هذه المشاريع تكون قادرة على إرجاع الديون بفوائدها وتحقيق فائض كبير للبلد وتشغيل ملايين الأيادي العاملة، وفي هذا المجال يمكن أيضاً المشاركة مع القطاع الخاص وشركاء استراتيجيين عالميين وجعل العاملين شركاء في هذه المصانع، وهناك المئات من المشاريع التي لا يسع المجال لذكرها؛ ويمكن انشاء عدة مدن صناعية في جميع المحافظات في مناطق صحراوية ضمن فترة زمنية قصيرة ثم يمكن البدء بإنشاء الآلاف من المصانع في آن واحد حيث يمكن بكلّ سهولة الحصول على قروض عالمية لمشاريع إنتاجية، فالكادر الهندسي والكادر الإنتاجي والكادر الاقتصادي من الشباب متوفر وبفائض كبير وسوق الاستهلاك الداخلي متوفر بشكل كبير أيضاً فضلاً عن الأسواق الخارجية، والمصارف العالمية مستعدة لتقديم أي مقدار من القروض المطلوبة إذا كانت هناك بيئة استثمارية جاذبة من دون فساد ورشاوي، وتوفر الأمن من دون وجود سلاح منفلت ومجاميع مسلّحة خارجة عن القانون، مع دراسة جدوى واضحة تبين أنَّ الوارد يمكن أنْ يسدد القرض وفائدة القرض ويحقق ربحاً إضافياً للبلد.
محمد توفيق علاوي
٤ يناير ٢٠٢١
قراءة في المجموعة القصصية (باصات أبو غريب) للكاتب بولص آدم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: جمعة عبد الله
أدب السجون يملك حديث طويل ومتشعب، في حياة العراقيين. إذ لا تخلو مراحلة من مراحل العراق السياسية من السجون والمعتقلات والمجازر، في هذه سراديب الموت. كل سلطة قمعية باطشة طامعة بالسلطة تأتي على ظهر الدبابة، برنامجها الاول، حشر الناس والابرياء بالسجون، فكل مراحل العراق المتقلبة مليئة بحشود الحاشدة المحشورة بالسجون. كأسلوب ونهج للحكم الطاغي والباطش بالتنكيل، في اسلوب المعاقبة كسلاح للنفي داخل السجون. من اجل تكميم الافواه وخنق الرأي المعارض والسياسي. وقد كبر حجم السجون كماً ونوعاً وكيفاً في زمن الدكتاتورية المقبورة الساقطة، سواء في السجون العلنية او السرية، تشهد تزاحم في عدد السجناء من كل الاصناف، المعارض والبريء. في اسلوب التنكيل والتعذيب الوحشي، وكثير من السجناء توفي في زنازين الموت. انها نهج ثقافة العنف الذي تستخدمه السلطة في القمع والارهاب، والترغيب بين الحياة والموت، وكثير من المثقفين والمبدعين والكتاب تعرضوا لحياة السجن في العسف والاضطهاد وعاشوا تجربة السجن. رغم البشاعة الوحشية لحياة السجون، لكن ما كتب من اعمال روائية وقصصية وفنون اخرى إلا القليل من هذا الزخم الكبير، وبالنسبة للحجم الهائل من زار حياة المنفى في السجون. وقد اشتهرت السجون في العراق، مثل سجن (نقرة السلمان) سجون بغداد والكوت والمحافظات الاخرى، سجن رقم واحد في معسكر الرشيد في بغداد. المشهور بقطار الموت، ارادت السلطة البعثية عام 1963، أبادة وموت السجناء دفعة واحدة لاكثر من 500 سجين سياسي من النخب الاجتماعية الفاعلة، لكن شهامة ووطنية سائق قطار الموت، انقذهم من الموت المحقق، مع هذا فأن أدب السجون يشهد الفقر في الاعمال الادبية والروائية العراقية، وقد شخص الراحل الكبير الدكتور حسين سرمك هذه الظاهرة، بشحة اعمال أدب السجون، في مقدمته الرائعة لهذه المجموعة القصصية (باصات أبو غريب) بقوله (بالرغم من أن وطننا صار في مراحل كثيرة من تاريخه سجناً كبيراً، وبالرغم من أن كثيراً من المبدعين العراقيين، قد تعرضوا لتجارب مريرة من السجن والتعذيب، إلا أن ما كتب عن ادب السجون العراقي كان قليلاً جداً، بصورة تثير الكثير من الغرابة والتساؤلات، يكفينا القول أن دورة معرض القاهرة الدولي 48 لعام 2017، شهدت ثلاثين رواية عن أدب السجون، لم يكن بينها رواية عراقية واحدة في هذا المجال) وكان الراحل الكبير مهتماً بشكل خاص بموضوعة أدب السجون في الاعمال الادبية العراقية، واصدر الكتاب الجزء الاول. حول أدب السجون، على ان يكمل مشواره في الجزء الثاني، وخاصة للاعمال الادبية لم يمر ذكرها في الجزء الاول، لكن مشاغله الكثيرة في الجهد الفكري، ثم جاء الموت وخطفه، فضاع مشروعه الثاني. لذلك اعتبر أن ما قام به الكاتب (بولص آدم) هو مواصلة لمشروع الراحل الكبير، لان المجموعة القصصية، تحمل مواصفات خاصة، لانها تحمل نكهة تتمثل بالمعايشة والتجربة الحقيقية لحياة السجون، وبكل تأكيد ان من يكتب من داخل المعايشة السجن، أفضل لمن يكتب خارج المعايشة السجن، مهما كان الابدع في الخيال والتصور الفني. لكن مع شحة الاعمال التي تناولت أدب السجون في الرواية والقصة، التي انتجت في هذا المجال واشتهرت، في كشف حياة السجون واسلوب التعذيب الوحشي، تجسدت في الاعمال الروائية والقصصية المبدعة، نذكر منها على سبيل المثال :
1 - رواية (القعلة الخامسة) فاضل العزاوي
2- رواية (دابادا) للشهيد حسن مطلك، وكانت سبب أعدامه من قبل النظام الدكتاتوري
3 - رواية (الفتيت المبعثر) محسن الرملي
4 - رواية (أعجام) سنان أنطون
5 - رواية (أدم) فرات ياسين
6 - رواية ( أنا الذي راى) محمود سعيد
7 - رواية (الفئران) حميد العقابي. وغيرها.
ولا اشير الى الروايات العربية التي جسدت حياة السجن والسجين، فهي كثيرة لا تعد ولا تحصى، وتميز الادب السجون العربي بالاهتمام الشديد في هذا المجال. وتتناول هذه المجموعة القصصية (باصات أبو غريب) بشكل مختلف عن روايات أدب السجون في الطرح والتناول، بشكل ربما غير مألوف في هذا الصنف الادب الهام، لايعني انه كتبها بذاكرته المسجونة في السجن آنذاك، في تجسيد تجربته في منفى السجن بالمعايشة الفعلية تجرع مرارتها وقهرها في زنزانة السجن وذاق عذاب السجن. وهي تعتبر شهادة أدانه الى النظام الدكتاتوري في ممارساته الوحشية. ان تناول المتن السردي بشكل مغاير عن المألوف في السرد الروائي في التشخيص والتناول بهذه المميزات :
1 - تعامل النظام مع السجناء بحشرهم بصنف واحد هو الاجرام، و السجن يضم سوية سجناء الرأي الحر والمجرمين والقتلة في ردهة واحدة. المعارض والسارق في زنزانة واحدة. هذا يعطي انطباع بان النظام الدكتاتوري لايفرق بين السجناء وجيناتهم. مثلما كانت تتحدث الروايات أدب السجون، الردهات او الزنزانة مستقلة بين سجين الرأي وبين القاتل والمجرم والسارق وتاجر المخدرات.
2- لم يتحدث النص السردي للمجموعة القصصية. عن وسائل التعذيب الجسدي في كرسي الاعتراف بهدف الاسقاط والبراءة من جهته السياسية والحزبية. ولم يتوقف التعذيب الوحشي إلا ان يعترف السجين بما يحمل في جعبته من اسرار سياسية وحزبية، وخيار السجين بين الحياة والموت.
لم نجد اعمال السخرة والانتقام. كما كان يفعل (ستالين) في اجبار السجناء على الاعمال الشاقة والصعبة حتى تزهق ارواحهم اثناء هذه الاعمال المرهقة، أو في اسلوب الابادة الجماعية كما خططت السلطة الوحشية في قطار الموت في ابادة اكثر من 500 سجين دفعة واحدة.
3 - السجناء في زنزازين مغلقة الاحكام لا يدخل حتى ضوء الشمس. وليس نوافذ يتطلع عليها السجناء على الخارج. بجعل احدهم ان يصعد على ظهره الآخر، ليتمتع بالمنظر الخارجي للسجن.
4- لم نجد العناء في مشكلة التغوط والتبول داخل الزنزانة وعلى منظر السجناء. كما هو مشار اليه في روايات السجون. ولكن بماذا تختص حياة السجن والسجناء التي دونتها المجموعة القصصية (باصات أبو غريب) تشكل هذه الخصائص :
1 - مسألة الاهمال والحرمان بنظافة السجن، بحيث (القمل) يطلق عليه (حيوان) الكلب الذي يغزو مراتع الازبال سواء في اجسام السجناء أو في شعور رؤوسهم، أو في مراتع الزبالة أو في قشور البطاطا.
2 - السجناء كل شاغلهم وهواجسهم الاولى، في انتظار الافراج والعفو من رحمة رئيس الطغمة الدكتاتورية. سواء في تخفيض عقوبات الاعدام الى المؤبد، او مكرمة الافراج، سواء كان السجين قاتلاً او سياسياً.
3 - التعذيب النفسي لدى السجناء يخلق حالات الخيبة والاحباط. أو قد تؤدي الى حالات ممارسة العنف بين السجناء. كما في قصة (الطعنة الغامضة)
4 - الحلم بالحرية في خيالات التي تأخذهم خارج اسوار السجن. ان يحلموا ان تنزل عليهم (باصات) تنقلهم الى اهلهم وبيوتهم، مثل قصة (باصات ابو غريب) التي حملت عنوان المجموعة.
قال انويا لرفيقه في السجن (سمير) بما يدور في خياله من حلم في زيارة البيت والاهل، والتمتع بالصباح القيمر والشاي المهيل والخبز الحار. آه يا أم داؤود آخ. نهض سمير الحلاوي، واخذ بالصياح والصراخ (أصعد أخي.. أستعجل. نفر واحد، بغداد. بغداد) او الحلم في انتظار مكرمة الافراج، مثل هذا القاتل المفتول العضلات الذي يدعي البطولات، ويضغط على كاتب مجموعة (باصات أبو غريب) ان يدون بطولاته في قصة او في قصص، وهو الذي قتل حارس سوق الذهب، وضرب بالمطرقة صاحب محل الصياغة. يأمل ان يخرج من السجن مرفوع الرأس، ويذهب الى سبائك الذهب التي سرقها ودفنها تحت التراب، ليبني بيتاً في الموصل ويعيش عيشة الملوك. كما دون في سرد (باصات أبو غريب)
5 - العقاب الجماعي : دوافع اليأس والاحباط تخلق المشاجرات والمطاحنات، حتى استعمال العنف العدواني، مثل قصة (الطعنة الغامضة). حدث عراك بالسكاكين بين اثنين من السجناء، طعن احدهما الاخر، احدهما نقل الى المستشفى في حالة خطيرة، والاخر اختفى بين السجناء. فجمعهم السجان في ساحة السجن تحت المطر والبرد ساعات طويلة، والسجان يتطلع بشراهة وعدوانية حتى يخرج القاتل من صفوفهم. واخيراً لم يتحمل القاتل جراح ضربة السكين، فكشف عن ملابسه الداخلية ملطخة ببقع الدم الكبيرة وتقدم الى السجان.
6 - خيبة بالحرية في قصة (حدث ذات مرة في الممر) حضر السجناء وقرأ الاسماء التي يجب ان تجهز نفسها للافراج، واخذهم الى الممر الطويل الذي يفضي الى باب السجن الى باب الحرية، وطلب منهم الانتظار، وانتظروا ساعات، لكن خاب أملهم بالحرية، فرجعوا تلوكهم الخيبة والاحباط.
7 - شهية الجوع : في قصة (صندوق بنيامين) ورث الصندوق من مريض في السجن ونقل الى جهة مجهولة وضاعت اخباره، كان لا يتحرك إلا والصندوق معه، وكانت فرحة (بنيامين) كبيرة في منحة الصندوق، وعندما فتح الصندوق وجد في داخله (علبه من مسحوق الغسيل) وكان (بنيامين) يستلم نصف راتبه العسكري، ويذهب الى حانوت السجن، ويشتري بالراتب كله معلبات اللحوم الهولندية، ينهشها في وجبة واحدة. ويتنفس الصعداء مرة واحدة كل شهر.
8 - الدمعة العصية : في قصة (انتظار الابوذية) كان (دعير) المطرب الريفي الذي يصدح كل يوم بمواويل الجنوبية. وحين سمع بخبر موت طفله الوحيد (حميد) بسبب اهمال زوجته، التي انشغلت بمطاردة الفأر، وسقط ابنها في بالوعة الدار. اصابه الوجوم وخرس، ولم تسقط دمعة واحدة على طفله الوحيد. واثار لغط كبير بين السجناء لحالته الغريبة. بأنه لم يبك ِ على أبنه.
(- اتركوه أرجوكم حالياً... وقعت على رأسه المصيبة... النواح حرام
- آمنا بالله أخي، لكن البكاء على الميت العزيز ضروري جداً.
- سجين آخر. ساعدوه يا جماعة الخير البكاء بركة).
ولكن تراكم الالم والوجع. انفجر بالبكاء
ان المجموعة القصصية (باصات أبو غريب) تمثل محاولات جادة في التناول والطرح بتجربة السجن والعذاب النفسي، وهم داخل المنفى الصغير. أتمنى ان يواصل مشروعه الادبي بأدب السجون. الذي يضيف الى المكتبة العراقية، طعم مختلف في الادب الروائي والقصصي لادب السجون.
جمعة عبدالله
عنف الطفولة يتحول جحيم السيكوباتية
- التفاصيل
- كتب بواسطة: سارة طالب السهيل
تمتلأ صفحات يومنا بالعديد من مشاهد العنف بين الاطفال والكبار والرجال والنساء، وكأنه متلازمة من متلازمات الحياة كالطعام والشراب. وللاسف فاننا نتعايش مع هذا العنف الذي يدمر ذواتنا الانسانية حتى صارت عمليات الاجرام من قتل وسرقة واغتصاب وحروب شيئ طبيعي!!!
وللأسف الشديد، فان العلم الحديث بكل تقنياته لم يستطع منع العنف لدى بني البشر لسبب بسيط لان مختلف هذه العلوم لم تشكل انسانية الانسان على قيم الرحمة والحب والتسامح، بل ان تكنولوجيا العصر ساهمت بشكل كبير في نمو ظاهرة العنف لدى الاجيال المتعاقبة بما تحويه الدراما والأفلام والكارتون والعديد من الفنون والالعاب من عناصر تكرس للعنف وتغذيه في نفوس الناشئة.
ولاشك ايضا ان غياب الامان داخل المحضن الاسري السليم والدافئ المشاعر، وجهل الابوين بسبل التربية الحنونة والرؤوفة أدى الى الحرمان العاطفي لدى الصغار مما أصابهم باعتلالات نفسية جعلت الكثير منهم غير اسوياء نفسيا وانعكس ذلك على اصابتهم بانحرافات سلوكية عنيفة تجاه الأسرة والمجتمع معا.
فالعنف الذي يتلقاه الصغار من أبويهم بدعوى تقويم السلوك والتربية، ومن المدرسة بعصا الطاعة وتحفيز تحصيل العلوم، ومن قرنائهم او التعرض للاعتداء الجسدي او التفكك الاسري وما يعانيه من اهمال الوالدين للطفل، كل هذه العوامل مجتمعة بجانب بعض العوامل الوراثية ناهيك عن ضعف الوازع الديني والاخلاقي في المجتمعات بفعل سيطرة المادية على حياتنا واهمال الجوانب الروحية، كل ذلك خلق العنف في المجتمع المعاصر وجلب العديد من الانحرافات السلوكية والشخصيات المعادية للمجتمع ومنها الشخصية السيكوباتية.
حقائق علمية
والحقيقة التي أثبتتها دراسات علماء النفس أن العنف الشديد في الطفولة يترك أثرًا سلبيا دائمًا على الروابط العصبية في المخ. فمَن يتعرض للإساءة والعنف في مراحل الطفولة، قد يتحول إلى مسيء عند الكبر ويميل إلى إظهار السلوك العنيف في مرحلة لاحقة من حياته والذي يتطور الى الجريمة.
ولذلك، كما ينصح الاطباء المختصون، الاسرة الاسراع بتوجيه الطفل المتعرض للإساءة لعلاج نفسي، خاصة الاطفال الذين يعانون إهمالاً ونقصاً في العاطفة أو أبناء العائلات المفككة قبل ان يتطور عنفهم الى ارتكاب الجرائم او يزيد مرضهم في الكبر يصبحوا سيكوباتيين.
جحيم السيكوباتية
الشخصية السيكوباتية مدمرة لمن يقترب منها ويعايشها نتيجة ما تتمتع به من جنوح للعدوان والانتقام والتخريب وحب السيطرة والانانية المفرطة وعشق الذات، فالسيكوباتي شخص يبدو جذابا وساحرا ومعسول الكلام وشديد الذكاء ويجيد اظهار المشاعر من الخارج فقط وليس من قلبه، لكنه يستخدم هذه الملكات الظاهرية في اعمال الشر والدمار والتخريب، وارتكاب أية جريمة دونما اي شعور بالذنب أو العار.
وبحسب دراسات الاطباء النفسيين، فان مثل هذه الشخصية، نتاج لتربية قاسية، وغالبًا تظهر بسبب عدم وجود الأبوين، وتعرض الطفل للكثير من القهر والظلم والاعتداءات المتكررة. ، لذلك يميل السيكوباتي الى الكذب الدائم والنصب والاحتيال ولا يتعاطف ولا يشعر بتأنيب الضمير، بل أنه يستأسد على الآخرين ويؤذيهم لفظيًّا وجسديًّا غير عابئ بالقوانين والأنظمة والحدود، فما يهمه هو اشباع شهواته وغرائزه ونفسه المريضة، بل انه يتلذذ بتدميرالاخرين حتى لوكانت امه او اخته او ابناء وطنه.
فالازدواجية لدى الشخصية السيكوباتيه توقع المحيطين به في شراكه وحبائله، حيث قد تراه وديعا يخفي وراء ابتسامة وجهه وحسن مظهره عصبية وشراسة انفعالات وسوء خلق وغياب الرحمة والتسامح، ومن يقترب منه يجد انه لا يعرف معنى الحب، بل انه قد يستغل حب الآخرين في خدمة أهدافه، ولايتورع عن أية خيانة.
ولما كانت الشخصية السيكوباتية تعتمد اشباعاتها الداخلية على ايذاء من حولها في العمل، أو المنزل، أو المجتمع، فهي تتهور في اتخاذ القرارات القاسية والمؤلمة، دونما الاعتراف بآلام الاخرين، بل تتلذذ بظلم الناس المحيطين بها.
وقد يتطور ايذاء الاخرين لدى السيكوباتي من تعدد الزوجات وتطليق اكثر من زوجة له، والهروب من المسئولية ، والوشاية بزملاء العمل لطردهم وصولا الى القتل في بعض الأحيان.
تضخم الذات والشعور بالكبرياء والظن بأنها أذكى من غيرها وأقوى من الآخرين وغياب الضمير يدفع الشخصية السيكوباتية الى اختراق القانون، وارتكاب جرائم القتل والاغتصاب، وممارسة أقصى درجات القساوة في التعاطف مع الآخرين، بل يقابل عواطف الحب والرحمة بالسخرية نتيجة عدوانيتها الداخلية والتي تدفعها الي الكراهية والانتقام بصورة دائمة ومن ثم الاجرام المؤهل له تماما.
الانقاذ من الجحيم
لعل ما يفعله الارهابيون من قتل بشع وتمثيل بضحياهم ونشر مقاطع فيديو للتعذيب والقتل للخويف انما يعكس حقيقة شخصيات مضطربة سيكوباتية تدمر من حولها دونما اي وخز للضمير، بل تعتقد انها الافضل ولا تحاول ان تحسن من نفسها، ولذلك عرفها علم النفس باضطراب الشخصيات المعادية للمجتمع.
ورغم ان علماء النفس يؤكدون أنّ سمات الشخصية السيكوباتية تتشكل في مرحلة المراهقة، الا ان البعض الاخر منهم يؤكد انها تتشكل في الصغر، حيث يبدو على الطفل السيكوباتي سلوكا عدوانيا يميل إلى ضرب وأذية الأطفال الآخرين وأخذ حاجتهم بالقوة، ليس له أصدقاء، و يلجأ للصراخ العالي والعند عند العقاب ولا يستمع لأي إرشادات، وقد يحاول ضرب والديه اذا لم ينفذا ما يطلبه منهما، ويغير من إخوته وتبرز أنانيته بشكل مفرط.
من هنا، فان هذه العلامات لدى الاطفال يجب على الاسرة اكتشافها مبكرا حتى يمكن علاجها قبل ان تتحول الى قنابل موقوتة تدمر المجتمع، عبر العلاج النفسي، ومحاولة إيقاظ الضمير والمشاعر لديه من خلال تقوية الجوانب الروحية بالكتب السماوية، أو اللقاءات الدينية، وأداء الفروض والمناسك الدينية، والتحدث أمامه عن عظمة الله في خلق سمواته وأرضه.
كما ان قراءة قصص للشخصية السيكوباتية مهم جدا تبين ان المؤمن مبتلى، وأن مرور الإنسان بالتجارب القاسية ضرورة يستفيد في اكتساب خبرة محاربة الشر، وان اللجوء الى الله تعالى واتخاذ القدوة الحسنة في الرحمة والحب والحنان يقوي قدراتنا الداخلية على مواجهة الظلم الذي نتعرض له.
ورغم ان هناك العديد من الحالات السيكوباتية الميئوس منها، وثبتت على اجرامها كمسجلين خطيرين، فان هناك حالات اخرى يمكن علاجها واعادة تأهيلها ودمجها في المجتمع من خلال اشغال اوقاتهم بالانتاج الزراعي والصناعي وتربية الدواجن او المهن الحرفية التي يخرجون فيها طاقتهم وجهدهم بدلا من ان يفرغوا شحناتهم العدائية بحق المجتمع مع استمرار العمل على ايقاظ ضمائرهم وتقديم النماذج الصالحة أمامهم.
سارة السهيل
كيف كانت الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. محمود محمد علي
لا شك في أن الصراع الدائم منذ بدء الخليقة يدور حول المياه وكيفية تأمينها والاحتفاظ بها والدفاع عنها كعنصر أساسي وحيوي من أجل البقاء. كانت المياه أهم مسببات الحروب والغزوات في تاريخ العرب والشعوب الأخرى، كما أن معظم الانتصارات كانت لمن يملك الماء أو يسيطر على مصادره أو يصل إليه أولاً؛ وقد قامت كل الحضارات وازدهرت حول منابع المياه وضفاف الأنهر والأودية، كحضارة ما بين النهرين إلى حضارة وادي النيل، ويحلو للمصريين أن يرددوا دائماً أن مصر هبة النيل، كما يحلو للسوريين والعراقيين أن يتغنوا بعطاء الفرات ودجلة.
وتعد قضية المياه إحدى قضايا الأمن الإسرائيلي، فالحروب التي قامت بها إسرائيل بعد عام 1948 رمت في جوانبها الرئيسية إلى السيطرة على منابع المياه العربية، وكل المشاريع لإقامة دولة إسرائيل في أرض فلسطين تضمنت مخططات لكيفية الحصول على المياه، ففي عام 1885 ركز "تيودور هرتزل" في مذكرات على ضرورة ضم جنوب لبنان وجبل الشيخ وفي عام 1947 نصح "ديفيد بن غوريون" في كتابه «ارض إسرائيل» ان تشمل منابع نهر الاردن والليطاني وثلوج جبل الشيخ واليرموك . وفي عام 1955 أكد: «ان اليهود يخوضون مع العرب معركة المياه وعلى نتائج هذه المعركة يتوقف مستقبل إسرائيل»، وأضاف في عام 1967 في رسالة إلى الرئيس الفرنسي "شارل ديغول": أمنيتي في المستقبل ان يصبح الليطاني حدود إسرائيل الشمالية وفي عام 1983 وبعد ما يقارب مئة عام على مذكرات "تيودور هرتزل" وجه ديفيد كيحمي رسالة إلى وزير الخارجية الأميركية جورج شولتز يؤكد له فيها اثر توقيع اتفاقية 17 مايو: «أن انسحاب إسرائيل من لبنان مرتبط بحصولها على حصة من مياه الجنوب اللبناني»، وفي عام 1985 كتب شمعون بيريز في ما اسماه بـ"الشرق الأوسط الجديد" اننا "احتجنا في الحرب إلى أسلحة، ونحتاج في السلم إلى مياه" .
كما كشف تقرير لوكالة الدفاع بالمخابرات الأمريكية الذي صدر في عام 2015 ، حيث حذر من أزمة مياه عالمية تؤدى إلى عدم الاستقرار السياسي وتعوق النمو الاقتصادي، وبخاصة في مناطق جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا (أغلب أراضي العالم العربي تقع في المنطقة الجافة وشبه جافة، التي يقل فيها معدل الأمطار عن 300 مم سنويًا) ، وكشف التقرير عن أن استخدام المياه كسلاح، أو لأهداف إرهابية جديدة سيصبح أيضًا أكثر احتمالاً، بخاصة في الأحواض المشتركة، التي يتوقع أن تستخدمها الدول على نحو متزايد للضغط على جيرانها، مما يهدد بنشوب صراعات مسلحة على المياه، قد تؤدى إلى إشعال حرب عالمية ثالثة .
كما جاء في هذا التقرير أن الفقر الشديد وحاجة الشعوب للمياه العذبة سيتفاقم بحلول عام 2040، وسيؤدى هذا العجز في مياه الشرب إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وسيهدد أسواق الغذاء للخطر، وستكون مناطق الشرق الأوسط وحوض النيل وشمال إفريقيا، وجنوب آسيا من أكثر المناطق التي ستواجه عجزا في المياه العذبة وستدخل في مواجهة الأمن المائي، مما سيؤدى لعجز في توافر احتياجات الاستهلاك الآدمي وإنتاج الغذاء وتوليد الطاقة، وبعد عقد واحد من الآن ستبدأ مناوشات دولية بسبب المياه ، وسيكون مصير هذه الدول مرتبطا بالأساليب والإجراءات التي ستتخذها الدول لحل إشكالية عجز المياه دون الدخول في مواجهات عسكرية مع دول أخرى، وستأتي الدول التي تتشارك في أحواض للأنهار في مقدمة الدول التي ستتواجه عسكريا «على غرار دول حول نهر النيل»، حيث ستبادر بعض الدول في الضغط على جيرانها من خلال حرمانهم من حصص لهم في المياه ؛ مما يتذر بخطر داهم يقرع طبول الحروب، فالتغيرات المناخية التي تفاقمت أخيرا، كالاحتباس الحرارى والجفاف، قد تتسبب في جفاف عديد من الأنهار الرئيسية خلال الخمسين سنة المقبلة، وهو ما حذر منه تقرير صدر عن الأمم المتحدة تحت عنوان المياه في عالم متغير حين أشار إلى أن نصف سكان العالم سيعيشون بحلول عام 2030 في مناطق شحيحة بالمياه .
وكشف التقرير أيضا بأن الأنهار التي تتشارك أكثر من دولة في أحواضها، فستكون هي مصدر الصراعات والحروب بين الدول المتشاركة، وهو ما تمهد له إثيوبيا الآن ببناء سد النهضة، وتقليص حصة مصر وأيضا السودان من المياه لحسابها بإيعاز وتخطيط صهيوني.
كما كشف موقع القناة السابعة التلفزيونية الإسرائيلية عن قيام شركات متخصصة في مجال الاستشارات الهندسية والإنشاءات في إسرائيل بتقديم عروض للحكومة الإثيوبية يتضمن مقترحات للمساهمة في القيام بمشاريع استثمارية سكنية علي النيل، وذلك بتشجيع من وزارة الخارجية الإسرائيلية. وأوضح موقع المعهد الإسرائيلي للتصدير والتعاون الدولي أن إسرائيل قدمت عام 2009 إلى كل من الكونغو الديمقراطية ورواندا (من دول المنبع) دراسات تفصيلية لبناء ثلاث سدود كجزء من برنامج متكامل تهدف إسرائيل من خلاله إلى التمهيد لمجموعة كبيرة من المشروعات المائية في هذه الدول خاصة رواندا، حيث يتوجه الاهتمام الإسرائيلي بوجه خاص إلى نهر كاجيرا الذي يمثل حدود رواندا مع بوروندي في الشمال الشرقي لإقامة أكثر من سد عليه . ونجحت إسرائيل بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية في تأمين سيطرتها على بعض مشاريع الري في منطقة البحيرات، حيث تقوم بتقديم الدعم الفني والتكنولوجي من خلال الأنشطة الهندسية للشركات الإسرائيلية في مجال بناء السدود المائية. وقدمت إسرائيل دراسات تفصيلية إلى زائير ورواندا لبناء 3 سدود، كجزء من برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى .
وفي كتاب " حرب المياه على ضفاف النيل حلم إسرائيلي يتحقق" الذي ألفه عمر أحمد فضل الله وهو كتاب يعرض أزمة مياه النيل الحالية وما يمكن أن يترتب عليها من أخطار ومهددات لدول حوض النيل والمنطقة بأسرها في حال تفاقمها. وخاصة بعد إعلان إثيوبيا الشروع في بناء سد النهضة ، حيث يتناول هذا الكتاب باختصار جوانب هذه المسألة بعرض المعلومات ومناقشتها بالحيادية والتعقل.
يطرح المؤلف في الكتاب عدداً من الأسئلة التي تسلط الأضواء على أبعاد المشكلة وجوانبها مثال: هل نحن على شفا حرب ستستعر بين دول حوض النيل حول اقتسام مياه النيل؟ وإلى أي مدى تمثل إسرائيل تهديداً للأمن القومي المصري فيما يتعلق بمنابع النيل؟ وهل تعتبر الخطوة التي قامت بها إثيوبيا مؤخراً بعد إعلانها الشروع في بناء سد النهضة مجرد مساومات سياسية وورقة للضغط على مصر لتحصل على نصيب لها من مياه النهر وفق اتفاقية قانونية أم أن ما تقوم به هو عمل يهدد الأمن القومي للمنطقة ويصب في استراتيجيات ومصالح جهات أخرى؟.
وهل سد النهضة عمل تنموي محكم يخدم الشعب الإثيوبي ودول المنطقة بالفعل أم أنه حلقة أخرى في سلسلة حرب المياه للسيطرة على أهم روافد الحياة لمصر والسودان؟ وهل سد النهضة هو مشروع إثيوبي وطني حقاً أم أن وراءه مصالح لجهات ودول أخرى؟ وهل تتفق خطط المياه في كل دولة من دول المنبع والمصب مع الاتفاقيات التاريخية لاستغلال مياه نهر النيل؟ هل تكفي مناسيب مياه النيل الحالية لجميع الدول المشاركة فيه أم أنها تهدد بكارثة قادمة؟ هل الاتفاقيات التاريخية الموقعة قانون يحكم التصرف في مياه النيل أم أن النيل (مشاع) لمن سبق؟ من الذي يتحكم في مياه النيل وهل يحق لأي دولة القيام بعمل انفرادي في أي رافد من روافد نهر النيل دون الرجوع للدول الأخرى؟ وهل حرب المياه مجرد دعاية إعلامية تهويلية ومبالغ فيها أم أنها حرب حقيقية بدأت بالفعل منذ زمان والناس عنها غافلون؟ وماذا يقول الخبراء والمحللون السياسيون؟ وأين هو موقع إسرائيل من كل ما يدور في منطقة حوض النيل وما حولها؟ وهل تقف إسرائيل ببراءة أم أن لها وجود فعلي مؤثر وراء ما يحدث من نزاعات خفية أو معلنة؟ نهر النيل إلى أين؟ دول حوض النيل إلى أين؟ ومصر إلى أين؟ كما يتناول الكتاب حقيقة الوجود الإسرائيلي في دول منابع النيل في سعيها للسيطرة على المنابع وضرب طوق من الحصار على مصر والسودان، ويقدم مقترحات حل أزمة المياه الحالية وتجنيب المنطقة كارثة حرب مدمرة بالإضافة إلى العديد من الموضوعات الأخرى المتعلقة باتفاقيات ومشاريع مياه النيل .
هذا من ناحية ومن ناحية أخري فقد أخذ الصراع العربي الإسرائيلي أبعادا متعددة، منها المواجهات المباشرة، لكن خبراء استراتيجيين يحذرون من مساع إسرائيلية حثيثة لتعطيش مصر والسودان، من خلال الاستيلاء على منافذ مهمة على نهر النيل، والتأثير في دول المنبع، حتى تقيم السدود وتفرض سيادتها الكاملة على المياه التي تنبع من أراضيها، مما يعني أن حروب المياه باتت سلاحا خطيرا ضمن مؤامرات الكيان الصهيوني. ولم تكد أزمة سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق، التي مثلت خطرا على حصتي السودان ومصر، تهدأ، بعد التوصل إلى تفاهمات بين الدول الثلاث، بعد مفاوضات ماراثونية، واتفاقها على مبدأ عدم الإضرار بحقوق أي من الأطراف، حتى فوجئت الدولتان بجهود حثيثة تبذلها دولة جنوب السودان، في صمت تام، لإقامة سدين جديدين على النيل الأبيض، أحد الروافد الرئيسية لنهر النيل، ومما أثار التساؤلات هو مصدر التمويل الذي يمكن لدولة الجنوب الوليدة، التي تعاني مصاعب اقتصادية حقيقية، جراء الحرب الأهلية الطاحنة التي كانت تشهدها خلال العامين الماضيين، إضافة إلى انخفاض أسعار النفط، المورد الوحيد للدولة، وهو ما جعل حكومة الرئيس سلفا كير ميارديت تطلق نداء استغاثة للمجتمع الدولي لمساعدتها، بعد أن بات خطر الموت جوعا يطارد ثلثي سكان البلاد. وأشار مراقبون إلى أن إسرائيل تقف وراء الأمر، رغبة في استغلاله كورقة ضغط على الدولتين، لتحقيق مكاسب سياسية.
من كل ما سبق يمكن القول بأن الإسرائيلي، حيث يشكل الماء محور الجغرافيا السياسية في كل مرحلة من مراحل التاريخ في المنطقة. كما أن الأطماع الإسرائيلية في المياه العربية بشكل عام والمياه الفلسطينية بشكل خاص، هي جزء من مفهوم إسرائيلي متكامل لسياسة السيطرة على الموارد, وانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة في الجولان وما تبقى من جنوب لبنان وأراضي الضفة الغربية، إنما يعني لها التخلي عن "غنائم الحرب". فالمياه تشكل أحد أهم عناصر الإستراتيجية الإسرائيلية (السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية) التي تنطلق من مسلمات أبرزها التمسك ببقاء السيادة الإسرائيلية على مصادر الموارد المائية. ومن هنا لا يستطيع أحد إنكار أن المستقبل يخبئ في طياته مفاجآت، فالأمن الغذائي العربي مهدد برمته، لأن المياه وحدها تؤمن الغذاء، والدول العربية الآن تستورد ما يقارب 40% من مجمل ما يستورده العالم الثالث من المنتجات الغذائية.
لقد وقعت إسرائيل عدة اتفاقيات بشأن المياه مع الجانب الفلسطيني، إلا أنها لم تطبق هذه الاتفاقيات، وضربت عرض الحائط هذه التواقيع ولم تكترث بها. واعتبرت إسرائيل أن الماء والنفط سيان لأهميتهما لدى الجانبين؛ وقد منعت إسرائيل الشعب الفلسطيني من حفر آبار أو تخزين الماء للحاجة الضرورية للماء، وتريد تعطيش الشعب كي يبقى خاضعاً سياسياً للجانب اليهودي.
إن سرقة الماء من الأنهار والروافد الفلسطينية واللبنانية والسورية هي من مهام المنظمة الصهيونية، لأن الماء هو عصب الحياة لدى المستوطنين، حتى إن الاستهلاك الإسرائيلي للماء هو أضعاف ما يستهلك الفلسطيني، وحتى أن الفلسطيني يشتري الماء من الإسرائيلي علماً أن الماء هو داخل المخزون الأرضي للفلسطينيين لكن إسرائيل استولت عليه وسحبته إلى مستعمراتها ومدنها.
د. محمود محمد علي
رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.
لماذا يخشي حكام العرب من فوز جو بايدن؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: محمد سعد عبد اللطيف
مع إقتراب وصول الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن الي البيت الأبيض ،لتولي شؤون الحكم في الولايات المتحدة، يتزايد الحديث في المنطقة العربية عن التغييرات، التي قد تطرأ على السياسة الأمريكية، تجاه المنطقة وقضاياها، في عهد الرئيس بايدن إذ تبرز منطقة الشرق الأوسط، كواحدة من أكثر مناطق النفوذ الأمريكي إثارة للجدل، بملفاتها المعقدة والساخنة، وأزماتها التي ربما زادت تعقيدا، في ظل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حتى تحولت إلى استقطاب إقليمي حاد، وحروب مشتعلة في أكثر من بلد عربي. عقب ثورات الربيع العربي .ورحيل حكام عرب من مسرح الاحداث . وهل يعتبر
فوز (جو بايدن) واقعا جديدا في الشرق الأوسط وخاصتا على القادة العرب في الخليج؟ وهل وصول بايدن. الي البيت الأبيض سيؤثر على سياسات واشنطن الخارجية تجاه المنطقة العربية؟ وقد يترتب على فوز بايدن آثار واسعة المدى على السعودية ودول الخليج وإيران وهل ستكون إيران الفائز الأكبر في المنطقة في فترة حكم بايدن رئيسا للولايات المتحدة؟ وهل تركيا ستلعب دور اكبر في المنطقة في الترتيبات الأمنية وتصعد أقتصاديا مع علاقات جديدة بعد حالة من البرود في عهد ترامب . وهل هي تكهنات فقط للتغيير عدد من الأمور التي من المتوقع أن تتغير. بشأن الوضع في إيران والحرب السورية واليمن. وعلاقة امريكا بقضايا شائكة في المنطقة من سباق التسلح وملف حقوق الانسان وظهور تحالفات جديدة روسيا والصين وكوريا ودول اقليمية جديدة باكستان والهند . أو أن الواقع الجديد من وباء (كوفيد ~19) الذي سيولد من رحمة نظام عالمي جديد .وتطوير منظومة الصواريخ الروسية أمام هزيمة القبضة الحديدة من صواريخ باترويت في الشرق الاوسط .هل الواقع يقول لن يصيب التغيير في العديد من الأمور، في الشرق الأوسط وأن الدعاية الانتخابية لحملة جو بايدن هي إرهاصات لاتمثل الواقع . حيث أعلنت حملة جو بايدن وقت ترشحه، أنه سيتوقف عن دعم الولايات المتحدة لحرب السعودية في اليمن، إذا انتُخب رئيساً. وأوضح في بيان سنعيد تقييم علاقتنا بالسعودية، وننهي الدعم الأمريكي لحرب السعودية في اليمن، ونتأكد من أن الولايات المتحدة لا تتنكر لقيمها من أجل بيع الأسلحة أو شراء النفط أو دعمنا لملف حقوق الانسان والمعارضة في الخارج .
لكننا هنا نسلط الضوء على عدد من الأمور التي من المتوقع أن تتغير.
علي الرغم من تغيير واقع جديد لعب فية ترامب ونتنياهو بعد إعلان دول خليجية .التطبيع مع إسرائيل.وحالة من الفوضي والحروب الآهلية وحالة الإنقسمات داخل مجلس التعاون الخليجي بشأن قطر التي تواجه مقاطعةً تستهدف الإضرار بمصالحها من جانب أربع دول عربية هي السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر - والغاضبة جميعها من الدعم السياسي الذي تقدمه الدوحة لحركات الإسلام السياسي حيث تستضيف قطر أكبر قواعد البنتاجون وأهمها استراتيجيًا في منطقة الشرق الأوسط - هي قاعدة العُديد الجوية.ومن هذه القاعدة تدير الولايات المتحدة كل عملياتها في القيادة المركزية بالمنطقة، من شرق المتوسط إلى الحدود الروسية لذلك الادارة الجديدة حريصة علي تقارب وجهات الخلاف مع دول المقاطعه مع قطر لمصالحها في المنطقة ومن المتوقع أن تدفع إدارة الرئيس المنتخب بايدن صوب رأب الصدع الخليجي الذي لا يصبّ استمراره في مصلحة الولايات المتحدة ولا دول الخليج العربية. بشأن الخلاف مع قطر وأن هناك تقارب إيراني قطري تركي .
ومن . الغريب قبل تولي بايدن مقاليد الحكم سارعت دول خليجية بالتقارب .مع قطر والتطبيع مع إسرائيل قبل وصولة للبيت الأبيض. فقد كانت تصريحات بايدن الأولي عن الحرب في اليمن حيث صرح بايدن عن تراجع الموقف الآمريكي والأن تشير التوقعات إلى تراجُع الموقف الأمريكي مجددا، لا سيما بعد أن أخبر بايدن أنه عازم على وضع نهاية للدعم الأمريكي المقدم للحرب الكارثية التي تقودها السعودية في اليمن، والتوجيه بإعادة تقييم العلاقات. الخارجية الأمريكية السعودية ومن المتوقع أن تتزايد الضغوط من جانب إدارة بايدن القادمة على السعوديين وحلفائهم اليمنيين لتسوية الصراع المحتدم.منذ سنوات ..والتخوف السعودي والإماراتي من سياسات جو بايدن الذي عمل فترتين .مع أوباما نائبا له لثماني سنوات ان يتسم نفس الموقف الأن بعدم الأرتياح المتزايد إزاء مسلك السعودية في حربها على الحوثيين في اليمن.. وكانت السعودية تقود ائتلافا من دول عربية يدعم القوات الموالية للحكومة اليمنية وكان هناك عدم ارتياح من ادارة أوباما ونائبة بايدن .من الحرب الجوية التي أكملت عامها الثاني من تحقيق تقدم عسكري علي الارض
لكنها في المقابل كانت قد ألحقت دمارا هائلا طال المدنيين والبنية التحتية في اليمن.مما استند الرئيس أوباما إلى افتقار حرب اليمن لتأييد الكونجرس، فقلّص المساعدات العسكرية والاستخباراتية الأمريكية للسعودية في تلك الحرب.ومع إنتهاء فترة أوباما .وفوز إدارة ترامب انقلبت على قرار سالفتها وأطلقت يد السعوديين في اليمن. فأصبح .ولي عهد السعودية محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد حليفان مقربان لـترامب .ويعتبر فوز بايدن خسارة كبيرة للنظم السلطوية .وقد ظهر حين أُعلن فوز جو بايدن فائزا، استغرقت القيادة السعودية وقتا أطول للتهنئة مقارنة بالوقت الذي استغرقته القيادة ذاتها قبل أربعة أعوام لتهنئة ترامب إعلان فوزه بالانتخابات.فورا وتقديم التهاني .وقد تترتب على فوز بايدن آثار واسعة المدى على السعودية ودول الخليج
.وكان الرئيس ترامب حليفا وداعما قويا للأسرة الحاكمة في السعودية. ووقع اختياره على الرياض لتكون أولى محطات جولاته الخارجية بعد تولّي الحكم في يناير/ 2017
وليس في الأمر ما يثير الدهشة؛ لقد فقد السعوديون صديقًا وخاصتا الأمير محمد بن سلمان في قضية مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. وعندما اشتبهت أجهزة استخبارات غربية كبرى في ضلوع ولي العهد في مقتل الصحفي خاشقجي عام 2018، وأتهام تركيا وقف الرئيس ترامب موقف الرافض من توجيه اللوم بشكل مباشر لابن سلمان.فكان فريق عمل .الامير يتحدث للسعوديين لا داعي للقلق الوضع تحت السيطرة
كما تصدى ترامب لأصوات عنيدة داخل الكونجرس بفتح ملفات حقوق الانسان والإعتقالات وكانت تنادي بالحدّ من مبيعات الأسلحة للسعودية.
كان الرئيس ترامب حليفا وداعما قويا للأسرة الحاكمة في السعودية. ووقع اختياره على الرياض لتكون أولى محطات جولاته الخارجية بعد تولّي السلطة في 2017.وشكل ترامب فريق له من جاريد كوشنر، صِهر ترامب، وولي عهد السعودية والامارات علاقة قوية .وبناء علي ذلك ، فإن السعودية، وبدرجة أقل منها الإمارات، والبحرين بصدد خسارة حليف رئيسي في البيت الأبيض.. ومع صعود بايدن للحكم . هل سوف تخسر إسرائيل هي الاخري خسارة ترامب في الانتخابات .وبجانب توقعات شكل السياسة الخارجية الأمريكية، في المرحلة القادمة تجاه السعودية وإيران، تبرز عدة ملفات أخرى، تتعلق بالموقف المرتقب من إدارة بايدن، تجاه التحالف القوي الذي أقامه ترامب، مع عدة أنظمة في المنطقة منها النظام السعودي والإماراتي والمصري، وما يقوله مراقبون من تشجيع ترامب لهذا التحالف على التدخل في شؤون دول أخرى، وتغييب ملف الديمقراطية في بلدان المنطقة، وكذلك الملف الفلسطيني والسوري.
رغم أنه وباعتراف العديد من المسؤولين الإسرائيليين، فإن ترامب فعل لإسرائيل ما لم يفعله أي رئيس أمريكي سبقه، إلا أن معظم هؤلاء المسؤولين أيضا، يؤكدون على أن بايدن هو صديق وحليف قوي لإسرائيل، وأن الأمور لن تتغير كثيرا في عهده، وهو ما يعتقده الفلسطينيون أيضا الذين يقولون أنهم لا يتوقعون الكثير من بايدن، لكنهم يرون أن الأمور في عهده، لن تصل إلى ما كانت عليه من سوء خلال عهد دونالد ترامب، فيما يتعلق بالتعامل مع قضيتهم، غير أن المواقف السابقة لبايدن تجاه القضية الفلسطينية، تشير إلى أنه سيبقى ملتزمًا بحل الدولتين، على أساس دولتين متجاورتين قابلتين للحياة. ولا يمكن الحديث عن توقعات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة العربية، دون الحديث عن التوقعات تجاه ملف إيران. منذ الثورة الإيرانية عام 1979والصراع مع إيران منذ أزمة احتجاز الرهائن في السفارة الامريكية في طهران فبعد سنوات من سياسة الاحتواء، التي اتبعتها واشنطن في ظل حكم الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش الإبن، والتي استهدفت فرض عقوبات تعجيزية على الاقتصاد الإيراني، أقدم الرئيس الأمريكي الديمقراطي باراك أوباما، على خطوة مثيرة، بتوقيعه اتفاقا (لوزان 1+5) نوويا مع طهران عام 2015، ألغى نظام العقوبات المفروضة عليها، مقابل فرض قيود مؤقته على المنشآت التابعة للبرنامج النووي التسليحي الإيراني.
والوضع في سوريا وعلاقة تركيا مع الولايات المتحدة .فترة ترامب من فطور والتهديد بعقوبات إقتصادية بعد صفقة الصواريخ الروسية /إس .400. ومواقف تركيا المناهض للملف السوري من تدخلات في شمال سوريا والملف النووي الإيراني الاخطر
ويعود تاريخ الشراكة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والمنطقة إلى عام 1945م علي الرغم من ذلك يتوقع المراقبين لها بالبقاء رغم تحديات تلوح في الأفق لا ترتاح لها العواصم الخليجية.مع الإدارة الجديدة بشأن ملف حقوق الإنسان أو التقارب الإيراني .مع الحزب الديمقراطي .كما حدث مع إدارة اوباما ونائبة جو بايدن الذي اصبح
أحد منجزات الرئيس أوباما الكبرى في الشرق الأوسط تتمثّل في إبرام اتفاق إيران النووي الصعب، المسمى باسم "خطة العمل الشاملة المشتركة".
وبموجب هذا الاتفاق رُفعت العقوبات عن كاهل إيران مقابل التزام شديدٍ بقيودٍ على أنشطتها النووية والسماح للتفتيش على تلك المنشآت.والآن يساور السعوديون وحلفاؤهم القلق مجددا من أن تتجه الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إبرام اتفاق مع طهران قد يأتي على حساب مصالحهم. بعدتصعيد مواجهات عسكرية حيث
اتهمت الرياض طهران بشن هجمات باستخدام طائرات مسيرة وقذائف كروز على اثنتين من منشآتها النفطية الكبرى عام 2019 - وهي اتهامات تنفيها طهران بشأن ضرب حوالي 15%من انتاج شركة أرامكو وفي خلال الشهر الماضي قصف بصواريخ كروز من كهوف صعدا بواخر في البحر الاحمر امام مواني جدة السعودي . رغم وجود صواريخ وحائط باترويت هزمت منظومة القبة الحديدية . لحماية أبار النفط وهناك فريق يقول ؛ ان بايدن سوف يتعامل مع التحالف الذي ارساه ترامب مع أنظمة دول عربية في المنطقة وفريق أخر يقول: بأن بايدن سينتهج نفس سياسة أوباما الداعمة لحركات التغيير في العالم.
محمد سعد عبد اللطيف
كاتب مصري وباحث في الجغرافيا السياسية
ساطع الحصري وفلسفة الفكرة القومية العربية (1-4)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي
"أنا عربي صميم. أؤمن بدين العروبة بكل جوانحي،
وأهتم بمصر بقدر ما أهتم بسوريا والعراق" (الحصري)
تقديم عام
ولد ساطع الحصري (من أصول سورية حلبية) في صنعاء اليمن عام 1879 وتوفي في بغداد عام 1968، وما بينهما عاش وعمل في تركيا والبلقان ومصر وسوريا والعراق، في مجال التربية والتعليم. ومن خلالها كان يحقق فكرته القومية. إذ كان على يقين من نجاح الفكرة القومية العربية في نهاية المطاف رغم مسارها المعقد. فقد كانت الفكرة القومية بالنسبة له جزء عضوي من صيرورته الشخصية وكينونته الروحية والفكرية. من هنا كانت شخصيته من حيث حقيقتها وغايتها عربية أولا وقبل كل شيء رغم انتماءه لسوريا ومصر واليمن وغيرها من المناطق. غير أن شخصيته الفكرية القومية قد تكاملت في العراق. وفيه دفن بعد أن اعيدت له الجنسية العراقية قبل وفاته بقليل. إذ جرى سحبها بأثر تأييده للحركة القومية المناهضة للسيطرة البريطانية على العراق. وبهذا المعنى كان الحصري شخصية وطنية عراقية من طراز خاص وعميق أيضا. من هنا الطابع المبتذل للأوصاف التي تطلق عليه من جانب الشيوعيين فيما مضى وبقاياهم الآن، وكذلك من جانب بعض الحوزات الدينية الشيعية والأحزاب الشيعية السياسية الرخوية. فالأوائل يطلقون عليه عبارة "يميني متطرف" و"قومي شوفيني" والثواني يعتبرونه "طائفيا" و"سنّيا متعصبا". وكلاهما يكمّل الآخر بالجهالة والجاهلية! إذ من غير المعروف مضمون "اليميني" و"الشوفيني". فهي اوصاف تتلذذ لها أسماع "اليسار" و"الأممية". وكلاهما زيف سواء بمعايير المنطق والعلم أو بمعايير التاريخ الفعلي والحياة السياسية، وذلك لأنها مجرد أحكام أيديولوجية صرف، شأنها شأن شتائم نسوان المحلة! وفي الوقت نفسه هي نتاج التربية السيئة للشيوعية في العراق، التي ناصبت الفكرة القومية العداء الاعمى. انها تحب الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية السابقة، وتدافع بحمية مبالغ فيها عن تشيلي والأرجنتين وبوركينو فاسو والأقليات الدينية والعرقية الجبلية والمغلقة، وبالمقابل تكره بإفراط لا مثيل له كل ما هو عربي وعروبي وقومي! الأمر الذي يشير إلى خلل عضوي وبنيوي في الذهنية والعقل والنفس والأخلاق. والشيئ نفسه يمكن قوله عن اتهام بعض التيارات الشيعية القديمة والمعاصرة إياه بالطائفية.
لقد كان الحصري وطنيا عراقيا وقوميا عربيا بالمعنى الثقافي العميق، وعقليا وعقلانيا، وعلميا ودنيويا (علمانيا) صرف. وغرابة الأمر هنا تقوم في انه أول وأعمق وأوسع من أرسى أسس التربية العلمية والدنيوية (العلمانية) والوطنية في تاريخ العراق الحديث. وكل أولئك الذين يتبنون الفكرة الدنيوية مما يسمى بأهل اليسار في تاريخ العراق الحديث هم نتاج خططه التربوية ومناهجه الدراسية. إذ لولاه لبقوا في غياهب الرؤية الأسطورية والدينية البدائية والطائفية الجلفة وبقايا العثمانية المتهرئة.
إن كل هذه الأحكام المسطحة وأمثالها التي مازالت واسعة الانتشار في العراق عن ساطع الحصري هي نتاج الجهل بما كتبه وسعى لتأسيسه. بمعنى إنها مبنية على السماع (قيل وقال وسمعت!). إذ كل ما قرأ ولا اقول يدرس بعمق ورؤية نقدية عقلية ما كتبه الحصري، سوف يدرك خطأ وسطحية هذه الأحكام البليدة عنه. فالسماع والنقل هو من صفات الحنبليات القديمة والمعاصرة. كما أنها ملازمة لذهنية الأطفال والجهلة والأميين وأنصاف المتعلمين وأشباه "المثقفين". وهي أمور معيبة وتكشف بقدر واحد عن جهل مريع بحقيقة الإبداع النظري والعملي للحصري من جهة، وتشويه وتخريب دوره التاريخي العظيم في بناء الدولة العراقية الحديثة وأسسها الوطنية المتينة وتربيتها العلمية والدنيوية، من جهة أخرى.
إن افضل وأعظم ما في ذهنية العراق العلمية والأدبية الحديثة وأجياله التي ساهمت في بناء ثقافته الإنسانية والعقلية والعقلانية الحديثة، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، هي ثمرة من ثمار ما وضعه الحصري. لهذا ينبغي لاسم ساطع الحصري أن يسطع في سماء العراق على الأقل بإطلاق اسمه ولقبه على افضل جامعة عراقية حديثة. وهو أدنى وأقلّ ما يمكن أن يقدمه العراق لذكراه وفضله.
***
الفلسفة العملية للفكرة القومية الثقافية
للتاريخ مساره ومذاقه فيما يتعلق بوعي الذات القومي. فإذا كانت المرحلة الأولى لوعي الذات العربي قد جرت من الناحية الشكلية والرمزية من الكلمة إلى العبارة، ومن الشعر إلى الرواية، ومن التاريخ إلى المنطق، ومن الروح إلى الجسد، فإن ساطع الحصري (1879-1968) هو الأول من بين مفكري الفكرة القومية الذين حاولوا ربط كل هذا الإبداع المتنوع في منظومة تعي حدودها السياسية بوصفها فكرة قومية نظرية وعملية. ومن ثم التوليف النظري والعملي الدقيق بين الأبعاد العلمية والأيديولوجية للفكرة القومية. وقد تكون مساعيه لتحقيق "الفكرة القومية" عبر التربية والتعليم الأسلوب الأكثر تعبيرا بهذا الصدد. الأمر الذي أعطى لفكرته القومية طابعا ثقافيا وسياسيا بقدر واحد.
إننا نعثر في تأسيسه النظري للفكرة القومية على توليف خاص للفكرة السياسية والفكرة التربوية في الفكرة القومية. واستمد هذا التوليف من خلال دراسة نقدية للتاريخ العربي والتاريخ العالمي وخصوصية الفكرة القومية الحديثة، وتاريخ الدولة العثمانية وأثرها بهذا الصدد. إذ لا نعثر في كل كتابات الحصري على تأثير مباشر بالفلسفات الأوربية المؤسسة للفكرة القومية. بل على العكس من ذلك نراه يقف في حالات عديدة موقفا نقديا تجاه توظيفها المباشر بالنسبة لتأسيس وتطبيق الفكرة القومية العربية. والحالة الوحيدة، أو الاستثناء الوحيد هو ما قام به من استعمال ايجابي لبعض آراء شوبنهاور ومقارناته في بعض مواقفه[1]. وليست لهذه الأفكار علاقة بتأسيس الفكرة القومية. مما يعطي لنا إمكانية القول، بأن الحصيلة النظرية للفكرة القومية التي سعى الحصري لتأسيسها مبنية من حيث الجوهر على رؤية نقدية علمية تاريخية تتسم بقدر كبير من الواقعية. وليس مصادفة أن يكتب الحصري أحد مؤلفاته التاريخية الهامة عن تاريخ السيطرة العثمانية في العالم العربي.
الدولة العثمانية والعالم العربي
ففي كتابه (البلاد العربية والدولة العثمانية) نعثر على محاولة فهم مقدمات السيطرة التركية العثمانية على العالم العربي ونتائجها الخاصة بالنسبة للفكرة القومية. وانطلق في مجرى تحليله لهذا التاريخ الطويل والكئيب أيضا من أن العالم العربي قد وقع آنذاك بين مطرقتي الأتراك والمماليك. فقد كانت العلاقة بين البلاد العربية والدولة العثمانية حتى نهاية القرن الخامس عشر علاقة مجاملة ومؤازرة. لكن الحالة تغيرت بعد توسع الدولة العثمانية إلى الجنوب حتى البحر المتوسط وجبال طوروس. وفي نفس الوقت استولت دولة المماليك في مصر على كيليكيا. وهنا بدأ الاحتكاك بينهما والنزاع، الذي انتهى بحروب دامية كانت نتيجتها استمرار السيطرة الأجنبية على العالم العربي[2]. وذلك لأنها سيطرة لم تكن محكومة بفكرة الخلافة الثقافية، بقدر ما كانت الصيغة المقلوبة أو المشوهة أو المبطنة للسيطرة القومية (العرقية). مما أدى في نهاية المطاف إلى أن يدفع العالم العربي ثمنها الباهظ على امتداد قرون عديدة[3]. وأشار الحصري هنا إلى أن احتلال العالم العربي من جانب الدولة العثمانية جرى في مرحلة الصراع بينها وبين الدولة الصفوية. وكلاهما كان يتمتع بالصعود والقوة والفتوة آنذاك مع المماليك الذين كانوا في طور الخمول، بأثر تضحياتهم الكبيرة في مجرى الصراع البطولي مع الصليبيين الغزاة.
ذلك يعني، أن الدولة العثمانية استولت على العالم العربي وهو في حضيض انحطاطه. والعالم العثماني في بداية انحطاطه. فقد كانت الدولة العثمانية حسب تحديد الحصري "دولة عسكرية دينية إقطاعية من نوع خاص"[4]. وليس مصادفة أن تستعمل الدين لأغراض سياسية بحت. وضمن هذا السياق يمكن فهم توسيعها وإثارتها للنعرة الدينية المتشددة ولاحقا المذهبية الضيقة، كما هو جلي في ما يسمى بالصراع العثماني – الصفوي (السني - الشيعي). وكتب الحصري هنا يقول، بان "السلطان سليم الأول(1512-1520) عندما قرر محاربة الشاه إسماعيل الصفوي وأمر بقتل جميع الشيعة الموجودين في البلاد العثمانية، استند إلى فتوى صادرة من رجال الدين تعتبر هؤلاء مرتدين عن الإسلام"[5]. وقد كانت تلك فكرة سياسية مطلية بكساء الدين المتشدد والمفتعل. وبالقدر ذاته استعمل إسماعيل شاه الصفوي المذهب الشيعي في مواجهة العثمانيين. غير أن هذا الاستعمال السياسي للدين قد أدى إلى نتائج مختلفة. فقد أنقذ المذهب الشيعي إيران من تدخل وسيطرة التركية العثمانية، كما يقول الحصري[6]. بينما ساعد "التسنن" الملفق بأسطورة الخلافة العثمانية إلى توسيع مدى وعمق الاحتلال التركي للعالم العربي وإنهاك مقاومته الخاصة المتعلقة بإعادة بناء كينونته الذاتية.
وأشار الحصري هنا إلى أن العثمانيين في بداية الأمر لم يعيروا أية أهمية لقيمة الخلافة. ثم اخذوا لاحقا يدركون قيمتها. حيث جرى اصطناع أسطورة تنازل العباسيون لهم. واستعملوها من اجل تقوية نفوذهم وتسهيل حكمهم[7]. والمقصود بذلك تصنيع أسطورة تنازل العباسيين في القاهرة عن الخلافة زمن سليم الأول. وكونها أسطورة مفتعلة هو أنها غير مؤيدة بأي أثر تاريخي مقيد وموثق. و(تاريخ بن إياس) المعاصر لتلك المرحلة الذي أورد كل دقائقها الكبيرة والصغيرة لا يحتوي على أية إشارة لذلك الحدث الذي يرتقي بمعايير المرحلة إلى مصاف الحدث الجلل. كما أنه لا يوجد تاريخ تركي كتب في عهد سليم الأول[8]. ومن هذا المنطلق استنتج الحصري، بأن فكرة الخلافة العثمانية ساعدت كثيرا على استسلام العرب للحكم العثماني، وأخرت كثيرا نشوء فكرة القومية العربية[9].
مما سبق يتضح، بأن تحليل تاريخ السيطرة العثمانية يرمي عند الحصري إلى الكشف عما يمكن دعوته بالمقدمات الروحية (الدينية) للسيطرة التركية على العالم العربي وديمومتها من خلال إبراز تراث وتقاليد التدين المتشدد في خطاب السلطة التركية على امتداد قرون عديدة، وتوظيف الرموز الدينية الكبرى (الخلافة). من هنا يمكن فهم موقف الحصري من الرابطة الدينية، واعتبارها مضرة بالنسبة للفكرة القومية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الرابطة الدينية ومكانتها المعنوية الرفيعة في البلاد العربية، قد "ساعدت مساعدة كبيرة أولا على استيلاء العثمانيين على البلاد العربية، وثانيا دوام حكمهم لهذه البلاد مدة طويلة دون تعب كبير"[10]. ولم يغير من ذلك شيئا بما في ذلك المحاولات اللاحقة للإصلاح مثل التنظيمات وأمثالها. بل نجد الحصري يجد فيها الصيغة الأكثر ضررا بالنسبة للفكرة القومية العربية. وذلك لأنها كانت محكومة أولا بنزعة السيطرة والاستيلاء واستمرارها، وكذلك بسبب النزعة العسكرية الذائبة في صلب التقاليد العثمانية.
فقد كانت النزعة العسكرية العثمانية وتقاليدها الخاصة احد أخطر المصادر سوءا في مضمار الخراب العميق للعالم العربي، وبالأخص ما يتعلق منه بالتاريخ السياسي وبناء الدولة العربية الحديثة[11]. أما "التنظيمات" فقد حصلت بعد انفصال مصر. لهذا لم يجر تطبيقها في العالم العربي بصورة متساوية. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها اقتبست النظم الفرنسية وغالت في المركزية، فإن ذلك يعني انتقالها من الإفراط إلى التفريط. أما الإفراط بالمركزية فقد اضر ضررا بالغا أولا وقبل كل شيء البلاد العربية. إضافة لذلك أن هذه التنظيمات قد أضرت بالوحدة العربية من خلال إثارة الصراع الديني أيضا. فقد اعتقد الحصري بأن "التنظيمات زادت من ترابط الجماعات المسيحية على عكس المسلمين"[12]. من هنا رؤيته النظرية والعملية القومية الأولى التي وجدت تعبيرها الدقيق في عبارة "فكرة القومية العربية". وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "كان على فكرة القومية العربية أن تتغلب على هذين الاتجاهين في وقت واحد. كان عليها أن تحوّل أنظار المسلمين عن الدولة العثمانية، وأنظار المسيحيين عن الدول الأوربية لكي تجتمع كلمتهم حول العروبة التي تستمد قوتها من اللغة والتاريخ"[13].
الكينونة العربية
انطلق الحصري من أن القومية أصبحت من أهم العوامل التي تؤثر في تطور الدول وتكوّن الأوطان منذ أوائل القرن التاسع عشر[14]. ذلك يعني أنها ظاهرة تاريخية واجتماعية وسياسية جديدة. وإذا كان الحصري يجمع ما يدعوه بالعوامل الجامعة للقومية في كل من الاعتقاد بوحدة الأصل والمنشأ (سواء كان حقيقة أو وهما)، والتشابه في العواطف والعوائد، والتماثل في ذكريات الماضي ونزعات الحال وآمال المستقبل، فإنه رفع عامل الاشتراك في اللغة والتاريخ إلى مصاف الأصل فيها[15]. لهذا نراه يتكلم عما اسماه بعناصر اللغة الواحدة والثقافة الواحدة، بوصفها الأكثر جوهرية في القومية. بل ونراه لاحقا يضع اللغة في أساس ما اسماه بالحقائق الكبرى للفكرة القومية العربية التي ينبغي الإيمان بها. ووضعها في عبارة تقول، بأن "جميع البلدان التي يتكلم سكانها باللغة العربية هي عربية"[16].
تنبع أهمية اللغة بالنسبة للقومية عند الحصري من كونها أهم الروابط المعنوية. وذلك لأن حياة الأمم تقوم على اللغة، كما يقول الحصري. وبالتالي، فهي روح الأمة وحياتها. أنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري. وهي من أهم مقومات شخصيتها[17]. وإذا كانت اللغة من أهم عناصر الثقافة، فإن ذلك يعني أنها الأعمق جذورا من جميع العناصر الأخرى[18]. كما أن وجوب الاستمساك بالأصول التاريخية للثقافة ينطلق من الاعتقاد القائل، بأن اللغة "هي أهم وأعمق الأصول التاريخية للثقافة" كما يقول الحصري[19]. وبهذا يكون الحصري قد سار هنا بأثر زكي الارسوزي ولكن من خلال توحيد فكرة اللغة والتاريخ بصورة عضوية. من هنا قوله، بأن حياة الأمم بلغتها وشعورها بتاريخها. بعبارة أخرى، إن اللغة والتاريخ هما بمثابة الحياة والشعور، أي الوحدة الحية الفاعلة للوجود. وبالتالي، فإن الأمة هي التي تتمتع بوحدة اللغة والتاريخ بوصفها كيانا حيا.
وليس مصادفة أن يشدد الحصري بهذا الصدد على أن المقصود بالتاريخ هنا هو التاريخ الحي في النفوس، الشائع في الأذهان، المستولي على التقاليد[20]، أي التاريخ الذي يوّحد في ذاته الهموم والآمال والمعايير بوصفها كلا واحدا. من هنا جوهرية التاريخ بالنسبة للفكرة القومية العربية. ذلك لأنه يشكل الأساس لصنع ما اسماه الحصري بأهم عوامل "القرابة المعنوية" عوضا عن "وحدة الأصل والدم"[21]. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى نقده للتسطيح النظري في فكرة السامية والآرية عن القومية. ومن ثم عدم صلاحيتها بما في ذلك من خلال استعمالها منطق اللغة في الموقف من الأقوام والأمم. وذلك لما فيها من انعزال تام عن فكرة التاريخ. من هنا قوله، بأن الانتشار السريع لفكرة السامية والآرية هو بسبب بساطتها وسطحيتها وكذلك لأسباب سياسية وأهواء تلائمها. واستشهد بعبارة ماكس ميولر الشهير بتدقيقاته اللغوية حين قال في معرض رده على هذه الفكرة والتصنيف: "القول بعرق سامي وآخر آري وما شابه ذلك يشبه بقاموس مستطيل الرأس أو نحو قصير الرأس"[22]. ولا يعني ذلك في آراء ومواقف الحصري سوى أن وحدة اللغة والتاريخ هي وحدة حية ذاتية. ومن ثم لها أثرها الخاص في مصير الأمم. لهذا نراه يرد على أولئك الذين حاولوا التقليل من الدور التاريخي الهائل للعرب بالنسبة للحضارة الكونية والثقافة الإنسانية، استنادا إلى فكرة انحطاط السامية وسمو الآرية. كما نراه يرد على من قال بأنه لم يكن دور العرب سوى دور الناقل لا المبدع، قائلا، بأنه "حتى فكرة مجرد نقل العرب للمعارف (رغم سطحيتها) فإنها كافية لأن تجعل منهم أمة من أكبر الأمم التي قدمت للحضارة العالمية اجلّ الخدمات"[23].
إن إدراك القيمة التاريخية للتاريخ الذاتي (القومي) بالنسبة للحصري هو الوجه الآخر للرؤية المستقبلية. من هنا رده النظري على فكرة انعدام "وحدة التاريخ" العربي. ولا يعني ذلك سوى انقطاعه المتكرر. وبالتالي لا يمكن الحديث عن تاريخ عربي موحد. وتوصل إلى أن "وحدة التاريخ" لا تتحقق في تاريخ أمة أو دولة من الدول. وعندما نقول "وحدة التاريخ" فالمقصود بها "الوحدة النسبية والغالبة التي تتجلى في أهم صفحات التاريخ، والتي أوجدت ثقافة الأمة الأساسية، وأعطتها لغتها الحالية وطبعتها بطابعها الخاص"[24]. ويحتوي التاريخ العربي على هذه الوحدة الحية التي يمكن رؤيتها على وحدة لغته وثقافته الذاتية، أي كل ما طبعها بطابعها الخاص. لكن التاريخ العربي، شأن كل التواريخ الكبرى يحتوي، بفعل امتداده وعراقته وتنوعه الهائل وصراعاته وصعوده وهبوطه، على جوانب تجعل من الضروري مهمة إعادة كتابته بالشكل الذي يبرّز وحدته الداخلية، بمعنى إعادة كتابته بطريقة تحتوي بقدر معقول ومتناسب على وحدة القومي والعلمي.
إن البحث عن نسبة معقولة ومقبولة بين القومي والعلمي في كتابة التاريخ عند الحصري ليست إلا الصيغة التي تتوحد فيها الرؤية العلمية الدقيقة ووحدة التاريخ من أجل صنع الأنا المشتركة بمعايير الرؤية الدقيقة والعملية للماضي والحاضر والمستقبل. وضمن هذا السياق يمكن فهم مطالبته بما اسماه بكتابة التاريخ العربي"بعقلية غربية ونزعة قومية"[25]. فهو يشير إلى أن اغلب الكتب التاريخية العربية الحديثة والقديمة أيضا تهتم بخصوصيات حياة الشخصيات (من علماء وأدباء ورجال دولة وغيرهم) أكثر مما تدرس مآثرهم الحقيقية وخدماتهم الفعلية. وبالمقابل نراه يشدد على أهمية فكرة نسيان جزء من التاريخ القومي، التي قال بها البعض في موقفهم من التاريخ القومي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأنه "على كل أمة أن تنسى قسما من تاريخها"، بوصفه الأسلوب الضروري لبلوغ "وحدة التاريخ"، أي الوجه النظري الموِّحد للهموم والآمال. وللتدليل على ذلك نراه يقول، بأن "الوحدة الحقيقية في أمة من الأمم لا يمكن أن تضمن إلا بنسيان قسم من الوقائع التي حدثت لها خلال تاريخها الطويل... وليس المقصود بذلك حذف أخبار تلك الوقائع من الكتب، بل إهمالها وإبعادها من منطقة "الفكر الفعالة"، وإخراجها من عداد "الفكر...." وتغلب التاريخ المشترك عليها"[26]. وهذا بدوره يعني، بأن فكرة "النسيان" هذه هي فكرة منهجية وظيفية جزئية وليست مبدأ شاملا.
مما سبق يتضح، بأن مساعي الحصري لتوحيد التاريخ القومي هو الاستكمال الضروري لوحدة اللغة والتاريخ الجوهرية في تأسيسه للقومية. لهذا نراه يشدد في معرض رده على الاتهامات والنقد الفكري من جانب أولئك الذين وجدوا في أرائه إبعادا للدين من الفكرة القومية، قائلا، بأن نفي تهمة الدينية واللادينية عن القومية يستلزم استكمالها بفكرة أخرى وهي "أن القوميين يعتقدون بوجوب الاستمساك بالأصول التاريخية للثقافة. لكنهم يعتقدون بأن أهم وأعمق الأصول التاريخية للثقافة هي اللغة"[27]. ولا يعني ذلك من الناحية النظرية سوى محاولة تنقية الفكرة القومية من كل العوارض المحتملة عبر إرجاعها إلى أصولها المجردة. كما سعى الارسوزي إلى ذلك أيضا. من هنا مطالبة الحصري بتدريس التاريخ العربي بحيث لا يخضع لاعتبارات الدين والدعاية وما شابه ذلك، بل من اجل "المصلحة القومية"[28]، لما في ذلك من خفي وعلني، مباشر وغير مباشر على المستقبل.
فالتاريخ بالنسبة للحصري ليس ماض ومستقبل بل وكينونة كامنة في فكرة الأثر الفاعل للتاريخ في المستقبل. من هنا نراه يتحدث عما يمكن دعوته بالرؤية المستقبلية المتفائلة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن المتشاءم يمكنه الرجوع إلى التاريخ بشكل عام ودراسة تواريخ النهضات القومية الحديثة. واستكمل ذلك بفكرة تقول، بأن الأمة العربية وصلت إلى أرقى درجات الحضارة (سابقا) وكانت أقوى منار للعلم في العالم خلال عهد طويل. ولعبت دورا هاما في تاريخ تقدم البشر لم يتيسر مثله إلا لبضعة أمم. ولا يعقل ولا يمكن أن تصبح غير قادرة على النهوض[29].
إن توصل الحصري إلى وحدة التاريخ واللغة الجوهرية بالنسبة للقومية، لم يعن إهمال غيرها من العناصر الضرورية. لكنه حاول أن يجعل منها أصولا في الفكرة القومية أيضا. وقد أكد الحصري على أن القول بأهمية وجوهرية اللغة والتاريخ بالنسبة للقومية لا يعني أنها العناصر الوحيدة[30]. لهذا نراه يضيف إليهما خمسة عناصر أخرى وهي كل من الدين والدولة والاقتصاد والتراب والدم. لكنها تبقى عناصر إضافية، أي ليست جوهرية.(يتبع....).
ا. د. ميثم الجنابي – باحث ومفكر
...................
[1] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص22.
[2] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، بيروت، دار العلم للملايين، 1965، ص37.
[3] إن الحالة التي يشير إليها الحصري تشبه ما يعاني منه العالم العربي المعاصر. بمعنى تقديمه تضحيات كبرى وهائلة عادة ما يستفاد منها الآخرين. فالحصري يشير إلى أن احتلال العالم العربي من جانب الدولة العثمانية جرى في مرحلة الصراع بينها وبين الدولة الصفوية. وكلاهما كان يتمتع بالصعود والقوة والفتوة، بينما كان المماليك في طور الخمول بأثر حروبهم الهائلة والعظيمة مع الصليبيين، أي الحروب التي كان العرب مادتها ووقودها.
[4] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص34.
[5] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص33.
[6] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص41.
[7]ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص45.
[8] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص43.
[9] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص46.
[10] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص28.
[11] اتخذ الحصري من العراق مثلا نموذجيا بهذا الصدد. حيث لم يبق منه حتى نهاية السيطرة العثمانية غير أطلال خربة في كل شيء. ففيه تنعدم معالم المدنية والحضارة. ويغيب التاريخ. بل حتى المدارس القليلة التي تعد على أصابع اليد (الواحدة) لم تخرّج غير حفنة من العسكريين فقط. والسبب هو أنهم لم يجدوا مخرجا "لتعلمهم" غير الانخراط في سلك العسكرية. وليس مصادفة ألا تجد الحكومة العراقية بين أبناءها في بداية تكوينها غير عدد قليل من خريجي المدارس العالية من غير العسكرية. ومن يستعرض أسماء رؤساء الوزارات الذين تولوا الحكم (1923-1941) يجد أن معظمهم كانوا ممن درسوا في المدارس العسكرية (البلاد العربية والدولة العثمانية، ص86.). وفيما لو استكملنا فكرة الحصري، فإن من الممكن رؤية آثار هذه الحالة على تاريخ كل البلاد العربية التي استحكمت فيها تقاليد العثمانية، بمعنى استعادة دور العسكر في بنية الدولة والسلطة والنظام السياسي، كما هو جلي في تاريخ ما بعد الاستقلال السياسي في كل من العراق وسوريا واليمن الشمالي ومصر وليبيا. بينما تخف هذه الحالة في البلدان التي لم تخضع للسيطرة التركية، مثل الجزائر وتونس والمغرب وشبه الجزيرة العربية والسودان. بل أن تركيا. نفسها لم تتحرر بعد من ثقل هذه التقاليد التي جرى إعادة بنائها بفعل الأتاتوركية وتحويلها إلى "صنم" الدولة القومية والنزعة الدنيوية والغربنة المفتعلة.
[12] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص94.
[13] ساطع الحصري: البلاد العربية والدولة العثمانية، ص95.
[14] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص14.
[15] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص19.
[16] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص11.
[17] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص32.
[18] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص182.
[19] ساطع الحصري: العروبة أولا!، ص183.
[20] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص32.
[21] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص76. وقد خصص لذلك كتاب (ما هي القومية) وكتاب (الوطنية والقومية).
[22] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص67.
[23] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص62.
[24] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص47-48.
[25] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص61.
[26] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص48.
[27] ساطع الحصري: العروبة أولا!، بيروت، دار العلم للملايين، ط5، 1965، ص183.
[28] ساطع الحصري: حول القومية العربية. بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، 1985، ص88.( طبع للمرة الأولى عام 1961).
[29] ساطع الحصري: آراء وأحاديث في الوطنية والقومية، ص70.
[30] ساطع الحصري: حول القومية العربية. ص111.
هل يمكن تحقيق العدالة دون الحاجة الى القوانين؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حاتم حميد محسن
دائما ما ننسى ان هناك طريقة اخرى لإقرار العدالة بدلا من تصميم الجواب لكل مشكلة بواسطة القوانين. مفهوم الإفتاء القضائي القائم على معالجة كل حالة بحالة يسمى( casuistry)(1) وهو يقف بالضد من القوانين. انها ممارسة تتناول كل حالة وقت بروزها باستخدام الحكم لتمييز الاستنتاج الصحيح بينما تسمح بمساحة كبيرة للظروف الملطفة او الضارة . انها ليست تكنيك، وانما حالة ذهنية. انها تستلزم اتخاذ بضع خطوات للوراء والتفكير حول ما نرى ونسمع بعيوننا وآذاننا بدلا من محاولة موائمة الظروف مع التعاريف الصارمة في كتب القانون. القضاة الذين يمارسون الإفتاء القضائي يضعون حدسهم وأحكامهم قبل ما هو مكتوب في القوانين التي جمعها الناس في أماكن بعيدة.
الإفتاء القضائي يتطلب تحولا فكريا كبيرا من الفقه "الكلاسيكي" الى "الكوانتم" (2). نحن اعتدنا رؤية قضايا المحاكم كمعادلات رياضية حيث تمتلئ الصيغ القانونية بالمعلومات وتصدر النتائج بأحكام "الادانة" او "البراءة" . غير ان الإفتاء القضائي ينظر في القضايا وفقا للعلاقات بين اناس يشعرون بظلم وهو يتطلب تطبيق حذر ومدروس وواسع الخيال لحكم عادل من أجل تصحيح الخطأ وإعادة جميع الاطراف الى الفضيلة الطيبة مع بعضهم البعض بأفضل ما يمكن القيام به. في ظل الإفتاء القضائي، ، تكون العدالة هي عمل مستمر فيه الكثير من اللون الرمادي الممتزج بالأبيض والأسود. لايوجد هناك يقين نيوتني وانما تقريب هيزنبيرجي(3).
الأحكام القديمة
قبل 24 قرنا، رأى ارسطو ان العدالة الحقيقية لا يمكن ان تكون فقط كسؤال حول عمل إقرارات ذات طبيعة شمولية سلفا، ثم نسمي هذه الأقوال المعممة بـ "قوانين" ومن ثم نحشر كل حالة او قضية في كل ما تقوله القوانين. السبب الذي جعل ارسطو يشكك بهذه الاستدلالات المعممة مرتبط برفضه لأفكار استاذه افلاطون. حاول افلاطون فهم الهوية المشتركة لنماذج من صنف معين – لماذا، على سبيل المثال، الاجاص يتخذ نفس الشكل والذوق والمظهر. هو افترض انه لكل صنف هناك "شكل" تام وُجد في ما وراء عالم الحواس يحصل منه كل مثال واقعي غير تام على هويته. الاجاص في عالمنا هو نسخة غير تامة للشكل الأبدي للاجاص في عالم الاشكال، كما يعتقد افلاطون. بنفس الطريقة هناك شكل للخيل والقطط والسفن وكل شيء آخر يمكن ان نراه او نسمعه او نلمسه. وبالنتيجة، بالنسبة للافلاطونيين، اذا اردت الوصول الى الحقيقة العميقة للاشياء يجب عليك التجريد بعيدا عن العالم المادي. ارسطو رفض هذا الاتجاه الميتافيزيقي الجاهز، وتبنّى طريقة تفكير تصاعدية حول العالم. احدى ذروات تفكير ارسطو الغير افلاطوني تكمن في عالم الاخلاق، او في الطريقة التي يجب ان يتصرف بها الناس. في كتابه (الاخلاق النيقوماخية)، جادل ارسطو ان الناس يقومون بأشياء لأنهم بالنهاية يريدون ان يكونوا سعداء. المشكلة هي، عدم وجود شكل افلاطوني للسعادة .هذا بسبب عدم وجود شيء واحد للسعادة او يشكّل السعادة. انت عليك معرفته . وعموما، الناس لم يولدوا يعرفون ما يقومون به في كل موقف حسب ارسطو. نحن لدينا ميل طبيعي نحو الخير والسعادة والحقيقة، لكننا لانزال علينا ان نوجّه ونرشد كل التعقيدات المتغيرة للحياة اليومية لكي نصل الى افضل الحلول للمشاكل على طول الطريق. بالنسبة لارسطو، هذه النزعة نحو عمل الخير سميت الفضيلة وهي نوع من عادة التميّز التي يمكن للمرء جعلها تزدهر من خلال الممارسة الواعية في عالم الخيارات والنتائج. ارسطو كان عليه العمل بمشقة لتوضيح هذا لمعاصريه، لأن افلاطون والعديد من الفلاسفة الآخرين وقعوا تحت تأثير سحر الهندسة. الناس الاذكياء بدأوا يعتقدون بأن الأخلاق يمكن التفكير بها تماما مثل مساحة المثلث او نصف قطر المخروط . انت عليك اولاً ان تعرف الشكل من بين ما تراه، ثم تعرف كيف تدير صيغة المعادلة، حتى تصل الى "العدالة".
الخطأ في هذا هو ان الناس هم اكثر تعقيدا من المضلعات. هم يعيشون ضمن حياة فوضوية. لايخضعون جيدا للصيغ. لايوجد هناك جذر تربيعي للعدالة، ولا أطول ظلع للمثلث في المساواة. لذا، اذا كنت تريد عمل الشيء الصحيح لشخص ما ارتكب خطأ، عندئذ عليك ان ترفض النظر الى اللّاعدالة كشيء يمكن معرفته باستخدام كرات العد. ليس كل شيء أخلاقي يمكن إدخاله ضمن أصناف. هذا يعني انت عليك ان تكون مستمع جيد اي بمعنى ان تكون قاضي تبريري جيد. انت لاتستطيع الوصول الى العدالة عبر التفكير كالاختصاصي بالهندسة.
لوك وهنري الثاني
مثلما في ايام ارسطو وافلاطون، بقيت الهندسة تمارس تأثيرا غير مناسب على افكارنا عن العدالة. رغم ان الناس عادة لايؤطرون حججهم القانونية باشارات صريحة لإقليدس او لنظرية فيثاغوروس، لكن النتيجة النهائية هي حول نفس الشيء: نحن نرى العدالة كنوع من الصيغ، معادلة، برهان. لو جعلنا المدخلات الاولى صحيحة فسيتبع ذلك حتما الجواب الصحيح. جون لوك(1632-1704) اعتقد اننا بامكاننا في النهاية الوصول الى أخلاق في الجبر(الرياضي).
غير ان ذلك لم يكن دائما. في القوانين العرفية الانجلوسكسونية، مثلا، كانت العدالة هي ما نسميه الآن السلعة المحلية – انت تحصل عليها من جماعتك او من معارفك او زملائك وليس عبر تطبيق الصياغات الشاذة والنمطية من كتب القانون التي يعلوها الغبار. وكما يذكر آرثر هوغ في أصل القانون العرفي (1986)، ان القانون في انجلترا القرون الوسطى كان "رباط المجتمع المدني". كان هناك ايضا تنوع كبير في المحاكم، العلمانية والكنسية، والقضاة مالوا لإتخاذ قرارات تخريج قضائي تفيد كل من الجماعة والفرد طبقا للعادات. بعدها جاءت المركزية. المركزية السياسية كانت ناقوس الخطر للإفتاء القضائي. بدءاً من الملك هنري الثاني (1133-1189)، خضعت انجلترا، كما يقول هوغ تحت تأثير، "ازمة سياسية" أسست دائما سمة النظام القانوني. انطلاقا من (رسالة حول القوانين والعادات في مملكة انجلترا، 1187)، كان هنري الثاني ووزرائه وقضاته قادرين على التصرف بسلطة مطلقة عندما صمموا الاجراءات لجمع الضرائب وتهيئة القوات العسكرية وحفظ السجلات وحراسة الارياف ومعاقبة المتسببين باضطراب لـ "سلام الملك". نتذكر خط ماكس ويبر حول امتلاك الدولة الحديثة لـ "احتكار العنف". في الارياف البعيدة جدا في انجلترا، يكتب هوغ، "ان القضاة الملكيين والعمداء والمفوضين درّبوا الرجل الانجليزي من كل الطبقات على اجراءات الحكومة الملكية وعلى قانون الاراضي". الناس فقدوا الحرية عندما تضخمت سلطة الدولة المركزية . قانون غراشيم يؤكد ان العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. قانون هنري الثاني، يؤمن ان الدول المركزية تطرد العدالة. الإفتاء القضائي فشل في الاستمرار لأن الدولة الادارية تدس انفها في كل مظاهر الحياة اليومية. ان انفجار القوانين اثناء وبعد حكم الملك هنري الثاني لم يكن صدفة. تمركز السلطة يتضمن بالضرورة زيادة التشريع.
ان تضخم سلطة الملوك ولاحقا رؤساء الوزارات والرؤساء قاد الى طريقة لتصور الناس ضمن عالم كأفراد بدلا من أعضاء في مجتمع عضوي. توقعات السلوك المرتكزة على الجماعة سواء بالنسبة للفرد او الآخرين جرى إعادة تسويقها كـ "حقوق طبيعية"، اي بمعنى، سلطة تورث للفرد دون إعتبار للجالية. وفي النهاية، كل واحد اصبح حاكما خاصا يمكن ان تُحكم امتيازاته المطلقة فقط بواسطة حاكم اكبر، الملك الحقيقي. الفيلسوف الصيني القانوني هان فيز (279-233 ق.م) اعتقد ان الناس كانوا اشرارا ويحتاجون لتقييدهم بالقانون والعقوبة لإبقائهم على الخط. ونفس الشيء، في ليفثيان، هوبز (1588-1679) اقترح الدولة كقوة قمعية نهائية لإبقاء المتمردين الافراد تحت السيطرة. يبدو كلما كان الفلاسفة والديماغوجيون اكثر منداة بالحرية، وكانت متاريس الإفتاء القضائي مغمورة بالمياه، كلما كان الانسان اكثر اتشاحا بظلال الدولة.
حكم الدول
الفيلسوف السياسي ميشيل اوكشوت (1901-1990) رأى ان فرنسيس باكون (1561-1626) المعاصر لهوبز اول من تبنّى الرؤية بان أعضاء الجماعة هم "مواطنين"اصحاب حقوق في ظل تأثير نظرية هيمنة (الدولة) لهوبز. حالما تستطيع الدول إلغاء العرف وتضع قواعدها الخاصة، فان عدالة الإفتاء القضائي تكون قد دُفنت تحت شهادات القضاء المركزية والرطانة القانونية الخالية من المعنى.
وهنا مثال عن كيفية عمل ذلك. في ظل القانون العرفي، امتلكت المحاكم في انجلترا ما اسماه اوكشوت "سلطة القضاء"، او الحق بتقرير الحالات الشائكة حين بروزها. اذا كانت لديك مشكلة، كما لو ان شخص ما قتل قريب لك او سرق بقرتك او كسر بيتك او اختطف ابنك، عندئذ يمكنك الذهاب الى القاضي المحلي وسيعطيك قرارا، طبقا للعادة، والسوابق والظروف، وهو الامر الذي سيصحح ما حدث من خطأ. هنا القانون كان ثابتا، مشخصا، تراكميا، رجعيا، وحذرا. انه لا يتغير لكي يتناسب مع راحة الدولة. غير ان اوكشوت يجادل، في ان الادارة المركزية الجديدة التي بدأت في ظل حكومة هنري الثاني ادّعت الحكومات لنفسها بغير حق سلطة تجاوز القضاء ووضع قوانين جديدة. هذا النظام المركزي للدولة يصف الكيفية التي تحكم بها الدول بالقانون. وكما يكتب اوكشوت في محاضرات في تاريخ الفكر السياسي (1967):"لا شيء يميز الدولة الاوربية الحديثة عن الجماعة السياسية في القرون الوسطى (او حقا عن اي جماعة تاريخية اخرى) اكثر من الحرية والثقة التي تضع بها الحكومة قانونا جديدا، انتظامية ودقة العملية التي يُصنع بها القانون، والفرق الدقيق بين ماهو القانون وما هو غير القانون .. الخصائص المتميزة للدولة الاوربية الحديثة هي ان تعترف بتفوق القانون التشريعي وان تعتبر كل القوانين الاخرى سلطوية كونها لم تتغير او تُلغى بقانون تشريعي.
ان نتيجة هذا كانت عميقة وسيئة. الأثر المباشر لهذا كان العبودية. في (القانون والثورة:تكوين التقاليد القانونية الغربية، 1983) يجادل هارولد بيرمان انه بينما وُجدت العبودية في انجلترا في القرون الوسطى، خاصة بعد الاضطرابات الاجتماعية التي رافقت الاحتلال النورماندي والحملات الصليبية في القرنين 11 و 12، لكن في عام 1300 اصبح الفلاحون جزءا من نظام القنانة.
القنانة قد لا تكون مهنة الاختيار للعديد من الناس، لكنها كانت شيئا افضل من كونك عبدا رق. ولكن كيف اصبحت العبودية القانونية ممكنة في المقام الاول؟ خلال سلطة التشريع وفي ظل الإفتاء القضائي، كانت العبودية في انجلترا يصعب التمسك بها. انسانية العبد واضحة للعديد من القضاة، ولهذا فان العبودية مهيئة للانهيار امام صخرة الإفتاء القضائي. وبالعكس، المركزية هي عملية اُنتزعت بواسطتها الانسانية من القانون لكي تستطيع الدولة ان تحكم بدون عوائق.
طبقا للموقف التشريعي، العبد الرق في المزارع وفي حقول قصب السكر يمكن اختزاله الى مجرد رقم، فقط مع ما يكفي من انسانيته لكي يتلائم مع المعادلات القانونية . بكلمة اخرى، الانسان في غرف المحاكم على الورق اصبح عبدا. في الحقيقة، عندما استحوذ الحاكم على السلطة القضائية، نتجت جميع الاشكال اللاانسانية . فمثلا، عندما تحرّر دريد سكوت من قبل القاضي المحلي في ميسوري، قامت الدولة المركزية بإرساله مرة اخرى الى العبودية.
الإفتاء القضائي الآن ولاحقا
الإفتاء القضائي هو غير مرغوب، ولكن عدم التفكير فيه هو اكثر غرابة. نحن نعيش في زمن التعددية الكبيرة، وزيادة التعددية الثقافية، والقوميات العابرة والمعولمة. نحن يجب ان نكون مرتاحين جدا في ان يكون هناك اكثر من طريقة لعمل الأشياء. الإفتاء القضائي هو إعتراف بأن القانون، على الصفحة، قد يبدو أسودا او أبيضا، ولكن في الحياة الواقعية نحن عادة ننجرف في بحر من الرمادية. التأرجح هنا وهناك كحطام السفينة هو اشارة لما تتطلبه منا النزاهة الأخلاقية، ونحن كلانا يجب ان نهتم ونريد التصرف بنبل ومساواة. الاشياء ليست دائما سهلة الفهم. لذا فان الإفتاء القضائي يأخذ محدودياتنا البشرية بالإعتبار عبر السماح لرغباتنا الانسانية المتساوية بعمل الأشياء الصحيحة بأحسن طريقة ممكنة. الإفتاء هو حكم، وهذا الحكم عندما يأخذ الوقت والشجاعة الكافيين فهو سيكون احد الاشياء التي نستطيع آدائها بأفضل وجه . الإفتاء يجب ان يكون طريقة للانخراط بالعالم المألوف. وفي خلفية الحديث عن الأحكام والظروف نجد كانط (1724-1804) كان صائبا عندما جادل في كتابه (اساس لميتافيزيقا الاخلاق) باننا يجب ان نعامل الناس كغايات وليس كوسيلة. هذا بالضبط ما يتحدث عنه الإفتاء القضائي. كانط مع ذلك كان مخطئا حين جادل بان كل قراراتنا الاخلاقية يجب ان تحمل وزن الأخلاق المطلقة. الاخلاق المطلقة تعني اننا عندما نقرر شيئا بطريقة واحدة فنحن نلتزم به ويجب على كل شخص ان يقرر نفس الشيء بنفس الطريقة في جميع الظروف المتشابهة. ليس من باب الصدفة ان هذا يبدو يشبه التشريع. حقا، ان اتّباع الاخلاق المطلقة يعني كيف نحصل على ربع مليون صفحة من قانون الولايات المتحدة، كل صفحة تقول ان الاشياء يجب ان تتم بطريقة معينة لكل موقف محتمل. هذا ربما يُعد استبدادا اخلاقيا من النوع الذي لم يشهده العالم من قبل.
الإفتاء القضائي كما يفهمه الغرب اليوم جاء كرد فعل لهذا النوع من الاستبداد الاخلاقي. في القرن السابع عشر، أدخل الثيولوجي الهولندي كورنيلاين (1585-1638) عنصر الاستبداد المكثف في الحياة الكاثوليكية. كما في الكالفينيين البروتستانت والقانونيين الصينيين، فان اليانسينيين اعتقدوا ان الناس بطبعهم فاسدين. هم يحتاجون الى الكثير من الأحكام لجعلهم تحت السيطرة. المناوئون لليانسينيين في الكاثوليكية كانوا اليسوعيون الذين كانت لديهم تجربة كمبشرين بين الثقافات الاخرى، حيث الفهم الجيد كان ذو قيمة كبيرة في تقرير أي العادات تتماشى او لا تتماشى مع الكنيسة الكاثوليكية. بعد ذلك بدأ اليسوعيون تطبيق هذا الفهم في اوربا. ولفترة ما، بدا كأن اليسوعيين ربما يلطّفون من حماسة التشريعات اليانسينية. وحالا، بدأ الإفتاء القضائي اليسوعي يفسد . فمثلا، عندما اعترف البعض بذنبهم للقس اليسوعي، قام الاتباع ذوي القدرات المالية الكبيرة بالتبرع الكبير للنظام اليسوعي وسُمح لهم بدون توبة او تكفير حتى لمرتكبي المخالفات، بينما الناس الفقراء كان عليهم عمل التكفير الصارم. باسكال (1623-1662) الفيسلسوف الفرنسي أدان اليسوعيين على هذا. الإفتاء القضائي اصبحت له رائحة كريهة، وحتى اليوم يُواجه بنفس الادانة.
في العقود الاخيرة، بدأ بعض الفلاسفة والمفكرين القانونيين يجادلون بان الإفتاء يستحق فرصة اخرى. في عام 1903 تحدّث الاخلاقي مور (1873-1958) عاليا عنه في رسالته مبادئ الاخلاق. حتى بعد ذلك، بقي الإفتاء معظمه يعمل وراء قناع التخصص السرّي حتى أعوام السبعينات والثمانينات من القرن الماضي عندما جسّدت أخلاق علم الأحياء تحديا جديدا للتشريعات الهندسية والافلاطونية والمركزية. وأثارت مختلف الاسئلة المستعصية، مثل منْ يمتلك البويضات غير المخصبة؟ كم المدة التي يجب بها إبقاء المريض الذي بلا دماغ حيا؟ من يجب ان يستلم القلب المتبرع به او الكلية او الكبد؟
كافح المفكرون لأجل طرق لمعرفة الشيء الصحيح الذي يعمل عندما لاتوجد هناك قوانين واضحة يمكن اتّباعها. في أواخر السبعينات من القرن الماضي، اشتبك الفيلسوف ستيفن تولمن (1922-2009) والبايولوجي الاخلاقي البرت جونسن(1931) مع هذه الأنواع من الأسئلة كجزء من عملهم في هيئة وطنية لحماية الناس من البحوث البايوطبية والسلوكية في الولايات المتحدة. استنتاجاتهما خاصة بالنسبة لتولمن كانت ان الاتجاه الرياضي في الأخلاق قاد الى صياغات شكلية قاسية كانت مخالفة للعدالة. هما جادلا بان المطلوب هو العودة الى ظرفية مرنة: العودة الى الإفتاء القضائي. هذا الاتجاه لم يكن بلا نقاد. البعض يخشى ان التراجع عن التشريع سيفتح الباب امام المحاكم لارتكاب الاساءات – بمعنى ان القضاة سيتوحشون ان لم يوضعوا تحت مقود الدولة. ولكن يبدو من المحتمل جدا ان السياسيين وليس القضاة هم من سينخرط باساءة استخدام سلطة القانون. اللوبيون يكتبون القوانين التي يختمها المشرعون وهذا يؤثر سلبا على ملايين الناس، حيث ان القاضي السيء من الضروري ان يُقيّد في مقدرته على الايذاء. ربما حكم سيء واحد يسبب الخراب لعائلة كاملة. قانون سيء واحد يمكن ان يغرق البلد. آخرون ربما يقولون ان الاجتهاد القضائي يقلل من خطورة الجرائم. لكن سؤال العدالة ليس فقط حول ما قام به شخص ما وانما ايضا حول لماذا قام بذلك وماذا يجب ان يحصل الآن.
وفي نظرة اكبر، السؤال هو، منْ يستفيد من الإحتكار بشأن العدالة؟ هل المحاكم تتأسس للحفاظ على سلام الناس ام لأجل سلام الرؤساء. الإفتاء القضائي يعيد السيادة للجيران المصابين بالاذى . في ظل الافتاء القضائي، الجاليات ذاتها تتعامل مع اولئك المتهمين بتعكير سلام الجماعة او إيذاء احد أعضاءها. لو حصل اي شيء، فان الناس المحليين وليس السياسيين في واشنطن او في اي عاصمة اخرى، هم الاكثر معرفة بالكلفة الحقيقية للجرائم في منطقتهم. في كتابه الصادر عام 1953 (البحث عن جالية: دراسة في اخلاق النظام والحرية) للسوسيولوجي روبرت نيبست يفصّل كيف ان الدولة المركزية أضعفت الجماعات المحلية. اذا كانت اطروحة نيبست صحيحة، عندئذ فان الدولة هي آخر مكان يجب ان نبحث فيه عن طرق للشفاء. ربما الوقت مناسب لإعطاء فرصة ثانية للإفتاء القضائي، للفضيلة الارسطية في عمل الاشياء الصحيحة بطريقة صحيحة وفي الوقت الصحيح حالة بحالة. ربما هذه هي الطريقة التي ننتقل بها من القانون الى الحرية والعدالة لجميع الناس.
حاتم حميد محسن
..........................
الهوامش
(1) casuistry هي عملية تفكير تسعى لحل المشاكل الاخلاقية عبر استخلاص او تمديد القواعد النظرية من حالة معينة.هذه الطريقة تُمارس في الأخلاق التطبيقية.انها طريقة لحل مشاكل الالتزامات عبر تطبيق مبادئ عامة للاخلاق او الدين على حالات معينة للسلوك الانساني. بدأ تطبيق الإفتاء القضائي منذ ايام ارسطو، ثم لاحقا من قبل جمعية يسوع (1550-1650).الانسكلوبيديا البريطانية لعام 1900 اعتبرت الاجتهاد القضائي محاولة لتحقيق غايات نزيهة بوسائل غير نزيهة. الفلسفات الاخلاقية كالنفعية والبراجماتية اُعتبرت نموذجا لإستخدام هذه الطريقة من الإفتاء .
(2) في الفيزياء الكلاسيكية هناك سببية ومعرفة تامة بالماضي يسمحان بحساب المستقبل، وهو عكس ما هو عليه الحال في فيزياء الكوانتم، حيث الاشياء في فيزياء الكوانتم لا هي جسيمات ولا هي موجات، انها مزيج غريب من الاثنين. معرفتنا التامة في الماضي تفيدنا فقط في عمل تنبؤات محتملة للمستقبل.في الفيزياء الكلاسيكية، يمكن لقنبلتين بصمامين كهربائيين متشابهين ان ينفجرا في وقت واحد، اما في فيزياء الكوانتم، فان ذرتين مشعتين متشابهتين تماما سينفجران في اوقات مختلفة.
(3) وفق فيزياء نيوتن الكون يعمل كالساعة، كل شيء يتبع قوانين دقيقة وصارمة في حركته، لذا فان التنبؤات تكون سهلة لو عرفنا الظروف السائدة في نقطة البداية. اما مبدأ اللايقين لعالم الفيزياء الألماني هيزنبيرغ فهو يؤكد على الغموض والضبابية في الطبيعة. المبدأ يؤكد اننا لا نستطيع قياس الموقع (س) وقوة الحركة (ص) لجسيم معين بدقة مطلقة. كلما كانت معرفتنا اكثر دقة بأحد القيمتين، تكون معرفتنا أقل بالقيمة الاخرى.
وقفةُ تأمُلٍ مع الذّات..
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. سعد الساعدي
لم أكن أعلم أنني في يوم ما سأكتب شعراً تملأ كلماتُه نفسي، بعد أن كنت أقف كلّ يوم خميس في ساحة المدرسة وأنا في الصّف الخامس الابتدائي مع مجموعة رافعي العلم، بعدها أقرأ ما أحفظ من قصيدة، ولم تكن غير: "إذا الشّعبُ يوماً أراد الحياة .. فلابد أن يستجيب القدر".. كانت هذه القصيدة ضمن ما مطلوب حفظه من المنهج الدراسي. لم أعرف الشّابي، ولا أين تقع تونس على خارطة الوطن العربي حينها؛ أمّا اليوم فلديّ من الأصدقاء هناك ما لا أقدرُ على إحصائه.
كان الشّعرُ عصياً عليًّ حفظه؛ فمع حبي للجواهري كنت أعاني جداً من حفظ ما مطلوب مني وأنا أخوض غمار دراستي أملاً في إنهاء الثانوية بسلامة بعيداً عن إعادةِ سنةٍ جديدة، ومجال تخصصي في الفرع العلميّ وليس أدبياً.. حتى أشعاري لم أستطع حفظها بعد كتابتها؛ والى يومنا هذا، ومع كل هذه المعاناة أجدني أحياناً أحفظ الشعر منذ الوهلة الأولى لقراءته، ما سرُّ هذا التباين؟ لا أعرف.
منذ صغري حفظت لقباني أشعاراً كثيرة، وللسّياب، والمتنبي. أتعجّبُ كيف تدخل تلك الكلمات بلا استئذان الى عقلي، وتحفظها ذاكرتي، وتكمن هناك بلا قطيعة، لكني نسيت كلّ ما حفظتهُ أثناء دراستي ضمن المنهج المقرر، ولم يبقَ الاّ ما كان خارج المنهج أحياناً كثيرة.
ذات مرة طَلبَ أستاذنا ممتحناً؛ أن نكتب سبعةَ أبياتٍ مما نحفظ لأبي الطيب المتنبي؛ كنت أحفظ من المقرّر سبعة أبيات بالتّمام والكمال؛ لكني أحفظ من ذاكرتي أكثر؛ فكتبت أثنين وعشرين بيتاً.. لماذا فعلت ذلك؟ قد يكون السبب هو إثارة إعجاب استاذي الذي لم يتوانَ بمنحي أعلى درجة نهاية العام الدراسي، فكانت أول درجة امتيازٍ لي، ولعله هو المطلوب آنذاك حين التحقت بدراسة أدبية جديدة بعد سنوات مرَّت مسرعة أخذت الكثير بين اجهاض ونموٍ متسارع.
كانت أشعارُ الثّورة والحب تتملّكني، ولا حدودَ لها؛ الثورة على الواقع، وعلى الوجدان، وحتى على الأحلام. لم أحفظ لنازك، ولا للبياتي حتى هذه اللحظة شيئاً، لكني معهما أجدُ نفسي أعانق خيالاتي، وأهيم مع نسائم الحياة. حفظتُ أنشودةَ المطر للسيّاب لأني أحبه، وأحبّها، وما زلت الى الآن أتصورُ نفسي ذلك العاشق الذي ينظرُ للأعلى أملاً بإشارةٍ، أو ابتسامةٍ رقيقة من محبوبته، أو أتعلّقُ بقطعةٍ صغيرة من الورق فيها مكتوبٌ: أحبك، أو أعشقك، أو أنت حبيبي الذي لن أنساه؛ لكن هل قصد السياب حبيبته أم غير ذلك؟
حفظت بيتين للجواهري: "حييّتُ سفْحكِ عن بعدٍ فحييني.. يا دجلةَ الخيرِ يا أمَّ البساتينِ..
حييتُ سفحكِ ظمآناً الوذُ به.. لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطّينِ"... لكني أقف مبهوراً جامداً أمام ما كَتب؛ كأني جالس بينه وبين المتنبي مستمعاً لحوارٍ قلّما أعرف تفسيرَ معانيه؛ لكني أذوب في سحره وبيانه.
أسماءٌ كثيرة؛ كنجومِ السّماء، أو شُهبٍ تتساقط كل حين أمام ناظري، والمدهشُ أنّ أولَ كتابَ شعرٍ قرأته كان للشّاعر (بابلو نيرودا) الذي ذكّرني قوله بعد مقتل صديقه رئيس تشيلي (سلفادور الليندي) برصاص عسكرِ الانقلاب (البينوشيتي) حين هجم على بيته العسكر يفتشون عن السلاح لأنه صديق الرئيس، ولمّا سئل عن السلاح قال: شعري هو سلاحي.. بقيت هذه الكلمات عالقة في ذهني؛ حقاً هو سلاحٌ جميلٌ وخطير.
ومع هذا لم أكنْ أعرف نيرودا، ولا الليندي إلاّ بعد موت الشاعر وهو يقول كلماتَه الأخيرة:
"إنَّ تلك الشخصية (سلفادور الليندي) المجيدة، الميتة، كانت تمضي وهي مخرّقة برصاص رشّاشات عساكر تشيلي؛ الذين خانوا تشيلي مرة أخرى. لكنّي لم أحفظ من شعره سوى صورة البطولة، والثورة، والحرية؛ مع أنّي لم أكن يسارياً، أو يمينياً، وطالما قرأتُ في نهاري الأدبَ الروسيّ، وفي ليلي أتهجّدُ بدعاءٍ الى الآن أردّدهُ: (اللهمّ إنّا نرغبُ اليكَ في دولةٍ كريمةٍ تخلّصنا فيها من الظّالمين)..
حتى في محراب صلواتي أتذكّرُ الشعرَ الشهيد؛ المضمّخة دماؤه بلونها الأحمر، وأنا لا أحبُّ كل ثوبٍ أحمر، إلاّ راياتِ الشّهادة، وبطولة الأبطال، وعَلم بلادي، والصّرخات الحمراء المدويّة ضدَ العنف والاستغلال، واستعبادِ البشرِ أينما كانوا. هنا تذكرت محمّد مفتاح الفيتوري، شاعر الحرية السوداني، فما تزال الى الآن اصداءُ كلماتِه التي رسخَت، وتعمّقت تناغيني: "الملايينُ افاقت من كراها.. ما تراها.. ملأ الأفقَ صداها".. ومحمود درويش وهو يوقّعُ وثيقته الشخصيّة: "أنا عربي.. ورقمُ بطاقتي خمسون ألف.. أطفالي ثمانية.. وتاسعهم سيأتي بعد صيف.."
هذه الصور المتّقدة لم يتعلق بالذّاكرة فقط، لكنها ترسخت في اللا شعور، أو ما يسمّى العقلُ الباطن، ومتى ما احتجتُ اليها فإنها تقفزُ أمامي كدليلٍ للسّائحين لا يفارقُ الجماعةَ خوفاً من الضّياع؛ لذلك ربما حفِظَتْها الذاكرةُ بلا تعبِ الحفظ.
كذلك لم يكن لعملاقي الشعر والفصاحة عبد المحسن الكاظمي، أو محمد مهدي البصير نصيبٌ من الحفظ، وهما لم يفارقا دراستنا أينما كنّا. وإنْ كان الشعر حجازياً، أو يمنياً؛ لكنّ بناءه، وكمالَ عذوبته، وجمالَ سحره، وبيانه استقرَّ عراقياً دون منازع الى الحين باعتراف الجميع؛ لذلك لم يكن غريباً عندما تطفو كلُّ الأشعار وتسبحُ في عقلي، وروحي، وذاكرتي لشعراء عراقيين قبل غيرهم بلا شعوبية أو شوفينية تعصبية، وكأنهم بالفطرة ولدوا هكذا، وجُبلوا بالشّعر، وقد تكون هذه الحقيقة. حتى كتّاب الشعر العاميّ (الشّعبي) لا يجاريهم أحدٌ فيما يكتبون، وكأنهم ينفثون سِحرَهم الأخّاذ بين الكلمات؛ ليصنعوا مجدَها وعُلاها، والاسماءُ لا تُحصى.
مما أعشقه من الشّعر كانت كلمات الغزل، وكتبْتُ ما أحسبه أجمل غزليّاتي حين اشتعلتْ حربُ الثمان سنوات؛ فكانت ملاذي ألآمن وأنا أكتبُ بعيداً عن كلّ شيء، لئلا تقعَ إحدى القصائدَ بيد العيون الماكرة آنذاك، وأقبعُ بعدها خلف أبوابٍ من حديدٍ لا يُعرفُ لونها وأين مكانها، فكان الغزل هو حارسي الأمين الذي فارقني الآن بعد أن ذهبَ في إجازة طويلةٍ، ربما بلا رجعة، لأن الورد يعشق الماء، وأنا الآن بين ظلالٍ من لهبٍ لا يلحفُني وحدي، بل هناك ملايين مثلي تبحث عن ظِلٍّ آمن غيره، ولم تجد!
لم أكن أعلم أنّ للشعر طقوساً، ومواسمَ كغيره من الكتابة إلاّ بعد سنواتٍ من البعد والقطيعة، لكنها ما كانت طلاقاً خلعيّاً مؤبداً؛ إنما كان طلاقاً رجعيّاً؛ عِدّتُه جيلٌ كامل؛ فلو تزوجَتْ إحدى قصائدي وقتئذ لأنجبتْ الآن أطفالاً وأراهم بين يديَّ كتباً بأغلفة وألوان شتى.
مارستُ طقوسي من جديد بهدوءٍ مع ألوانٍ تهبها لي الطبيعة تارةً، وأحياناً يفرزها ظلمُ الانسان لأخيه الانسان.. أرسم بها لوحاتي ساعةَ يحين اللقاء، أو يدقّ ناقوسُ الأرواحِ العطشى للحروف ونشوة الخلجات المتدفقة بينا حناياها.
لم تعُد الجميلاتُ ما أطمح اليه من وصفهنَّ؛ فالجمال ليس أبداً وجهُ امرأةٍ، أو جسدٌ تترقرق مفاتنه بين القلب والعينين. الشعرُ له شهوة خاصّة مفضوحة لا حياء لها، ولا تخشى أقسى العقوبات إنْ تخلع ثوب الابتذال عنها، أمّا شهوات قصائدي فقد انحرفت صوبَ الورود وصباها، وندى الصّباح، وأريجَ زينته، وكلَّ أوراقِ الأشجار حتى الذابلة منها قبل الخريف، وما تحملُ من ألوان.
بسمةُ طفلٍ صغيرٍ، أو جدائل طفلةٍ جميلة تُدَهشُ أحاسيسي لصفائها، ونقائها، أو ترجعني لذكرياتٍ لم أرَ مثلها في حياتي حين كنتُ صغيراً، وحياتي اليوم كقطارٍ يكادُ يخرجُ عن محلِ سيره، ويهوي في مكانٍ سحيقٍ لا يعرفُ قراراً، أو زمناً للرحيل رغمَ الاستعدادِ والتأهّب.
أسئلةٌ شتّى تراودني كثيراً: مَنْ منّا أوصل رسالتَه بما تحملُ من جُملٍ تخلو من تعقيد؟ مَنْ مازال الى الآن يلهثُ خلف سرابٍ من ضوءٍ متشتت؟ من انتصفَ من نفسه قبل أن يقولَ وداعاً؟
اكملتُ كلَّ عباراتِ رسالتي إلاّ سطرين قربَ الهامش، كي أذيّلُها بتوقيعٍ استنبطه مع آخر كلمةٍ، حتى لا يتكرّرُ بينَ يديَّ مرةً ثانية، فقد يضيع القلم، أو لا تقوى أصابعي على إمساكِه، أو يسرقه طامعٌ بجماله مع ما سُرقَ وسيسرق لأنّ الأمور أحياناً تخرجُ من بين أيدينا ونحن ننظرُ بدهشةٍ لا نعرفُ ماذا نفعل، أمّا أنتم أصدقائي فلا أعرفُ ماذا تضمِرون، أو ماذا ستكون رسائلُكُم، ولعلّي مِن هوسِ الشّعرِ وذكرياته أوجّه أسئلتي مُجبِراً من لا يسعى لإجابةٍ أبداً، أو لا يحبّذ سماعَها منّي أو من غيري، أن يعود الى نفسه يتساءل من جديد ليعرف أين موقِع النَّصَف..!
سعد الساعدي
جائزة البوكر تكشف الإبداع
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد العزيز آل زايد
لا بدّ في البداية أن نشير إلى أنّ الجائزة العالميّة للرّواية العربيّة (IPAF) لا علاقة لها بجائزة مان بوكر البريطانيّة للرّواية (Booker Prize)، ولا ندري كيف تسلل للنّاس هذا الخطأ المُشاع؟، هل لكون البوكر البريطانيّة تدعم هذه الجائزة الإماراتيّة التّي تستقر في أبوظبي؟، أم لأنّها توازي البوكر البريطانيّة في نظر الرّوائي العربيّ؟، أم أنّه الخطأ الذّي استلطفه النّاس وسارت التّسمية وفق ما يستراحُ له؟، من المعروف أنّ الاسم الطّويل غير محبب، لهذا استقرت التّسمية على البوكر حتّى في الأوساط الأدبيّة المثقفة، خاصّة وأنّ الجائزة العربيّة تتلقى توجيهات من قبل مؤسّسة جائزة بوكر، وهو الأمر الذّي يعزز هذا التّورط المستطاب من قبل الكثير.
في هذه الأسطر نرغب في الحديث عن هذه الجائزة رغم أنّ بعض الأحبّة الأدباء فضلوا الانسحاب من الجوائز الإماراتيّة لأسباب سياسيّة معروفة لسنا في صدد الحديث عنها، فما يهمنا في هذه السّطور هو الحديث عن الرّوائي العربيّ المبدع، فالاحتفاء به من الفرائض الثّقافيّة والأدبيّة، وهذه الجائزة العريقة أحد أدوات الكشف عن مواضع القوة والتّألق الإبداعيّ.
يستاء البعض من النّتائج ويزهو ويفرح آخرون، ما يهم هو أنّ هذه الجائزة استطاعت الكشف عن جملة من الرّوايات التّي تستحق التّصفيق لإبداع أصحابها، فلماذا لا تحتفي الدّول الفائزة العشر بهذا الإبداع المنجز بطريقة جماهيريّة كفوز المنتخبات الرّياضيّة؟
الدّول البوكريّة الفائزة:
يجهل الكثير منا أسماء الدّول الفائزة بالوكر العربيّة، ولا يعرف عدد الرّوايات البوكريّة التّي فاز بها بلده فضلًا عن غير من الدّول، وهنا نضع الدّول البوكريّة منذ لحظة تدشين الجائزة وعدد رواياتها.
١/ مصر: وفازت بروايتين، هما: رواية عزازيل وواحة الغروب.
٢/ السّعوديّة: وفازت بثلاث روايات، هي: ترمي بشرر، طوق الحمام، موت صغير.
٣/ المغرب: فازت برواية واحدة هي: رواية القوس والفراشة.
٤/ لبنان: فازت بروايتين هما: رواية دروز بلغراد، وبريد اللّيل.
٥/ الكويت: فازت برواية واحدة وهي: ساق البامبو.
٦/ العراق: فازت برواية واحدة وهي: رواية فرانكشتان في بغداد.
٧/ تونس: فازت برواية واحدة وهي: رواية الطّلياني.
٨/ فلسطين: فازت برواية واحدة وهي: مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنّكبة.
٩/ الأردن: فازت برواية واحدة وهي: رواية حرب الكلب الثّانية.
١٠/ الجزائر: فازت برواية واحدة وهي: الدّيوان الإسبرطي
من يحتار في أيّ رواية عليه الاطلاع عليها وقراءتها، نقول له: اختر بطريقة عشوائيّة أيّ رواية من الرّوايات أعلاه وابدأ في القراءة، سترى أنّ الإبداع يتكلم، وأنّ خلف السّطور أعين ساهرة وأيدي مخلصة محترفة في السّرد، بهؤلاء الكتّاب والرّوائيين ستتقدم أمتنا ونتوقع منهم المزيد، فمن هم؟
الرّواة البوكريون:
إننا نحتاج للعديد من الصّفحات للحديث عن الفرد الواحد من هؤلاء المحلّقين، وهم حتّى اللّحظة أربعة عشر مبدعًا: بهاء طاهر، يوسف زيدان، عبده خال، رجاء عالم، محمد الأشعري، ربيع جابر، سعود السّنعوسي، أحمد سعداوي، شكري المبخوت، ربعي المدهون، محمد علوان، إبراهيم نصر الله، هدى بركات، عبدالوهاب عيساوي.
بهؤلاء وأمثالهم سترى الرّواية العربيّة المعاصرة مجدها وتألقها، فلماذا لا تُكَرّم أمتنا هؤلاء؟، وتضعهم في مناصبهم الصّحيحة، إنّهم أصحاب خبرات حقيقيّة، من المهم أن تُنْقل تجاربهم للجيل الصّاعد، الذّي سيقفز عدة قفزات حين نرى من أدبائنا النّظرة الفاعلة لمستقبل الأدب بشكل عام والرّواية العربيّة بشكل أخص.
في الختام لا نريد بخس مبدعين آخرين، يستحقون الثّناء وأنا واثق أنّهَم لا يقلون مكانة عن هؤلاء الصّفوة، فوصول الرّواية للقائمة القصير أو الطّويلة تكشف عن تميز أصحابها، وسنشهد في الأعوام المقبلة سجالًا أدبيًّا قويًا، سواء في هذه الجائزة أو غيرها، وهذا ما يدفع بالقلم المبدع للتّسيد العالميّ، وسيرى العالم بأسره إبداع الأخوة العرب بعد اخلاص التّرجمات لبقية لغات العالم.
عبدالعزيز آل زايد
تعرية هوليود من الداخل بالأبيض والأسود
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. جواد بشارة
وليس بالألوان والسينما سكوب
هيرمان مانكيفيتش سيناريست مشهور لكنه مهمش في هوليود في مرحلة العصر الذهبي في ثلاثينات وأربعينات وخمسينات القرن الماضي مثقف موهوب وذو شخصية بوهيمية ثمل ومتمرد ومشاغب دوماً دفعه الصدفة لكي يلتقي بشخصية لاتقل هامشية وموهبة وبروزاً في هوليود وهي شخصية المخرج والممثل الشهير أرسون ويلز ليتعاونا في تقديم أول فيلم للمخرج الشاب العبقري والمبكر في نضوجه وموهبته ولم يتجاوز بعد سنة الرابعة والعشرين، وهو فيلم " المواطن كين Citizen Kane الذائع الصيت والذي حاز هيرمان مانكيفيتش عليه جائزة أوسكار أفضل سيناريو سنة 1942، ولقد خلد مخرج فيلم " مانك MANK" ديفيد فينشر هذه اللحظة في المشهد الختامي القصير لفيلمه في دقائقه الأخيرة بغياب المبدعين المخرج ويلز وكاتب السيناريو مانكيفيتش مما دفع منتج الفيلم ورئيس شركة الإنتاج آر ك أو جورج شايفر RKO George Schaefer لتسلمها نيابة عنهما. مراجعة فيلم MANK الممثلين: الممثلين الرئيسيين غاري أولدمان هيرمان مانكيفيتش أماندا سيفريد ماريون ديفيز تشارلز دانس ويليام راندولف هيرست ليلي كولينز ريتا ألكسندر توم بيلفري جوزيف إل ما • المخرج: ديفيد فينشر • الممثلون: أماندا سيفريد، غاري أولدمان، تشارلز دانس، توم بيرك، ليلي كولينز، توبينس ميدلتون، أرليس هوارد • النوع: دراما، أسود وأبيض • الجنسية: أمريكي • الموزع: Netflix - Original International • VOD: Netflix • تاريخ الإصدار: 4 ديسمبر 2020 فندق بيلتمور، 1942. جائزة الأوسكار لأفضل سيناريو من نصيب هيرمان مانكيفيتش وأورسون ويلز عن فيلم Citizen Kane. في غياب الشخصين المعنيين، يتسلم الجائزة رئيس RKO George Schaefer. هذا المشهد القصير، الذي تم وضعه في الدقائق الأخيرة لفيلم مانك، هو التجسيد النهائي لتعاون صعب بين شخصيتين هامشيتين لكنهما بارزتين في هوليوود: عبقري مبكر النضوج شاب يبلغ من العمر 24 عامًا، يتم احتكاره تعاقديًا مع عرض يوفر له مطلق الحرية في تحضير وإعداد أول فيلم روائي طويله له في عالم السينما وهو القادم من عالم الإذاعة بعد أن انتشر إسمه إثر تمثيلية " حرب العوالم" التي أعدها عن رواية بنفس العنوان لكاتب الخيال العلمي أتش جي ويلز H G W، والتي أثارت الرعب والاضطراب في المجتمع الأمريكي لاعتقاده بأن غزواً شنته مخلوقات فضائية قادمة من المريخ لإبادة الجنس البشري ألا وهو أرسون ويلز. ونص خارج المألوف وشديد الغرابة والتفرد ومتميز عما كان سائداً ومألوفاً آنذاك، كتبه كاتب سيناريو حالم، نادرًا ما يُنسب إليه الفضل في العديد من النجاحات والاخفاقات ولكنه غالبًا ما يكون منتشرًا ومطلوباً وهو هيرمان مانكيفيتش، فحسب تعبيره هو في إحدى حوارات الفيلم" نصف منتجي هوليود يرفضوني والنصف الآخر أرفضه أنا، ومع ذلك مازلت أعمل".
هذه النقطة الأخيرة مهمة: يستمر ديفيد فينشر بالفعل في وصف مضاد بطله على مسافة متساوية من العظمة والشفقة. قام هيرمان مانكيفيتش بتدوين السرد غير الخطي في وقت قيل له فيها إن نصوصه تبدو "مبعثرة" وأن الأمر سيستغرق "خريطة للتنقل". في الوقت نفسه، "يرفض العمل مع نصف المنتجين عندم يرفض النصف الآخر العمل معه" ويتعين عليه أن يسكر بينما أورسون ويلز، الذي يحميه ويسعى للتخفيف من تجاوزاته، لم يترك له سوى شهرين قصيرين لكتابة سيناريو فيلمه الأول. تعرف سارة زوجة "مانك" ما يمكن توقعه. تستحضر "علاقات الحب" لزوجها، وإدمانه على الكحول، وغرابة أطواره، وتصرح، بينما هو مرة أخرى مملوءًا تمامًا: "إذا أحضرت عود ثقاب إلى فمك، فأنت تدخن!" هيرمان مانكيفيتش هو هيدرا برأسين، وسماحة أدبية مقترنة بسكر ربما يكون بعيد النظر للغاية ليظل عاقلًا تمامًا. هناك إغراء كبير لتفسير إدمان "مانك" للكحول على أنه نتيجة للشعور بالحرمان من الملكية. ألا ينتهي به الأمر، على الرغم من شروط العقد الذي يربطه بأورسون ويلز، من خلال ادعاء وجوده في تايتل عناوين فيلم المواطن كين؟ بعد سنوات من كتابة السيناريو وكتابة النصائح في ظل مصانع الأحلام، ألا يرى "أفضل سيناريو له" شكلاً من أشكال الإنجاز؟
يعمل الفيلم أيضًا في المرآة عندما يُظهر شيللي ميتكاف Shelly Metcalf، الذي استهلكه الندم، ويضع نهاية لحياته بالانتحار. بالرغم من تعايشه مع مرض باركنسون، وافق صديق "مانك" على توجيه مقاطع الدعاية السياسية التي ساهمت في هزيمة أبتون سنكلير أمام فرانك ميريام في انتخابات عام 1934 لحاكم كاليفورنيا. وإدراكًا منه لقوة جاذبية المشهد في اللقطة التي صورت صدمه "مانك" قبل لحظات قليلة: "أنت لست الوحيد الذي استبدلت نزاهتك بمكان على كرسي المايسترو. "إن الحاجة إلى الاعتراف تكمن وراء الفيلم بأكمله لديفيد فينشر، الذي شرح بنفسه القضايا بجملة قصيرة:" الائتمان مثل النسخة المختصرة من الأهمية. يبدو السؤال أكثر حساسية حيث يبدو أن المخرج الأمريكي، من خلال تحيزه، يسير على خطى بولين كايل، الناقدة الشهيرة لـجريدة نيويوركر The New Yorker والمبادرة بجدل تاريخي حول فيلم المواطن كين Citizen Kane ومن كتب نصه وفكرته عندما نشرت في سنة (1971) كتاب صعود كين Raising Kane، ونسبت إلى هيرمان مانكيفيتش Herman Mankiewicz وحده كمؤلف لهذا السيناريو. الأفضل في كل تاريخ هوليود حتى ذلك الوقت: فهو يجعله المحرض الحقيقي للمقترحات الطليعية والدفقات التجديدية والجمالية الجريئة للفيلم الروائي.
ومع ذلك، تم هدم هذه الأطروحة من قبل بيتر باغدونوفيتش في كتابه تمرد كين Peter Bogdanovich (The Kane Mutiny،سنة 1972) وروبرت ل كورينجر في كتابه كيفية صنع فيلم مواطن كين Robert L. Carringer (The Making of Citizen Kane، 1985). كما ستؤكد السكرتيرة السابقة لأورسون ويلز، كاثرين تروسبير، الإضافات والتعديلات العديدة للمخرج الشاب. ربما يفسر هذا التكريم لديفيد فينشر لكاتب السيناريو جزئيًا حقيقة أن والده جاك كان هو نفسه مؤلفًا وكاتب سيناريو سلب حقه من الشهرة والتكريم. وضع الأخير، أي ديفيد فينشر، سيناريو مانك على الورق في أوائل التسعينيات، وتوقع ديفيد فينشر أن يصور الفيلم بعد إنجازه فيلم " اللعبة" The Game في عام 1997. تم اختيار كيفن سباسي Kevin Spacey ليكون الممثل الرئيسي.
لكن الاستوديوهات عارضته لوضع حد لعدم مقبولية التصوير بالأبيض والأسود الي أصر عليه المخرج، وهو موضوع نموذجي في هوليوود يحمل الكثير من المخاطر في أعينهم. لذلك يبدو أن مانك ديفيد فينشر مشتق من رواية ألفونسو كوارون. في كلتا الحالتين، تتدخل Netflix لإعطاء مضمون للمشاريع الشخصية التي يصعب تمويلها وفي المقابل تقدم لنفسها بعض الاحترام السينمائي. شمل تعاون الشركة الأمريكية متعددة الجنسيات مع ديفيد فينشر أيضًا مشاريع أفلام أخرى مثل بيت من ورق House of Cards وصائد الأفكار Mindhunter وLove حب وموت وروبوتات Death and Robots. يؤكد المخرج بشكل محرج: "اعتمادًا على الاستقبال الذي لقيه مانك، إما أن أذهب بخجل وأسألهم عما يمكنني فعله لتخليص نفسي، أو أقدم نفسي بموقف الأحمق المتغطرس الذي سيطلب إنتاج أفلام أخرى بالأبيض والأسود. قبل أن يضيف، بجدية أكبر: "لا، أنا هنا لتقديم محتوى لهم - مهما كان معنى هذه الكلمة - من المحتمل أن يجلب لهم مشاهدين، في مجال تأثيري الصغير. " ذات مرة، في مزرعة في فيكتورفيل ... "لا بأس، أنا بخير، أنا بخير. إليكم الكلمات الأولى لهيرمان مانكيفيتش، بطل على عكازين، تضاءلت خطواته بعد حادث مروري. وبات طريح الفراش، وتحيط به ممرضة وسكرتيرة تساعده بقدر ما يشرفون عليه وتوفير احتياجات من جانب جهة الانتاج، يجب على كاتب السيناريو أن يستجيب بسرعة "للتوقعات العظيمة" لأورسون ويلز، الذي طمأنه على الفور إلى حريته في عمله. "عند الوصول إلى النهاية، لا يسعنا إلا أن نلوم أنفسنا. هذا الإطار الزماني المكاني الأول هو خيط مشترك وذريعة مذهلة، بمعنى أنه يميز القصة بينما يقذف بالمشاهد في العديد من ذكريات الماضي التفسيرية. مانك هو كورالي، يعتمد على الجمع والتفاعلات البشرية المفصلية بدقة، ويتم نطقها في لقطات سريعة، وذلك بفضل القفزات الزمنية المتواصلة، الفلاشباك. ربما ينبغي أن نرى في هذا تقديس الرسام لنموذجه، لأن المواطن كين، الذي يصور تفصيله ديفيد فينشر، تميز على وجه التحديد بتعدد وجهات النظر وعدم خطية قصته. بالنسبة لصانعي الأفلام الهوليودية المعتادة، تعتبر هوليوود ملعبًا خصبًا بشكل خاص. من بيلي وايلدر إلى تيم بيرتون مروراً بكوينتين تارانتينو أو ديفيد كروننبرغ أو وودي ألين أو روبرت التمان، اكتشف الكثيرون طلائها وشقوقها. يلوح ديفيد فينشر دون تمييز بشخصيات الفن السابع وأماكنه ومؤامراته. في ما يزيد قليلاً عن ساعتين من الكثافة الرائعة، يجمع مانك معًا في علبة واحدة، تم تصويرها بشكل رائع من قبل إريك ميسرسشميت (Mindhunter)، لينقلنا إلى أجواء حياة وتفاصيل وتصرفات وسلوكيات شخصيات هوليود الأثيرة كالإخوين مانكيفيتش، أورسون ويلز، لويس بي.ماير، ماريون ديفيز، ديفيد أو.سلزنيك، جوزيف فون ستيرنبرغ، إيرفينغ ثالبرغ، جون هاوسمان، شيلي ميتكالف، بن هيشت، تشارلز ليدر أو ويليام راندولف هيرست.
جولة سينمائية يتم إجراؤها بوتيرة سريعة، في أغلب الأحيان على أساس مشي وحديث مبهر ومتفوق - وهو ما لم ينكره آرون سوركين. تلتقي شخصيات هوليوود هذه في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي أو تختلط أو تتفق أو تنفصل من وقت لآخر. إنه أورسون ويلز يقود هيرمان مانكيفيتش عن بعد. إنها ماريون ديفيز تضرب رموشها أمام الأخير، التي تظهر نفسها معه في تواطؤ فكري، قبل أن تجد حبيبها وراعيها "ويلي" هيرست. قام لويس ب. ماير مدير شركة ميترو غولدوين ماير بتخفيض راتب الأيدي الصغيرة في الاستوديو الخاص به إلى النصف خلال الأزمة الكبرى، ثم في حملة لتسهيل انتخاب فرانك ميريام لمنصب الحاكم. لأن مجتمع هوليوود في مانك يتبلور بمجموعة سياسية. ويبدأ كل شيء بسخرية من هيرمان مانكيفيتش: "أنت تقنع العالم كله أن كينغ كونغ يبلغ طوله 15 مترًا وأن ماري بيكفورد لا تزال عذراء في الأربعين من عمرها، وأنت تكافح لإقناع الناخبين الجائعين بأن الاشتراكي المنشق يعرض للخطر أعز سكان كاليفورنيا؟ ينبغي بذل القليل من الجهد ... "لذلك، يخصص ديفيد فينشر جزءًا كبيرًا من فيلمه للدعاية السمعية والبصرية التي أنشأتها صناعة السينما في خدمة الجمهوري فرانك ميريام. ينشر الكوميديون قصصًا مكتوبة لإقناع الناخبين بأن الديموقراطي أبتون سنكلير على وشك نهبهم وتحويل كاليفورنيا إلى مجتمع جماعي اشتراكي. لم تنتظر معاداة الشيوعية في هوليوود حتى يتم إدراج المكارثية في القائمة السوداء. إن صندوق MGM المناهض لسينكلير، والذي يرفض "مانك" المشاركة فيه، يكفي لإثبات ذلك.
هذه التواطؤات بين السياسة والسينما تقوم على آليات الغموض المشتركة بينهما. وهي تضيء هوليوود بقدر ما تضيء الأشعار المستديرة تمامًا التي نطق بها غاري أولدمان في المدار؟ "إذا واصلت إخبار الناس بشيء خاطئ لفترة كافية، فسيصدقون ذلك. "لويس ب. ماير؟ "إذا اضطررت إلى الصعود إلى الكرسي الكهربائي، فسأكون سعيدًا جدًا لأن يمسك يدي.» أخوه يوسف؟ "سيدة عجوز خائفة في زي. "وليام هيرست؟ تضاعف "فضولي براءة الاختراع" باعتباره دون كيشوت ميكافيلي كاذب. لا ينسى ديفيد فينشر تصوير الخوف من الاستوديوهات أمام الهياكل المحاسبية التي أضعفتها أزمة عام 1929. إنه يسخر من يونيفرسال وأفلام الرعب الرخيصة. إنه يكشف وراء كواليس عمليات إطلاق النار، واجتماعات العصف الذهني، ولكن أيضًا هذه المساحات الأكثر سرية، والتي تم استغلالها ببراعة، حيث يتم تخفيف اللغات وتأكيد الميول نفسها. قلعة هيرست، حيث يستضيف ويليام وماريون حفلات الاستقبال الفخمة، حيث تتم مقارنة أبتون إس بالنازيين بما في ذلك أدولف هتلر، حيث انحنى لويس ب. ماير لـ "ويلي" هيرست، امبراطور الصحافة آنذاك، والذي يتحدث عنه فيلم المواطن كين وحيث، على العكس من ذلك، نرى السيناريست "مانك" يؤهل قطب الصحافة "المقرف وعديم الأخلاق" والذي ستعمل له هوليوود هالة على أنها " السحر الأسود ". إنها مسألة تفاصيل وبالتالي، فإن فيلم مانك عبارة عن فسيفساء متنوعة من خلال موضوعاتها واستطراداتها، ولكنها مربكة في الحجم والتماسك من خلال التمثيل الذي تقدمه لعصر، ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، ومن داخل بيئة هوليوود. إنها أيضًا مسألة تفاصيل: منتجع يسمى اندفاع الذهب The Gold Rush، و "Mank" يضرب مباراة على ملصق انتخابي لفرانك مريامـ Frank Merriam، والملايين التي أنفقت على نصوص لن نطلقها أبدًا ( بينما يشكل الكتاب اتحادًا ونجد أنفسنا في خضم أزمة اقتصادية)، فيل جليدي يحمل صورة الحزب الكبير القديم الذي يذوب ليشير إلى مرور الوقت وتلاشي الأمل ( الرهان، ولكن قبل كل شيء لرؤية ابتون سانكلير Upton Sinclair يحمي من التعويذة)، مؤثرات ضوئية متواصلة (أضواء نيون، أضواء كاشفة، لمبات، مصابيح أمامية، أضواء الشوارع، شرائط من الضوء تمر عبر نافذة أو باب أو أغصان شجرة، آليات انتشار جهاز العرض ...).
مع إسقاط اسمه الفخم، وخطوطه الفلسفية - السينمائية وتكريمه المنتشر ولكن المدعوم للمواطن كين Citizen Kane (من التصميمات الداخلية الفخمة إلى كسر الزجاجة عبر السرد المتفجر)، ينشر مانك موجة من الإشارات المرجعية التي يمكن أن تترك متفرج غير مبتدئ على جانب الطريق. قدرة ديفيد فينشر هذه على فهم السينما بكل قوتها، ولكن بشكل خاص باستخدام الحوارات كوسيط رئيسي (ضمان الشبكة الاجتماعية)، تجعل من فيلمه الروائي، مهما كان اتساعًا مجنونًا، نوعًا من السينما عن طريق الطرح. وهكذا، بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى صراع مدمر، أو بعض التسلسل المذهل أو الاستنتاج النهائي، يجب على فيلم مانك أن يقدم فقط مادة وفيرة ومتشابكة وممتدة وبراقة (نحن نعرف كمالية مدير التصوير). ينفتح مانك على عدد كبير من القراءات ويتم تحريره بواسطة كيرك باكستر بطريقة تجعله يلتقط هوليوود في لقطة واسعة وشياروسكورو، بينما يشير، كهدف ثانٍ، إلى أخبار اليوم المزيفة. في الفيلم، يصف "مانك" عن قصد صعوبة سرد حياة كاملة في ساعتين من الفيلم. هذا خطابا ميتا آخر من جانب ديفيد فينشر، الذي تمكن من إعادة الحياة والتعايش مع عشرات الشخصيات التي تضيء بشكل أساسي على اتصال مع بعضها البعض. تشكل علاقات هيرمان مانكيفيتش مع الأبطال الآخرين في الواقع النقوش الرئيسية لفيلم مانك. يحافظ على علاقة ودية ومتناقضة وواضحة مع ماريون ديفيز. يغضب زوجته بقدر ما يسحرها. إنه يحتقر لويس بي ماير، "رئيس ميترو غولدين ماير، الذي يخمن بسهولة مناوراته المهتمة. قبل كل شيء، عقدة غوردية مقطوعة مباشرة من النص، ترسم ويليام هيرست، البطل الأمريكي المشكوك فيه، عندما يبدو أن الأخير يحظى بتقدير كبير. إنه فن ضد القوة، مؤلف ضد قطب الصحافة، جمل أدبية حقيقية ضد بيع صحفي متحيز. "لا تبخل أبدًا بالكلمات الطيبة"، عن طيب خاطر على الرغم من خيبة أملها العميقة، يبدو "مانك" متأثرًا بألم لا يوصف، ألم الشجعان الذين يعرفون - ويعرفون أنهم عاجزون. كانت تلك النظرة تصرخ بالرغم من ليلة انتخاب فرانك ميريام. إنها هذه المآسي التي تعيشها، أحيانًا بالوكالة، وتتقيأ فورًا في سيناريوهات السينما. إنه مشهد نصف ساحر ونصف مؤلم لعالم مصغر مكون من نفاق، ذرائع ومهرجانات. من البداية إلى النهاية، يتميز مانك الشخصية ومانك الفيلم بازدواجيتهما. تحية لكاتب سيناريو (أبعد من "السبب التاريخي") مصحوبة بالأسف لقوة حيرة السينما (الأخبار الكاذبة التي قادت الانتخابات في كاليفورنيا). رجل قادر على إنقاذ مائة شخص من النازية، لكنه ثمل لدرجة إشعال سيجارة في المدفأة. إذن ها هو، العمل الرائع لديفيد فينشر الذي سيكون بمثابة مجموع فيلم، وهو العمل الذي يتحدث (بالضرورة) عن السينما، والذي يخدش هوليوود في الثلاثينيات بطريقة ميتا والذي يشرح الأسطورة الكامنة وراء واحدة من أكثر الأفلام شهرة، المواطن كين من إخراج أورسون ويلز. كان فينشر، يعمل على سيناريو كتب من قبل والده الراحل، وقد نضج هذا المشروع على مر الزمن، والذي أتاحت شركة نتفليكس فرصة تنفيذه ممكنًة من خلال تقديم تفويض مطلق للمخرج، مثل ألفونسو كوارون ومارتن سكورسيزي قبله. لقد رأينا النتيجة: شيء منتفخ ومتكلف مع كوارون في فيلم(روما)، شيء لا نهاية له مع سكورسيزي في فيلم (الأيرلندي). فينشر لا يعمل بشكل أفضل. أو ربما أفضل قليلاً. ومع ذلك، كان العمل واعدًا بأن يكون جذابًا لأن فينشر، مبدع في مجموعة من المظاهر والصور المفقودة (اللعبة، نادي القتال، ميلينيوم، فتاة ذهب ...)، وعد بفضح زيف تلك الخاصة بمصنع الأحلام المثالي، والذي لا يجعل الكثير من الناس يحلمون اليوم. كمرشد / شاهد، وملصق لهذه المناسبة، هيرمان مانكيفيتش ولكتابة القصة الأسطورية لتشارلز فوستر كين وبرعمه الشهير، سيعود مانكيفيتش إلى ذكرياته. ذكريات ذلك الوقت عندما أصبح متشابكًا مع نقاد MGM وصادق ويليام راندولف هيرست، المؤثر وقطب الصحافة الذي من شأنه أن يلهم تصوير كين. الذكريات التي ستخبرنا أولاً عن كل القدرة المطلقة للاستوديوهات في تلك الحقبة، وهي قادرة على تفريخ بعض الخدع الانتخابية التي تكرر أخبارنا المزيفة الحالية، قبل الشروع والعمل حول المواطن كين الذي يفضله فينشر، في العديد من المناسبات، سيستمتع بالاقتباس من خلال الصوت وتكوين الإطارات واستخدام ذكريات الماضي. علاوة على ذلك، يظهر Welles أورسون ويلز قليلاً جدًا، وعلى نحو ضبابي تقريبًا ويصور من الأمام، نسمع بشكل أساسي صوته عبر الهاتف؛ الصورة المفقودة من الفيلم. يتركه مانك جانبًا، مفضلاً أن يتجول في متاهة من المكاتب وأماكن التصوير والاستقبالات حيث (نعيد) لعب العالم، في مسرح سينمائي أو من خلال التواطؤ السياسي. لكن فينشر تجاهل ما أكده لويس ب. ماير في بداية المشهد والذي، وللمفارقة، يلخص العيب الرئيسي في فيلمه: "ننفق مليونًا سنويًا على سيناريوهات لا نصورها. لماذا؟ لأنها لا تجعلني أبكي. ما الذي يجعلني أبكي؟ العاطفة ". الحق في الهدف. مانك هو كائن جميل مطلي باللونين الأسود والأبيض الحريري (يبدو أنه مأخوذ من مقاطع فوغ وأوه الأب، من إخراج فينشر يفتقر إلى كل شيء تقريبًا، السحر، التفرد، الجرأة و، ومن ثم العاطفة. أين ذهب فينشر، وهو قادر على تكبير الروايات الثابتة (ميلينيوم، فتاة ذهب)، أو Fight club نادي القتال) أو إعادة اختراع ملحمة الرعب (Alien 3) مثل تشويق هيتشكوك (اللعبة)؟ تيوقع المشاهد ما هو أكثرمن سابقاته، بالنظر إلى موهبته، أن يختنق هذا الفيلم بروعته ويهمل متعة المتفرج الضائعة في سلسلة من الأحاديث التي يشعر، في معظم الأحيان، بأنه مستبعد لجهله بها ولعدم سماعه بها سابقاً ربما كان ينبغي للفيلم أن يبدأ في سرد التصور العاصف لكلاسيكية مستقبلية بدلاً من تكرار العيوب والمغامرات والجبن في هوليوود الأنانية، وبعد ذلك لم يكن المخرج مخطئًا: لكنه يضيع أداء غاري أولدمان المذهل أيضًا في التقلبات والانعطافات لسيناريو كثيف للغاية ينتهي به الأمر إلى إفراغ الشخصيات من جوهرها. في الواقع، لم يعد مانك الشخصية الهوليودية المعتادة للشخص المنعزل أو الخارجي (مثل ريبلي أو زوكربيرغ أو فون أورتن أو ليزبث أو الراوي في نادي القتال)، ولكنه مجرد ترس بسيط في آلية صلبة كبيرة فينشر يريد أن يصرخ في وجه العالم للتعبير عن حبه للسينما، لكنه يصرخ فقط في الفراغ. عادةً ما يكون الفيلم التوضيحي متسماً بالبراعة، حيث تكون إعادة التمثيل والتنفيذ عبارة عن تجسيد متقن، مع نصيبه العادل من المراجع وإسقاط الأسماء (العديد منها يهرب مني، لا أعتقد أنني الوحيد). توضيحيًا لذلك، لأننا نشعر أن فينشر يركز بشدة على التقنية (كيفية تصوير ثلاثينيات القرن العشرين في عام 2020) وعلى التاريخ، وبالتالي لا تكاد تتاح له الفرصة لتطوير التفكير، ولكن بعيدًا عن كونه مزعجًا، ووسيم للغاية، في فيلم فينشر، الذي له تقلبات صعود وهبوط، إلا أنه يصمد جيدًا. علاوة على ذلك، يبدو لي أن فينشر صانع أفلام يدفع بالتمثيل بعيدًا ولكن لا يحتاج إلى تفكير (ربما تكون هذه هي النقطة الأكثر إثارة للاهتمام معه)، حيث فعل المواطن كين كلا الأمرين، لأنه في وقت ما يجب أن نتحدث عن هذا الأخير. بالطبع، غاري أولدمان يتنافس كثيرًا على جائزة الأوسكار، لكننا نتبعه ونكاته دون استياء. مثل الفيلم. (شوهد في عام 2020) لقد مرت أكثر من ست سنوات منذ فيلم Gone Girl ذهبت الفتاة، آخر فيلم روائي لديفيد فينشر. بعيدًا عن كونه غير نشط خلال هذه الفترة من خلال إنتاج وإخراج عدة حلقات من مسلسل صائد الأفكار Mindhunter مع Netflix، يدير المخرج قبل الأزمة الصحية التي سببها فيروس كوفيد -19 لإكمال تصوير فيلم Mank، وهو مشروع بدأ في بداية سنوات التسعينات من قبل والده جاك الذي كتب السيناريو. الخيط المشترك لمانك هو كتابة فيلم أورسون ويلز، المواطن كين، بواسطة هيرمان جيه مانكيفيتش. بعد وقوع حادث مروري، تم تثبيت مانكيفيتش Mankiewicz في مزرعة معزولة في كاليفورنيا، ومنعه من تناول الكحول وتتولى رعاينه كاتبة الطباعة، ريتا ألكسندر.
ركز العديد من ذكريات الماضي على مانكيفيتش وأبنائه تم إدخال السلبيات بذكاء، مما يدل على نشأة هذا السيناريو المذهل، الذي كان يحمل في البداية عنوانًا أمريكيًا، ويخدش في العملية صورة إبينال من العصر الذهبي لهوليوود. لأنه بالإضافة إلى هذه السيرة الذاتية المثيرة للاهتمام حول مانكيفيتش، يتساءل فينشر عن مكان الإبداع الفني خلال فترة العصر الذهبي لهوليوود. فضح هوليوود حيث يحكم المال والسلطة، حيث تخدم السينما السياسة وحيث يُعتبر حرفيوها، مثل مانكيوفيتش، فقط يعزفون على الأرغن، ويعشقون لبراعتهم ولكنهم لا يرون السلسلة التي تحملهم. وتتصل بأسيادهم. وهكذا يضع المخرج إصبعه على ما يؤلم حتى اليوم في معظم التخصصات الفنية، أي مكان للخلق والابداع والاعتراف به. من الناحية المالية، إذا أخذنا مثال الرسوم الهزلية في فرنسا، فإن الحرفيين الرئيسيين، أي المخرجين والمصورين وكتاب السيناريو، يضطرون إلى الاكتفاء بفتات كعكة ابتلعها ناشر وطابعة وموزع وبائع كتب. من وجهة نظر التعرف، يمكننا أن نأخذ مثالاً في العالم الموسيقي للملحنين مقارنة بفنانيهم. في Mank، يجسد غاري أولدمان Gary Oldman الدور الرئيسي، شخصية Mankiewicz. لا يزال غاري أولدمان لاذعًا في نظرته، لكنه غاضب من الأبخرة العنيدة للإدمان العميق للكحول، والفعل الصاخب، والنبرة الساخرة، والصدفة القاتلة، وقد تمكن من تحقيق التوازن الصحيح بين الصدمة المزعومة والتوعك المهووس والتدمير الذاتي لشخصيته. لكن لماذا اختار المخرج الممثل البريطاني الذي، في أوج عمره الحالي 62 عامًا، هو أكبر من العمر الحقيقي لشخصيته التي تتراوح بين عشرين وثلاثين عامًا؟ كما تسبب الجدل أيضًا، بارتكاب خطأً، لأنه بجانب هذه اللوحة، سرعان ما تتضخم المفارقة عند تتم مقارنة عمر مانك Gone Girl بعمر الممثلات المحيطة بغاري أولدمان. وُلد مانكيفيتش الحقيقي عام 1897، وكان بالفعل في عمر زوجته سارة (التي لعبت دورها توبينس ميدلتون، 33 عامًا) والممثلة ماريون ديفيز (التي لعبت دورها أماندا سيفريد، 35 عامًا). أبرز التصةير بالأبيض والأسود ذلك التناقض في بناء الخطط واتجاه الممثلين (بالتأكيد الدور الأكبر لأماندا سيفريد)، وكلها ترتكز بقوة على فترة أشرطة السليلويد الحساسة القابلة للاحتراق (فالشريط قد يحترق من أجل تغييرات بكرة في مرحلة ما بعد الإنتاج، وصوت أحادي، وأزياء الفترة، وما إلى ذلك)، تعطي عرضًا أنيقًا وغامرًا. مع فيلم مانك Mank، الذي هو في نفس سياق فيلم روما من إخراج ألفونسو كوارون، تؤكد Netflix الجهة المنتجة نتفليكس، إذا كانت لا تزال هناك حاجة للتأكيد، بأنها أكثر من مجرد عرض فيديوهات أفلام على منصة الطلب، بل هي لاعب رئيسي في مركز إنتاج الفن السابع. تعطي الفرصة لممثل يتجرأ، يخاطر، ويغير الرموز ويبتكر، وبالتالي يجبر عمالقة آخرين في القطاع على فعل الشيء نفسه. مانك هو تكريم جميل لهيرمان جيه مانكيفيتش، و لوالد ديفيد فينشر والكتّاب الآخرين، الرجال الذين يعيشون في ظلال السينما. فيلم مرآة يضع عالم السينما أمام تناقضاته وحيله. أول فيلم لديفيد فينشر منذ ست سنوات، تم بناء مانك بالكامل على مفارقة مفاجئة بشكل مفاجئ: جلب كائنات محكوم عليها بالظل إلى النور، ووضع صور لهذا الشيء الذي يعد تصويرًا سينمائيًا ضئيلًا جدًا لدرجة أننا نسميه "مايزال في طور الكتابة". كأنه، من أجل عودته الكبيرة إلى مقدمة المسرح، كان على المخرج أن يعود إلى الجوهر، إلى الأصل الأساسي للخلق، حيث يكون الإنسان عارياً في مواجهة شروره، حيث يكسب الفنان كرامته من خلال محاربة صفحته البيضاء بالكلمات. أو، بتعبير أدق، خموله الوجودي. هذه العلاقة بالكلمات هي أيضًا الرابط المميز الذي يحافظ عليه مع فيلم المواطن كين Citizen Kane الشهير، وهو فيلم يتم فيه إعلان الحرب من خلال عنوان صحفي، ويتم إحياء مُثُل الفرد على قطعة بسيطة من الورق، الكلمات الأخيرة لرجل يحتضر، القوة السحرية لتحطيم كل الأسرار. لذلك يمكن للكلمة أن تصبح المدافع الرئيسي عن الحقيقة، طالما أنها مستخدمة بأقل قدر من الأصالة. ليس من أجل لا شيء، إذن، إذا وضع ديفيد فينشر - تحت رعاية والده، وهو نفسه كاتب سيناريو غير معترف به - في قلب فيلمه عن «كاتب سيناريو": كاتب مجهول يحاول معالجة السيناريوهات المريضة أو الضعيفة، حرفي ظل يسعى لإصلاح ما كسرته نجوم اليوم على الفور.
وبالتالي، فإننا نفهم أن الجدل الشهير حول أبوة المواطن كين لديه هو موضوع خاطئ (تأثير ويلز على السيناريو واضح ولاينكره أحد، علاوة على ذلك، لم يتم التهرب منه بأي شكل من الأشكال)، يفضل فينشر حفر مؤامرة أكثر حميمية أو الاستبطان، مما يجعل العمل الكتابي المفروض على هيرمان جيه مانكيفيتش (معزول في وسط الصحراء، أمامه ستون يومًا لإنهاء النص) الرمز الخفي للولادة الجديدة أو الخلاص: اتخاذ مسار الكلمات هو السير نحو الأصيل، نحو استعادة احترام الذات لفترة طويلة جدًا من قبل عالم فاسد. انتعاش مانكيفيتش رغم شيء من المطهر: بجسد مكسور أيضًا بسبب حادث سيارة كما بسبب الكحول، وشخصية يتنمر عليها باستمرار نظام هوليوود الذي يستغلها ويحتقرها (يوصف، على سبيل المثال، بأنه "كاتب سيناريو بسيط" بواسطة Thalberg)ثالبيرغ، يمكنه فقط أن يأمل في الخلاص من خلال الحكمة التي تم اكتشافها أخيرًا. نهضة فكرية كشفها لنا فينشر من خلال النظر إلى جانب شيخه اللامع، وتناول تحديد قصة المواطن كين نفسه من أجل غمرنا في تعرجات عقل الخالق: القصة عبارة عن دائرة كبيرة، مثل لفافة القرفة الضخمة. ليس خطًا مستقيمًا للخروج ... ". من الواضح أن هذا المسار "نحو المخرج" الذي يقترح فينشر توضيحه، موضحًا بالشكل تعافي الرجل (مانك، طريح الفراش من المشهد الافتتاحي، ينهي القصة وهو واقف على قدميه)، الصعود الفني للفنان (هذا الاسم، الذي يتجاهله الجميع، ينتهي به الأمر ليتم تضمينه في عناوين الفيلم، علامة على الاعتراف الأبدي بدوره وأهميته). ومع ذلك، من خلال إعادة النظر في البناء في ذكريات الماضي لفيلم ويلز (حتى لو كان، هنا، يتطور فقط على مدى زمنين)، يمكن أن يقترح فينشر أن مانك ليس سوى "فيلم تكريم" أو، على أقل تقدير ما يعادل تلك التحفة الفنية التي هي المواطن كين. لحسن الحظ، ليس هذا هو الحال - وحتى إذا كانت هناك أوجه تشابه (جمالية السينما في ثلاثينيات القرن الماضي، ولحن الجاز، ونقص الفيلم، وما إلى ذلك) - فهو يتجنب الوقوع في مأزق بسيط عن طريق الامتناع عن التصويت. لنسخ الهوية الأورسون ويلزيه الرسمية (تنسيق 1.37، المكان الغالب لتكوين اللقطات في التركيز العميق لقطات عمق المجال..). هنا، على العكس من ذلك، تم توسيع الصقل الجمالي الذي سعى إليه فينشر في أفلامه السابقة بشكل جيد من خلال استخدام صورة رقمية. تم تخفيف المستحلب في الفيلم الخام في الثلاثينيات، مما سمح لمدير التصوير إريك ميسيرشميد Erik Messerschmidt - خاصة في مفرداته الجمالية التعبيرية - أن يكون حديثًا بحزم. علاوة على ذلك، حتى لو استخدم أطوالًا بؤرية قصيرة مثل شيخه اللامع، مما سمح بعمل حقيقي على عمق المجال، فإن فينشر حريص على عدم إعادة إنتاج الباروك الوليزي، مما يمنح القوة الخفية للغة الصورة المدوية. المشكلة، دعنا نواجه الأمر، هي أن فيلمه يبدو أحيانًا ثرثارًا جدًا، ويخاطر بفقدان المشاهد غير المستجيب من خلال اللوغاريث العديدة. ومع ذلك، فمن خلال حديثه يكشف الرجل عن نفسه، منتقلًا من مهرج يصرف انتباه الأقوياء إلى قاهر الحقيقة، ويسلط الضوء على حيل هوليوود وادعاءاتها، بينما يستنكر التجاوزات.
السلطة (الأخبار الكاذبة، هيمنة المال والثروة، تأثير الإعلام على الرأي العام ...). حقيقة تذكرنا بواقع أكثر حداثة، فينشر ينسج (أحيانًا أيضًا) روابط واضحة بين الوضع في الثلاثينيات وأمريكا ترامب. من خلال لغة سينمائية تعمل على التورية، مع ذلك، تثبت أنها مصدر حقيقي للسعادة في استحضارها الساخر لخلفية هوليوود. سوف نقدر، على وجه الخصوص، هذا التناقض الحكيم بين الخطاب "الميكانيكي" لصانعي القرار (مونولوج لويس ب. والشفقة والقيء الذي يقذفه مانك من معدته في مأدبة العشاء). النجاح، بالطبع، الذي يدين بالكثير لأداء مختلف الفنانين، أماندا سيفريد وغاري أولدمان في الصدارة. ولكن قبل كل شيء، من خلال إلقاء هذا الخطاب، ينقلنا فينشر إلى النور، أو يسمح لنا بسماع هذه "الأوبرا" التي يحلم مانك بتأليفها. من خلال إعطاء صوت لأولئك الذين لا يمتلكونه عادةً (الإضافات، التقنيين، عمال الظل، إلخ)، يعطي فيلمه ديناميكية تقوم عليها فكرة العرض: من خلال سماع خطاب المرشح الديمقراطي، هذا الآخر الذي يشبهه ولكنه يعمل، يدرك مانك أنه يمكن أن يكون شيئًا آخر غير فنان عام؛ من خلال إقامة علاقة حقيقية مع ماريون، يخرج مانك من سباته ويؤكد نفسه تمامًا. ولادة جديدة يستحضرها فينشر بمهارة من خلال إضفاء الطابع الشعري على أوبرا متناغمة دقيقة، ويمكن ملاحظتها على وجه الخصوص عندما يهرب الشريكان من منزل ويليام هيرست ليجدوا الهدوء اللطيف في البيئة الطبيعية؛ أو، بعد ذلك، عندما يستقرون في وسط هذه الطبيعة نفسها، أثناء نزهة في أي نقطة ضوء. ثم يعرض فينشر على شخصيته باب الخروج الذي كان يأمل فيه، وهو الباب الذي يسمح له بالدخول الكامل إلى دورة الحياة. بينما ويلز، على الرغم من هذه الهالة المضيئة المصاحبة، لا يزال محبوسًا في هوسه ("تلقى نصف اعتراف ونصف تكريم"، ولكن، دون الحصول على مرتبة الشرف من الشاشة أي حصوله هو على الأوسكار)، يصبح مانك فردًا ومؤلفًا كاملاً، من خلال الجرأة على أن يكون على طبيعته، من خلال الجرأة على سرد هذه القصة التي يعرفها جيدًا والتي هي قصة حياته.
د. جواد بشارة
ماذا في جعبة علاء اللامي حول فاجعة الفرهود ضد اليهود في العراق؟ (3)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم حبيب
من المسؤول عن التهجير الشامل والقسري ليهود العراق
في هذه الحلقة سأتطرق إلى عدد من النقاط التي وردت في المقال لعلاء اللامي الذي نشر في عدد من المجلات والصحف والمواقع العراقية والعربية التي حاول فيها الإساءة لي ولكتاباتي حول يهود العراق والانقلاب العسكري وغيرها في عام 1941 في العراق.
استطاعت المنظمة الصهيونية الدولية أن تحقق في عام 1947 ذلك الوعد الذي أعطته الدولة البريطانية الاستعمارية في عام 1917 بإقامة الدولة العبرية على الأرض الفلسطينية والذي أطلق عليه بـ "وعد بلفور 1917"، في وقت لم تكن الحرب قد انتهت ولم تكن أسلاب الدولة العثمانية، مستعمراتها في منطقة الشرق الأوسط، قد أصبحت جزءاً من مستعمرات بريطانيا وفرنسا في منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها دولاً منتصرة في الحرب على وفق اتفاقية سايكس-بيكو السرية التي وقعت في عام 1916 بين وزيري خارجية بريطانية وفرنسيا لتوزيع أسلاب الدولة العثمانية بعد الانتصار عليها. ففي تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1947 صدر قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 بتقسيم فلسطين وإقامة دولتين عربية ويهودية عليها. ومنذ بدء النقاش حول هذه القضية في مجلس الأمن الدولي، بدأ نشاط القوى القومية العربية وقوى الإسلام السياسي (جماعة الإخوان المسلمين) في كل الدول العربية حملة شديدة ضد يهود بلدانها معتبرين أن يهود العالم كافة قوميون يمينيون مترفون، أي صهاينة، ومنهم يهود الدول العربية، وبالتالي فهم مسؤولون عن هذه النتيجة، لاسيما وأن الدول العربية قد رفضت قرار التقسيم وبدأت تستعد للحرب ضد اليهود في فلسطين التي وقعت فعلاً في عام 1948، وكانت مهزلة المهازل. إذ التاريخ، لمن لم يعش تلك الفترة سجل عواقب تلك الحرب والملابسات والمناورات والمؤامرات التي تخللتها ودور العديد من ملوك الدول العربية في حينها في تلك العواقب الوخيمة لحرب غير متكافئة تنتهي لصالح إسرائيل، للخيانات التي حصلت فيها، بما فيها الأسلحة الفاسدة في مصر أو عدم السماح بتحرك القوات العراقية، إضافة إلى مواقف الملك عبد الله ملك الأردن والجنرال غلوب منها والجامعة العربية.
وفي العراق اشتدت حملات الكراهية والعداء ضد اليهود. وحمل حزب الاستقلال، وهو حزب قومي يميني عربي تأسس عام 1946 برئاسة الثلاثي المعروف محمد مهدي كبة وفائق السامرائي ومحمد صديق شنشل، الأعضاء السابقين في نادي المثنى، وجماعة الإخوان المسلمين برئاسة محمد محمود الصواف، حملة العداء الشرس ضد يهود العراق وضد من يدافع عنهم، حتى أنهم بدأوا بمهاجمة الشيوعيين وأطلقوا عليهم جزافاً وإساءة متعمدة "أخوان اليهود وأعداء الإسلام". ورغم نضال الحزب الشيوعي الصعب لإبعاد اليهود عن الاصطفاف إلى جانب الحركة الصهيونية من جهة، والدفاع عنهم كمواطنين عراقيين يمنحهم الدستور العراقي لعام 1925 الحماية وحقوق المواطنة الكاملة من جهة أخرى، فأن جهتين استطاعتا تأزيم وضع اليهود في العراق ورفع مستوى خشيتهم بما يمكن أن يتعرضوا له من عواقب القتل والتشريد والنهب والسلب كما حصل في فاجعة الفرهود التي عادت مجدداً حية طرية إلى ذاكرتهم، وهما: قوى المنظمة الصهيونية العالمية العاملة في العراق المرتبطة بالقوى الصهيونية في فلسطين وبإسرائيل مباشرة بعد تأسيسها، والقوى القومية العربية وقوى الإسلامية السياسية العراقية من جهة أخرى. لقد أصبح اليهودي عاجزين عن العمل في دوائر الدولة، أو حتى في القطاع الخاص، كما تفاقمت صعوبة الحصول على مقعد دراسي في الكليات العراقية، ولم تعد الحكومة تعاقب من ينشر الكراهية ضد اليهود في الصحف والمجلات والكتب والدعاية اليومية ضدهم، كما لم تعد تلاحق المخربين العرب الذين كان يتجاوزون يومياً على اليهود...إلخ، مما دفع بمجموعات من العائلات اليهودية أو الأفراد التحري عن فرصة للنزوح إلى خارج العراق عبر إيران على نحو خاص أو الحصول على جوازات سفر رسمية. وفي الوقت الذي فسحت الدولة في المجال للقوى العربية المعادية لليهود في العراق بالحركة الدائبة ومواصلة عدائها واعتداءاتها ضد اليهود، لم توقف عمل القوى المناهضة للصهيونية والمتمثلة بعصبة مكافحة الصهيونية رسمياً فحسب، بل واعتقلت وقدمت للمحاكمة قادة عصبة مكالحة الصهيونية من اليهود العراقيين، وكانوا أعضاء أو أصدقاء للحزب الشيوعي العراقي. وكانت المحاكمة التي جرت لهم مخزية ومضحكة في آن واحد، إذ ادعى حاكم جزاء الكرخ في حينها بأن مكافحة الصهيونية تعني دعم الصهيونية، وقد جاء في قرار الحكم ما يلي:
"أن تعبير مكافحة الصهيونية ليس معناه ضد الصهيونية، لأنه كلمة كافح مكافحة وكفاحا، فكلمة مكافحة الصهيونية معناه كفاح الصهيونية، ولو أريد أن هذه العصبة تكافح ضد الصهيونية لقيل (عصبة المكافحة ضد الصهيونية) غير إن هذا العنوان مما يدل دلالة واضحة أن العصبة (هي عصبة مكافحة الصهيونية) بطريقة إحداث شعور الكراهية بين سكان العراق، وإحداث الشغب بين الناس وإحداث القلاقل الداخلية، لكي تشغل الحكومة فيها وتؤثر على ما تقوم به الحكومة نحو عرب فلسطين، فتكون عصبة مكافحة الصهيونية قد قامت بقسط من كفاحها عن الصهيونية، وذلك عن طريق التمويه وخداع السذج والبسطاء من الناس والمسلمين بأنهم يعملون ضد الصهيونية، حيث أن المحكمة لم تجد شيئاً من هذا المنشور، مما يقال أنه ضد الصهيونية بل جل ما جاء فيه أن عصبتهم قاطعت لجنة التحقيق الانكلو – أميركية وطلبت عرض قضية فلسطين على مجلس الأمن.".
أما نوري السعيد، رئيس الوزراء المخضرم في العراق الملكي، فقد كانت له مواقف متباينة إزاء الصهيونية وعصبة مكافحة الصهيونية. فقد جاء في كتاب الدكتور عبد اللطيف الراوي ما يلي:
" أما نوري السعيد، الشخصية السياسية المخضرمة ورئيس النخبة الحاكمة في عراق العهد الملكي، فقد صرح بأن الصهيونية "حركة روحانية ليس لها أي مساس أو نصيب من السياسة" . وفيما بعد اتخذ نوري السعيد موقفاً آخر من الناحية الشكلية، حينما أعلن بتصريح له لعصبة مكافحة الصهيونية بقوله: "إني أرى من واجبكم أن تتصلوا بالجمعيات المماثلة لأهدافكم في أمريكا وبريطانيا وبباقي اليهود في العالم لتوحيد الجهود ولكشف النقاب عن أضرار الصهيونية التي تزعم أنها تمثل اليهود في العالم، إن الحركة الصهيونية حركة سياسية وأن كانت تستغل الدين ولذلك فأن مقاومة الصهيونية لا يعني بأي حال من الأحوال أنه عداء للدين، لأن السياسة شيء والدين شيء آخر…"، مع إنه في الواقع العملي تصرف على وجه آخر. وبعد هذا الموقف اتخذ نوري السعيد موقفاً معادياً للعصبة لبروز تأثيرها الإيجابي على يهود العراق وشجبهم للصهيونية في الاجتماعات الواسعة التي كانت تنظمها العصبة في بغداد على نحو خاص. حتى أن العصبة وجهت رسالة استنجاد إلى جوزيف ستالين لكي يرفض الاتحاد السوفييتي القبول بتقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية على الأرض الفلسطينية.
من المسؤول عن قانون إسقاط الجنسية عن يهود العراق وتهجيرهم الشامل تقريباً
في الثالث من آذار/مارت 1950 تجلى موقف الحكومة العراقية بوضوح كبير حين أصدر مجلسا النواب والأعيان قانون إسقاط الجنسية العراقية عن المواطنات والمواطنين اليهود في ثلاث حالات، وهي:
قانون رقم (1) لسنة 1950
قانون ذيل مرسوم إسقاط الجنسية رقم (62) لسنة 1933
بموافقة مجلس الأعيان والنواب أمرنا بوضع القانون الآتي:
المادة الأولى:
لمجلس الوزراء أن يقرر إسقاط الجنسية العراقية عن اليهودي العراقي الذي يرغب باختيار منه ترك العراق نهائياً بعد توقيعه على استمارة خاصة أمام الموظف الذي يعينه وزير الداخلية.
المادة الثانية:
اليهودي العراقي الذي يغادر العراق أو يحاول أن مغادرته بصورة غير مشروعة تسقط عنه الجنسية العراقية بقرار من مجلس الوزراء.
المادة الثالثة:
اليهودي العراقي الذي سبق أن غادر العراق بصورة غير مشروعة يعتبر كأنه ترك العراق نهائياً إذا لم يعد إليه خلال مهلة شهرين من نفذ القانون وتسقط عنه الجنسية العراقية من تاريخ نهاء هذه المهلة."
ورغم الاعتراضات التي وجهت إلى هذا القانون الذي قدمته حكومة توفيق السويدي من جانب الكثير من النواب، ومنهم مزاحم الباچچي، فأن وزارة الداخلية التي كان على رأسها صالح جبر أصرت على إصدار هذا القانون، وصدر فعلاً بموافقة مجلسي النواب والأعيان.
وتشير المعطيات التي تحت تصرفي والتي وردت في كتابي عن يهود العراق والتي تؤكدها كل سياسات ومواقف أربع جهات محلية وإقليمية ودولية رسمية كانت وراء صدور هذا القانون، إضافة إلى مواقف قوى وأحزاب سياسية، وهي:
** الحكومة البريطانية وسفارتها في العراق التي كانت تمارس دور الضاغط والفاعل على الحكومة العراقية؛
** الحكومة العراقية التي كانت سياستها الفعلية ممالأة للحركة الصهيونية العالمية رغم التصريحات الرنانة ضد الصهيونية، كما لعب الفساد المالي الذي تميز بها توفيق السويدي ومن معه دوراً بارزاً في هذا الصدد.
** الحكومة الإسرائيلية وجهازها الأمني الموساد والمنظمات الصهيونية التي شاركت بقوة في هذا الصدد، لاسيما في الدعاية بين مواطني ومواطنات العراق من اليهود.
** الحكومة الأمريكية التي ساهمت بدورها في الضغط على الحكومة العراقية وتوفير مستلزمات نقل الراغبين أو المهجرين قسراً بسبب الظروف الجديدة التي نشأت لليهود في العراق.
ولا شلك في وجود تنسيق واضح بين بعض الحكومات العربية الأعضاء في الجامعة العربية التي لم تكن مخلصة لقضية الشعب الفلسطيني وكانت تعمل بتوجيهات فعلية من الدول الاستعمارية في الموقف إزاء القضية الفلسطينية. لقد كانت مؤامرة مدروسة ومنظمة بإحكام لتحقيق هدف ترحيل اليهود من العراق. كما يمكن القول بأن الأحزاب القومية وجماعة الإخوان المسلمين لعبت دوراً واعياً وهادفاً، سواء في الدعاية والاعتداء أم في تأييد قانون إسقاط الجنسية في العراق، الذي قدم مساعدة كبيرة لإسرائيل في الحصول على أكثر من 120 ألف يهودي ويهودية، نسبة مهمة منهم من المثقفين والفنيين والمتعلمين، نزحوا من العراق وحده إلى إسرائيل خلال فترة قصيرة بين 1950-1952. كما جاء في كتابي المذكور ما يلي: "إن النشاط المشترك لثلاثة أطراف هي الحركة الصهيونية العالمية والحكومة البريطانية وبالتنسيق مع الحكومة العراقية والبلاط الملكي وبتأييد واسع من الولايات المتحدة الأمريكية" قد أديا إلى حصول تلك الهجرة وذلك النزوح الشامل تقريباً إلى إسرائيل خلال فترة وجيزة.
ما دور النظام البعثي في هجرة ما تبقى من يهود العراق إلى إسرائيل
يبدو إن علاء اللامي مولع جداً باتهام الكرد والأحزاب الكردية في المساعدة في تهجير من تبقى من يهود العراق إلى إسرائيل، وهو منطلق قومي، ينسى فيه كلية الدور الأساسي والرئيسي لحزب وحكم البعث، وكذلك القوى القومية اليمينية المتطرفة ابتداءً من عام 1963 وما بعده في نهجهما الأيديولوجي العنصري وسياسات التمييز المناهضة لليهود، وعلى رأس هذه القوى عبد السلام محمد عارف، وليس كل القوى القومية العربية تتميز بالعنصرية والشوفينية، في حكمهم المشترك الأول عام 1963، ومن ثم في حكم القوميين بين 1963 -1968، وبعد ذلك حكم البعثيين ابتداءً من عام 1968. ونسى اللامي الملاحقات والاعتقالات والسجن وذبح عائلة بكامل أفرادها في بيتها، عدا بنتاً واحدة كانت خارج البيت حين نفذت المجزرة بالعائلة، لبث الرعب في نفوس اليهود، ثم إصدار أحكام الإعدام التي نظمها حكم البعثي في عام 1969 بتهمة التجسس لإسرائيل ليهود وعرض الجثث في ساحة التحرير، ومن ثم إعدام مجموعة أخرى فيما بعد بينهم بعض المسلمين العرب والكرد ونشوء هستيريا معادية لمن تبقى من يهود العراق اججها نظام البعث، وهي مجموعة صغيرة جداً، مما دفع بهم بالتحري عن واسطة للهروب من العراق.
لا أثق بالمعلومات التي تنشرها إسرائيل أو جهاز الموساد، فهم غالباً ما يمنحونه قدرات خارقة ونشر الأساطير عن أفعال هذا الجهاز في الخارج. ولكن ليس كل ما ينشرونه من هذا النوع كاذب، فبعضه يتضمن حقائق، منها ما أشير إليه من أفعال المنظمات الصهيونية الموجهة من الموساد في العراق.
حسب المعلومات المنشورة يبدو أن أول صلة بين إسرائيل والكرد بدأت في عام 1964 من خلال الشخصية الكردية السورية الدكتور عصمت شريف (1924-2011م)، الذي كان يعيش في لوزان في سويسرا. وفي حينها يشار إلى أنه قد طرح المسألة على الملا مصطفى البارزاني الذي وافق على تلك العلاقات. ووفق المعلومات المتوفرة يشار إلى أن جهاز الباراستن قد أخذ جزءاً من هذه المهمة، أي المساعدة في تهريب بعض اليهود الراغبين في الهروب من العراق، على وفق تصريح عزيز عقراوي لأحد الأصدقاء الكرد في الثمانينات من القرن العشرين وكانا معاً في الرضائية في إيران، وأن الشخص المكلف بتلك المهمة كان نوري طه، العضو السابق في اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكردستاني وعضو في الباراستن. وبغض النظر عن مدى صواب أو خطأ هذه المعلومات فأن مشكلة تهريب اليهود من العراق قد شارك فيها نظام وجهاز الأمن البعثي نفسه من خلال وسيلتين: الإرهاب المشدد الذي توجه ضد اليهود بحيث دفع بهم إلى التحري عن أي وسيلة للخلاص من عواقب الاعتقال والتعذيب والابتزاز والسجن من جهة، والثاني وجود مهربين دوماً سواء، أكانوا في الحزب الكردي أم خارجه, وسواء أكانوا عرباً أم كرداً، فهناك من كان ينقل هؤلاء اليهود إلى إيران ومنها إلى إسرائيل، إذ كانت العلاقات بين إيران الشاه وإسرائيل واسعة حينذاك، لقاء المال أيضاً، وربما لقاء أسلحة في مواجهة الحرب التي شنها نظام الحكم القومي بقيادة عبد السلام عارف عام 1964/1065 ضد الكرد أو غير ذلك. ولا بد لي أن أشير إلى أن إنقاذ أي مواطن، سواء أكان يهودي الدين أم مسيحي أم مسلم، بتهريبه من العراق بسبب مخاطر الوقوع بأي النظام البعثي الفاشي مسألة صحيحة. وأعرف أن الحزب الديمقراطي الكردستاني قد ساهم في حماية أرواح كثير من الديمقراطيين والشيوعيين في فترات مختلفة من حكم القوى البعثية والقومية الشوفينية في العراق. وهم مشكورون على ذلك.
ومع إن معلوماتي عن هذا الموضوع شحيحة، ولهذا لا استبعد صواب ما نقلته الكتب الصادرة في إسرائيل عن مشاركة الكرد في تسهيل مهمة نقل اليهود إلى خارج العراق، رغم أخذي الموضوع بحذر أيضاً. لو كانت لدي هذه المعلومات في حينها لما استبعدتها باي حال. كما أن الكرد لا ينفون علاقاتهم مع إسرائيل غبير الرسمية، رغم أني أرفضها، وأرفض علاقات الدول العربية الرسمية وغير الرسمية بإسرائيل ما دامت تحتل الأراضي العربية في الضفة الغربية وتمنع إقامة الدولة الوطنية الفلسطينية على أرض فلسطين وتصادر بقرار غير شرعي القدس وتقيم المستوطنات غير الشرعية في الأراضي الفلسطينية وتحتل الجولان ومزارع شبعا. إلا أني لا أرفض وجود دولة إسرائيل التي اعترفت بها منظمة التحرير الفلسطينية وغير مستعد للمتاجرة والمزايدة على منظمة التحرير الفلسطينية كما يفعل علاء اللامي وغيره. إن المتاجرة والمزايدة على منظمة التحرير الفلسطينية والشعب الفلسطيني وعلى قضيته المركزية العادلة والمشروعة وطرح سياسات وشعارات ومواقف لا تنسجم مع ما يسعى إليه الشعب الفلسطيني، كما تفعل القوى القومية العربية المتطرفة وجماعة الإخوان المسلمين وحكام إيران بشكل خاص، ودورها في شق وحدة الصف الوطني الفلسطيني من جهة، والممارسات العدوانية والتوسعية والاستعمارية لإسرائيل على أراضي الضفة الغربية والقدس العربية وأراضي الدول العربي (شبعا/ لبنان والجولان/سوريا) من جهة ثانية، ومواقف الدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة وضعف الجامعة العربية ومساوماتها المؤذية والمذلة من جهة ثالثة، كلها أوصلت الشعب الفلسطيني الى الوضع المأساوي الراهن.
وأخيراً لو كان علاء اللامي قد كتب مقاله الأول بحسن نية دون أن يوجه اتهاماً صارخاً ومباشراً لي، بتملقي للكيان الصهيوني والإعلاميين والسياسيين اليهود، ولو كان قد طرح أسئلة بهدوء وموضوعية، لما أجبرني على التصدي له بالطريقة التي مارسها إزائي، لأن الحوار الإنساني له شروط ومواصفات، وفي مقاله لم يظهر ذلك على الإطلاق، ولهذا رفضت بقوة تلك الادعاءات والاتهامات التي تريد الإساءة المباشرة ودون وجه حق وفيها كثير من الأحكام المسبقة.
هذه هي الحلقة الأخيرة في الرد على ادعاءات واتهامات علاء اللامي، وأملي أن يحتكم للعقل والمنطق ويعيد النظر بما كتبه ولأي سبب كان.
د. كاظم حبيب
.......................
الهوامش والمصادر
وعد بلفور 1917، إنه الإعلان الموقع من جيمس أرثر بلفور، وزير خارجية بريطانيا، الذي أعطى بموجبه للمنظمة الصهيونية العالمية فأثناء الحرب العالمية الأولى بإقامة "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين، علماً بأن فلسطين لم تكن خاضعة للاستعمار البريطاني، بل كانت تحت الهيمنة الاستعمارية العثمانية.
2 أنظر: نص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 181 في تشرين الثاني/نوفمبر 1947، موقع الجزيرة في 28/11/2016.
3 الراوي، عبد اللطيف. عصبة مكافحة الصهيونية بالعراق...، مصدر سابق، وفيه يمكن الاطلاع على المواقف التي اتخذتها الحكومة العراقية والقضاء العراقي إزاء عصبة مكافحة الصهيونية وكيف فسر الحاكم اسم العصبة.
4 راجع: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية في العراق 45-1946. مصدر سابق. ص 176.
5 أنظر: الراوي، عبد اللطيف د. عصبة مكافحة الصهيونية. مصدر سابق. وثائق. ص 112.
6 المصدر اسابق نفسه.
- Shiblak،Abbas. The Lure of Zion،the Case of the Iraqi Jews. Al Saqi Books.London. pp 78-86.
7 - أنظر أيضاً: د. كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، مصدر سابق، ص 300.
8 أنظر: كاظم حبيب وزهدي الداوودي، فهد والحركة الوطنية في العراق، دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2003، ص 342.
9 كورية، يعقوب يوسف. يهود العراق تاريخهم، أحوالهم، هجرتهم. الأهلية للنشر والتوزيع. الأردن. 1988. ص 175/176. نص القانون رقم (1) لسنة 1950. قانون ذيل مرسوم إسقاط الجنسية رقم (62) لسنة 1933.
10 الباچچي، عدنان. مزاحم الباچچي سيرة سياسية. منشورات مركز الوثائق والدراسات التاريخية. لندن. 1989.
11 Shiblak،Abbas. The Lure of Zion. The…, مصدر سابق
12 د. كاظم حبيب، يهود العراق والمواطنة المنتزعة، مدر سابق، ص 153.
13 المصدر السابق،
قراءة في مجموعة (معنىً على التلّ) للشاعر صقر عليشي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: حيدر عبد الرضا
إحالات المعنى بين دلالة المضمر ونظائر فاعلية النص
توطئة: إن التعامل مع طابعية النظائر الممكنة في مختزل تصورات وموجهات بنى ومعنى النصوص المستفادة من أتون تحققات محاور المعنى المخصوص من الفكرة الشعرية المتداولة من إحالة العلاقة القصدية والإيحائية وأهميتهما في أبعاد الخطاب الشعري . وقد تمنحنا هذه النصوص من جهة ما روح التأويل لما نتعرف عليه من سياقاتها الخاصة والمضافة، والتي تنتمي بدورها إلي مؤشرات حادثية ما، تستوفى من خلالها مقدماتها التعليلية والتركيزية الكامنة في منحى طبيعة تلك المحمولات المضمرة من الدلالات المتحاورة مع نظائرها الممكنة في خطاب النص الشعري . من هنا يمكننا افتراض وجوه الملاءمة في نصوص مجموعة (معنىً على التلّ) للشاعر السوري الكبير صقر عليشي، كما يمكننا من خلالها فهم مخصوصية الراوابط والرابط العلائقي الممتد من أذونية قبولية الدال كوظيفة مناسبة لإستقبال إحالات المعنى الموظف في مضمرات مترابطة من القصد في العلاقة النصية المتفاعلة . نقرأ بهذا الصدد قصيدة (المفاتيح) نموذجا تطبيقيا نسعى من خلاله إلى توضيح أهم فقرات مباحثنا الدارسة للقيمة الإحالية والمحالة في مضمر الدلالة الشعرية:
لينظرْ لها
من له نظرٌ
أوْ ليمسكْ
بها إن أرادَ.
ليقرأْ عليها العلامةَ
واضحةً
ليس في الأمر غشٌّ
ولا سحرُ، . / ص9 قصيدة: المفاتيح
أن فعل القراءة إلى مقاطع النص الأولى، لربما تلهمنا حرية التعامل مع نظير الإنابة الشيفراتية، ومهام هذه الإنابة في تدشين جملة خاصة من الإحالة والإشارة والتورية في مرئية وظيفة الدلالة . ولكننا عندما نتنبه إلى ثريا عنونة (المفاتيح) تساورنا برقيات وأبجديات الترميز الاختزال مؤديات خاصية محددات: (المفاتيح ـ العلاقة التأويلية / ينظر لها من له نظر ـ علاقة جهة ـ مرحلة فاعل الحالة / أو ليمسك، بها إن أراد ـ كفاءة الأداة / ليقرأ عليها علامة واضحة ـ الترابط بمواجهة الفعل التأويلي / ليس في الأمر غش ولا سحر ـ العلاقة المفترضة ـ مصداقية موضوعة الظاهر من التعامل الملفوظي) وتباعا توافينا جملة متواليات المقاطع اللاحقة، بما يجعل فهم أبعاد الربط ببث دليل (المفاتيح) فيما تكمن إرجاعية العلاقة الآنوية إزاء محصلات الرابط الدلالي المضمر ذاته بوظيفة أسرار اللحظة القولية:
ها هي كل المفاتيحِ
في قبضتي
ولا ثمَّ بابْ
ما عملي بالمفاتيح
ما نفعها !
ما دلالتها في الحسابْ؟!
لأرمِ بها قاعَ نفسي ...
لأرمِ بها
و لْترنَّ عميقاً هناكَ
فأنصتُ مستمتعاً بالرنينْ . / ص10
و يبدو أن لسياق جملة القصيدة، ذلك الوخز المحتمل، وذلك الوصل العدمي مع علاقة وصال وجود مفاتيح الأشياء، ولكن ما قيمتها ؟ دون وجود الوسائل المتاحة في الوصول إلى روح الأشياء ذاتها . الشاعر عليشي يقدم لنا استراتيجية دليل وأداة (المفاتيح) من جهات ذات خصوصية سرانية وخاصة في رابط القصد الشعري، لذا نجد حوادث الملفوظ والتلفظ، هي بمثابة الإضافة الراجحة في كفة اللاإضافة في محصلات المعنى النصي: (ما نفعها ! .. ما دلالتها في الحساب ؟! .. لأرم بها قاع نفسي) وتتجمل قيم المحذوف في صرخة البياض الشعرية، حتى ليتسنى لشاعرها نشوية الانتعاش في سقوطها اللازمني في من الفراغ وفي قاع الكيان من الأنا الخاصة والإشارة من قاع الخصوصية العامة وبمواجهة دلالات المضمر (فأنصت مستمتعا بالرنين):
لا باب للحلمِ
لا بابَ لليلِ
لا بابَ للغيبِ
لا بابَ للناسِ
لا بابَ للبابِ
ما عملي بالمفاتيح يا عالمين ؟! . / ص11
لاشك أن حركة الوقوف الأحوالية في زمن لغة الشاعر، ما راح يضفي بعلاقات دوال الرؤية نحو حجب دائئبة من عدمية الوجود أو اللاجدوى من الوجود عبر منطقة المرور الحلمي إلى ضفة العلامات الحيوية، التي يمكن وصفها بمكونات طاقة تشكيل الكينونة الآنوية للشاعر (لا بابا للحلم .. لا باب لليل .. لا باب للغيب .. لا باب للناس) وتتكامل درامية وفاعلية (كينونة العدم) في مساحة وعلامة أنتاج ملحمة النمذجة التشكيلية في النص، وحتى حلول معطى جملة (ما علمي بالمفاتيح؟!) المذيلة بمتواليات الاستفهام ونمو علامة التعجب . ومن هناك تقول لاحقا مواضع الجمل القولية في حدود تمظهرات السؤال والمساءلة العدمية المحفوفة بروح تنضيد حركية اللاجدوى الكامنة من وراء ذاكرة العتبة العنوانية الأولى من النص:
أيكفي ‘ذاً
أن أعلقها فتخشُّ على جانبي،
حين أمشي
و أزهو بها
و كأني أميرٌ على العابرين ؟ . / ص11
إن قيمة المفارقة الفنية في دلالة المضمر من وظيفة الدوال، تنعطف بنا نحو تشكيل حالة من حالات الأسى المكرس بحجم علامة تقارب الأفعال المتمثلة في إشكالية ومأزق النياشين والأوسمة الكاذبة، والتي لا ضرورة من وجودها في زمن اللاحرب أو اللا أبواب في قصيدة الشاعر وهي قد لا تستجيب في شكلها المعهود، لأنها قد فقدت مشروطية اقترانها بجوهرها الحقيقي، بعيدا عن أبواب ومفاتيح الشاعر الحلمية المراد من خلالها ذلك القصد الكامل في سرانية المعنى .
ـ المعادل النصي ولعبة الانموذج الدال .
لقد تجاوز الشاعر في بعض من نماذج قصائد مجموعته موضع بحثنا، ثنائية (اللفظ ـ المعنى) وأصبحت القصيدة لديه تقدم في ذاتها شكلا ما من بلاغة (الميتاشعري) فالقصيدة لدى مجموعة الشاعر، بلغت من الاتصال في الميتاشعري حدا ما يؤهلها إلى أن تكون (معنى داخل المعنى) فيما تبقى معاينة العلاقات المتبادلة ما بين فئات الدوال، إسهابا في أعلى ناصية الاداء الإيحائي المؤثر . من هنا تواجهنا طبقات المضمر من دلالة القصد النصي، عندما نقرأ ما جاءت به قصيدة (كتابة أخيرة للنص):
إذِ التفتُّ
لم أجد بين طيوري هدهداً !!
أرسلت لاستدعائِه
في الحال ْ
***
كما القطا
نامتْ هنا فاصلةٌ،
و أخذَ الظلُّ مكانَهُ
ومالْ . / ص24 ص25
يتجول الشاعر بمعية الفاعل الصوري في مؤثثات بياض ورقة الكتابة، بحثا عن أماكن بدأ وصفته الكتابية، لذا نراه يتحكم في حركة وضبط مجال الرؤية وتحولات العبارة بما يتمم تلك الملاءمة بعملية الإحاطة على كشوفات النص (إذ ألتفت .. لم أجد بين طيوري هدهدا) ويخفي المتكلم في النص كاميرا الرؤية المحايثة لبوصلة الشاعر، مسترجعا حكاية هدهد سليمان، لتشغل تعويضا بالفعل الكتابي، كما أن جمل المضاعفة في الشطر الآخر من النص، أخذت تحملنا نحو مدار المسافة النواتية في اداة الحركة الكتابية وأفقها (كما القطا .. نامت هنا فاصلة .. وأخذ الظل مكانه ومال) .
ــ تعليق القراءة:
لقد بدت تجربة قصائد مجموعة (معنى على التل) بمثابة حالة من كائنية (إحالات المعنى) والنزوع إلى ذروة (مضمر الدلالة) فيما تبقى نظائر خطاب القصيدة، موقفا شعريا هاما إزاء حساسية الذات في مقايسة المعنى الاعتباري، ومقياسا لأداة العلاقات الأحوالية الراجحة في مصنفات المعنى التوالدي الكامن في معرفات ذهنية وذاتية النص الشعري لدى منظومة آليات مجموعة قصائد الشاعر:
معنىً على التلّ
و الوادي العميقُ
هنا
معنى على التلّ
و الوادي العميقُ
أنا
و الغيم خاطرةٌ
في النفس تنتقلُ . / ص29
أن جملة التغايرات التحويلية ـ البدائل ـ في منطلقات ومؤشرات نموذج قصيدة الشاعر، تبدو خاضعة في منحاها النصي إلى علاقة انتقائية متكونة من إحالية (المكون اللفظي) وصولا إلى أدق بنى توالد دلالة المضمر، من فلسفة العلاقة النصية المترابطة والمحققة في الاستجابة القرائية، امتدادا إلى نصوص شعرية معنى المعنى . وبهذا الصدد لا يسعنا سوى تلفظ المزيد من كلمات التقدير والاحترام إلى تجربة الشاعر الكبير (صقر عليشي) لأنه أتحفنا بظاهرة شعرية، هي في أقصى حدود العلامة الجمالية الفنية والذهنية المعززة بطاقة وذائقة ومعيار إحالات المعنى في مسار دلالات المضمر من أيقونة أفعال وحالات العلاقات النصية المتفاعلة والموفقة في تماثلات مقولة شعرية القصيدة .
حيدر عبد الرضا
صور الطفولة المعدمة في سماء من خشب لزين العزيز
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عامر موسى الشيخ
استهلال: تمثل مرحلة الطفولة لحياة الإنسان رحلة الاكتشافات الأولى للوجود الشاسع، ولحظة التحسس الوجداني البريء للحياة، وكنز الدهشة الجمالي، والأحلام المستمرة، واليد القوية الممسكة بالحياة .. مع التقدم العمري، تتحول تلك العناصر إلى صور موضوعة في خزانة الذكريات، يستلها في لحظات التذكر، أو يستخدمها للمقارنة الحجاجية مع الواقع المعيش اليومي، لتتحول إلى مقياس تقويمي، بين الأزمنة، متناسي البراءة الأولى، ليحملها على واقع هو سيء في الأصل، كان يتصوره جميل .. ولعل هذا التوصيف يمثل توصيفا تقريبيا لمراحل حياة الفرد العراقي . وفي الحديث عن الأدب العراقي نجد أن التصورات أعلاه انعكست في أغلب التجارب الإبداعية، لاسيما الشعرية منها، إذ نجد أن الطفولة ومفرداتها تمثل مظهرا من مظاهر أغلب التجارب الشعرية، وأحد الأطر التي تجلت فيها الصور الشعرية.
(2) سماء من خشب الطفولة
وفي تجربة الشاعر العراقي زين العزيز، نجد أن هذا الأمر ماثل بصورة جلية وواضحة في ديوانه الأخير " سماء من خشب " والصادر عن دار تأويل، السويد، (2019)، والذي ضم خمسة وثلاثون نصا شعريا . فنجد أن الديوان ومنذ عتبته الأولى يوحي بأن ثيمة الطفولة تهيمن على أجواء الديوان، ولكن أي طفولة تلك التي يعشيها الطفل العراقي في العصر الراهن، أو الطفولة التي عاشاها الشاعر، في زمن مضى ، وهي طفولة موزعة بين حصار جائر، واجتياح لبلاده تحول إلى إحتلال، ومن ثم يشبُ هذا الطفل في حروب أهلية طائفية، ثم اجتياح جديد، ثم هجرة، وتمزق وتشريد، ببساطة مرّة نقول : أن هذه التوصيفات تمثل السيرة الحقيقية لأربعة أجيال عراقية، تعايشت مع هذه المفردات، وتتنفس معها رائحة البارود وسحب الدخان .
يضم ديوان زين العزيز، تلك الصور، التي كتبت بلغة بريئة، تمثل روح الطفل الكبير بداخله، كتبت ذاتها في عالم غير بريء، بل متهم بكل الجرائم التي تعرض لها الطفل العراقي، إن كان زين، أو أقرانه في هذه البلاد، ليقدم لنا الديوان صور متعددة عن هذه الطفولة المرتبكة .
(3) الصورة الأولى العتبة
من العتبة الأولى العنوان، ينتخب الشاعر عنوانا من عنوانات إحدى النصوص، ليضع عنوانا كليا كبيرا وهو " سماء من خشب " ومن حيث هذه الصياغة يتم الاتفاق مع المتلقي، بأن الدهشة التي تتملكه هنا، تشبه إلى حد ما دهشة الطفولة، فالسماء ليست من خشب !! ولكن وحده الطفل يتصور ذلك !! اذ يشكل عالمه من محيطه، فالعالم لدى الطفل هو ما يعرفه فقط، ألعابه و أقلامه وأوراقه هي التي تشكل عناصر الحياة، ولأن الخشب قرين جيد بألعاب الأطفال، تصور الطفل بأن السماء من خشب ولا غير، وهذه الصياغة الذكية تبعث على الانتباه والتحضر والتهيؤ للسؤال : ماذا تحت هذه السماء المفترضة ؟.
لم يترك الأمر هكذا، بل تم وضع العنوان بصورة عمودية،لتمثل علو" السماء" التي أتت بلون أبيض، تعكس بياض الطفل وأحلامه، ليعقبها بلون أصفر يميل للخردلي اصطبغ به الحرف " من " ليمثل لون الحيرة وعدم الاستقرار،و المرتكز على سواد مطلق وهو لون لفظة "الخشب" هذا التلوين الثلاثي، يمثل تلك الطفولة الضائعة، والأحلام غير المحققة التي تسربت مع تسرب العمر، ويؤكد هذا التصور المفردة الثانية من مفردات الغلاف وهي الصورة التي أتت مجاورة للعنوان ومتوازية معه عموديا، وهي صورة الشاعر نفسه " زين " رُسمت على شريحة من الخشب وغطت صورة الشاعر خطوط الخشبة التي تمثل عمر الشجرة المأخوذة منها وبالتالي تمثل عمره، وأتى ضمن إطار عام للصورة على هيئة فأس، بنظرة من عين الشاعر إلى العنوان، لتتحقق الصورة الكلية، بأن الذات الشاعرة، ذات باكية على طفولة ضائعة كانت تحلم بأن لها سماءً من خشب مثلما كان يحلم، لكن فأس السنوات قلعت كل شيء.
وفي الانتقال إلى المستوى الثاني من العتبة النصية نجد أن الإهداء لم يخرج عن اطار الطفولة، إذ عمد الشاعر على كتابته ببراءة واضحة، لم ينهك العبارات بتلوينات الاستعارات الثقيلة، وهذا مبرر جدا، لأن العمل مهدى إلى روح شقيقة الصغيرة التي فقدها وهي طفلة يقول :
" إلى قطر الندى
حزني الأول .. طفولة بكائي
أختي الصغيرة
لروحك الرحمة " .
إذن هي قطر الندى، فإذا لم يكن هذا تصريح باسمها ، فهي ذلك القطر الذي يحبه الأطفال وهو يزين الزهور والأوراق في الحدائق في الصباحات الشتوية، في صور من أجمل صور الطبيعة، ليصرح بعدها بأن هذه القطرة قد رحلت عنه وعن هذا العالم، لتشكل المعين الأول لمجمل أحزانه التي سوف تتراكم مع تقدم الحياة، إلا أنه يصر على انها تمثل كل بكاء الطفولة، وهذا يعكس صورة أخرى من صور بؤس الطفولة في العراق، بأن اول بكاء لدى العراقي هو البكاء على فقد الأحبة، ثم يصرح بأنها الأخت راجيا لها الرحمة .
إذن فأن العتبتين العنوان + الإهداء يمثلان مفاتيح شفرات العمل، الذي يضمر الحزن والطفولة والضائعة أتت على هيئة نصوص شعرية .
(4) الصورة الثانية متن مثقل بالضياع
بالانتقال إلى نصوص متن الديوان، نجد أن حبل الطفولة ممتد ومرتب إلى النص الأول "بائع الفشار" وهو ما يمثل علامة مهمة من علامات تعلق الأطفال بهذا البائع الذي يزين تقاطعات الشوارع والأسواق، ومدن الألعاب، وعادة ما يكون هذا البائع صديقا لكل طفل يمرق منه، وصورته لا تفارق مخيلة الطفل، يعود بنا زين إلى ذلك البائع، ويترك خبرات حياته التي خبرها وهو شاعر، يترك كل شيء ويعود إلى اللحظة الأولى التي وقف أمام هذا البائع ويطلق البوح البريء :
" كنّا ثلاثة إخوة،
تعلّمنا أن نحبّ كل شيء
من دون أن نلمسه،
مثلا :
حبة الذّرة المفرقعة " ص (7)
هذه العودة التي أوقفنا عندها النص، تمثل صورة كلية لنموذج عائلي، ويعكس تربية أخلاقية، مستمدة من المحبة الصافية النابعة من البيت العراقي، محبة تتيح إعلان العواطف ولكن من دون عبث أو مس، محبة عذرية بريئة، ومن ثم يفتح لنا أفق تعدد هذه الأشياء المحببة وينهيه بنهاية صادمة حين يمثل لها بـ " حبة ذرة المفرقعة " وهذا ما يؤكد بساطة الأحلام النابع من الحرمان الحقيقي، فهو والأخوة يحبون هذا الشيء البسيط جدا ولكنهم غير قادرين على مس هذا المحبوب، بسبب الحرمان والفقر الذي وقف حائلا أمام تحقيق أي حلم، وإن كان حبة من الذرة المفرقعة .
ويستمر في النص مستكملا التصور السابق والخاص بالتربية التي تُعلم، وهذه المرّة، تضاف له مرتبة ثانية من التعلم وهي : عدم السؤال :
" تعلمنا
ألا نسأل الجوع متى يرحل ؛
طالما نرى ضوء المطبخ خافتا " .
ينتقل مستوى النص هنا، إلى منطقة تمثل فنتازيا الواقع العراقي، فالجوع ضيف دائم يسكن الأمعاء والبيوت، وليس من حق أحد سؤاله عن الرحيل، وعدم الرحيل هذا مقرونا بالضوء الخافت، والذي يمثل ما تفعله الأمهات من توهيم قصدي للصغار، فالضوء في المطبخ يبعث بأمل بأن الجائع سيأكل، ولطالما الضوء موجود، فإن الأم فيه تعمل على إعداد ما يسد الرمق، ولكن الأم لا تعود للأطفال بالأكل، وهم بدورهم سيغفون من شدة الجوع والانتظار على أمل الضوء الخافت، يمثل هذا المقطع، صورة مثلى لما كان يعانيه أطفال العراق .
ومن ثم، يستمر بنقل صور بؤس الطفولة العراقية، ليفتح لها تواريخا متعددة، ويسميها بالسنوات العجاف :
" سنوات عجاف سحقتنا
ولم تترك لنا سوى وجوه شاحبة " . ص ( 8)
لم يجد بدا من توصيف الزمن العراقي، سوى استعارة لفظ " العجاف " من قصة يوسف النبي ومن ثم يوسع المعنى ليمنح السنوات سرافات مهمتها السحق على الإنسان ومحو أحلامه تماما، وامتصاص أمانيه وجسده على حد سواء، ليبقى بوجه شاحب، لتكتمل صورة الحرمان تماما .
ثم يختم النص بفكرة العبث العام، العبث بالإنسان والطفل العراقي معا ، الذي تحول إلى وقود لحروب السلاطين، حتى كاد أن يكون نفاية من نفايات حروب العالم، لينتهي كل شيء لديه، فما ببالك بالطفولة :
" نحن الثلاثة
مثل أكياس مرمية
في مكان
كان يقف فيه بائع الفشار " .
تكتمل عناصر الضياع الحتمي والعمدي هنا، بهذه النهاية المأسوية، إذ أن الأطفال لم يحصلوا على الذرة، وبقوا هكذا، حتى أختفى البائع، وهم تحولوا إلى شيء فائض عن حاجة العالم، وهذا ما تفعله السياسيات العبثية التي حكمت هذه البلاد .
(5) الصورة الثالثة الذات المسحوقة رمزا للطفولة المعدمة
ثمة محاولة ناجحة مكنت الشاعر من جعل ذاته – طفولته- محورا مركزيا يمثل جيلا عاش المحنة الانسانية، لتكون الذات هنا هي الناطقة باسم الأقران، وليس عن نفسه فحسب ، وهذا ما رمز له الشاعر بنصوص حملت ذكرى الأرقام – أرقام المواليد - وطبيعة التعامل معها بشكل عام ، ومرّة أخرى يعود في لتحديد سنة مواليده التي تمثل جيلا عراقيا بالكامل، ففي نص " مصابون بعمى الأرقام " يكشف لنا عن جردٍ من المآسي التي عاشها العراقيون، وهم يعدون أيامهم بوصفها السوء بعينه :
" أرقامنا الأربعة حظنا السيء،
نلفظها تأريخ حرب،
ونكتبها
على أنها أعياد ميلاد،
أربعة أرقام لا أكثر
ملتصقة باسمائنا كالحشرات " ص ( 22)
يعلن هنا النص عن رفض مطلق لحياة العراقيين المحاطة بالسوء والمقرونة بتاريخ الحروب الضاغط على أعمار الناس، وهنا يقدم النص دعوة للمتلقي العراقي على وجه الخصوص ليستذكر مواليده المكونة من أربعة أرقام وفقا لنظام التقويم السنوي، وفي لحظة استذكار هذا الرقم، حتما ستكون هنالك حربا قد اقترنت بمواليد العراقيين للعقود الأربعة الماضية، إذ تحول هذا المقطع، إلى شبه ( روزنامة ) عراقية تختصر مواليد العراقيين والحروب الخاسرة التي زُوجوا فيها عنوة، وفي النهاية تسحق الذات الانسانية التي كرمتها الشرائع، لتبقى منها فقط الأسماء دبقة بالدم ملتصقة بها أرقام المواليد مثل حشرات تعتاش على جثث العراقيين.
وفي نص آخر يخصص الشاعر هذه الفكرة للحديث عن نفسه وأقارنه ومن هو في عمره، ليعود بنا إلى لحظة تاريخ مولده هو، ومولد من هو بعمره ويحدد ذلك في صدر النص عبر صياغة العنوان بطريقة رقمية " 1985" وفي هذا النص، يصرح الشاعر عن نفسه وفكره وذاته ببراءة مطلقة، براءة طفل ولد في هذا التاريخ، ورغم تطعيم الصورة بالخبرات المكتسبة إلا أن براءة الطفل بقت مهيمنة :
" أنا بائس،
كما تعلم يا الله
أفتح يدي للريح
ولا أرى أحد يحضن قلبي " ص (29)
ومن غير وساطة أو حَدّ ما، يصرح النص بالبؤس علنا إلى المطلق اللامتناهي، ولكنه تصريح ضمن دائرة الإيمان القلبي الفطري، ويحاول جلب صورة يد الطفل المفتوحة للحياة والتي تحاول مسك كل شيء، نعم، انها يد الطفل التي تنتظر المسك والأخذ بها دائما إلى الأحضان، لكن الصورة العراقية هنا مقلوبة تماما عن المنطق السليم، إذ أن اليد تبقى مفتوحة والا من ممسك بها ولا صدرا يحضن، الأمر الذي يشي بمستقبل مجهول وضائع .
(6) خاتمة
تمثل هذه المجموعة بالنسبة للشاعر زين العزيز، مرحلة من النضوج الشعري، ومن ثم فإن قراءة هذه المجموعة تتطلب قراءة المكان الذي كتبت بها أغلب نصوص هذه المجموعة، فهي مجموعة شعرية عراقية، كتبت بأرض غير عراقية، إذ أنها تمثل المرحلة الجديدة من حياة الشاعر الذي غادر بلاده، ليستقر في دولة أوربية، تفصله عن بلاده مكانيا، إلا أن روحه الشاعرة بقت معلقة بمكانه الأصلي، لذلك أتت هذه المجموعة محملة بصورة الماضي، التي استحضرت معها صور الطفولة، فكان ديوان " سماء من خشب " ديوان غربي أوربي من حيث المكان الكتابي لكنه بلغة شعرية العراقية بكل تصوراتها وانفعالاتها وآلامها التي حملتها النصوص، الأمر الذي يعكس حافظا نسبيا على الهوية الأصل لانتماء الشاعر ونصوصه .
عامر موسى الشيخ
الماوردي ونظرية الحكم!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي (364 - 450) هجرية.
أكبر آخر قضاة الدولة العباسية، تولى منصب قاضي القضاة، وكان على علاقة برجالات الدولة، وسفيرا بين الدولة العباسية والسلاجقة وبني بويه.
ويبدو أنه قد إستخلص مثالب الحكم، وحاول أن يضع نظرية ذات قيمة فاعلة في مسيرة الأجيال، ليدرأ عن الأمة النواكب والتداعيات، التي تتسبب بها سوء الإدارة والحكم.
ومن مؤلفاته بهذا الشأن: (أدب الدنيا والدين، الأحكام السلطانية، قانون الوزارة، نصيحة الملوك).
الماوردي سبّاق في وضع الأسس اللازمة لصلاح الحكم وديمومته، وفقا للرؤية الشرعية والإنسانية، وما تمخض عن التجارب التي مرّت بها الأمة.
فهو صاحب أول نظرية حكم في تأريخ المسيرة العربية ، ومما جاء في كتابه الأحكام السلطانية عن مهام الخليفة ومسؤولياته:
"حفظ الدين على أصوله المستقرة وما إجتمع عليه سلف الأمة، تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين حتى تعم النصفة، حماية البيضة والذب عن الحريم، إقامة الحدود لتصان محارم الله، تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة، جباية الصدقات، تقدير العطايا، إستكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال.، أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح".
لست معنيا بتفاصيل ما جاء به فهو مرهون بزمانه، لكنه حاول الوصول إلى نظرية ذات قيمة عملية لوضع الأسس البينة عن علاقة الدين بالكرسي، وهو من رواد هذا النهج الجريئ الذي لم يسبقه أحد إليه، بهذه القدرة على التعبير الواضح والعملي.
فقد رأى أن دولة الإسلام تمضي بلا أسس حكم واضحة، وإنما هي إجتهادات فردية، قد تكون قاصرة وظالمة، وبعيدة عن معنى الدين وجوهر قيمه ومعانيه.
وهذه المحنة لا تزال فاعلة في واقع المسلمين، وتسببت ببروز العديد من الفرق والجماعات والأحزاب، التي تدّعي ما تدعيه وفقا لرؤاها التأويلية.
فلماذا لم يُؤسَسْ على منطلقاته التي طرحها قبل أكثر من ألف عام؟!!
علينا أن نعود إليها ونتأملها، ونجتهد في وضع آليات معاصرة لدستور كيف نحكم!!
د. صادق السامرائي
لما ينجح التافهون؟
- التفاصيل
- كتب بواسطة: الكبير الداديسي
المتأمل في المشهد العربي وربما العالمي يلاحظ أن عددا من ضعاف ومتوسطي المستوى الثقافي غدوا رموزا يتحكمون في طموحات ورغبات وأحلام الشباب يتمنى كل الشباب تقليدهم وأن يكون مثلهم لما يكبر، بل هم من أخذوا زمام المبادرة، ورسن توجيه المجتمع وتخطيطه الاستراتيجي بتحكمهم في الثروة ... فقد يملك شاب رياضي فاشل في الدراسة، أو مغنية أوصدت أبواب المدارس في وجهها باكرا، ما تعجز النار على حرقه وما لا يمكن أن يملك جزءا منه كل مثقفو الأمة طيلة حياة عملهم وكدهم... ويستقبل الفائز في مسابقة غنائية محلية استقبال الفاتحين ولا يلتفت أحد لفائز في مسابقة عالمية للمخترعين والعلماء .
إنه زمن الرداءة والتفاهة أو ما أطلق عليه الفيلسوف الكندي ألان دونو( Mediocratie)، التفاهة ناتجة عن تشييئ الإنسان، وجعل المال الإله الوحيد الذي تتوحد حوله كل الديانات، والمعبود الأوحد الذي لا خلاف حول طريقة عبادته، بل لقد أصبح المال هو (العبد والمعبود والمعبد) على حد تعبير محمود درويش، هذا الإله الجديد الذي قتل القيم ووقف شامخا على قبرها جعل كل شيء في خدمته. فماتت المهننة وحلت محلها الوظيفة والتوظيف، فالموظف مجرد أداة، والوظيفة مجرد وسيلة يمكن لأي القيام بها، فلم يعد مطلوبا من المدرس أن يكون كفئا، ومن إمام المسجد أن يكون حاملا فاهما لكتاب الله... وقس على ذلك فيكفيك شهادة ولو حصلت عليها بمال قذر، فقد تجد إنسانا حاصلا على الدكتوراه في الكهرباء ويستقدم تقنيا بسيطا لإصلاح عطل بسيط في بيته، ويكون آخر أميا لم يلتحق بمدرسة ويدير مكتبة يبيع الكتب ويوجه النشء لشراء كتب لا يعرف محتواها، وصيدلانيا لا يحرك وإلا بأوامر أو استشارة مستخدم له خبرة.. وأمام تعدد الوظائف وتنوعها صار الحرفيون والمهنيون عملة نادرة، فقد تجد في أي مدينة من يؤدون وظيفة المعلم، الأستاذ، الطبيب والمهندس النجار والصباغ السباك ... ولكن قلما تجد الحرفي الذي يتقن عمله... لأن الوظيفة لا تتطلب الإتقان وإنها الهدف منها الأجر بعد أداء المهمة. فالأستاذ يمكن أن يعطي درسا في الفصل كما في البيت، المقهى أو داخل السيارة الأهم هو المقابل...
إن مفهوم الوظيفة قد تسلسل إلى كل هياكل المجتمع والدول وأصبح الوزير ورئيس البلدية والعامل مجرد موظفين يؤتى بهم من أجل وظيفة معينة في مدة معينة، والشاطر من يؤديها على أحسن وجه وبأقل الأثمان، ولتحقيق ذلك يجب عليه وضع منظومة القيم جانبا و الاستعاضة عنها بمفاهيم العصر كالشراكة والفعالية والمردودية ... وهو ما جعل المؤسسات العمومية كالمستشفى،المدرسة،المسجد، البلدية، الميناء، محطة القطار... - التي يفترض فيها توفير خدمات للمواطنين- شركات تدار بالتدبير المفوض وفق موازين القوى، وقوة ضغط اللوبي المسير، مفروض عليها في نهاية السنة مقارنة المداخيل بالمصاريف واستخلاص الربح الصافي، والمدير الجيد من كانت منحنيات الربح معه في تصاعد و وصل بمؤشر الربح أعلى المستويات... وهي مفاهيم واعتبارات لا تتناسب والمنظومة القيمية التي تشكل جوهر الإنسان، لأنها تسلب الإنسان إنسانيته، وتسلبه كل قيم المواطنة فيصبح مجرد ساكن/ قاطن ورقم موجود تحت رحمة التافهين من الموظفين الذين ارتقوا درجات سلم الوظيفة دونما حاجة للطرق التقليدية المعلومة كالدراسة، النضال، التدرج ...
إن تَشيء الحياة العامة وتسليع الإنسان جعل التفاهة نظاما اقتصاديا وسياسيا جديدا، فلن ننتظر من المستقبل إلا مزيدا من التافهين في هرم السلطة والاقتصاد عندنا، وطبيعي أن تجد رئيس حكومة لا يفقه شيئا في البروتوكول، وتجد وزيرا لا يميز بين العدو والحليف، ويدلي بتصريحات ضد التوجه العالم للدولة التي يمثلها والتي تدفع له مقابل مهامه الديبلوماسية. وفي زمن التفاهة طبيعي أن يتم ضبط خطيب واعظ وعضو مجلس عالمي لعلماء المسلمين متلبسا في الخيانة الزوجية والفساد مثل المراهقين على شاطئ البحر مع واعظة لا تتوقف على توجيه النصائح للشباب وتدعو لغض الطرف والعفة وعدم الاختلاط بين الجنسين...
إنه زمن التفاهة الذي حصر قاعدة النجاح في عنصرين لا ثالث لهما: المال وحسن التنكر داخل اللوبي المسيطر بتغيير اللون في الوقت المناسب، وهي أمور لا يمكن للمثقف أن يجيدها لأنه معروف بالالتزام وكونه لا يراوغ ولا يهادن ولا يستسلم... فقد ضحى مثقفون بحياتهم دفاعا عن أفكار خصومهم، ومنهم من قضى من أجل مبدأ يؤمن به، وكان التزحزح عنه قيد أنملة كاف ليجعله من أعيان اللوبي المسيطر...
وبما أن المثقف كان ولا زال وسيظل شوكة في حلق التافهين، ومسمارا في نعلهم يعرقل سيرهم ويكشف عوراتهم، فقد تسللوا إلى قنوات نشر التفاهة (محطات إذاعية وتلفزية، قنوات خاصة، وشبكات التواصل الاجتماعي) كما تسللوا إلى مختبر تفريخ المثقفين (المدارس، والجامعات...) وحولوها إلى معاهد مستعيضين عن المثقفين بالخبراء كل همهم جعل الجامعة في خدمة السوق وجعل (العقول تتناسب وحاجات الشركات) وتخريج يد عاملة لا تعرف إلا الطاعة والولاء، ممنوعة من النقد واستخدام العقل، تعيش دون حس نقدي، صالحة لغرض معين لا تفقه شيئا خارج تخصصها، لا تثقن إلا استهلاك من ينتجه التافهون/ المؤثرون الاجتماعيون ...
ولتحقيق كل تلك الأهداف كان لا بد من ضرب التعليم والمدرسة العمومية المواطنة، بقصر وظيفتها في إعادة الإنتاج وتخريج "التافهين، من خلال نشر ثقافة صل بخط، اختر الجواب الصحيح، ضع علامة في المكان المناسب، وهي ثقافة تكرس التفاهة، تقتل التحليل والنقد وتنبذ الموسوعية وتنتج طبيبا في العيون لا يعرف شيئا عن أمراض الأذن، وطبيبا متخصصا في القلب لا يعرف أمراض الرئة، وأستاذا في الرياضيات أو الفيزياء لا يضبط اللغة و لا يفقه شيئا عن إبستمولوجية المواد التي يدرسها ... نظام التفاهة وحده يحعل التافهين Les élèves médiocres " في النهاية هم الفائزون، لأنهم يصلون بأي وسيلة، لا يعيِّرون القيم، فقد تأتيه فرصة لعميلة تهريب أو بيع مخدرات ولا يفوتها، ويبيض أموالها ويصبح بماله مؤثرا اجتماعيا، وسيد المجتمع يشتري أصوات الناخبين، ويرتقي أعلى درجات السلّم الاجتماعي، فيما يكون مصير المتفوقين الذين واصلوا تعليمهم، متشبثين بمبادئهم وقيمهم العطالةَ والوقوفَ أمام ابواب التافهين يستجدون عملا...
إن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لتافه أمي بأن يتاجر في المخدرات وأن يبيض أمواله فيبني مستشفى ليشغل الأطباء، ويبني مدرسة ليشغل الأساتذة وينشئ مقاولة ليوظف المهندسين ليغدو هو الرمز والقدوة في المجتمع، مستثمرا مواطنا له الأمر والنهي.. فلا ضير إذا أصبحت القدوة عندنا من التافهين ما دامت ثقافة الاستهلاك تجعل الإنسان كائنا مستهلكا مثل الحيوان، خاضع لمنطق السوق كالسلع، قابل للتعليب كالسردين، ومن لا يعجبه هذا النظام فللتافهين فليشرب البحر، ما دام للتافهين زبانيتهم التي لا تستخدم العقل. ومن أجل المال لا حدود لتهورهم ورعونتهم ...
يستحيل اليوم مواجهة التفاهة، وجهد ما يستطيع المثقف أن يصبِّـن المفاهيم عسى يعيد إليها شيئا من ألقها ومعانيها الحقيقية، خاصة تلك المفاهيم التي تداس يوميا أمام أعيننا كالمواطن، الكرامة، المصلحة العامة، التضحية، الالتزام... وهي مفاهيم لا يمكن أن تنبث إلا في المؤسسة العمومية، وكاذب من يزعم زرعها في القطاع الخاص القائم على مبدأ الربح والخسارة ... وإلا فما علينا إلا الاستعداد لأن يفعل بنا التافهون ما يريدون، وطموحات الربح لا حدود لها، فلن يكتفي التافهون بتعليب الزبناء لأن الأهم هو كم سيربحون من بيعهم...
لأجل كل ذلك سيعف القارئ ما الذي تغير في المجتمع حتى أصبح ضعاف المستوى الثقافي/ التعليمي من المغنيين والرياضيين والفنانين والسياسيين في مراكز القرار يمثلون قدوة للشباب، وتم تهميش القدوة التقليدية المكونة من الأستاذ، الطبيب، المهندس، الفقيه، الكاتب والمثقف... فلا غرابة أن تصبح قدوتنا في زمن التفاهة من التافهين.
ذ. الكبير الداديسي
الذهبي.. مؤرخ يكتب عن النبلاء
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
الذهبي: هو محمد بن أحمد بن قايماز الذهبي، شمس الدين، أبو عبد الله، الذي كان مولده عام 673 هـ، وكانت وفاته عام 748 هـ، أي أنه عاش حوالي 75 عاماً .
في مدينة دمشق العاصمة السورية ولد الذهبي، ومنها ارتحل إلى القاهرة، وطاف كثيراً من البلدان العربية والإسلامية طالباً للعلم ومعلماً، وكف بصره سنة 741 هـ، أي قبل وفاته بسبع سنوات تقريباً، ورغم ذلك فهو لم ينقطع لحظة واحدة عن إلقاء الدروس على طلابه، أو عن التأليف والبحث، فقد أعطى الرجل كل حياته للعلم والمعرفة .
والذهبي: حافظ مؤرخ، علامة موسوعي، تركماني الأصل، واسع الثقافة والإطلاع، غزير المعارف ولا سيما في التاريخ والتراجم، ولذلك لقب بمؤرخ الإسلام .
ألف الذهبي كتابه الشهير (تاريخ الإسلام)، والذي احتوى على قرابة أربعين ألف ترجمة، فقد كانت لديه حصيلة ضخمة من التراجم، فانتقى منها ما يراه مناسباً لكتابه المهم (سير أعلام النبلاء)، وقد سار وفق خطة مرسومة في الانتقاء والاختيار، سواء كان ذلك في انتقاء التراجم أو في انتقاء المادة العلمية التاريخية بوجه عام .
لقد جمع الذهبي تراجم الأقرباء في مكان واحد، ولا سيما الأخوة والأبناء، فراعى بذلك ما يمكن أن نسميه (الوحدة التاريخية) أو (التاريخ العائلي)، ورغم طرافة هذا الاتجاه، إلا أنه كان على حساب الزمان والطبقة التي يكتب عنها .
ويلاحظ الباحث أن حياة الذهبي العلمية كانت مقسمة عبر اهتمامات ثلاث رئيسية هي: القراءات القرآنية، والحديث النبوي المطهر، والتاريخ وبالذات التاريخ الإسلامي، وللرجل إسهاماته المتميزة في هذه المجالات.
وكتاب (سير أعلام النبلاء)، والذي نتخذه كمثال لمؤلفات الذهبي، يعد بحق موسوعة إسلامية كبرى في التراجم لأعلام المسلمين من أول التاريخ الإسلامي إلى عصر الذهبي نفسه، وهو القرن الثامن للهجرة، والذهبي يقصد بالنبلاء في كتابه وجوه الناس أو الأعلام وأهل الإجادة الذين تفوقوا وأسهموا وابتكروا وأضافوا في كل علم وفن، لأنه ترجم لصنوف مختلفة، وطبقات متعددة .
ووفقاً لما أشار إليه الأستاذ / عبد الجبار عبد الرحمن في كتابه: (دليل المراجع العربية والمعربة، ص 452 )، والصادر في مدينة البصرة العراقية، سنة 1970 م: فقد رتب الذهبي كتابه على الطبقات، فجاء (35 طبقة)، ضمها (14) مجلداً ضخماً، المجلد الرابع عشر يعتبر كذيل أو ملحق للكتاب، أما المجلد الأول وكذلك المجلد الثاني يتحدث الذهبي فيه عن السيرة النبوية المشرفة، وعن سيرة الخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم)، بينما يتحدث في المجلد الثالث عن العشر المبشرين بالجنة، ثم كبار الصحابة والتابعين (رضي الله عنهم جميعاً) .
وقد ورد بنسخة أخرى من كتاب (سير أعلام النبلاء) والتي حققها الأستاذ / شعيب الأرنؤوط بالاشتراك مع الأستاذ / حسين الأسد، سنة 1401 هـ = 1981 م، والصادر في بيروت، ورد أن الذهبي قد نظم كتاب (سير النبلاء)، على الطبقات فجعله في أربعين طبقة تقريباً، وآخر ما فيها المجلد الثالث عشر من نسخة ابن طوغان، وهي آخر الطبقة الخامسة والثلاثين، ولا يستبعد أن يتضمن المجلد الرابع عشر خمس طبقات، إذا ما قيست ببقية المجلدات .
وقريباً من هذا الاتجاه نجده في نسخة معهد المخطوطات العربية التي أصدرها بالاشتراك مع دار المعارف المصرية، والصادرة سنة 1956 م ـ 1957 م، وقد قام بتحقيقها الدكتور / صلاح الدين المنجد .
هذا، وقد التزم الذهبي بنوع من التسلسل الزمني في الأقسام التي تلت العصور الإسلامية الأولى .
وقد اختلف العلماء والكتاب حول عنوان الكتاب، سماه فريق (سير النبلاء)، ومن هذا الفريق المؤرخ / السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ص 674)، وابن حجر العسقلاني في كتابه: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 3 / 426) .
وسماه فريق ثان (تاريخ النبلاء)، ومن هذا الفريق: صلاح الدين الصفدي في كتابه: (الوافي بالوفيات، 2 / 63) .
وسماه فريق ثالث (كتاب النبلاء)، ومن هذا الفريق: العلامة السبكي في كتابه (طبقات الشافعية، 9/ 104) .
وسماه فريق رابع (تاريخ العلماء النبلاء)، ومن هذا الفريق: ابن شاكر الكتبي في كتابه: (فوات الوفيات، 2 / 182)، والذي حققه الأستاذ / محمد محيي الدين عبد الحميد، وصدر بالقاهر سنة 1951 م .
أما عنوان (سير أعلام النبلاء)، فقد جاء مخطوطاً على طرز المجلدات الموجودة في مكتبة السلطان / أحمد الثالث التركية، ذوات الرقم 2910 / أ، وهي النسخة الأولى التي نسخت عن نسخة المؤلف (الذهبي)، وهو العنوان الأكثر دقة وكمالاً، وعليها اعتمد الأستاذ / الأرنؤوط، والأستاذ / حسين الأسد في تحقيقهما للكتاب، والذي صدر عن مؤسسة الرسالة .
وقد أشرنا من قبل أن الدكتور / صلاح الدين المنجد قد حقق هذا الكتاب، الجزء الأول منه، حيث يقع النص في 506 صفحة، بينما تقع المقدمة في 52 صفحة .
ونذكر هنا أنه تم طبع الجزء الثالث من كتاب الذهبي بتحقيق الأستاذ / محمد أسعد طلسي، وصدرت الطبعة الأولى منه عن دار المعارف المصرية سنة 1962 م، في 480 صفحة .
كما طبع الجزء الثاني من نفس الكتاب بتحقيق الأستاذ / إبراهيم الإبياري، ويقع نص هذا الجزء في 454 صفحة، بالإضافة إلى فهارسه المتنوعة، وقد صدر هذا الجزء ضمن مطبوعات معهد المخطوطات العربية بالاشتراك مع دار المعارف المصرية .
ونذكر هنا بعض العلماء الذين كتبوا عن الذهبي، ونوهوا بمؤلفاته وفضله: خير الدين الزركلي، في كتابه: (الأعلام، 6 / 622ـ 623)، و شمس الدين السخاوي في كتابه (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ، ص 84 )، وابن حجر العسقلاني في كتابه: (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، 3 / 326 )، وابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب في أخبار من ذهب، 6 / 153 )، وابن شاكر الكتبي في كتابه: (فوات الوفيات، 2 / 183)، وطاشكبري زاده في كتابه (مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم، 1/ 212، 2/ 126 ) .. وغيرهم و غيرهم.
وحبذا لو عاد شبابنا من القراء إلى ما كتب هؤلاء الأفاضل عن الذهبي، فسوف يعرفون الكثير عن هذا العالم المسلم الذي أسهم بدور كبير في إثراء العلوم الإسلامية .
وأخيراً فإن كتاب الذهبي يعد بحق من أمهات كتب الطبقات والتاريخ الإسلامي في تراثنا، وهو سفر مهم لكل من أراد أن يتعرف عن قرب على هذا التراث الثري .
والله ولي التوفيق،،،
بقلم/ د.يسري عبد الغني
المتطرفون.. لا يفهمون علم السياسة.. حكام بغداد مثالاً
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. عبد الجبار العبيدي
السياسة تعني فن الممكن، ويقصدبها فلسفة الابتكار في تقييم الامور في اتخاذ القرارات الصعبة.. تحكمها قواعد النبل والشرف، لأن الشرف له ألتزامات يضطر صاحبه الى التعفف والتسامي فيبتعد عن الدنية.. وتلك الثغرة التي يدخل منهاالفساد الى فكر الحاكم، فعليه ان لا يفهمها سيف ونطع كما فهمها المستعصم العباسي فمات متحسرا على انهيار الدولة العباسية. من يعتقد ان الدولة العراقية اليوم لها سياسيون بمفهوم قيم فلسفة السياسة الدولية فهو واهم، أنما لديها طلاب سياسة لم يتخرجوا من مدارسها الابتدائية بعد . بهذه الدرجة من الضعف والاستكانة هم يحكمون.. لذا سيسقطون.
هذه الحالة السياسية والاجتماعية مرت بالدولة الرومانية قبل السقوط حين كان شعبها يعيش تحت سلطة غاشمة واباطرة مستبدين لا قيمة للانسان في نظرهم ولا معنى للعدالة عندهم، حين دخلوا الحروب العبثية، يخربون المدن والسهول والوديان ويجندون الناس بالقوة ليزجوا بهم في ميادين القتال، ويعتبرونهم من الناحية الواقعية عبيدا لهم، حتى اصبح أنسانهم يعيش بلا قانون رغم وجود القانون عندهم. وهكذا فعل النظام السابق بالشعب العراقي خلا ل مدة حكمه الطويلة للعراق، وهكذا يُفعل الحكام الجدد بشعب العراق اليوم.
هذا التوجه الخاطىء ساق المواطن والحاكم الى التدني بالمستوى الانساني والخُلقي، فأنهارت القيم الانسانية وكل سلطان الضمير عندهم، فصاروا يعيشون همجا من الناحية المعنوية وان كان المظهر الخارجي لهم بقي ضمن الاطار الحضاري المتقدم، وهذا ما يريده الحاكم لينفرد بالسلطة دون معارض.
وهذا أيضاً هو ما حل بالدولة الامريكية في عهد جورج بوش الابن مع الفارق ان الدولة ظلت متماسكة والقيادات بقيت تراقب حالة الانكسار، والمؤسسات ترفض الخروج على القانون لثبات الحالة الدستورية في الوطن عندهم، فظل المرجل يغلي نحو التغيير، ولان الحالة الدستورية هي الغالبة والقانون هو الذي يحكم نفوس الناس وأفعالهم، حتى جرت الانتخابات الجديدة نهاية عام 2008، ليخرج الشعب الامريكي عن بكرة ابيه منتقما من حكامه بالقانون ليستبدلهم بغيرهم لرغبته في ان يتصالح مع نفسه ومع العالم، وهذا ما فعله الشعب العراقي بممثليه الذين ابتعدوا عن حقوقه الوطنية ليستبدلهم بأخرين فقاطع الانتخابات لظنه بالتزوير، كما رأينا في الانتخابات الاخيرة عام 2018، لكن السلطة الغاشمة لازالت أقوى من الشعب بنفوذها وركونها على الأعداء المجاورين وخاصة الايرانيين الذين لا يؤمنون بوطن العراقيين وأعوانهم من احزاب الغدر والخيانة المنتفعين . رغم أنها قد وصلت الى مرحلة الطوفان والغرق الأكيد.
لكن الذي يحصل الان ان من يحكمون الوطن لم يستفيدوا من تجربةالخطأ لكونهم اصبحوا من الغارقين فيها، فلاأمل بردم الخطأ رغم حراجة الموقف .هذا الموقف الصعب لا يفسرعندهم ببداية الانهيار من اصحاب العقول المنغلقة من امثال المالكي والعامري وغيرهم كثير.. كما هم اليوم، الذين لا يعرفون للحقوق القانونية من معنى وللدستور من ثوابت . فالحاكم لن يستطيع ان يحكم دون تحديد مدة او مدى سلطان وللدولة نظامها القانوني الرصين الذي لا يخترق وللشعب من الحقوق لا يمكن التجاسر عليها وهم يتشبثون بالدين باطلاً.. فالدين لن يصنع دولة بل يصنع استقامة واخلاق ولا يمكن لاصحاب النص ان يؤمنوا بالصيرورة الزمنية للتغيير.. وكذلك في وصاياه يخالفهم جملة وتفصيلأ.
من هنا فقد اصاب الدولة الخلل الذي سوف لن يطول، لكن الذين عاشوا في فوضى السلطة ولم يعرفوا القانون والدستور الا حينما يطبقونه على المواطنين، راحوا يصورون للشعب انهم هم العارفون الذين يحمون الدولة من مؤامرات الاعداء.. وما دروا انهم هم اعداء الوطن وان كانوا يعلمون، لكي يبقوا هم المسيطرون ليعبثوا بالامة والشعوب دون واعز من ضميراو التزام من اخلاق.. وهم الواهمون.
لا مقارنة بينهم وبين دول القانون الحضارية اليوم، فهي دول قوية وعملاقة ونحن هنا لسنا مخولين بتوصيفها، ان سر قوتها يكمن في دستورها وقوانينها الانسانية المحكمة والمطبقة فيها والتي تفتقر اليها كل دول العرب، ولا يغُرك بالله الغَرور. لكن كل هذا غير موجود في دول امة العرب وفي العراق اليوم خاصة .ففي مجال الاقتصاد لا زالت دول القانون هي الرائدة ولديها من الخزين النقدي والعملة الصعبة يكفيها لعشر سنين حتى لو كسر عليها خراج الدولة وموارد الوطن، ففيها النفط والغذاء والماء والارض الخصبة وأرادة القانون، وتستطيع امريكا مثلاً أستيعاب ضعف سكانها دونما خلل او عطل.، لاسيما وان اقتصادها مسيطر عليه من قبل المؤسسات الدستورية، لا من قبل افراد معينين من المصابين بالغباء والغرور، ومعاملها تنتج ما يكفي لها وللاخرين.أما في العراق فألأقتصاد والمالية بيد الجهلة وسراق المال العام، لذا تراهم يلهثون خلف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ليستطيعوا ردم الاحتياج المتزايد ولو بأعلى الفوائد التي ستجلب لهم المتاعب المستقبلية دون علم او دراية في المصير.
ان ما يعنينا هنا كيف نملك من السياسيين الذين يستطيعون اخراج الوطن من الطريق المسدود الذي وصلت اليه الدولة.. ولا اعتقد يستطيعون الا بثورة علمية فكرية حقيقية على كل ما يسد طريق التقدم من قيود على الفكر والحرية، لكن المهم كيف سنجدهم في دولة يقودها التخلف الفكري والجمود الديني الذي لا يؤمن الا بالقوة والتخريف.. والجهل الذي هورأس الأخطاء والشرور.. هؤلاء هم اصحاب الفلسفة السياسية التأملية وليسوا من اصحاب الفلسفة السياسية الواقعية.. الذين لا يدركون كيفية بداية التحرك السياسي لينشئوا قاعدة جديدة للفكر السياسي الواقعي المنطقي المنظم.. في وقت ان اصحاب المطالب السياسية الاخرين والذين بيدهم القوة والسلاح يخالفون.. من هنا فلا تفائل مسرف فيما يصنعون.. لأنهم لا يفكرون، وليس في الدنيا أخطر من العيش بدون تفكير.
هذه تركة كبيرة ناقصة ورثوها حكامنا اليوم من فقهاء المسلمين حين تناولوها بطريقة استطرادية، دون ان يضعوا لها نظريات عامة تناسب أهميتها العملية في تطبيق نظام السلطة التشريعة.. .ودون ذكرلحقوق الأفراد وواجباتهم الأسلامية، فظلت السياسة بلا عنوان، والدراسة بلا تعريف، والخلافة بغير بيان، لا تنتج الا دولة الفوضى الخلاقة كما سمتها وزيرة خارجية امريكا كوندريزرايز مصممتها قبل التغيير بقصد.. أما في العراق فلا جيش يستطيع الدفاع عن الوطن، والمليشيات التي يسمونها الحشد الشعبي اللامقدس تتحكم بسلطة الدولة مقابل حاكم مدني جبان وخائف ولا يملك أيديولوجية السياسة .أنا لا افهم تصريحات الرئاسات الثلاث دون لديهم مبدأ وحدة الامة، متمثلين بطائفية مقرة من قبلهم تتشابه وفرق الأنكشارية العثمانية.. سقطوا بمجرد سقوطها لانهم يحكمون بشروط غير قابلة للتحقيق حتى لو كانوا مخلصين، فلا شعب ممثل ولا سياسة قابلة للتطبيق، بل كتلا سياسية جاهلة متناحرة من اجل المال والسلطان ولاغير.. هؤلاء نسميهم سياسيون.. ؟
ان دور الكتاب والسياسيين المخلصين اليوم ان ينبهوا القراء الى ضرورة البحث عن حقائق الاموروتركها خلف ظهورهم بعد ان عفا عليها الزمن مثل خلاف الخلافة بعد الرسول.. وظهور نظرية عبدالله بن سبأ.. ومقتل الامام الحسين.. والوليد بن يزيد بن عبدالملك واستهتاره بالمعاصي وضرب القرآن بالرمح والسيف.. والحجاج الثقفي وخطبته بذم العراقيين.. وأنتقال الخلاف بين الامويين والعباسيين الى أخر الجرائم في النزاع والتخاصم بين بني امية والهواشم وما شابه ذلك وما كتب فيها المؤرخون.. وفي غالبيتها ليست قضايا شعوب سوى خصام سياسة ولاغير..
ان جميع هذه الاحداث وما جرت الية من اشكاليات الدولة كانت جرائم سياسية لمنافسين سياسيين لبني أمية يريدون أنتزاع الخلافة منهم. والسياسة كما تعلم اخي القارىء تعمي البصر، وتضلل الذهن، وتملأ القلب قسوة، وتجعل الانسان يرتكب جرائم لا توصف من اجل ان تبقى السلطة بيده كما نرى اليوم.. وما دام الأنسان قد دخل السياسة وطلب السلطان فهو المسئول عما يصيبه.
نعم ان بني امية ليس من حقهم الانفراد بالسلطة اذن فما هو الاساس الشرعي لمطالبة العلويين بها، والخلافة تخضع لقانون الشورى بين المسلمين.. نعم كل ذلك يقع على عاتق الفقهاء الذين لم يضعوا للخلافة تشريعاً.. بل اعتمدوا على احاديث نبوية منتحلة جرت الى هذا المصير الذي عطل القانون وتطور الدولة معاً فكانت خيبة الشعوب التي انجرت من ورائهم بلا تفكير..
من وجهة نظري الشخصية ان عمر بن الخطاب "ت24 للهجرة" كان يريدها مدنية يتحكم فيها القضاء اولاً بينما الامام علي "ت41 للهجرة" كان يريدحاكمية.. فالمشكلةالاساس هنا هو عدم وجود دستور لهاوحق الامة في الانتخاب.. وهذا هو ما أنكرته الأمة، ,لكن احداً لم يصحح ذلك الخطأ تصحيحاً شرعياً بوضع دستور يحتكم اليه الجميع.. حتى تحولت السلطة الى مسألة عنف وقسوة وغش وغدر، ,هذا هو ما ينبغي ان نضعه في المنهج المدرسي لنخلص فكر الطالب مما رتب عليه الفقهاء من أحقية وما شابه ذلك، وجر علينا كل هذه الاشكاليات التتي نعاني منها اليوم.نقول هذا حتى لا نصيب الاسلام بأذى ونلحق به شرور الناس.
بهذا التوجه العقلاني عسى ان نُخرج جيلا عقلانياً لا عاطفياً.. أنساناً لا طائفياً.. ولنا فيما نحن فيه اليوم من الفُرقة والطائفية والعنصرية والكراهية والبغضاء التي لا تزول.. .الكثير.
لنكن واقعيين فلا نحن ولا ايران بقادرين على تغير موازين القوى في المنطقة دون امريكا والاوربيبن. .وعلى امريكا يقع وزر اسقاط حكومة العراقيين دون سبب او تبرير على ماقاله بوش الأبن من صنع دولة القانون.. وقد خانوا القولين معا دون قانون والا لماذا لم يطبقون.. ؟.
ان احسن عمل يعمله اليوم كما يريده حاكمنا المتسلط علينا ان ننقل محاربة الارهاب والتطرف الى عقيدة بين شعوبنا ونحن الذين اكتوينا بنارها مالا وانساناً، وليست ايران التي وجدت العراق حاضرا على مائدة من ذهب لتنفرد به قتلا واغتصابا دوون حدود، فعلى ايران ان تتعقل في التصرف والقول الرصين فبايدن اقسى وأمر عليها من ترامب فلينتظروا المصير.. فأمريكا لا تضحي بمصالحها من اجل الاخرين.. وغبي من يعتقد بذلك.
وحتى لا تقع ايران بما وقع به الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وصدام حسين وما جروا على شعوبهم من ويلات الحروب ودمار السنين. انها فرصة حياة لا تعوض ولان تبدو اكثر اعتدالا في التعامل مع انفسنا ومع الاخرين دون ان يتنازل اي واحد منا عن حقوفه تجاه الاخرين، مادامت اليد ممدودة للتعاون ضمن الحقوق والواجبات، وبما يرضاه الله والشعب.. فهل من عاقل ينضوي تحت التفكير.. ؟
الاوربيون وغيرهم من الشعوب المتحضرة أمنوا بالفكر والحرية والتقدم، ونحن آمنا بالسيف والنطع واللطم والزنجيل والقامة وضرب الخدود، وبنظرية ولاية الفقيه والمهدي المنتظر الوهمية.. وهم غيروا المفاهيم المتوارثة في ميادين المعرفة واشتركوا ويشتركون في رؤية جديدة لمستقل الانسان في بلدانهم والعالم، ونحن لا زلنا نتفاخر بالموروث القديم دونما رؤية واضحة قي حياة الناس، هم حددوا سلطات الدولة عن حقوق الناس ونحن، لا زلنا نرمي بالمعارضين بالقال والقيل والسجن والقتل والتشريد،، هم لازالوا يضعون ثقتهم بالعلم وحده وبقواعد التفكير الواقعي المنطقي المنظم، ونحن لازلنا نؤمن بقارئة الفنجان والكتابة على الافخاذ وأصوات الموتى في القبور.يتقاتلون فيما بينهم كي لا ينجز مشروع الفاو الكبير. ولهذه الدرجة وصل الطمع في الصدور .
وسيبقى عندهم العقل والعلم والحكمة هي التي تحكم مجتمعاتهم ونحن لم نصل ابدا ما وصلوا وسيصلون، فهل سنحول المبادىء التي جاء بها الاسلام "الوصايا العشر"الى تشريعات ام سنبقى نلطم وننوح ونحن وراء الجهل وخرافات الموروث نلهث ونصيح.. كما قال شاعرنا السوري:
بلدي عمائم كله.. أرأيت مزرعة البصل..
قليل من التعقل فلم يعد الزمن يرضى بالانتظار والوعد والوعيد، فلا طيارة صنعنا ولن نصنع، ولا مرض كافحنا ولن نستطيع، وليس لدينا مستشفى اسعاف واحدة بمستوى مستشفيات العالم من صنع أيدينا، وها هو الانسان حتى اضطررنا ان نعالج مرضانا في الهند على البخور.. العراقي والعربي المفكر والواعي يقتل او يموت في الشارع وبأيدي القتلة من الارهابين وليس لدينا من يحقق فيه "المفكر الهاشمي وغيره كثير مثالاً لما نقول"سوى عربات الدفع (مترو رافع العيساوي) لننقله لمركز تجميع الموتى من اللآأدميين.. يموت ولا احد ينقله لمركز الاسعاف، فلا عوز اصلحنا، ولن نصلح امرا فقدناه.. ولا كهرباء صنعنا ولن نصنع، ولاماءً صالح للشرب جهزنا المواطن ولن نستطيع، ولا شعب وحقوق احترمنا ولن نحترم.. حتى المعونات الأجتماعية نعطيها لغير المستحقين..
ان كل ما ندعية هو من البهتان المبين، العالم احسن منا الف مرة بالصدق المبين. اما بالكلام والشعرومحاورات الفضائيات الدعائية الكاذبة في معظمها كما في لعبة الكراسي وغيرها والتصفيط.. . فقبض من دبش عنهم عبر السنين.. . ولازلنا نهوس بأننا نحن المسلمون سنذهب الى الجنة وحور العين والولدان المخلدون غداً.. وهم كفرة سيذهبون الى النار والسعير.. هذه هي العقول التي ستصنع دولة وحقوق.. ؟
تافهة هي الحياة حين تخلوا من الآمال.. ومؤلم هو العيش حينما يصبح تعداد لأيامٍ. عذاب.. بلا.. .نهاية.. للمغفلين.. .
د. عبد الجبار العبيدي
فاعليات الأمن القومى الإسرائيلى السيبرانى (1)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: احمد عزت سليم
فى مقابل الفاعليات التى تشكل مشهد الأمن القومى العربى، تتصاعد بقوة المؤثرات والفاعليات الصهيونية التى تحاول تسييد أكاذيب الدولة الصهيونية فى المنطقة كـ " دولة " لها خصوصيتها وماهيتها الفريدة وامتدادها التاريخى العميق وحيث يشكل ذلك كله ماهية "قومية" خاصة بها ـ كما تدعى ـ، وفى إطار فاعليات الصراع العربى الإسرائيلى السيبرانى، إلا أن الحقائق تكشف بقوة أكاذيب هذه المزاعم وكما يتبين مما يلى:
1 - رغم وجود أكثر من 300 موقع تقوم فيها البعثات الأثرية بأعمال الحفر، في "إسرائيل" والضفة والقطاع، لم يتمكن الأثريون من العثور على أى دليل أثرى يؤكد أوحتى يشير إلى مملكة داود وسليمان في فلسطين، كما لم ترد أية إشارة لهؤلاء الملوك في المصادر التاريخية وأكد ذلك كله كذب المزاعم التوراتية بوجود مملكة إسرائيلية متحدة أيام شاؤول وداود وسليمان، وأنها روايات أسطورية لا تعبر عن الأحداث التاريخية الحقيقية .
- وقد تبين الآن أن قصص التوراة تضمنت أحداثا تاريخية لشعوب وممالك أخرى في الشرق الأوسط، تم اقتباسها لتكون جزءا من تاريخ مملكة بني إسرائيل المزعومة، فقد استعار كتبة قصة داود الرواية المتعلقة بتكوين تحتمس الثالث للإمبراطورية المصرية بين النيل والفرات قبل عصر داود بخمسة قرون ـ ونسبوها إلى ملكهم، وكما يؤكد ويبين باحث المصريات الكبير العالم أحمد عثمان: ـ لا تزال تفاصيل المعارك التي استعارها الكهنة لقصة داود بني إسرائيل، مسجلة حتى أيامنا هذه على جدران معبد الكرنك وفي سجلات حروب تحتمس الثالث .
2 - لا أرض ولا استقرار إنما ترحل وتناحر جمع القبائل العبرية على مساحة اجتماعية غائمة لا حدود لها ولا ثبات ولا قيم أخلاقية أو دينية غير تلك التى تدفع هذه القبائل أن تنجرف وراء ترحالها ومشاغباتها للشعوب المستقرة فتخربش أطرافها دون أن تصيبها بأمراضها القبائلية وأقصى ما فعلته أنها انتهبت خلال ترحلها وما وقع تحت يدها من تراث فأفسدته وهى فى كل ذلك لا تملك غير كهنة اتخذوا أشكالاً متعددة، ملوك عصاه أو ملوك دخلوا الطاعة وكذلك قضاة ومتنبئين ورجال كهنوت والجميع تبادل الأدوار والمصالح مع أفراد القبيل، الكهنة وفروا لأفراد القبيل إله فوق الآلهة الأخرى، لا يعرف هو أيضاً الاستقرار، تارة هو يهوه وأخرى إلوهيم وكثيراً ما تتغلب الآلهة الأخرى وتعلو وتتعدد فيغضب الإله .
3 ـ هذه الحقائق التاريخية الكاشفة والتى تؤكد أكاذيب الحركة الصهيونية وكيانها الإجرامى دولة "إسرائيل" جعلتهم يؤسسون فاعلياتهم وآلياتهم الاستراتيجية والتكتيكية والحركية فى الواقع بكل مستوياته على ما ينفى هذه الحقائق حماية للكيان الصهيونى وبما يؤسس ماهية الأمن " القومى " الإسرائيلى ماديا ونفسيا وأيديولوجيا وديموجرافيا وحيويا وعمليا تدعيما لقدرتها على الاستمرار والبقاء والمواجهة مع أعدائها تأكيدا لقوتها حفاظا على ما نهبته من الأراضى العربية وتبريرا لتصرقاتها الإجرامية العنصرية المستمرة وديمومتها فى احتلال أراضي الغير، واستيطان الأرض وإبادة شعبها أو تهجيره، وفرض توفقها وهيمنتها الكاملة داخليا وعلى من حولها .
- وتزداد أهمية تشكيل ماهية الأمن "القومى" الإسرائيلى لما لهذه الحقائق التاريخية وفى تشكلها مع الديناميات الصهيونية فى الواقع، من انعكاسات على الواقع فى الدولة الصهيونية وتتمثل فى عمليتين إثنتين لهما أهميّة كبيرة على اتجاهات تطور المجتمع الإسرائيلي العنصرى وتشكله من المجموعات ذات الخصوصيّة مثل مجتمع المتدينين المتزمتين (الحريديم)، ومجتمع الكيبوتسات، وسكّان بلدات التطوير، وسكان حي رامات أبيب ج (تل أبيب)، ومجتمع المهاجرين من الروس الناطقين بالروسيّة، ومجتمع المهاجرين من الأثيوبيّين وغير ذلك السود، بالإضافة إلى الأساس العربى الفلسطينى كمجتمع له خصوصيته وهويته: العمليّة الأولى: ـ تتمثّل في استمرار وازدياد توجّهات الانقسام الثقافي والابتعاد عن " بوتقة الانصهار " التى تدعيها الحركة الصهيونية ويشهدها المجتمع الصهيونى .
- أمّا العمليّة الثانية: فهي سلسلة الانتكاسات التي تتراوح بين المصالحة والمواجهة بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين حول الحدود والسيادة .
بقلم: أحمد عزت سليم
عضو إتحاد كتاب مصر
ملحمة "الأنياذة" للشاعر فيرجيل
- التفاصيل
- كتب بواسطة: عبد الجبار نوري
فيرجيل هو واحد من أشهر شعراء الرومان الذين عُرفوا في عصور ما قبل الميلاد، وقد أشتهرت كتاباتهُ الشعرية في تلك القصائد الطويلة التي عُرفت ب "الأنياذة" حيث سطرها في أثني عشر كتاباً والتي لا زالت تعتبر من أهم القطع التراثيىة الأدبية، وفي الأنياذة سعى فيها إلى تجسيد طبيعة روما الألهية وحكاية الأمير الطروادي، وتجسيد لبعض القيم الهامة التي عُرفتْ في العالم الروماني، فهي حقاً تحفة أدبية غير مسبوقة حيث قام بتوضيح أهداف عصرهِ والتعبير عن مثلها العليا في سبيل تحقيق الرقي والسيادة للجنس البشري فهو يتأمل عالم الحاضر وعالم المستقبل في آنٍ واحد .
فالأنياذة ملحمة وطنية قوية قصد بها ربط أصل الرومان بالرموز والأبطال العظام للرومان، وهي ملحمة شعرية كتبها فيرجيل في القرن الأول ق م، وتروي القصة الأسطورية للبطل إيناس الطروادي كتبها كقصة بأسلوب شعري جذاب وسهل وهو يتغنى بمعارك (أكتافيان) وطبعاً شملت الأحداث التي وقعت بعد تأسيس روما والتنبؤ بأنشاء أمبراطورية أغسطس، وشمل مشروع الملحمة وصف أخلاق الرومان والسعي لنشر الفضائل والقيم الروحية السامية وتصوير بطلها في صورة الأنسان الذي يقدس الآلهة ويهتدي بهديها والذي يدعو إلى الأصلاح والتغيير للوصول إلى التغيير والكمال الذي دعا أليها أغسطس فيما بعد، حيث أمضى في كتابتها فترة تعدت الأحدى عشر عاماً حتى أنهُ توفي قبل أتمامها، كانت لنشأتهِ الريفية أثراً بالغاً في عدم تقبلهِ فلسفة التمدن في مجالات اللذّة، ويمكن القول: أن شعرهُ يختلف عن شعراء زمانه حيث كان يكتب غالباً بلغة بطولية وبشكل قصائد قصصية والتي نطلق عليها اليوم أسم الألياذة، إنها قصص خيالية من نمط أسطوري لمغامرات (أينياس) أحد أبناء ملك طروادة الذي هرب من طروادة ووصل إلى أيطاليا حيث أسس أحفادهُ مدينة روما، وتوفي فيرجيل قبل أتمام القصيدة، وللحقيقة تتقارب الأنياذة بالياذة هوميروس والأوديسا (بعض الشئ) حين تكون قصائد أنياذة فيرجيل على نمط زراعي أطلق عليها من قبل أدباء ما بعد عصره: بالقصائد الرعوية أوالزراعية .
ونظم فيرجيل (رعوياته) وجمعها في عشر كتب في أشعار الحقول نحو ألفي بيت شعري مقسمة إلى أربعة أجزاء فيها وصف لفروع الزراعة الأساسية آنذاك، ويظهر عند قراءة فصول الملحمة بدقة وتأمل يجد القاريء اللبيب : أن فيرجيل لم يكن يكتب رواية خيالية بل كان يكتب لروما كتاباً مقدساً في تقديم شريعة دينية واضحة المعالم هو دين الوطنية وتأليه روما والدفاع عن وجودها عبر بعث الشعب الروماني .
وأن شعر فيرجيل أبداع وأبتكار مزيج من الواقع المرير والجميل مؤطر بالخيال العميق الذي يسمو بالأدراك الأنساني إلى الذروة في العلو لكونها تمتاز بالقوة والمرونة والعذوبة بنقاء فكري وصفاء ذهني وقوة ألهام، أنها كُتبتْ عام 42 ق .م وفرغ منها عام 39 ق م، ولُقب رومانياً ب(DACTUs )أي العلامة،من خلال حكمه الفلسفية الأنسانية وهو القائل : { الزمن يغيّر كل شيء بما في ذلك أذهاننا، إللا ما أسعد الرجل الذي أستطاع أن يتعلم علل الأشياء عبر الممارسة والفكر قد يشكلان بالتدريج فنونا} .
ومن مميزاته الشعرية : موضوع القصائد هو وصف الرعي على نمط (ثيوقريطس)Theocritus بالتوقيع على جمالية الأسلوب بأنغام موسيقية شفافة سداسية الأوزان، مليئة بالحنان التأملي والحب التخيلي في تحطيم القلب بالحب عند صد الحبيب !،إنّهُ لامس فلسفة الجمال بظهور عناصر الجمال جلياً في أشعارهِ وبشكلٍ قوي للغاية تتمثل في جمال اللغة في سردياته الشعرية وتلك سمات فنية خصبة تسيطر على الخيال، وأقول إنها من براعة الشاعر الأسطوري " فيرجيل " في توظيف الفنتازيا الخيالية في نقلة نوعية لجغرافية روما المترفة والخلابة، فكان تمجيد فيرجيل للمناظرالطبيعية أكثرواقعية من الأشباح الثيوقراطية، وفي هذه القصائد نرى فناناً عظيماً يعالج أشرف الفنون بأجمعها : فن زراعة الأرض في شعرٍ رقيق مصقول وهو يطرق جميع فروع الفلاحة ويفيها حقها، ولا ينسى فيرجيل أمراض الحيوانات وطريقة علاجها، ويصف حيوانات المزرعة وصفاً يدلُ على فهمهِ لطباعها وعطفهُ عليها، وتلعب الديانات والعقائد الرومانية القديمة في وصف الطقوس والأعياد الدينية دوراً هاماً في منظومات فيرجيل لأعتقاده الزائد لعنصر الحياة وربما شعوره العميق بالأنسانية المعذبة، وجمع فيرجيل مزايا الأوديسا والألياذة في عمل ملحمي درامي بنصوصه الشعرية أصبحت أساساً في تهذيب الأدب واللغة الرومانية وكذا النثر والشعر، وتلك النتاجات الثرة المتميزة لفيرجيل خُلدتْ بأستخدامها في العصور المتأخرة في تدريس التعليم ا
رعويات فيرجيل الشعرية/
أنجز فيرجيل ألفي بيتاً شعرياً ملحمياً صنفها بعشرة أناشيد، كل أنشودة مذيلة بأسم بطل ملحمي من رموز قصائده الشعرية، وأقتصاداً للمساحة المسموحة للبحث أخترت ثلاث لوحات منها (ولا أدري لماذا أخترتُ هذه اللوحات الثلاثة وأن العشرة كلها مبشرة بالحب والتأمل وأيقاض الروح للتمسك بالحياة والسلام العالمي – ربما لا أدري !!!؟):
الأنشودة الثالثة---- بالايمون {وماذا يستطيع أن يفعل أصحاب الأملاك؟، وقد بلغ اللصوص شأواً عظيماً من الجرأة؟ ألم أرك يا أسوأ الناس طُراً؟ وأنت تسرق عنزة دامون ! أتريد أن يجرب كلانا ما يستطيع أنشادهُ؟ سأراهن بهذه البقرة كيلا ترفض أنها تحلب مرتين وترضع عجلتين صغيرتين، خبرني بماذا تراهن على منافستي؟! } .
الأنشودة الخامسة ---- دافنس {-- لقد بكتْ الحوريات " دافنس " بعد أن أختطفتهُ يدُ الموت الكريهة !، أشهدي على الحوريات يا أشجار البندق، وأنتِ أيتها الأنهارستكون لكِ هذه الطقوس إلى الأبد !، عندما نقدم نذورنا السنوية للحوريات، وعندما نطهّرْ حقولنا}
الأنشودة الرابعة ---يوليو{ ---أن العذراء تعود الآن، ويرجع حكم ساترون، ويهبط جيل جديد الآن من السماء العالية، رفقاً بالصبي عند مولده يا " لوكينا " الطاهرة، إذ بمجيئهِ سينمحي العصر الحديدي ويشرق العصر الذهبي على ربوع العالم بأسرهِ } .
أسباب شهرة قصائد " فيرجيل " الرعوية !!!.
1-تتمتع بقدرة شعرية غير محدودة حيث النظم وسرد النص وبأضافة فيرجيل المحسنات الموسيقية واللفظية وأحتواء القصائد النفس الطويل والأصرار والتحدي والصمود، وتمكن أن يعبر عن فكرةٍ هائلةٍ كانت عصيّة على الكثير من السياسيين وهي : " فكرة سيطرة روما على العالم".
2- تتفوّق على ملاحم هوميروس الذي تغنى بالأمجاد بينما فيرجيل صنع الأمجاد، والفرق الثاني بين أوديسيوس بطل الألياذة بطل مغامر يخوض الأهوال ثم يقفل راجعاً لوطنه، بينما (أينياوس) بطل الأينياّذه لفرجيل يمتطي المخاطر ويمخر البحار باحثاً عن وطن أثبت حقيقة المسلمات الأخلاقية الأنسانية لأبرز حلقات الروح نبلاً هي ثقافة (المواطنة) .
3- أن وطنية فيرجيل في أشعاره السياسية غايتهُ أن يصنع مجداً لدولة فتية لا مجد لها، فلجأ إلى الموروث الشعبي في بعث الروح في أسطورة أينياس التي تدعو خلالها إلى الأفتخار بالسلف والأقتداء بهم وأستلهام أخلاقياته النبيلة في بناء المجتمع على غرار ما فعلهُ سليل أسرتهِ أغسطس حاكم روما آنذاك، وألهبتْ هذه الأفكار الوطنية نفوس الشباب الروماني وأندفعوا بحماس لتبني والتمسك بأشاعر فيرجيل .
4- على عكس ما هو مألوف في الملاحم حين تقدم بطلا فوق مستوى البشر، لكن فيرجيل قدم في ملاحمه الشعرية بطلا سويا من مستوى البشر حنون مؤمن يهتدي بالآلهة ويقدس الحياة الأسرية، أنهُ أبنٌ بار وزوج صالح وأب حنون .
5- عُدتْ أشعار فيرجيل خصوصاً (أنيادته) الملحمية من أهم الرموز الثقافية والأدبية الثرة في القرن الأول بعد الميلاد أعتبرت مصدراً للغة اللاتينية عند النحويين، ووضعتْ في المقرر المدرسي، ودفعت الكثير من الأدباء والمثقفين والشعراء الأقتداء به وتستوحي نتاجاته المبدعة مثل : دانتي في الكوميديا اللآهية، وأستخدمها الشاعر الأنكليزي (تشوسر) وأقتبس منها الشاعر الأنكليزي (أدمون سبنسر) في قصيدتهِ (ملكة الجن) في كتابٍ له بهذا الأسم The Faerie Queene وبالمناسبة هذه القصيدة تنحو بأتجاهٍ مقارب للنمط الأسطوري لقصائد فيرجيل حيث القصائد المطولة والرمزية .
عبدالجبارنوري
كاتب وباحث عراقي مقيم في السويد
.............................
الهوامش والمصادر /
الأنياده / لفيرجيل – د- أبراهيم سكر 1994
أناشيد الرعاة –فيرجيل – ترجمة وتأليف أمين سلامه
ملامح يونانية في الأدب العربي 2016 (نسخة ألكترونية )
كانون ثاني /2021
إعادة إحكام سؤال المنهج في الفقه الحضاري عند مالك بن نبي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. نابي بوعلي
"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].
مقدمة: رغم الفارق الزمني بيننا وبين ميلاد مشروع مالك بن نبي حول "شروط النهضة" إلا أن أفكاره ظلت تزحف إلينا متحدية الزمن، لتتصدر الواجهة مع تجدد الهم الحضاري، نظرا لما تحمله من تساؤلات عميقة حول شروط النهضة ومشكلات الحضارة والمعاناة الحضارية، وشروط البناء الحضاري الإسلامي الجديد.. فكيف ننتقل إلى صفحة جديدة من التاريخ؟ متى ندخل نادى الأمم المتقدمة في أفق المستقبل؟ من أين نبدأ النهضة وما شروطها؟
إن هذه التساؤلات تفرض علينا في نظر مالك بن نبي إعادة إحكام سؤال المنهج من أجل تشخيص المرض الذي ظل المجتمع الإسلامي يتألم منه منذ قرون، إذ اكتفت محاولات الإصلاح بالحديث عن أعراض المرض بطريقة مجتزئة ولم تتناول حقيقته، ولم تنفذ إلى صميم مشكلة أزمة النهضة بشكل جذري. إن الصياغة الجديدة للمنهج تضعنا أمام تحدي مواجهة أسئلة عميقة بخصوص شروط النهضة وأدواتها لاستئناف المشروع الحضاري.
إن غرضنا ليس الدفاع عن منهج مالك بن نبي في الإصلاح وغاياته التي يرمي إليها، وإنما أن نفحص التحول الحاصل في موقفه بخصوص المنهج الذي سلكه للتنظير لشروط النهضة في التاريخ انطلاقا من مكتسبات العلم بحكم تكوينه العلمي وهو ما شكل تحولا حاسما في الفهم الجديد لشروط النهضة، إذ رأى أنه قد حان الوقت لأن تتحرك الأمة بطرق إيجابية وعلى أسس علمية وعملية جديدة بما يخدم قضاياها حتي تأخذ مكانها في عالم الشهود لأنها صاحبة رسالة في التاريخ.
سوف أتناول في هذا المقال إشكالية أساسية، تتمثل في إعادة إحكام سؤال المنهج في الفقه الحضاري من خلال كتاب مالك بن نبي الموسوم بـ" شروط النهضة"، استنادا إلى فرضية أن تغيير المنهج يدخلنا بالضرورة في تصادم قوي مع الواقع لكي نعيد تشكيله من جديد.
وتكمن أهمية هذا الموضوع في التأكيد على حق المسلمين في بناء حضارة خاصة بهم خارج دائرة الحضارة الغربية، وهذا لا يتعارض مع السنن الكونية التي تجعل الحضارة تداول بين الشعوب دون احتكار ودون فرض النماذج الحضارية الأخرى على الحضارة الإسلامية، خاصة مع تصاعد نبرة الخطاب الغربي الذي لم يستطع تصور حضارة خارج إطار حضارة الغرب. وهذا التفكير السنني في بناء الحضارات الذي يقدمه مالك بن نبي يكون قد يفيد في صياغة مقاربات جديدة أكثر فاعلية لتحقيق النهضة، وهي مقاربات تساعد في تركيب رؤية واقعية وموضوعية عن مقصدية الإنسان المستخلف.
1 - عن سؤال النهضة
يعتبر مالك بن نبي من أبرز المفكرين المسلمين الذين انشغلوا بالفكر الحضاري بالمعنى الفلسفي بعد ابن خلدون، وقد تمثل فلسفة التاريخ وفلسفات الحضارة لدي أغلب الفلاسفة الغربيين المعاصرين من أمثال هيجل وماركس وتوينبي واشبنجلر وكسرلنج...، وعمل على هندسة فكرة الاقلاع الحضاري في رحلته الفكرية التي كرس من خلالها جهوده لمشكلات الحضارة ووجهة العالم الإسلامي في تشخيص الأزمة الحضارية، وإمكانية النهوض بالعالم الإسلامي وإدخاله نادي الأمم الحية، حتى يتجه العالم الإسلامي إلى وضعه الطبيعي.
خاض مالك بن نبي نقاشا واسعا ومعقدا يغذيه الطموح الذاتي للتحرر من التخلف والاستعمار، لأنه كان يحمل هموم الأمة الجزائرية بكل إخلاص وتفاني، وعمل من أجل إدراك المقاصد وبلورة مشروع نهضوي مستقبلي لأمة أصابها التآكل من جميع الجهات، وصار حضورها التاريخي يتراجع أمام تقدم الأمم الأخرى. وحتى ولو انصبت دراساته على وضع محدد هو الجزائر، إلا أنها تعدت في أبعادها الإنسانية حدود الجزائر والعالم العربي والإسلامي إلى آفاق واسعة من العالم.
يرى مالك بن نبي أن الأمة الإسلامية تواجه تحديا خطيرا، ولا خيار لها أمام التحدي إلا رفعه، ولا بديل لها عن التحضر كحتمية تاريخية ووجودية. وفي ظل التدافع الحضاري، يكون من حق المسلمين، بل ومن واجبهم البحث عن أسباب الحضارة ومسالك التحضر، وأن يكون لهم مشروعا حضاريا كباقي الحضارات الأخرى، وخاصة المشروع الحضاري الغربي الذي يسعى إلى الهيمنة على الحضارات الأخرى وابتلاع باقي الثقافات في جوف ثقافة واحدة، تلتهم في طريقها كل ما تجده مختلفا عنها ومخالفا لها. في هذا المناخ الفكري والسياق التاريخي المليء بالتناقضات ولد مشروع "شروط النهضة" بإيمان قوي ووعي بما يجري واستشراف لمستقبل الأمة ووجودها بين الأمم، وهو مشروع فكري يطرح على المسلم أعمق الأسئلة وأكثرها خطورة، تلك الأسئلة التي تحمل في ثناياها هموما نهضوية تحيل بقوة على الواقع والتاريخ، والتي لا تزال تحتفظ براهنتيها وتنتظر الإجابة.
لذلك يندرج مشروع مالك بن نبي في إطار السؤال المعرفي المتعلق بإشكالية النهضة وشروط البناء الحضاري الإسلامي الجديد، الذي طرحه رواد النهضة والإصلاح لمعالجة الوضع الاجتماعي والحضاري العربي القائم، وضرورة تغييره نحو الأفضل، لأن هذا الواقع لا يعكس آمال وطموحات ورسالة الأمة الإسلامية، وظل هذا الهاجس مدار اشتغال الفكر العربي المعاصر، وظلت المحاولات تصب في إطار سؤال مركزي، هو سؤال النهضة.
يختصر سؤال النهضة عمق الأزمة الحضارية عند المسلمين ملخصة في السؤال الأسطوري: لماذا تخلف المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وفي هذا المضمار قدّم مالك بن نبي اجتهادات لتفسير مشكلات الحضارة كغيره من المفكرين العرب الذين تحركوا لتجديد الخطاب التاريخي العربي بعد صدمة الحداثة، وتوسعت هذه الحركة النقدية مع مالك بن نبي ليعيد للمسلم كامل وظيفته في البناء الحضاري حيث نجده يختلف عنهم في التناول المنهجي الذي تميز بالروح الدينية وقوة التحليل العلمي في رحاب فلسفة التاريخ، فقد لاحظ أن الجهود السابقة لم تؤثر بقوة في حركة التاريخ، ولم تحرك طاقات الأمة وتحررها، مما يفرض إعادة قراءة هذا التاريخ منهجيا في ضوء مختلف. ولا يتم ذلك المسعى في نظره إلا من خلال استيعاب حركة التاريخ، ووعيها، بمعنى البحث عن دور ووظيفة الفكر في التاريخ. إن التاريخ في نظره لا يسير بطريقة عفوية كما يعتقد البعض، بل تحكمه قوانين محددة تقوده نحو غايته النهائية. وسؤال النهضة يضعنا أمام المشكلات، فكيف فرضت النهضة نفسها كرهان على الفكر العربي، وكيف تعاطي معها ذلك الفكر؟
ظهر مالك بن نبي رائدا لقراءة الحضارة، متأملا في ظاهرة التخلف والتدهور التي أصابت الأمة الإسلامية والتي استولت عليها الأفكار الأشد عداء للحداثة بالرغم من أنها تحاول النهوض منذ زمن بعيد، متسائلا كيف نرسم طريق المستقبل؟ وكيف نفعّل الطاقات الجامدة؟ وبعد مراجعته للسجلات السابقة " اكتشف قصور الفكر الإصلاحي النهضوي المرتبط بالإسلام وفشله في حل مشكلة النهضة، التي هي في أصلها مشكلة حضارة وليست مشكلة تخلي عن الدين"( بوبكر،ج.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحركة الاصلاحية في العالم الاسلامي:254). وهنا بالنسبة للإسلام يقلب مالك بن نبي السؤال منهجيا من الصيغة التقليدية: هل يوجد في الإسلام ما يمنع الإنسان المسلم من التحضر ومسايرة وهج الحضارة إلى الصيغة التالية: هل يوجد في الإسلام أشياء ما تدفع بالمسلم إلى الحضارة؟
ويجيب أن التاريخ يشهد بأن الاسلام بنى حضارة طيلة ثمانية قرون، وهذا البناء الحضاري الإسلامي هو الذي مثل الجسر الذي عبرت عبره الحضارة إلى زماننا الحالي، أي العصر الجديد، ولولاه لبقيت الإنسانية في العصر القديم جامدة ولم تتقدم أبدا. فالدين عملية ضرورية لبناء الحضارة" ففي الدين توجد عوامل الحضارة وأسباب النهوض، والأمر يعود إلى فهم الدين والتعاطي معه، فالتخلف مثل التحضر يحل بالمسلم وبغير المسلم، والإسلام عامل تحضر إذا تمكن المسلمون من تحريكه نحو الإقلاع والبناء الحضاريين وإلا كيف نفسر تخلف المسلمين وتقدم غيرهم. فالإسلام ليس مجرد شعارات ترفع ونسك تقام وشروح تبرز محاسنه وتفند أقاويل ودعاوى خصومه وأعدائه، بل الأمر يتعلق بالمنهج الإسلامي المتبع من طرف المسلمين في التعاطي مع الواقع والحياة عامة"( بوبكر،ج.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحركة الاصلاحية في العالم الاسلامي:254).
لقد ظلت حركة الإصلاح تعالج مشكلة التخلف انطلاقا من رؤى وأمزجة شخصية وبطريقة جزئية دون تناول المشكل في كليته، ولذلك رأى مالك بن نبي أن الرأي الشخصي أو المزاج أو المهنة غير قادرة منهجيا وعلميا أن تقدم تحليلا موضوعيا في مجال يسيطر عليه الجانب الذاتي، وعلى سبيل المثال فقد" رأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني: أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية، بينما رأي رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ …الخ على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المـرض بل يتحدث عن أعراضه"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:41).
لقد اتخذ مالك بن نبي مسارا عكسيا في الاشتغال على سؤال النهضة بعد أن اكتشف نقائص منهجية وسمت حركتي الإصلاح والنهضة اللتين تناولتا الواقع بطرق جزئية سياسية...إدارية...عقلية...دينية ...تربوية...ايديولوجية... من دون الوقوف على علة المرض، فقرر إعادة إحكام سؤال المنهج، يقول مالك بن نبي" هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا، والفقر والبؤس هناك، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض، أعني دراسة مرضية للمجتمع الإسلامي بحيث لا تدع مجالا للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:40).
ومن هنا صارت المسألة الأساسية التي تشكل الشغل الشاغل لمالك بن نبي تتمثل في السؤال: كيف نبدأ النهضة؟ كيف تنهض الأمة الإسلامية من جديد؟ وما شروط هذه النهضة المنتظرة؟
من هنا تأتي دعوة مالك بن نبي لتصالح الذات مع التاريخ والالتحام به، من خلال القضاء على أشكال الغربة والاغتراب، وابتكار أنماط جديدة من التفكير الحر البناء، التي سيقودنا حتما إلى معرفة القوانين الأساسية التي يخضع لها تاريخ الإنسان، حتى لا نظل شعوبا مراهقة قاصرة تحتاج إلى غيرها دائما، لا تعرف مرحلة الشباب ولا مرحلة الرجولة، وهو ما يدل بما فيه الكفاية على أن هذا التاريخ الذي نحياه اليوم، قد انحرف عن مساره الطبيعي، وهو بالتالي تاريخ الغياب عن المسرح العالمي والتدافع الإنساني.
لقد صار من الضروري في نظر مالك بن نبي أن ينتصر الإنسان العربي نفسيا وفكريا وثقافيا، وأن يعالج أمراضه من الداخل بالاعتماد على الذات، حتى لا يبقى حالما وهو في حالة اليقظة وما أصعب أحلام اليقظة المنحرفة، ولا بد عليه أن يقتنع بإمكانية تحويل التاريخ تحويلا مفيدا، بعد أن يمتلك المقومات الضرورية لذلك، وفي مقدمتها وعي الصيرورة التاريخية من خلال أبعاد الفكر المختلفة.
2 - أبعاد الأزمة الحضارية:
من الطبيعي قبل الحديث عن النهضة وشروطها لا بد من تحديد معالم أزمة الحضارة في العالم الإسلامي، فالأمة الإسلامية تعيش وضعا مأزوما يتجلى في الحصار والتهديد والتقسيم والتهميش والعدوان المباشر عليها. والملاحظ أنه في الوقت الذي تستفحل الأزمة عندنا وتتعمق، ينجح الغرب في إقامة هوة ويوسعها على الدوام بيننا وبينه ويطوقنا من كل جانب ويحاول إغراقنا أكثر فأكثر في مستنقع التخلف ليهم بالسيطرة على العالم. أمام هذه الصدمة شرع الفكر العربي يشخص ملامح الأزمة المركبة التي يعيشها في شكل تبعية للقوى العظمى، فالمجتمعات العربية تتخبط في دوامة من المشكلات وتبحث عن نفسها في خضم الصراع، وضيعت الكثير من الفرص والوقت لتحقق لنفسها هامشا من الأمن على كل المستويات.
إلى جانب ذلك تعيش أزمة داخلية هي أزمة العلاقة السياسية بين الحاكم والمحكوم وإشكالية تجديد النظم السياسية، من دون أن ننسى حضور السلطة الكاتمة للأنفاس والمراقبة للخطاب والمهيمنة على كل شيء لاعتقادها أن الحقيقة تتجسد فيها وحدها استنادا إلى ايديولوجيات هرمة. ومن دون الوقوف على علة المرض السياسي في المجتمعات الإسلامية الذي ظل ينتج ويعيد إنتاج ذلك الكائن المغترب عن العالم ويرسم مصيره وتاريخه منذ لحظة ميلاده حتى لحظة فنائه ويكرس منطق التأزم التاريخي، فإن الطريق إلى النهضة يبقى شاقا وطويلا.
إن الغرب عرف النظام الديمقراطي وبلور رؤى سياسية تقوم على حكم الجماعة وتطوير الفضاء العمومي وتوسيع هامش الحريات الفردية والجماعية وضمان الحد الأدنى من حقوق الإنسان وإشاعة ثقافة المواطنة، بينما العقل العربي لم يعرف هذا النظام، بل عرف أنظمة تقوم على قدسية الحاكم وتفرده المطلق، حتى صار التاريخ العربي في معظمه يدون بأسماء الملوك مثل العصر الأموي والعصر العباسي، ويتأسف على استمرار هذه الظاهرة" وما زالت هذه العقيدة الوثنية التي تقدس الأشخاص لا زالت منتشرة في بلاد الإسلام"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:158).
وهنا يلح مالك بن نبي على ضرورة الانتقال من ممارسة البطولة إلى صناعة تاريخ الشعوب.
ثم أزمة التحديات الخارجية التي تعمل على إجهاض كل مسعى نحو التقدم والازدهار حتى تبقى المجتمعات العربية في دائرة التخلف التي يزجها الغرب فيها حتى يتحول الفرق بيننا وبينه إلى عجز حضاري دائم. ففي كل محاولة وفي كل منعطف تاريخي تصطدم الأمة العربية بقوة غاشمة تجهض أي محاولة للنهوض الحضاري، وأخيرا فقدان الرؤية الاستراتيجية الشاملة لتغيير الواقع وذلك من خلال إشراك كل الفاعلين وأهل الاختصاص من أجل انتشال الأمة من وضعية التخلف. فتجاوز حالة التخلف يكون بالنقد العقلاني والوقوف على الأسباب الحقيقية الموضوعية والتاريخية زيادة على امتلاك المعرفة العلمية الجديدة التي تسهم في بناء مشروع تنموي نهضوي متكامل في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية.
3 - من شروط النهضة إلى بناء المشروع الحضاري:
قبل تحديد مفهوم الحضارة وشروط النهضة عند مالك بن نبي، نتوقف عند فكرة مركزية أصيلة شغلت مساحة واسعة من تفكيره، وهي فكرة "القابلية للاستعمار"، والتي يمكن اختصارها في قولنا" لا يوجد استعمار إلا حيث يوجد مُستعمَر"، وكيفية الانتقال من القابلية للاستعمار وتكسير قيوده إلى رحاب النهضة والحضارة التي يؤدي فيها المسلم رسالته.
يرى مالك بن نبي أن "هذه الملاحظة الاجتماعية التي تدعونا لأن نقرر أن الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها، التي تقبل ذّل الاستعمار، والتي تمكن له في أرضها"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 31).
لقد أفرد لهذه الفكرة جانبا كبيرا من التحليل والنقد والاستنتاج لفك ألغازها في إطار معالجة الاستعمار والشعوب المستعمرة. يرى مالك بن نبي من خلال تحليل المعامل الاستعماري الذي يوجه مصير الفرد، أن الاستعمار لا يتسلط إلا على الشعوب الضعيفة، لأن المستعمر الطامع يستثمر في التخلف، فلم يحدث تاريخيا أن تعرض شعبا قويا للاستعمار، وهذه إحدى بداهات سنن التاريخ التي ينبغي أن يعيها المسلم، فحيثما يكون الانحطاط يجلب الاستعمار بالضرورة، الذي هو نتيجة حتمية وطبيعية للانحطاط الحضاري. وبالمقابل، وحتى لا نكون مستعمرين يجب أن نتخلص من ظاهرة القابلية للاستعمار. لا يمكن فك عقدة القابلية للاستعمار وغيرها من ملامح الأزمة المركبة التي يعيشها المسلمون إلا بتغيير المحتوى النفسي والعقلي والثقافي للإنسان، والتغلب على المشاكل التي تمهد لقدوم الاستعمار وتفكيك بنيتها، وتفعيل الأفكار بالتوجيه والاستغلال الفاعل وإعادة صياغة الثقافة الإسلامية وعناصرها الأربعة: الأخلاقية، الجمالية، المنطق العملي، والجانب الفني. إن المشكلة لا تكمن في الاستعمار في حد ذاته ولكن في من تتسع نفسه لتقبل ذّل الاستعمار، وهنا يكتشف مالك بن نبي المعامل الداخلي في مقابل المعامل الاستعماري الخارجي في الفرد الذي يقبل على نفسه الاستعمار، ولا يتحرر الإنسان من ذلك ليرفع عن نفسه مظلمة القابلية للاستعمار إلا برفع شعار" أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم". وذلك بتفكيك عناصر الخوف وبقايا عصور القهر والظلام والقضاء على النقائص التي تعتري الشعور وتخليصه منها.
إن الشرط الأول للنهضة هو ضرورة محاربة استمرار الاغتراب الثقافي في وعي الفرد والتحرر من فكرة القابلية للاستعمار التي هي محك ثقافي يكشف قدرة الوعي على العودة إلى الذات بادراك التمايز والتغاير عن الآخر، وما لم ندرك هذه الحقيقة سنظل نسير عكس حركة التاريخ الطبيعية وسننه الكونية" إن جوهر المسألة هو مشكلتنا العقلية، ونحن لا زلنا نسير ورؤوسنا في الأرض، وأرجلنا معلقة في الهواء، وهذا القلب للأوضاع هو المظهر الجديد لمشكلة نهضتنا"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 36).
4 - مفهوم الحضارة عند ملك بن نبي
من جملة الاهتمامات التي انصبت عليها دراسات الإنسان تاريخيا بصورة عامة، هي محاولة فهم وتعليل عوامل التطور والتقدم، وأسباب الانحطاط والتخلف التي تصيب الحضارات المتتالية التي شيدها الإنسان، وهل هناك قوانين موضوعية تتحكم في قيام الحضارات وزوالها؟ ولماذا هناك تقدم حضاري؟ ولماذا هناك تخلف حضاري بالمقابل؟ من يحرك التاريخ ويصنعه؟ إلى غير ذلك من التساؤلات الكثيرة.
وفي ضوء ذلك، شرع مالك بن نبي في بلورة مفاهيم نظرية جديدة لفلسفته، ووضع الحضارة في شكل معادلة رياضية، بتركيب ثلاثي الأبعاد (الإنسان، التراب، الوقت) تحكمها الفكرة الدينية التي تمزج هذه العناصر وتفعّلها، وتمنحها الديناميكية في إطار مجتمع حي متفاعل باستمرار، ليؤسس نظرية من منظور الظاهرة القرآنية ومركزية القرآن الكريم، يؤكد من خلالها على أن الفكرة الدينية كعامل اجتماعي تسهم في تحريك التاريخ وتوجه مساره المستقبلي" إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 49 ) هذا النص الذي لا يؤكده مبدأ الايمان الديني فقط، ولكن يدعمه اختبار التاريخ وصيرورته، كما يؤكد أن موطن المعجزة يكمن في النفس التي دل عليها القرآن الكريم، لدفعها إلى محراب الإيمان الذي يمنحها مبدأ الشعور بضرورة التغيير ويدفعها إليه، لأن الدين فكرة محورية في بناء الشخصية، لتتجه لبناء مشروع نهضوي متكامل في أبعاده الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والإنسانية بعد العودة إلى فكرتها المؤسسة التي شكلت ميلاد حضارتها الأولى في النموذج الأصلي الذي قطعت صلتها به بسبب الانحراف التاريخي وجهل السنن.
استند مالك بن نبي إلى ترسانة قوية من المفاهيم وظفها في سائر كتاباته وبناء نظريته في فلسفة الحضارة، ومن بين تلك المفاهيم مفهوم الحضارة، فماذا تعني الحضارة عنده؟
الحضارة في نظره هي ضرورة حياتية لكل شعب، ووجود شعب بدون حضارة هو أشبه بالعبث في التاريخ، لأن من شروط المجتمع البشري أن تكون له حضارة، فالجماعات التي تعيش دون غاية فهي تعيش في زمن ما قبل الحضارة ولا تؤدي وظيفة وجودية. وما لم يفقه الإنسان حقيقة قيام وأفول الحضارات فسيظل يتخبط في دوامة مشكلاته، ويعيش الضنك الحضاري. ثم إن الحضارة إبداع بشري خالص، يتوقف على حصيلة تجارب الشعوب وجهودها عبر الزمن عندما ينتج الإنسان الأشكال الراقية للحياة، وبإمكان أي شعب أن يصل إلى درجة التحضر عندما يخرج من طور التكديس إلى طور البناء، وهنا يفند مالك بن نبي أكاذيب الاستعمار الغربي، الذي كان يدعي أنه يحمل معه للشعوب المستعمرة ملح الحضارة، لأن الحضارة لا يكمن استيرادها وإن كان يمكن استيراد منتجاتها والانتفاع بها.
5 - ركائز النهضة بوصفها مشروعا ذاتيا:
تنبني النهضة على فعل الإبداع، وركائزها متداخلة ومتكاملة في نظر مالك بن نبي، فهي تمثل عالم الأفكار، وعالم الأشياء وعالم الأشخاص، ويعتقد أنه آن الأوان لنتحرك ونستيقظ من السبات ونبني حضارتنا بتشييد ذاتي، واستقلال هوياتي، يضمن لنا الخصوصية في إطار الكلية والكونية والتنوع الثقافي مع الآخر، وإلا فسيحكم علينا التاريخ حكما قاسيا، ويتركنا في برودة قاسية جدا تتواصل فيها المعاناة الحضارية. ولكي نعرف شروط النهضة، يجب علينا أن نحدد مكاننا من دورة التاريخ، لأن استيراد الحلول شرقا وغربا هو مضيعة للوقت وإطالة للداء، وبالرغم من ذلك يبدو أننا نعمل على تكويم منتجات الحضارة الغربية أكثر مما نفكر في بناء حضارة ذاتية خاصة. ولكن ليس بمجرد الحديث عن شروط النهضة تتحقق النهضة، فهو يدرك أن تحريك مجتمع خضع لنوم طويل، وسيطرة استعمارية غاشمة، ليس بالأمر اليسير، فالمجتمع حديث اليقظة لا تزال عليه آثار التخلف. لقد عملت رواسب الماضي وأطره وأبنيته فيه عملها، وكاد أن يستسلم للتخلف لقرون من الزمن، واستولت عليه فكرة التخلف والعقلية التراثية الفجة، ومن ثم لا بد أن يخضع لعملية تغيير جذرية شاملة للإنسان العربي الذي يحمل روح الهزيمة بين جوانحه ويعيش على بقايا أفكار لم تعد تستجيب لمشكلات العصر والتطور، ومستلب في مظهر حداثة مغدورة ومغشوشة، لم يساهم في بنائها ولا يستفيد من إمكانياتها الفعلية. ولفك الارتباط بين مظاهر التخلف وبين مرحلة النهضة، لا بد من المرور بمرحلة انتقالية تفصل بينهما، فظاهرة التخلف لم تخص بها الأقدار المجتمع الإسلامي وإنما هي ظاهرة تصيب كل المجتمعات ولذلك ينبغي أن نتخلص من عقدة التخلف التي ليست من قدرنا وحدنا في هذا العالم.
6 - أفق المستقبل في ضوء الايمان الديني:
لا يمكن العبور إلى المستقبل واسترداد حرية العالم الإسلامي دون تشخيص الحاضر، يؤكد مالك بن نبي على القرآن وأهمية الدين بالنسبة لبناء الحضارة ضد الالحاد والمادية، ويركز على فكرة التجديد بالدين، وليس تجديد الدين. تلتقي فلسفات التاريخ عند الرؤية المستقبلية والمصير في إطار جدلية الإنسان والحضارة، بين التكديس والبناء لأن الأمة لا تزال بين أحضان وثنية الجهل وغياب الوعي وسوء تقدير للقوى المحركة والدافعة في التاريخ حتى ليكمن القول أن المريض قد استسلم لمرضه وقبل التعايش معه.
بين التكديس والبناء وجدل الإنسان والتاريخ يكشف لنا قانون قيام وأفول الحضارات من أين نبدأ النهضة، وكيف تبنى الحضارة، استيعاب التركيب الديناميكي لثلاثية الوقت والإنسان والتراب في وسط ينتج حضارة وهو الوسط الديني المركب للفكرة في حالة حياة وتحويلها إلى مشروع، وتفعيل الأفكار من خلال التوجيه والاستغلال الفاعل فالذي ينقص المسلم منطق الفعل والحركة، وإعادة صياغة الثقافة الإسلامية وعناصرها الأربعة: الأخلاقية، الجمالية، المنطق العملي والجانب الفني، وهي التي تحدد اتجاه الحضارة ورسالتها في التاريخ.
والإنسان المستخلف في فكر مالك بن نبي يعي التفكير السنني في بناء الحضارات، وفلسفة الحراك الحضاري، والإرادة الحضارية واستحضار الهمة، والتحديات التي تواجهه.
بالإضافة إلى المشكلات المعرفية والمنهجية السابقة التي آثارها مالك بن نبي، فإنه آثار أيضا مشكلة المرأة التي لا يمكن اعتبارها مستقلة عن الرجل، فالاثنين يشكلان مشكلة الفرد في المجتمع من المنظور الاجتماعي. إن البحث عن المنهج الأسلم هو الذي دفعه إلى إثارة المشكل، حيث قلل من أهمية الدراسات التي نصبت نفسها للدفاع عن حقوق المرأة باعتبارها مخلوقا ضعيفا مهضوم الحقوق والتي تطالب بتحريرها، بأنها ليست دعوات صادقة، ولا يمكن للمرأة المسلمة أن تتقدم بمجرد تقليد ظاهري للمرأة في الغرب. بل يجب أن ننظر إلى الرجل والمرأة من خلال حاجة المجتمع إليهما معا.
لا يغيب عن نظر مالك بن نبي أن هناك معوقات تقف أمام النهضة، منها تعاظم الرؤية الطرقية الصوفية التي رسخت الدروشة، وتراكم سنين التخلف، وغياب الوعي، مركب النقص، آفة التقليد القاتل، فقد القدرة على التحدي الحضاري، عدم استيعاب مرونة الواقع من حولنا...، ولذلك تقتضي نظرية التغيير تعميق الوعي والشعور الإسلامي في كل المسلمين بضرورة محاربة الوعي الزائف الذي يكرس الروح الانهزامية لديهم. وفي نفس الفكرة يرى حسن حنفي أن عدم الاهتمام بحياة الشعوب ومراحل تطورها المختلفة، يجعل الحقيقة سجينة التاريخ الرأسي، دون الاكتراث بالتاريخ ألأفقي بين الماضي والمستقبل "وغياب التاريخ الأفقي في الفكر الإسلامي أدى إلى غياب كل نظرية في التقدم التاريخي يكون محورها الإنسان في تفاعله مع واقعه الاجتماعي والسياسي، لذلك سيطرت العقلية الإيمانية التي تربط الله بالإنسان في دائرة الأخلاق والإيمان المحض بعيدا عن جدل الواقع والتاريخ"( قادة، ج،(2005) نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي، حروف الحكمة العملية:50).
إن الخلاص من ورطة التخلف الحضاري يكون بوعي بخطورة الانحطاط وضرورة تجاوزه بامتلاك إرادة الحضارة من خلال الوعي الحقيقي بضرورة الخروج من حلقات التخلف، لنتحكم في زمام حركة التاريخ و توجيهها مع ما يتناسب وحضارتنا وقيمنا وثقافتنا تحريرا للإنسان الذي يتألم.
وعلى الرغم من أن مالك بن نبي يعتقد أن من يقوم بالمقارنة بين العالم الإسلامي والأوروبي يجهل قانون الدورة الحضارية، وهذا أشبه بالسجين الذي يطلب من سجانه أن يسلمه مفاتيح السجن ليتحرر منه، فإننا نرى أن الخطاب العربي قد تبلور متأثرا بالحضارة الغربية التي تقاطعت معه بفعل المد الاستعماري، وإذا ما حاولنا اختزال تلاقي أفق الجانبين في قضية مركزية، فإنه يمكننا أن نتحدث عن مشروع النهضة العربية في الواقع وفي الفكر العربي.
يمكن القول، أن مسألة تغيير المجتمعات وتطورها تاريخيا تأتي بقوة الفكر، والتاريخ يشهد أن أوروبا قد تطورت بفضل إسهامات تطور الفكر الفلسفي والسياسي والاقتصادي، ابتداء من عصر الأنوار، أو ربما قبل ذلك، وهي المرحلة التي مهدت للثورات البرجوازية وفي مقدمتها الثورة الفرنسية التي شكلت منعطفا حاسما في تاريخ أوروبا، فلقد انشغل كبار المثقفين والمفكرين الأوروبيين من أمثال هوبز وروسو وهيجل وكوندورسيه وغيرهم بأكبر القضايا المطروحة على الساحة آنذاك في مجتمعاتهم. وكانت حصيلة أفكارهم ونظرياتهم المحرك الأساس للتحولات العميقة المتلاحقة، التي شهدتها أوروبا في مختلف الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
وهكذا كانت أسماء الفلاسفة تاريخيا تتصدر قائمة العمالقة المؤثرين في تاريخ الإنسانية الباحثين عن خلاصها وتخليصها من أشكال الخرافة والوعي الزائف وصنوف التخلف والتبعية. لا قيمة للفكر ما لم يرتبط بالواقع ويعبر عنه ويلتحم به، ويرسم للمجتمع تطوره نحو الأفضل في الحاضر والمستقبل. إن وظيفة الفكر هو البحث عن البدائل الممكنة القادرة على دفع المجتمع نحو التطور والعمل من أجل تقدم الوعي بالواقع والعمل على تجاوز عناصر تأخره، وتفعيل حركة الإبداع الذاتي للأمة، عوض الاستسلام للأقدار الوهمية، التي تحبط كل عزيمة، وتقيد كل إرادة مخلصة وطامحة للتغيير نحو الأفضل.
يلاحظ علماء الاجتماع والانثروبولوجيا وجود اختلاف في درجة وعي الشعوب بتاريخها، فهناك شعوبا عملت على الاستفادة من تاريخها ولم تتقاعس، ووظفته في الاتجاه الصحيح أثناء يقظتها، لتجاوز آلامها وتحقيق آمالها وأحلامها، وهناك شعوب أخرى ولت ظهرها لتاريخها، وتنكرت له، فتنكر لها بالمقابل، وأضحت تعيش على هامش الزمانية. حتى ليمكن تقسيم الشعوب من هذا المنظور إلى شعوب حارة وباردة" إن المجتمعات البشرية قد استعملت بأشكال متفاوتة زمانا ماضيا ربما كان بالنسبة لبعضها كناية عن وقت مهدور. وإن بعض المجتمعات كان يلتقم اللقمة مزدوجة ويقطع الأشواط أزواجا بينما كان غيرها يعبث ويتسكع، هكذا... التمييز بين صنفين من التاريخ: تاريخ تقدمي، اكتسابي، يراكم اللقمة تلو اللقمة والاكتشاف تلو الاكتشاف لكي يبني حضارة عظيمة، وتاريخ آخر لا يقل استخداما للمواهب، لكنه يفتقد للهبة التأليفية التي يمتاز بها الأول"( ستروس، ك. ل(1990)، الإناسة البنيانية: 305).
الخاتمة:
إن كتاب "شروط النهضة" يلخص جهد مالك بن نبي الفكري الذي كان يرمي إلى إحداث النهضة في العالم الاسلامي، ويعبر عن صرخة مفكر هاله وضع الأمة الإسلامية التي تكاد تخرج من التاريخ وتخشى خطر الإقصاء التاريخي، رغم أنها ليست من المجتمعات الطبيعية الساكنة، بل هي من المجتمعات التاريخية، التي يمكن أن تجدد شكل وجودها في التاريخ. وتعود إلى الحياة من جديد، التي يستأنف فيها كل شعب دوره ورسالته ويبدأ تاريخه من خلال امتلاك ما يسميه مالك بن نبي إرادة الحضارة.
ولعل أحسن توصيف لجهد مالك بن نبي في كتابه "شروط النهضة"، هو ما كتبه عبد الصبور شاهين قائلا: "الدراسة التي يقدمها بن نبي كأنشودة بهيجة يحي بها كوكب المثالية الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة ولكن هذه الأنشودة هي ثمرة عقل يحاول فتح آفاق عملية للنهضة العربية والإسلامية"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة: 8).
ولكن بالرغم من هذه المحاولة الرائدة، فإن مالك بن نبي لم يكن أكثر حظا من غيره، بل هو يشترك في هذا الامتياز الحزين مع بقية المفكرين العرب الذين لم تجد أفكارهم من يتفاعل معها في زمانها لتمنح الوجود حيوية وديمومة، وبالتالي بقيت على مستوى الخطاب ولم تنجح في نقل المجتمع إلى مستوى الطموح الذي يراود مخيال النخبة المثقفة، بعدما عجزت النخبة السياسية عن تحقيقه على أرض الواقع رغم التضحيات الجسام التي دفعتها الأمة، والتي لا تزال تدفعها.
ولقد أدلى من جهته عبد الفتاح مورو بشهادة عن مالك بن نبي يشيد فيها بجهوده التي سبقت زمانها قائلا:" هؤلاء المفكرون الذين ينظرون بعيدا ويسبقون أوقاتهم يُستهزأ بهم ولا يتحملهم الناس ويجدون أنفسهم غرباء في أوطانهم وأعظم غربة هي عندما يوجد الإنسان في قوم لا يفهمونه".
ثم أخيرا دخلت أفكار مالك بن نبي وأطروحاته في إطار الشروحات وإعادة الشروحات في شكل من أشكال التكديس الذي كرس جهوده الفكرية لمحاربته، دون أن يحدث تراكما معرفيا حول نظريته في الحضارة وشروط النهضة تدفع بالمجتمع الإسلامي قدما إلى الأمام بدل النكوص الحضاري. كما أننا لم نجد شخصية أو مؤسسة علمية أو إرادة سياسية تركّب ما جاء به مالك بن نبي ليبقى الفكر العربي يعاني حيا وميتا. فليس هناك تقدما ملموسا على صعيد الممارسة. وهذا الوضع ينسحب على جميع المشاريع الفكرية المتلاحقة لأهم رواد التجديد الفلسفي، النهضوي والثقافي في العالم العربي حيث ظلت بعيدة عن أن تزلزل التخلف الذي اشتد تماسكه وتمسكه بالمجتمعات الإسلامية، وتأجلت الدورة الحضارية والاستئناف الحضاري الذي تنبأ به المفكرون المسلمون، فهل وجد التخلف عندنا بيته ومستقرّه النهائي؟
ومع ذلك يبقى خطاب مالك بن نبي خطابا إشكاليا يبشر بقطيعة مع الوعي المفقود لتتجاوز الأمة ليلها المظلم وتستقبل فجر يوم جديد. فمتى يولد الجيل الذي يفصل بين عهد التخلف وعهد المدنية ومتطلبات التجديد الحضاري تحقيقا لروح التاريخ الذي يوجد في المستقبل أمامنا، وننتقل إلى صفحة جديدة من التاريخ، حينما تدق ساعة البعث لتعلن عن قيام حضارة جديدة؟ لأن من سنن التاريخ التي لا يجب أن تغيب عن البال" أن الحياة تدعونا أن نسير دائما إلى الأمام"( بن نبي، م(1986) شروط النهضة:159).
د. نابي بوعلي
جامعة معسكرـ الجزائر
............................
المصادر والمراجع:
1 - بن نبي، مالك.(1986) شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، دمشق، دار الفكر.
2 - بوبكر، جيلالي.(2012) مكانة مالك بن نبي في الحرة الاصلاحية في العلم الاسلامي، مجلة عصور الجديدة، مخبر البحث التاريخي، جامعة وهران، م 2، العدد5، .245-261.
3 - جليد قادة.(2005). نحو فلسفة جديدة للتاريخ العربي عند حسن حنفي. في كتاب الحسين الزاوي، حروف الحكمة العملية،(47-62) الجزائر، رياض العلوم للنشر والتوزيع.
4 - ستروس، كلود ليفي.( 1990). الإناسة البنيانية، ترجمة حسن قبيسي، ب ط، لبنان، مركز الإنماء القومي.
في السـؤال.. سؤالنا والفلسفة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
هذه أسئلة في الفلسفة وأجوبتها من قبل علي رسول الربيعي و أنيسة بوزيان.
س: ما هي الفلسفة بالنسبة لك؟
ج: د.علي رسول الربيعي: البحث عن الحقيقة غير الرياضية عن طريق ممارسة قوى الحكم والتفكير، والبحث عن المعنى.
ج: أنيسة بوزيان: الفلسفة بالنسبة لي هي رحلة بحث و ليست محطة وصول تعتبر مدرسة للحرية و صانعة للحياة فهي نهر هاديء و ليست سيل جارف، علمتني الفلسفة محبة الحكمة و عودتني على ممارسة حكمة الحب
س: لماذا الفلسفة مهمة؟
ج: د.علي رسول الربيعي: لأن العديد من الأسئلة المهمة - بما في ذلك الحقائق حول الأخلاق/ والقيًم، والجمال، والبنية العامة للواقع، وعلاقاتنا بهذا الواقع - لا يمكن معرفتها، على الإطلاق، إلا من خلال الفلسفة.
ج: أنيسة بوزيان: لأنها علمتني أن الثابت الوحيد هو أن لا وجود لشيء ثابت كما علمتني النقد والشك في كل الاشياء واخضاعها للغربلة حتى اتمكن التميز بين الراجحة منها والتخلى عن غير الراجحة و علمتني تفادي الأحكام المسبقة و أصبحت نظرتي للأشياء بعيدة و عميقة.
س: كيف تفكر في التفلسف؟
ج: د. علي رسول الربيعي: أفكر في فلسفة الحاضر، أيُ رفع قضايا ومشكلات اللحظة التاريخية المشخصة الـــى مستوى النظر الفلسفي.
ج: أنيسة بوزيان: أفكر في التفلسف من خلال فلسفة حياتي وعيش فلسفتي التي حلقت بي من قفص السطحية و المحدودية إلى أفق اليقظة والمغامرة.
س: ما هي أكبر مشكلة نواجهها في المجتمع المعاصر؟
ج: د.علي رسول الربيعي: الجهل.
ج: أنيسة بوزيان: تقديس التخلف وضعف الوازع الديني والإنحلال الخلقي والضياع.
س: ماذا تأمل أن تحققه من ممارسة الفلسفة؟
ج: د.علي رسول الربيعي: استنزاف الجهل أو تخفيضه.
ج: أنيسة بوزيان: محاربة تقديس الحمقى والأوهام والمغالطات المزوقة التي في ظاهرها خطابات ملائكية وفي باطنها أفكار وأفعال شيطانية.
الكتابة كأداة في مواجهة الذات والعالم
- التفاصيل
- كتب بواسطة: مادونا عسكر
وقفة مع كتاب "نسوة في المدينة"
"الحقيقة عدوّة للقلب الضّعيف وهو حتماً أجمل منها، وعاجزة عن إغاثة المظلوم لأنّها منذ الأزل تأتي بعد فوات الأوان." (أنسي الحاج)
تتجلى هذه الحقيقة بنسوة في مدينة الكاتب، بل إنّها المدينة الّتي اتّسعت لكلّ هؤلاء النّساء، وقد تتسّع إلى المزيد منهنّ أو لا تتّسع. فبحسب ما نقرأه في كتاب فراس حج محمد "نسوة في المدينة"*، تجربة واختبار شخصيّ في مرحلة من حياته أراد أن يضعها تحت المجهر ليتحرّر منها.
استناداً إلى التّصدير، يقدّم الكاتب نفسه كضحيّة. فهو في عمقه يشعر أنّ هذه التّجربة إثم ثقيل يحاول أن يتخلّص منه من خلال إظهاره للعلن. فللحديث الشّريف في التّصدير (الإثمُ ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطّلع عليه النّاس) دلالة على ذلك، كأنّه ينبّه القارئ إلى أنّ الصّدق التّام والصّادم الحاضر في المضمون، ما هو إلّا اعتراف بهذا الإثم لينزع عنه ثقله. فإذا اطّلع عليه القارئ انتفت عنه صفة الإثم. وبذلك يريح الكاتب ضميره من جهة. ومن جهة أخرى يعتمد على هذا الحديث كوسيلة دفاعيّة غير واعية أمام القارئ الّذي قد يحكم عليه من خلال القصص الواردة في الكتاب.
وإذا ما وضع الكاتب نفسه تحت المجهر، وعبّر عن ذاته دون مواربة أو تزوير ناقلاً تجربته الحياتيّة كما هي وبكلّ صدق، فلا ريب في أنّه يعرض للقارئ أعمق ما في ذاته بما فيها من جوانب مظلمة وتناقضات والتباسات. ولا ريب أنّه لا بدّ من رصد إشارات تكمن في قعر النّفس الإنسانيّة بشكل عام، وبشكل خاصّ عند الكاتب.
بطبيعة الحال لم يخرج الكاتب من هذه التّجربة وهو راَضٍ عن نفسه، فهو يعيد قراءة هذه التّجربة على ضوء الحاضر النّاضج والمتحرّر. إلّا أنّه أظهر شجاعة في مواجهة هذه التّجربة الّتي أظهرت جوانب من شخصيّته: كالغرور والعبثيّة والعاطفة الّتي غالب الظّنّ تطبع شخصيّة الكاتب.
- العبثيّة:
تمدّدت العبثيّة في الكتاب كلّه وتغلغلت في كلّ القصص بدءاً من حكايته مع الكتابة وصولاً إلى الجملة الأخيرة في الكتاب: " وبعد: كيف لي أنْ أتخلّصَ من كلّ النّساءِ العالقاتِ على جثّتي؟".
يبدو الكاتب في نصّ (هذه هي أشدّ الأفكار غباء/ ص21) عبثيّاً متأمّلاً النّهاية الحتميّة: "ماذا ستستفيد البشريّة من مقالٍ كُتب؟ وما معنى أن تكتب أصلاً؟ وما الفائدة لتعابث مثل هذا العبث؟ ألتصبح مؤلّفاً مشهوراً ومفكّراً وشاعراً وروائيّاً وناقداً؟ وماذا يعني كلّ ذلك؟ ولماذا تريد أن تصبح شيئاً من ذلك وأنت ستؤول إلى "لاشيء" في نهاية المطاف؟" فيتساءل في هذا النّصّ عن أهمّيّة المعرفة والقراءة والكتابة في حين أنّ كلّها آيلة للزّوال، للموت. الكاتب في مواجهة السّؤال عن أهمّيّة الوجود بحدّ ذاته وعن الغاية المرجوّة منه. فيبرّر حزنه الكبير، لكنّه يضيف عبارة لافتة فيقول: "ألا يكفي ذلك لأكون حزيناً وإن كنت شبقاً أيضاً؟"، فهل تناقض الحزن والشّبقيّة في هذه الجملة أم أنّ العبثيّة دفعت الكاتب ليقيم علاقات عاطفيّة متعدّدة أدّت به لموت من نوع آخر. فهرب من عبثيّة إلى عبثيّة؟ هل كان يبحث عن السّعادة في هذه العلاقات ليتحرّر من العقلانيّة والتّفكير والبحث الوجودي؟ أيّاً كان الجواب، فالنّتيجة هي أنّ الكاتب هرب ممّا اعتبره وهماً إلى وهم آخر وغرق فيه حدّ النّخاع. ولعلّ هذه العبثيّة تنطلق من الدّائرة الواسعة ثمّ تضيق شيئاً فشيئاً حتّى تخنق الكاتب. فالدّائرة الواسعة هي الكتابة، وصراع الكاتب مع شريعة الغاب والأحكام المطلقة جزافاً كما صراعه مع عبثيّة الكتابة نفسها. وأمّا الدّائرة الضّيّقة فهي نفس الكاتب حيث يتمّ الصّراع الحقيقيّ وحيث يفعل اللّاوعي فعله في سلوكيّاته الّتي قد تكون غير مفهومة للآخر، أو على أقل تقدير يتمّ الحكم عليها ظاهريّاً.
يسبق هذا النّصّ "هذه هي أشدّ الأفكار غباء" نصّ يبدو لي أشبه بنصّ حكميّ، يربط الكاتب بين الكتابة والنّساء "الكتابة ليست شفاء دائماً/ ص20"، فيلامس الفكرة من بعيد ليعود ويتحدّث عنها جليّاً في نصّ آخر. ويبدو هذا الحكيم قاسياً في حكمه على الكتابة وعلى نفسه. وأظنّ أنّ ذلك يعود لما كان في نفس الكاتب من تخبّط في مرحلة من حياته. كما أظنّ أنّه كان يعتبر الكتابة تعبيراً عن ذات متخبّطة أم أنّه كان يترجّى من كتاباته أكثر من اللّزوم. فالفقرة الواردة في نصّ "الكتابة ليست شفاء دائماً" توحي للكاتب كأنّ الكتابة مرض ينهك الكاتب حتّى الموت: "نحن ما نحن يا سيّدتي، فكلّ ما كتبناه وما سنكتبه لا يساوي جملة في أيّ كتاب مقدّس أو في أيّ نصٍّ لكاتب عظيم ممن تشبّعنا بنصوصهم ورؤاهم. لقد أصبحنا أعشاباً طفيليّة، لا تتقن سوى مصّ الماء الآسن في حفرة طين التّكنولوجيا، تتعربش على الجذور وأغصان الشجر، وتنام مع الدّيدان والرّخويات، وتلطّخ الفضاء الأزرق.". تحيل هذه الفقرة إلى الكتابة والكتّاب بشكل عام في الفضاء الأزرق حيث غالباً ما تشهد الكتابة انحداراً وانحطاطاً ناتجين عن أخلاقيّات الكتّاب والكاتبات. فتظهر الكتابة كشكل من أشكال الغواية غير معنيّة ببناء الفكر.
- الغرور:
ثمّة خيط رفيع بين الثّقة بالنّفس والغرور. إلّا أنّ كاتبنا كشف عن اعتداد بالنّفس حدّ الغرور. في نص "من يجرؤ على فعل ذلك؟ ص23"، يهدي أستاذه في الجامعة كتابه جعل مع الكتاب ولّاعة في غلاف واحد كُتب عليه: "الأستاذ الفاضل والنّاقد المحترف، تحيّة الأخوّة الأدبيّة، أمّا بعد: إن لم يعجبك هذا الكتاب، فهذه أولى به" ويكرّر السّلوك ذاته مع امرأة ما، ويقرّر أن يهديها آخر كتبه ويجعل مع الكتاب ولّاعة وزجاجة عطر صغيرة، ويكتب رسالة قصيرة ويلصقها في الكتاب: "عزيزتي، إن أعجبك الكتاب فتطيّبي به وطيّبيه بهذا العطر، وإن لم يعجبك فالنّار أولى به".
تُرى من يظنّ نفسه هذا الكاتب؟ فهكذا سلوك ينمّ في الظّاهر عن غرور وتعالٍ مغلّفين بالرّومانسيّة. إلّا أنّه في تأمّل بسيط للعمق يمكن استنتاج محاولةً غير واعية من جانب الكاتب لفرض الكتاب أو لجعله ذا أهميّة. فلحرق الكتب دلالات وإشارات اقتنصها الكاتب وخزّنها في عقله، لكنّه يفتح قوسين على حرق بعض الكتب وبعض المؤلّفين كتعبير عن نقمة على أشباه الكتّاب والشّعراء.
نصوص الفصل الأوّل بشكل عام تمهّد إلى لحظة تمرّد على كلّ شيء، وعمليّة تحرّر من كلّ شيء انبعثت منها روائح الجوانب المظلمة الكريهة الكامنة في النّفس الإنسانيّة. لقد أخرج الكاتب من ذاته كلّ الشّوائب والأدران العالقة على جدار روحه. كاتب، غرق في التّكنولوجيا والافتراضيّة وسخافتها وتفاهتها حتّى شوّه خياله ونفسه.
لعلّ ما أعلنه الكاتب في نصّ "ما أجملك أيّتها الحرّيّة/ ص40"، مدخل إلى عمق أعماق الكاتب. ولعلّه شاء في هذا النّصّ أن يمهّد للقارئ قراءة النّصوص اللّاحقة وفهمها. فيجلو مرآة نفسه ويعبّر بصدق وحرّيّة. فالحرّيّة عند الكاتب تعني الكتابة بصدق، فالكاتب الحقيقيّ يكتب ذاته كما هي ويدخل القارئ في سراديب نفسه وإن كانت مظلمة حتّى الموت. ولا بدّ للقارئ من أن يتطلّع إلى ما هو أبعد من قصص وسرد، فبطبيعة الحال للكتاب هدف وليس محصوراً بسرد "البطولات" الزائفة والعلاقات الغراميّة.
- العاطفة الملتبسة:
يذكر الكاتب أنّه كان مولعاً بالأفكار والشّخصيّات في الرّوايات ومنغمساً فيها كحقيقة، فيغار من البطل إذا أحبّ، ويتمنّى البطلة لنفسه. ويشبّه نفسه بأمّه الّتي كانت تبكي إذا مات أحد الأشخاص في مسلسل بدويّ. ما يشير إلى قوّة خيال الكاتب وتحويله إلى واقع معيش، وهو ما يجعلنا نفهم سبب انغماسه في الفضاء الأزرق.
هذه هي "العاطفة الملتبسة"، بل يمكنني القول "العاطفة الضّعيفة" تحتاج إلى إشباع عبّرت عنه النّصوص الّتي تضمّنت علاقات الكاتب الافتراضيّة مع نساء عديدات لم تخلُ من الابتذال وشيءٍ من الفوقيّة الذّكوريّة الّتي لا ترى في المرأة إلّا جسداً يغوي. فالكاتب في هذه النّصوص استخدم المرأة كسلعة لإشباع خياله وعاطفته وربّما غريزته الجنسيّة الافتراضيّة، مع العلم أنّ نساء الكاتب في القصص هنّ المسيطرات، وهو المستجدي لهنّ وأسيرهنّ. وإنّ قدّم الكاتب نفسه كضحيّة إلّا أنّه قدّم نساءه كضحايا كذلك. وأظّنّه بسرد قصصهنّ معه، وجرأتهنّ وإن الافتراضيّة، وبحثهنّ عن إشباع غريزتهنّ وإرسال صورهنّ العارية له، أظّنه يقول إنّ الرّجل والمرأة على حدّ سواء يعانيان من كبت اجتماعيّ وعاطفيّ ونفسيّ. هؤلاء النّسوة لم يقتحمن مدينة الكاتب رغماً عنه، ولا هو اقتحم أسوارهنّ رغماً عنهنّ. ما حصل في الحقيقة هو ممارسة في الخفاء ما هو ممنوع في العلن. وعلى الرّغم من الكذب والمراوغة اللّذين تظهرهما هذه السّلوكيّات إلّا أنّها تشير إلى النّفس الإنسانيّة المكبوتة والمحتاجة إلى الإشباع العاطفيّ والغرائزيّ. وأعتقد أنّ الكاتب أراد أن يقول إنّ أغلب الأشخاص يختبئ خلف هذا الفضاء الأزرق ليعبّر عن حاجاته المكبوتة خاصّة الجنسيّة. بيد أنّ هذه العلاقات الواهمة الّتي ينعتها الكاتب بالعشق والحبّ ما هي إلّا خيال وأوهام. هذه العلاقات الافتراضيّة منحت الكاتب لذّة ما وأشبعت غروره ربّما، أو أنّه كان يبحث عن شيء مختلف، أو كان يبحث عن الحبّ بطريقة خاطئة. وقد تكون إحدى هذه العلاقات مع إحداهنّ تقمع في داخل الكاتب الغيرة أو الشّعور بالنّقص ممّن يسمّيهم "أصدقاءها الكتّاب الكبار".
كلّ النّسوة في مدينة الكاتب واحدة. دلّ على ذلك تكرار المشاهد، وتكرار الحالة العاطفيّة، واستجداء الكاتب للمرأة الّذي يظهر في لغته كأن يقول لإحداهنّ: "تبا لكلّ نصّ لم تمرّي عليه بضمّة أو قبلة. إنّه لا يستحقّ أن يكتب أصلاً، هذه أمارة النّصوص عندي، فهل ستجعلين نصوصي نَدِيّة حيّة أم سيكون الوأد مآلها الأخير؟ القرار قرارك وحدك"، خلف هذا المكر الذّكوريّ المدغدغ لمشاعر بعض النّساء استجداء كاتب يرى في كلّ النّساء على اختلاف أشكالهنّ وجمالهنّ واستجابتهنّ امرأة واحدة. "كلّ الرّجال واحد كلّ النّساء واحدة/ ص 62" يسلّط الضّوء على أنّ الرّجل والمرأة جسدان ملهمان لبعضهما البعض، فيعبّر بذلك عن فكرة الكون القائم على الجنس. كما أنّه يرى في الحالة الإنسانيّة وجهاً واحداً للمرأة والرّجل، وكلّ ما يقال عن العلاقة بينهما لا ينفي هذه الحالة الإنسانيّة الواحدة. وأيّاً كانت النّزاعات بينهما تبقى اللّعبة قائمة بينهما، لعبة الحرب. يبقى الرّجل منقاداً إليها، وتبقى هي الأصل. الفكرة الّتي ينزاح إليها الكاتب في هذا النّصّ ضمناً، المرأة الأصل، وكأنّي به يبحث عن الحبّ في المرأة الأم، المرأة الاحتواء.
قد يكون الأمر صحيحاً من وجهة نظر الكاتب، إلّا أنّ هذه التّجارب لا تدخل في إطار البحث عن الحبّ. مع أنّ الكاتب استخدم لفظ الحبّ واحداً وستّين مرّة، وغالب الظّنّ أنّ الأمر اختلط عليه، فتوهّم أنّه يعيش حالات حبّ في حين أنّها مجرّد حالات عاطفيّة، بل مجرّد حالات غرائزيّة عبّر فيها الطرفان- الكاتب ونساؤه- عن إشباع غرائزي خياليّ واهم. وبلغت الغريزة ذروتها في نصّ "عاهرة على أطراف الكون/ص218". وصف للغريزة بأبشع صورتها ووحشيّتها. فيظهرها الكاتب بشكلها الحيوانيّ المطلق ويلوّح لدور الرّجل المسبّب في تجريد هذه الغريزة من إنسانيّتها أو هدفها كتعبير عن الحبّ. يقابل هذا النّصّ نصّ آخر "مع الألمانيّة في شقّة صديقتي/ص225" يظهر فيه الذّكوريّة المريضة المنحدرة كذلك إلى الحيوانيّة فتلهث خلف جمال ظاهريّ بدافع الغريزة فقط.
كلّ النّساء في مدينة الكاتب واحدة حتّى الزّوجة. "زوجة ثانية لا تشبهني/ص258". زوجة ثانية تشبه الأولى، لكنّها لا تشبه الكاتب، كدلالة على رتابة الزّواج، وربّما فشله في تحقيق السّعادة كما يُظنّ. ولعلّ الزّوجة في نصوص هذا الكتاب هي الوحيدة المستسلمة بشكل أو بآخر. فغالباً ما لا يرى الرّجل في زوجته ما يراه في نسائه، ولا يبحث في زوجته عمّا يبحث في نسائه. وذلك يعود إلى العقدة الذّكوريّة الّتي توهم الرّجل أنّه هو المسيطر، وهذا ما أبانت عنه نصوص أخرى.
- أين أخطأ السّارد؟
ورد هذ النص في الصفحات الأخيرة من الكتاب (ص 289)، نصّ يستبق فيه الكاتب حكم القارئ، وهو العارف أنّه أخطأ حتّى وإن قدّم نفسه كضحيّة معتبراً ما فعله إثماً. ولعلّ السّؤال بحدّ ذاته لا ينتظر جواباً بقدر ما هو تأمّل لتجارب الكاتب الّتي أدخلته في حالة من الاكتئاب وربّما القرف. ولست أدري إن كان بإمكاننا الحديث عن خطأ أو صواب. إنّها الحياة بطبيعيّتها وتجاربها. إنّه الإنسان بتركيبته المعقدة والغريبة العجيبة. إنّها أعماق النّفس المتأثّرة بالمحيط والظّروف والأسباب الظّرفيّة على أنواعها. لعلّ السّارد أخطأ في انغماسه في الوهم والخيال. فعلى الرّغم من أنّ الكاتب يضع نفسه تحت المجهر في هذا الكتاب ويتحدّث بكثير من الصّدق، إلّا أنّه غرق في الوهم. وكلّ ما تضمّنه هذا الكتاب من سلوكيّات وعلاقات وتعبيرات حصلت في الحقيقة فإنّما هي بنيت على الوهم. وما بُني على وهم فهو وهم. فليكن السّؤال إذاً: أين أصاب السّارد؟
لقد أصاب السّارد في إبراز التّناقضات الإنسانيّة بين الظّاهر والعمق الإنسانيّ الحقيقيّ. كما دلّ بشكل مباشر على العلاقة الجنسيّة بين الرّجل والمرأة بمفهومها الحيوانيّ، ولعلّه أراد للقارئ أن يعيد بناء مفهوم العلاقات على أنواعها. وبيّن أنّ المستور في أعماق النّفس هو ما يحدّد الأخلاقيّات وليس الظّاهر منها. لقد أصاب السّارد في تلميحه إلى أنّ الظّاهر الدّينيّ لا يحمي الإنسان سواء أكان رجلاً أم امرأة من الغريزة، وإنّ العقل والفكر هما من يهذّبانها ويرتقيان بها. وبلغ صواب الكاتب ذروته عندما وضع نفسه تحت المجهر فوضع معه كثيرين؛ فاتّسعت الصّورة، وظهرت بتفاصيلها الدّقيقة. ولعلّك أيّها القارئ حينما تقرأ هذا الكتاب تقف أمام مرآة نفسك فتتبيّن.
والسّؤال المهم، هل تحرّر الكاتب فعلاً بعد سرده هذه القصص؟ وحده يجيب في آخر جملة من هذا الكتاب: "وبعد: كيف لي أنْ أتخلّصَ من كلّ النّساءِ العالقاتِ على جثّتي؟".
مادونا عسكر/ لبنان
.....................
* صدر الكتاب عن دار الرعاة للدراسات والنشر ودار جسور ثقافية، رام الله وعمان، 2020.
قراءة في كتاب (البابية والبهائية في العراق) لنبيل الربيعي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: صباح شاكر العكام
تعددت الأديان والمذاهب في العراق، ففي القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي يوم كانت تحكم المنطقة دولتان هما الدولة العثمانية والدولة الصفوية ظهرت في الديانة الإسلامية الكثير من الحركات الفكرية كالشيخية أو الكشفية والبابية التي ولدت من الشيخية، والتي تحولت الى الديانة البهائية، والتي تعد من الفرق الباطنية الغنوصية التي تعني المعرفة أو الحكمة أو العرفان .
صدر عن دار الفرات للنشر والاعلام بالتعاون مع دار سما للطباعة والنشر كتاب (البابية والبهائية في العراق) للباحث الأستاذ نبيل عبد الأمير الربيعي عدد صفحاته (334) من القطع الوزيري، وهو يتألف من مقدمة وخمسة فصول مع نص كتاب (أقدس) وهو الكتاب المقدس عند الديانة البهائية .
في الفصل الأول : أوضح الربيعي إنّ الشيخية أو الكشفية هي مدرسة فكرية شيعية أثنا عشرية، أوجدها وارسى قواعدها الشيخ أحمد بن زين الدين الاحسائي، فهم يوالون الأئمة الاثني عشر من أهل بيت النبي محمد (ص)، ويقتدون بهم ويعملون بأقوالهم، كما يحرصون على أداء الاعمال الشرعية من صلاة وصوم وحج وزكاة وخمس وغيرها .
مؤسس الشيخية هو الشيخ أحمد بن زيد الدين الاحسائي الذي كان له مكانة سامية في أندية العلم ومحافل التدريس في كربلاء والنجف وايران، ويعد من المجددين للفكرة الباطنية التي نشأت في القرن الثاني الهجري، والتي لم تكن من التعاليم الإسلامية وإنما أخذت من المعتقدات الإيرانية التي دخلت في الإسلام .
أوضح الربيعي إنَّ الشيخ أحمد الاحسائي من الشيعة الحلولية الذين يفسرون علياً على غرار الشيعة النصرية (العلوية) وأدلته مستقاة من الفيلسوف الإيراني الباطني الملا صدرا الشيرازي (ت 1050هـ) . لقد حدد الشيخ الأحسائي طريق الكشف الصادق بالإقبال على الله والإخلاص في ذلك الاقبال، كما قيد صدق الكشف بشهادة الكتاب والسنة وهما دليلا الشيعة بل المسلمين جميعاً في مسائل أحكام الدين . وبعد وفاة الشيخ أحمد الأحسائي خلفه في قيادة أتباعه تلميذه السيد كاظم الرشتي الذي سكن مدينة كربلاء، وقد أتهم بالكفر من قبل علماء زمانه، وجرت له محاكمة في الصحن الحسيني من قبل المرجعين الشيخ علي بن جعفر كاشف الغطاء والشيخ محمد حسن النجفي صاحب كتاب الجواهر، فرفضوا الحكم بكفره ولكنهم حرقوا رسائله .
الفصل الثاني (ظهور البابية) أوضح الربيع بعد وفاة السيد كاظم الرشتي سنة (1259هـ/1843م) أخذ الشيخ حسين البشروئي بالبحث عن خليفة للرشتي، فوقع اختياره على السيد علي محمد رضا الشيرازي ليكون الباب الموصل للإمام المنتظر، فأطلق الشيرازي على نفسه لقب (الباب) وكان البشروني أول من آمن برسالته فاطلق عليه لقب (باب الباب)، وقد وضع الشيرازي أفكاره ومعتقداته بكتاب سمي "قيوم الأسماء" في تفسير سورة يوسف .
أوضح الربيعي إنَّ اشتراط الباب لإعلان دعوته أن يؤمن به ثمانية عشر شخصاً، وبعد أن التف حوله العدد المطلوب وهو العدد الذي يمثل حروف كلمة "حي" (الحاء ثمانية والياء عشرة) أعلن دعوته، فتكون الخلية الأولى مع رئيسهم تسعة عشر، فقسمت السنة البابية إلى تسعة عشر شهراً، أرسل الباب أتباعه إلى مدن العراق وإيران لنشر دعوته .أعلن الباب نفسه إنه الامام المنتظر، وانه كان مصراً على إنه لم يكن سوى المبشر الذي أرسله الله لتهيئة الطريق أمام شخص أعظم منه يأتي من بعده، أعتقل الباب ونفذ فيه حكم الإعدام بأمر من الشاه سنة 1850م في مدينة تبريز، ثم نقل جثمانه سراً ودفن على جبل الكرمل في حيفا سنة 1909م . بعد اعدام الباب حاول اتباعه اغتيال شاه ايران ناصر الدين شاه انتقاماً لإعدامه، وبعد فشل المحاولة تم قتل أعداد كبيرة من البابيين في جميع المدن الإيرانية .
في الفصل الثالث (حواريو الباب) ذكر الربيعي بعد إعدام الباب ادعى (25) رجل من اتباعه ، كل واحد منهم إنه الموعود الذي بشر به الباب، وكان من أبرزهم ميرزا حسين علي نوري الملقب (بهاء الله)، والملا حسين البشروئي، والحاج محمد علي القدوس، والملا علي البسطامي، وقرة العين . وقد ركز الربيعي على شخصية قرة العين الفتاة الإيرانية التي بدأت ببث الدعوة الى البابية كخطيبة بين الرجال مكشوفة الوجه واليدين، ودورها في نشر الفكر البابي ودفاعها عن حقوق المرأة ومساواتها مع الرجل، وذكر عدة روايات لطريقة قتلها بالخنق ورمي جثتها في بئر مهجورة .
في الفصل الرابع ذكر الربيعي إن بهاء الله هو الميرزا حسين علي عباس برزك النوري الذي ولد في طهران سنة (1233هـ \1817م) . بعد محاولة اغتيال الشاه سنة 1852م سجن بهاء الله، وفي السجن أخذ يعد لتجديد البابية بالبهائية، أطلق سراح بهاء الله ورُحّل إلى العراق، ويعد الوحيد الذي سلم من المذابح من بين زعماء البابيين، فسكن أول الامر في الكاظمية ثم أنتقل الى الكرخ . هجر بهاء الله بغداد واعتكف في جبال كردستان لمدة عامين، وقد دون رحلته هذه في كتاب (الإيقان) الذي عرض فيه جوهر الدين والأهداف التي يأتي من أجلها، ويصور فيه الرسل والانبياء على إنهم جميعاً واسطة لتنفيذ تدبير إلهي مستمر لا انقطاع له . نشط البابيون برئاسة بهاء الله في نشر دعوتهم في العراق، فاستجاب لدعوتهم بعض الافراد، ولكن دعوتهم لاقت مقاومة من قبل عالم إيراني يسكن العراق اسمه عبد الحسين الطهراني بمساعدة القنصل الإيراني في بغداد بالضغط على السلطات العثماني التي رضخت وأبعدت بهاء الله إلى إسطنبول، فبقي فيها خمس سنوات، ومن بعدها إلى أدرنة ثم رُحِل بسبب خلاف مع أخيه (صبح الأزل) الى عكا ليسجن فيها ويموت سنة 1892م .
ذكر الربيعي في عشية رحيل بهاء الله الى إسطنبول دعا نفراً من صحابته إلى حديقة نجيب باشا (مدينة الطب حالياً)، والتي سميت فيما بعد بحديقة الرضوان حيث أعلن عن دعوته، وأسرَّ إليهم كُنة رسالته، وإنَّ الوحي قد نزل عليه، وإنه هو (الموعود) الذي كان الباب يبشر به في كتبه وألواحه، فانتقلت دعوته من السرية الى العلنية، وعد ذلك اليوم عيدا سمي عيد الرضوان، كان ذلك في أواخر شهر نيسان سنة 1863م .
في المبحث الثالث أوضح الربيعي : بعد وفاة بهاء الله آل الأمر الى ابنه عباس أفندي الذي لقب (عبد الباب) المولود في طهران سنة (1260هـ \1844م)، أقام بناء على سفح جبل الكرمل كقلعة يتحصن بها مع اتباعه. سجن عبد البهاء مع اتباعه في عكا، وقد استمر بنشر دعوته وهو في السجن، وبعد اطلاق سراحه سافر الى الولايات المتحدة الامريكية، ثم الى بريطانيا، ثم قصد باريس ومنها الى المانيا . توفي عبد البهاء سنة 1921م ودفن على سفح جبل الكرمل بعد أن شيع تشيعاً مهيباً من قبل الجماهير واعيان حيفا .
في المبحث الرابع ذكر الربيعي، إنَّ شوقي أفندي رباني هو حفيد عبد البهاء ولد سنة (1314هـ \1897م)، ودرس في مدارس حيفا وبيروت وبريطانيا، بعد وفاة عبد الباب تولى شوقي أفندي رباني شؤون الأمر البهائي سنة 1921م، فقام بكتابة وترجمة العديد من الكتب البهائية، وقام بنشر الديانة البهائية في العالم، وتطوير المؤسسات الإدارية المحلية والإقليمية للمحافل البهائية، ووضع شروط انتخاب المحافل المحلية والمحفل المركزي . توفي سنة 1957م في لندن ودفن فيها .
في الفصل الخامس وفي المبحث الأول ذكر الربيعي إنَّ الدار التي سكن فيها بهاء الله في محلة الشيخ بشار في الكرخ تعد (الكعبة البهائية الأولى)، وقد قام عبد البهاء بتجديدها واتخذها أول محفل للبهائيين في بغداد، وبعد منازعات بين الورثة تحول الدار الى حسينية . وبعد احتجاجات الجمعيات الاوربية والأمريكية، قامت الحكومة العراقية بتعويض البهائيون قطعة أرض في شارع السعدون في رصافة بغداد شيدوا عليها المحفل البهائي سنة 1936م .
في الفصل الخامس استعرض الربيعي الامتيازات التي حصل عليها البهائيون والاعتراف بديانتهم في عهد الاحتلال البريطاني للعراق وفي العهد الملكي ومراحل انشاء المحفل الرئيسي في السعدون (حظيرة القدس) ومشاركهم في التعداد السكاني كبهائيين في الأعوام 1934م و1947م و1957. أمّا في العهد الجمهوري فكانت علاقة البهائيين وحكومة عبد الكريم قاسم علاقة طيبة، وكانوا يقيمون طقوسهم وعباداتهم بكل حرية، وبعد انقلاب 8 شباط 1963م بدأت المضايقات والتعقيدات في ممارسات البهائيين لطقوسهم وعباداتهم، وفي حكم عبد السلام محمد عارف في سنة 1965م أغلقت المحافل البهائية في كل انحاء العراق ووضع اليد على ممتلكاتهم تطبيقاً لقانون السلامة الوطنية . وبعد عودة البعث الى السلطة وفي سنة 1970م صدر قانون تحريم النشاط البهائي، فتم تحويل المحفل المركزي في السعدون الى دائرة أمنية، وسيق البهائيون الى محكمة الثورة وحكم عليهم بالسجن، وفي سنة 1975م صدر قانون تجميد قيود البهائيون في سجلات الأحوال الشخصية، وفي سنة 1979م صدر عفو عن السجناء البهائيون واطلق سراحهم لكن بقوا تحت المراقبة ومع السفر خارج العراق .
بعد 2003م ذكر الربيعي بالرغم من صدور قرار وزير الثقافة باعتبار بيت بهاء الله الذي تحول الى حسينية تراثياً، الا ان البهائيون ما زالت ديانتهم محظورة وممنوعون من إدراج ديانتهم في سجلات الأحوال المدنية، ولم تعاد ممتلكاتهم المصادرة، ولكنهم أخذوا يمارسون طقوسهم الدينية بشكل هادئ وبعيداً عن العلن مما دفعهم للانعزال .
أمّا في كردستان العراق ذكر الربيعي تم الاعتراف الرسمي بالمجلس البهائي للإقليم، وتم تثبيت ممثل عنهم في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية للإقليم، وشاركوا رسمياً بمناقشات حراك دستور الإقليم .
في الفصل السادس المبحث الأول : أوضح الربيعي معتقدات البهائيين والتي تتضمن ثلاث أنواع من الوحدات هي : وحدة الخالق، ووحدة الديانات في أصلها ومنبعها وأهدافها، ووحدة الجنس البشري، وإنَّ الأديان جميعها حقيقة واحدة وهي واحدة في أصولها، وهيأة البهائية ما يزيل أسباب الخلاف والشقاق بين الأمم، وأتت بما يقضي على بواعث الحروب، وأظهرت ما يوفق بين العلم والدين، وساوت الحقوق بين الرجال والنساء، ودعوتهم لتبني لغة عالمية موحدة، وان جميع الكتب السماوية منزلة من الله سبحانه وتعالى. وأوضح الربيعي المفهوم البهائي للذات الإلهية، وللجنة والنار، والثواب والعقاب، ووجهة نظرهم للإسراء والمعراج، وديانتهم بلا وجود للشيطان فهو شخصية مجازية للتعبير عن عامل الشر الموجود في الطبيعة البشرية والذي ينمو وينشط عندما يبتعد الانسان عن الله .
في المبحث الثاني أوضح الربيعي عبادات البهائيين فقبلتهم مدينة عكا في فلسطين مرقد بهاء الله، أمّا صلاتهم فإنها فرضت على من بلغ الخامسة عشر من العمر، وهي ثلاث صلوات هي: الصلاة الكبيرة والوسطى والصغيرة وفيها قراءة الأدعية والسجود والقنوت وتقام مرة واحدة في اليوم، وتكون فردية وفي عزلة، ماعدا صلاة الميت تكون جماعة، بعد الوضوء بالماء ولا يوجد عندهم تيمم . أمّا الصيام فيكون في "شهر العلاء" وهو الشهر الأخير في السنة البهائية (من 2آذار لغاية 21آذار) وهو الامتناع عن الاكل والشرب والشهوات لمدة 19 يوماً . أمّا الحج فانه فرض على الرجال دون النساء من استطاع اليه سبيلا، ويكون أمّا لبيت بهاء الله في بغداد أو بيت الباب في شيراز، ثم أضيف الحرم الأقدس في عكا . أمّا الزكاة في الديانة البهائية كالزكاة في الإسلام، فتجب في النقدين (الذهب والفضة) وفي الغلاة الأربع (الحنطة والشعير والتمر والزبيب) وفي الانعام (الغنم والبقر والإبل) . ثم تطرق الربيعي إلى أعياد البهائيية وهي عيد النوروز بعد شهر الصيام، وعيد الرضوان، وعيد ميلاد الباب وعيد ميلاد بهاء الله، وعيد يوم اعلان الباب الدعوة . أمّا السنة البهائية فتقسم الى (19) شهراً وكل شهر(19) يوماً وتضاف لها خمسة أيام (أيام البهاء) . أمّا الزواج عند البهائيين فيكون رجل واحد وامرأة واحدة فلا يجوز تعدد الزوجات أو الأزواج . أمّا الطلاق فمسموح به، بوجود هيئة خاصة تحاول مصالحة الزوجين قبل الطلاق والذي يستغرق سنة كاملة . أمّا عند موت البهائي فيغسل ويكفن ثم يدفن بعد أن يصلى عليه صلاة الميت، ويقام له (مجلس ختم)، ولا تقام له مجالس تذكارية بعد ذلك . أمًا الإرث عند البهائيين فلا يورث الميت إلا أبيه وأمه وذرياته وزوجته وأخيه وأخته ومعلمه، وفق نظام خاص بالديانة البهائية، وعند انعدام الوريث يذهب الورث الى بيت العدل (المحفل الروحاني المركزي) .
أمّا المبحث الثالث فهو للمعاملات فتطرق الربيعي إلى عقوبات الزنى والقتل وشرب الخمر والمخدرات ولعب القمار عند البهائيين، كما تطرق الى حرمة العمل السياسي بما في ذلك عدم شغل أي منصب سياسي وعدم الانتماء لأي حزب سياسي أو عمل دعاية له، ولكنه سمح بالاشتراك في المنظمات الاجتماعية والمساهمة في الانتخابات، واطاعة الحكومة طاعة تامة، كذلك نادى بالمساواة بين الرجل والمرأة بالحقوق، وتحليل الربا، ورفض كل أشكال العنف، وتطرق الربيعي الى المبادئ التي يرددها البهائيون في محافلهم وكتبهم وعددها (13) مبدأ .
وفي خاتمة الكتاب أورد الربيعي (كتاب أقدس) وهو الكتاب المقدس للديانة البهائية، والذي يتكون من (190) فقرة تنظم الحياة الفكرية والعقائدية للديانة البهائية .
صباح شاكر العكام
الربيع العربي واغتيال الشعوب!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: كفاح محمود كريم
في مخرجات ما أطلق عليه بالربيع العربي، الذي بدأت بواكيره على الطريقة الأمريكية في إزاحة مؤسسة النظام في العراق، حيث نجحت القوة الأمريكية ومن حالفها، سواء في العراق أو بعده في ليبيا وسوريا واليمن، ومن تحت الطاولة في بلدان أخرى، نجحت في تدمير كرسي الحكم وهيكل الإدارة، حيث هرب الدكتاتور مخلّفاً وراءه أفواجاً من اللصوص والقتلة، كما شهدناه على أرض الرافدين، حينما أطلق رئيس النظام، حينها، سراح كبار المجرمين والسفاحين واللصوص والقتلة قبل هروبه بعدّة أشهر، وتحت شعار ناعم هو تبييض السجون، لكي يكملوا المشوار من بعده مع مجموعات إرهابية عقائدية تم استيرادها قبيل حرب احتلال العراق بفترة وجيزة، فيما أوصى أركان حكمه وقيادات نظامه بسرقة ونهب كل موجودات البلاد ومخازنها ومعسكراتها وآلياتها، من سيارات وأسلحة في أبشع عملية إفراغ للدولة من مكنوناتها المادية والعسكرية والوثائقية والفنية والمتحفية.
وفي الوقت الذي انكفأ دكتاتور العراق في حفرة تحت الأرض ليواري عورته وجرائم نظامه، حلّق دكتاتور تونس طائراً في الأجواء تاركاً منظومة متكاملة ممن تقع عليهم مهمة اغتيال الثورة أو الانتفاضة، حيث بدأت فرق الغوغاء بالانتشار في المدن والبلدات على طول البلاد وعرضها، لكي تثبت لتلك الجموع الثائرة ودول الجوار قبل غيرهم بأنّ ما يحدث هو نتيجة لغياب منقذ الأمة ومخلّصها الهارب، كما يفعلون في العراق منذ سنوات، في إحراق الأخضر واليابس تحت مختلف الشعارات الرنانة والجوفاء وبثياب دينية ومذهبية، وهم يستهدفون الأهالي العزل في الشوارع والأسواق والمساجد والكنائس والمدارس بنافورات من الدماء التي لم تنزف فيها قطرة من دماء المحتلين.
صحيح أنّ دكتاتور تونس شدّ الرحال هارباً إلى جنة أخرى بعيدة عن قصره وعبيده، إلا أنّه ترك نظاماً أشرف على تربيته وصناعته لأكثر من عشرين عاماً، بذات الفكر والنهج، كما فعل النظام هنا في العراق، وترك سلوكيات ونهجاً في الثقافة والتفكير تعمل على إبطاء التقدّم، وتعرقل تحقيق الأهداف النبيلة في بناء بلد ديمقراطي حر، حيث استغلّت تلك القوى البديلة سلالم الديمقراطية في مجتمعات غير مؤهلة بالكامل لممارسة هكذا نظام، وتحت ضغط الشعارات العقائدية المرتبطة بالدين والمذهب والفتاوى، لكي تتبوّأ ثانية مراكز القرار، كما فعلت في مصر، وحاولت كثيراً وما تزال في تونس وفي اليمن، ناهيك عما حدث ويحدث في سوريا، التي حصرت النظام في زوايا ضيقة وشتتت البلد بيد ميليشيات ومافيات وعصابات تعتمد في معظمها الغطاء الديني السهل لتنفيذ عملياتها الإرهابية، كما يحصل اليوم في عفرين المستباحة، وفي كثير من المناطق الأخرى ذات الإدارة شبه المستقلة، بينما تم تقزيم النظام وتقطيع معظم أذرعه، والإبقاء على هيكله لحين اتخاذ القرار بمصيره.
إنّ مجرد هروب دكتاتور لا يعني إنجاز الثورة أو التغيير المرتجى، فقد سجل التاريخ الكثير من عمليات الهروب والعودة، وما زالت ثورة مصدق الإيرانية وهروب الشاه في الذاكرة السياسية للشعوب الإيرانية، وفي تونس ما زالت قوى هذا الدكتاتور وغيره مهيمنة على كثير من المفاصل المهمة في الدولة والمجتمع، وهي قادرة على إحداث تغييرات بالاتجاه الذي تريده وبالضد من آمال وتطلعات الأهالي، فمعظم المؤسسات المهمة في البلاد هي من إنتاج وتصنيع ذات الفكر الشمولي الذي صنعه الدكتاتور علي زين العابدين، ابتداء من المؤسسة العسكرية والأمنية وانتهاء بالبرلمان وكثير من أوساط الطبقة المتوسطة، وبهذه المسطرة نقيس ذات الأبعاد، في العراق واليمن وسوريا وليبيا ودول أخرى لا تختلف عنها، كما في أفغانستان وإيران، ومع كل الاحتمالات الواردة في الصراعات الجارية اليوم في هذه الدول والمجتمعات، فإنّ ما يحدث الآن ورغم بؤسه وقسوته أيضاً إلا أنًه يؤشر تطوراً نوعياً في الأداء الشعبي المعارض الذي تمثّل في اندلاع احتجاجات وتظاهرات كبيرة وعفوية اخترقت حاجز الخوف وتمردت على الميليشيات ونظامها الحاكم من دمشق إلى طرابلس وصنعاء وبغداد وتونس والجزائر، وهي بالتأكيد واحدة من أولى ردود الأفعال لعملية التغيير الجارية في بلاد الرافدين منذ الاحتلال في 2003 وحتى اندلاعها في تشرين 2019، بكل ما رافقها من إيجابيات خلاقة ومن أخطاء أو تشويهات من قبل معظم الأنظمة السياسية وأجهزة إعلامها التي تنتمي لعقلية وثقافة الحكم الشمولي.
ويقيناً، إنّ ما يجري هنا في العراق من عمليات إرهابية وتعقيدات لتأخير أو إعاقة تطوّر العملية السياسية والبناء الديمقراطي، إنّما تتورّط فيه كثير من الميليشيات والأنظمة ذات النظم المستبدة والدكتاتورية، لأنّها تتقاطع وطبيعة التكوين السياسي والاجتماعي للنظام الجديد وفلسفته في التداول السلمي للسلطة والاعتراف بالآخر المختلف، ولكي تنأى بنفسها وأنظمتها عن نيران التغيير التي تصبّ في خانة الشعوب وتعيد تعريفات كثير من المصطلحات والتسميات لكي لا يكون الرئيس موظفاً يؤدي خدمة عامة حاله حال أي موظف آخر، بل ليبقى كما يريدوه في كل هذه المنطقة، زعيماً ومنقذاً وملهماً فوق الشبهات والشك والنقد، لا شريك له ولا معترض، وهذه المرة باسم الرب بدلاً من الأمة أو الشعب.
إنّ ما يحصل اليوم في العراق وتونس يمثّل رسالة مهمة جداً لشعوب هذه المنطقة، بعد أن ذاقت الأمرّين من حكم الطغاة المستبدّين لعشرات السنين، وهي تبشّر ببداية عمليات تغيير واسعة النطاق في معظم هذه البلدان، ترافقها عمليات تشويه وصراع خفي لوأد الحركة أو تقزيمها من خلال ما يحدث من تداعيات أمنية تقوم بها أجهزة الأمن المرتبطة بنظام الحكم كما يحصل على أيدي الميليشيات في تعاملها مع المحتجّين، في محاولة لاغتيال الحركة أو الانتفاضة بشتّى الطرق والأساليب، مستغلّة الكثير من نقاط الضعف والتناقضات التي أنتجتها الأنظمة السياسية المستبدّة على كل الصعد، إنّهم يرعبون الناس بمقولة “إنّ أيّ تغيير في البلاد وطبيعة النظام ستؤول فيه الأحداث إلى ما آلت إليه في العراق من حمامات للدماء وحرب طائفية أو عرقية، وإنّ النظام الحالي مهما يكن فهو أفضل بكثير مما سيحدث من فقدان للأمن والسلم الاجتماعيين”، وبذلك يغطّون على تورّطهم بكثير من تلك الحمامات، وحتى الحروب الداخلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن، إنّهم يحاولون اغتيال مبدأ الثورة أو الانتفاضة لدى الاهالي، من خلال الترهيب والاغتيالات والخطف وإشاعة الفوضى وعمليات السلب والنهب وفقدان الأمان، لتكريس الاستكانة والعبودية لدى العموم من الأهالي.
كفاح محمود كريم
كاظم حبيب يميط اللثام تماما عن فكره الممالئ ...!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علاء اللامي
جاء رد السيد كاظم حبيب، الذي نشره في موقعيِّ الحوار المتمدن والمثقف، على مقالتي - والتي هي كما أشرت جزء أول من دراسة طويلة لم أنشر جزأها الثاني بعد - جاء رده منفعلا وعصبيا وشتائميا إلى درجة تثير الدهشة فعلا، ليس لقسوتها فقط، بل أيضا لأنها تأتي من رجل متقدم في السِّن وفي التجربة كما يُفترض. فهو يصف قولي إن مقالته عن الفرهود في بعض فقراتها "لا تخلو من تملق الدولة الصهيونية التي بادرت إلى إعادة نشرها في الموقع الرسمي لوزارة خارجيتها"، يصفه بأنه (ادعاءات وأحكام غير مبررة واتهام تافه) في جملة واحدة، وفي جملة أخرى يصفه بـ (التهمة الدنيئة) في جملة أخرى (بالاتهام الخبيث الدنيء) وفي أخرى يعتبرها (اتهاماً لا يليق بكاتب يحترم نفسه). كل هذه الشتائم من كاظم حبيب "الذي يحترم نفسه وسنَّه" لها دلالة واحدة تعبر عن شدة الصدمة التي أصيب بها حتى انكشف تماما موقفه الفكري والسياسي التطبيعي والممالئ للدولة الصهيونية والمروج لصديقه الكاتب الصهيوني الإسرائيلي الذي يصفه بأنه "محب لدولته إسرائيل" شموئيل موريه، صدمة تسببت بها مقالة واحدة تجرأ صاحبها على مقاربة الحقيقة في موضوع الفرهود وتهجير اليهود العراقيين من منطلق الدفاع عنهم ولكن ليس على حساب الحقائق، فاستشاط حبيب غضبا وراح يقذف بالشتائم يمينا وشمالا، وراح يعيد ويكرر متباهيا أنه كتب كتابا يقع في ثمنمائة صفحة حول "يهود العراق ومواطنتهم المنتزعة"، مروجا نفسه ومادحا إياها بالقول (تبلورت لديّ أثناء دراستي ما سجلته من رؤية تحليلية واقعية وموضوعية) مؤكدا ببهجة لا تخفى أنه أورد في كتابه ذي الثمانمائة صفحة، وقبل عشر سنين من الآن (ما يكفي من البراهين والأدلة والوثائق التي يجد فيه القارئ والقارئة الردّ المفحم ضد ادعاءاته - علاء اللامي - الفارغة واتهامه السيء والمعيب والمسبق الصنع الذي طرحه علاء اللامي ضدي). ولكن لغة الوقائع على الأرض تقول لنا شيئا آخر:
لم يرد كاظم حبيب أو يناقش أياً من الأسانيد والوثائق - ومنها وثائق إسرائيلية سرية كشف النقاب عنها مؤخرا - والآراء والمعلومات التي أوردتها اقتباساً عن الدكتور عباس شبلاق، وعن الإسرائيلي نائب رئيس الموساد السابق نحيك نفوت، والأستاذة الجامعية اليهودية المنصفة إيلا شوحط، ولا للوثائق المهمة التي نشرها موقع "jewishrefugees" باللغة الإنكليزية والعائد بعضها لعصابات الهاغاناه الصهيونية، ولا لأقوال المحامي الإسرائيلي من أصل عراقي كوخافي شيمش والتي تؤكد كلها مسؤولية الكيان الصهيوني ومخابراته ومعها مسؤولية حكومة النظام الملكي الهاشمي في العراق عن أحداث الفرهود وتهجير اليهود العراقيين القسري وتنسف كل الثرثرة المملة التي كتبها كاظم حبيب في مقالته الأولى، وعاد وكررها في مقالته الجوابية وكأنه لم يقرأ من مقالتي سوى تلك الجملة ( يقول علاء اللامي: أن المقالة "لا تخلو من تملّق الكيان الصهيونيّ ومؤسّساتِه الإعلاميّةِ والسياسيّة")، فثارت ثائرته وطاش لبُّه، كيف لا وقد تعود على تصفيق المداحين وردح والرداحين! عفوا، لقد اقتبس حبيب - والحق يقال - أربع فقرات من مقالتي ولكنه تركها معلقة كما هي في نص مقالته دون تعليق، فهل هذه طريقة جديدة في النقد والسجالات الفكرية؟
من جهة أخرى، لم يُثبت حبيب لقارئه كيف كان كلامي عن تملقه للكيان الصهيوني "ادعاءات واتهامات تافهة وخبيثة ودنيئة من كاتب لا يحترم نفسه"، وهل ينكر أن مقالته تلك قد نشرت في موقع وزارة خارجية الدولة الصهيونية فعلا، وأنني افتريت عليه وكذبت في هذا الصدد؟ ثم إنني لم أقل إن كاظم حبيب نشر مقالته هناك بل قلت حرفيا (بادرتْ وزارةُ الخارجيّة الصهيونيّة إلى نشر فقراتٍ ضافيةٍ من دراسته، ضمن مقالةٍ إطرائيّةٍ بقلمه أيضًا، حول مذكّرات الأديب الإسرائيليّ من أصل عراقيّ شموئيل موريه)، أم أنه يعترف بتلك الواقعة ويتبرأ من المسؤولية الشخصية عنها؟ وهنا، فهذه مشكلته هو، ولا علاقة لها بالسجال السياسي معه حول موضوع تاريخي وسيامجتمعي آخر، ومن الأفضل أن يتعلم كيف يجيد كتابة أفكاره في جمل وفقرات واضحة ودقيقة، فالتباهي بالمؤلفات وبعدد صفحات كتبه ومديحه لنفسه وطريقته في الكتابة "الموضوعية"، فكل هذا بات يعتبر في النقد الحديث نوعا من النزعات النرجسية والانفصال عن الواقع.
لنعد الى المقالة الرد لكاظم حبيب، غاضّين النظر عن السرد الطويل فيها حول الوضع السياسي في عراق الأربعينات، ومواقف الحزب الشيوعي العراقي من انقلاب الكيلاني الذي انقلب من التأييد الحماسي للانقلاب إلى المعارضة التامة، ومحاولات حبيب شيطنة الاستقلاليين العراقيين والقوميين منهم خاصة. وتحويل هؤلاء إلى نازيين هتلريين صرحاء رغم أنوفهم وأنف التاريخ، وليسوا ساسة استقلاليين ضد الاحتلال البريطاني يبحثون عن أي حليف دولي ليساعدهم على نيل استقلال بلادهم. ومتى؟ في وقت لم يكن فيه التعامل وحتى التحالف مع ألمانيا النازية العنصرية آنذاك وكما يعرف الجميع مثلبة أو جريمة. أقول هذا رغم احتقاري ورفضي كماركسي للنازية العنصرية التي لا تختلف كثيرا عن الصهيونية العنصرية المعاصرة ودولتها المسخ الخرافية الأيديولوجية "إسرائيل"، فقد عقدت الدول الأوروبية بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا مع هتلر اتفاقية ميونخ في 30 أيلول/ سبتمبر 1938، وعقد الاتحاد السوفيتي اتفاقية مع هتلر في عهد ستالين هي اتفاقية "مولوتوف - ريبنتروب" ووقعت في العاصمة السوفيتية موسكو بحضور ستالين شخصيا في 23 آب/أغسطس 1939، وتم بموجبها اقتسام بولندا بينهما، إضافة إلى استيلاء الاتحاد السوفيتي على إستونيا ولاتيفيا وليتوانيا وأجزاء من فلندة، واستقبال ستالين شخصيا لريبنتروب وزير خارجية هتلر. كل هذا حدث قبل سنتين فقط من حركة الكيلاني والعقداء الأربعة، وقبل سنة واحدة من زيارة مفتي القدس الى برلين ولقائه بهتلر في تشرين الثاني / نوفمبر 1941. وهكذا يكون في عرف وموضوعية كاظم حبيب حلالا على ستالين أن يوقع معاهدة دولية مع هتلر، وحرام على غير ستالين كالحسيني الذي تطارده بريطانيا كإرهابي بعد فشل ثورته المسلحة لتحرير فلسطين، التي ستمنحها بريطانيا لاحقا للحركة الصهيونية زيارة برلين ولقاء هتلر! وعموما، فلن أتوقف طويلا عند هذه التشنيعات، فقد قلت ما يكفي لتفنيدها في مقالتي ولم يرد حبيب على النقاط المحددة التي أثرتها بل راح يسهب ويلف ويدور ويكرر قناعاته الفاسدة ذاتها التي كتبها في مقالاته وكتابه.
ولكي يحاول حبيب التخفيف من تملقه للكيان الصهيوني، يكرر علينا الأفكار التبريرية ذاتها التي أخذت تكررها وزارة خارجية دولة عيال زايد ودول المتصهينين العرب الآخرين والمتساقطين في مستنقع التطبيع هذه الأيام، وكأنهم يقتبسونها حرفيا مما كتبه كاظم حبيب حيث قال مبررا تطبيعيته وترويجه للدولة الصهيونية لقد (اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل وكذلك عديد من الدول العربية وتقيم معها علاقات دبلوماسية منذ سنوات، منها مثلاً مصر والأردن، إضافة إلى دول عربية جديدة أخرى. كما إنها - إسرائيل- دولة عضوة في الجمعية العامة للأمم المتحدة). وبعدها يقفز حبيب إلى اعتبار العدو هو علاء اللامي وأمثاله لأنهم (جزء من النهج والسياسة والخطاب التدميري الذي تعرضت له القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني من جراء تلك المزايدات البائسة)، مسجلا على اللامي "جريمة" جديدة وهي أنه يستعمل في مقالته تعبير "الكيان الصهيوني"، لأن هذا التعبير كما يقول حبيب هو (الذي تمارسه القوى القومية اليمنية المتطرفة وقوى الإسلام السياسي المتطرفة وإيران)! وباختصار ووضوح، فالسيد كاظم حبيب لا يكتفي بأنه ارتضى لنفسه الوقوع في مستنقع التطبيع والصهيونية بل يريد أن يجبر الآخرين على السقوط معه فيه، ويقسرهم على استعمال مصطلحاته الكتابية والتخلي عن مصطلحاتهم ولغتهم الخاصة بهم.
في نهاية مقالته، يتبرأ حبيب من عار نشر مقالته في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية، فيحاول التخفيف من وطأته أيضا: أولا، بالقول إنها لم تكن مقالة تلك التي نشرها موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية بل مقتطفات من مقالة، وثانيا، بالقول إنه ليس (مسؤولاً عن هذا النشر، إذ أن عشرات المواقع الديمقراطية العراقية والعربية وغيرها قد نشرت هذا المقال). وطبعا، لم يتوقف حبيب عند دلالات إقدام موقع الخارجية الصهيونية على نشر المقال كاملا وبضمنه فقرات ضافية من مقالته حول الفرهود، ولم يتساءل: هل تنشر الخارجية الصهيونية مقالات لعراقيين أو عرب أو حتى ليهود تقدميين آخرين إن لم يكونوا يدافعون عن الكيان أو يتملقونه ويروِّجون قناعاته العنصرية الخرافية؟
لنلقِ نظرة الآن على مقالة حبيب الأخرى التي تبرأ من نشرها في موقع وزارة الخارجية الصهيونية، لنرى بوضوح أشد عدداً من المقولات الصهيونية التي يروجها كاظم حبيب ثم ينسى أو يتبرأ من أنه يروجها، ففي معرض امتداحه للكاتب الإسرائيلي الصهيوني -المولود في العراق - شموئيل موريه، يكتب في مقالته تلك دفاعا حارا عن إسرائيلية موريه و"حبه لدولته إسرائيل"، وقد لا يتوانى كاظم حبيب عن امتداح حب شموئيل للمنزل الذي يعيش فيه بعد أن اغتصبه - كسائر المستوطنين آنذاك كما نرجح - من أسرة فلسطينية تعيش في مخيمات اللجوء الآن، فيكتب (لا شك في إن الرجل المحب لبغداد - شموئيل موريه - وأهلها والذي أجبر على الهجرة إلى إسرائيل يحب بلده إسرائيل ودولته، سواء أكان موافقاً على سياسات الدولة وحكوماتها المتعاقبة أم اختلف ويختلف في بعض منها ومع هذه الحكومة أو تلك. وهو أمر طبيعي لكي لا يذهب بالبعض منا تصور خاطئ، وأعني بذلك إن حبه لبغداد وأهل العراق يجعله ضد إسرائيل أو غير محب لها. فإسرائيل وطنه الجديد بعد أن طرد من وطنه الأول، العراق... وأن حبه لوطنه إسرائيل وحبه لشعبه يتحركان فيه دوماً)! وكيف لنا أن نشك في "حب موريه لإسرائيل وشعب إسرائيل" فهو مفهوم؟ ولكن شكنا سيطول كل من يروِّج له ويدافع عن أمثاله ثم يدعي التقدمية، ولن ترهبنا اتهاماته بالتطرف والإرهاب، خصوصا وأن هناك يهودا عراقيين وغير عراقيين شرفاء ومناهضين للصهيونية رفضوا أن يعيشوا في دولة الكيان وعاشوا كسائر المنفيين والمهاجرين العراقيين في الدول الأوروبية وغير الأوروبية ومنهم أقلام وشخصيات تقدمية معروفة لكاظم حبيب وسواه، وقد عرفت بستة وثلاثين منهم، بينهم يهود عراقيون وعرب وأجانب في سلسلة موجزة ومصورة نشرتها في كتيب صغير تبدأ بالمناضل الماركسي الراحل إبراهيم سرفاتي من المغرب، وتنتهي بالروائي والحقوقي يعقوب كوهين من أصل مغربي يعيش في فرنسا ويحمل جنسيتها.
ولكن إذا أهملنا شتائم كاظم حبيب وتكراره لمقولات وزارات الخارجية في دول التطبيع والاستسلام الخليجية ومديحه لنفسه ولكتاباته فما الذي تبقى ليكون موجبا للرد على هذه الثرثرة الطويلة وكأنها صفة عريقة في كتابات الرجل الرتيبة والمملة؟ لا شيء تقريبا يستحق الرد أو الإشارة، ربما باستثناء رده على تعليلي لوقوع أحداث الفرهود المأساوية والمدانة بالظرف السياسي العراقي الذي كان قائما آنذاك، أعني ظروف سحق القوات البريطانية لانقلاب مايس -آيار 1941 بقيادة السياسي العراقي رشيد عالي وحلفائه العسكريين العقداء الأربعة وإعدامهم وفرار الكيلاني لاجئا إلى السعودية وإعادة العائلة المالكة الهاشمية وعملاء بريطانيا إلى الحكم بالطائرات والدبابات البريطانية. إن كاظم حبيب يخطئني في هذا التعليل، فيكتب (كل الدراسات والبحوث المنشورة حتى الآن، وكل الوثائق التي تحت تصرفي والدلائل التي توصلت إليها من خلال قراءاتي لكثرة من تلك الكتب والأبحاث والاستقصاءات التي قمت بها واللقاءات التي أجريتها مع عدد كبير نسبياً ممن عاش تلك الفاجعة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، أو من عرفها عن قرب وعن تلك المرحلة، تبلورت لديّ أثناء دراستي ما سجلته من رؤية تحليلية واقعية وموضوعية، بشهادة من كتب عن الكتاب، لتك الأحداث التي بدأت مع نهاية العشرينات وكل الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن العشرين في العراق، وكذلك ما كان يحصل في فلسطين وثورة الشعب الفلسطيني في الثلاثينيات من القرن العشرين، سواء في المقال المذكور أم في كتابي المشار إليه: "يهود العراق والمواطنة المنتزعة"...) رغم ركاكة هذه الفقرة لغويا، وفوضويتها الأسلوبية المعيبة، يمكننا أن نفهم منها أن كاتبها يعتقد بأن أسباب واقعة الفرهود أو ما يسميها هو "فاجعة اليهود" بدأت في نهاية العشرينات وكل الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين، وكأن اليهود العراقيين كانوا يعيشون حالة حرب شُنت عليهم من الغالبية العربية المسلمة طوال ثلاثة عقود، وهذا رأي لم يقل به أشد اليهود العراقيين تطرفا وصهيونيةً كالحاخام عوباديا يوسف زعيم حركة ساش الصهيونية المتطرفة - المولود في البصرة العراقية سنة 1924-، بل إن حبيب يوضح هذه الفرية الملفقة في عبارة أخرى يقول فيها (لقد بدأ التمييز والعداء لليهود في العراق بوقت مبكر من ثلاثينيات القرن الماضي وأصبح واضحاً حين أصدر، ولأول مرة، وزير الاقتصاد والمواصلات أرشد العمري في عام 1934، وبموافقة الحكومة العراقية ورئيسها علي جودت الأيوبي، قراراً بفصل 150 موظفاً في وزارته كلهم من يهود العراق بحجة النشاط الصهيوني). إن تعليلات كاظم حبيب لحدثي الفرهود وتهجير اليهود العراقيين تنطوي على تبرئة ضمنية ولكنها واضحة للكيان الصهيوني ومخابراته من جريمة استهداف اليهود العراقيين لدفعهم الى الهجرة وهي تبرئ أيضا الاستعمار البريطاني ونظام الحكم الملكي التابع له في العراق من المساهمة الفعلية في تلك الأحداث المأساوية.
أما الواقع التاريخي على الأرض فينسف كل هذا الهراء بضربة واحدة، ويقول لنا، إن حكاية تهجير اليهود العرب من بلدانهم كانت خطة صهيونية في الأساس، شاركت في تنفيذها الأنظمة الرجعية العربية في المغرب واليمن والعراق وكانت تبحث عن أي مبرر. لنقرأ هذه الخلاصة التي كتبها الروائي اللبناني نبيل خوري في مقالة له بعنوان "من قتل المهدي بن بركة - كيف مهدت إحدى أكبر الجرائم السياسية للتطبيع المجاني الحاصل حالياً بين دول عربية واسرائيل؟" كتب (الحكاية بدأت بعد موت الملك محمد الخامس، وتسلم الحسن الثاني العرش عام 1961. ففي الفترة الممتدة بين تشرين الثاني -نوفمبر 1961، وربيع 1964، أنجزت العملية التي يطلق عليها الاسرائيليون اسم "عملية ياخين". وعملية "ياخين" هي جزء من سلسلة عمليات كان هدفها تهجير اليهود العرب: فكانت عملية "بساط الريح" في اليمن 1949-1950، وعملية "عزرا ونحميا" في العراق 1950-1952، و"ياخين" في المغرب. هذه العمليات الثلاث تمت بالتواطؤ والتعاون مع حكام هذه الدول، وكان لا بد من اليهود العرب لسد النقص الديموغرافي اليهودي في اسرائيل. هذه العمليات الثلاث كانت التطبيع الذي مهّد للتتبيع الحالي، لأنها كشفت أن الأنظمة الاستبدادية ساهمت في تأسيس دولة اسرائيل، وكانت شريكاً للصهيونية في طرد الفلسطينيين من أرضهم، وفي تأسيس ثنائية الاستبداد- الاحتلال التي تهيمن على العالم العربي/موقع صحيفة "السفينة" عدد 24 آب -أغسطس 2020).
وكعادته، لا يكلف حبيب نفسه عناء التساؤل فيما إذا كانت هذه الممارسات ضد اليهود العراقيين التي ينسبها مثلا للرئيس الوزراء الملكي علي جودت الأيوبي وغيره من مسؤولين ملكيين عراقيين هي تصرفات فردية تحسب على من قام بها في مجتمع تعددي منفتح كالمجتمع العراقي آنذاك، أم إنها نتاج تعاون بين النظام الملكي الهاشمي العميل لبريطانيا وبين الكيان الصهيوني، وهو التعاون والتنسيق الذي اعترف به الصهاينة أنفسهم وذكرنا في مقالتنا أمثلة عليه وردت في وثائق سرية للموساد وغيره، ونشرت في كتب ومقالات لإسرائيليين، وبلغت درجة التفاوض بين توفيق السويدي وعميل الموساد شلومو هليل لاحقا، كما يخبرنا د. عباس شبلاق في كتابه (هجرة أمْ تهجير: ظروفُ وملابساتُ هجرة يهود العراق) الذي اقتبسنا عنه، لتسهيل تهجير اليهود العراقيين الى الكيان الصهيوني بكل الوسائل والدوافع والطرق بما في ذلك تفجير القنابل في كنيس "مسعودة شنطوف" ببغداد وقتل اليهود أنفسهم! في حين أفادت شهادات أخرى ليهود عراقيين كانوا من ضحايا التهجير إن المفاوضات جرت بشكل غير مباشر بين نوري السعيد وبن غوريون بواسطة شلومو هليل ومن هؤلاء المحامي شميش والناشط المدني صديق صديق الذي قال لصحيفة المشهد الإسرائيلي ("أنا مولود في العراق. وهاجرت إلى إسرائيل في العام 1951. ولم أهاجر وحدي، وإنما بلغ عدد العراقيين الذين جاؤوا إلى إسرائيل في هذا العام قرابة 130 ألف عراقي".وقال ايضا: ومجيئنا إلى إسرائيل تم من خلال مؤامرة وصفقة جرى تنفيذهما في العام 1949، في سويسرا بين [رئيس الحكومة العراقية] نوري السعيد ودافيد بن غوريون [رئيس حكومة إسرائيل]. وقضت هذه الصفقة ببيع يهود العراق، من خلال مغادرتهم لبلادهم والمجيء إلى إسرائيل". وقال في المقابلة: "إحدى الوسائل التي استخدمت لإرغام يهود العراق على مغادرة وطنهم هي أن الحركة الصهيونية، بواسطة عملائها، نفذت تفجيرات في كنس اليهود، من أجل أن يقال إن العرب يفجرون الكنس كي يطردوا اليهود. لكن تم إلقاء القبض على يهود كانوا ضالعين في تفجير الكنس اليهودية في بغداد/ مقالة لمحمد محفوظ جابر على صفحة "الضفة الفلسطينية عدد 14 تشرين الثاني –نوفمبر 2012 ). الراجح عندي أن المفاوضات بين الحكومة الصهيونية والحكومة الملكية العراقية بدأت في حكومة السويدي التي انتهت عهدتها في 15 أيلول سنة 1950 واستمرت في عهد حكومة نوري السعيد التي خلفتها مباشرة.
إن تعليل أحداث الفرهود بـ "روح العداء لليهود لدى العرب والمسلمين" هي مقولة عنصرية أشاعها الإعلام الصهيوني الإرهابي نفسه، وقد رد عليها كتاب تقدميون وموضوعيون يهود وإسرائيليون كثر، أذكِّر هنا بما قالته الأستاذة الجامعية إيلا شوحط بهذا الصدد حيث كتبت - وكأنها ترد على ما كتبه كاظم حبيب تحديدا- (إنّ إدانةَ العنف الذي مورِس ضدّ اليهود خلال الفرهود يجب ألّا يُستغلَّ "لمساواة العرب بالنازيّين، وتكريسِ السرديّة المزوّرة حول العداء الإسلاميّ الأبديّ للساميّة." وتمضي شوحَط أبعدَ من ذلك، فتتّهم الخطابَ الأورومركزيّ بإسقاط تجربة إبادة اليهود في أوروبا على ما حدث في العراق، مسجّلةً "أنّه خلال أعمال الفرهود حمى بعضُ المسلمين جيرانَهم من اليهود،" وأنّ أقلّيّةً من اليهود بقيتْ رغم الفرهود وبعد التهجير الجماعيّ في وطنهم العراق. ومن أسباب بقاءِ هؤلاء، في رأي شوحَط، "أنّهم اعتبروا أنفسَهم عراقيّين أوّلًا وأساسًا، و/أو لأنّهم اعتقدوا بأنّ هذه عاصفةٌ ستمرّ، و/أو لأنّهم، ببساطة، لم يشاؤوا أن ينسلخوا عن حيواتهم.". وكمثالٍ على ذلك، تذْكر شوحَط عائلةَ كبير حاخاماتِ اليهود العراقيّين، الحاخام ساسون خضوري، إذ إنّ "أكثرَ أبنائه هاجروا إلى إسرائيل، فيما بقي بعضُهم الآخر في العراق،" وفي مقدّمتهم الحاخام خضوري نفسُه وابنُه شاؤول حتى وفاة الأوّل ببغداد سنة 1971) هذا الكلام للباحثة اليهودية المنصفة إيلا شوحط كنت قد اقتبسته في مقالتي ولكن كاظم حبيب لم يأبه له، أو ربما لم يره ويقرأه في غمرة انفعاله وغضبه من وصفه بالتملق للكيان الصهيوني. والحقيقة هي أنني ربما تسرعت في وصفه بالمتملق للكيان الصهيوني فهو أسوأ من المتملق بكثير بعد أن أماط هو اللثام عن أفكاره المتصهينة ويكشف عن حقيقة دوره كمروج للفكر الصهيوني، يكرر المقولات العنصرية الصهيونية ودون أدنى خجل أو ذكاء تحريري، ويطري ويمتدح الشخصيات الصهيونية وحبها لدولتها "إسرائيل" ويستقرأ وقائع التاريخ بعينين صهيونيتين عنصريتين تروجان للتطبيع ولما هو أسوأ من التطبيع، وهو في كل ذلك يغمض عينيه مزيدا من الإغماض عن فاجعة مستمرة أخرى هي فاجعة الشعب الفلسطيني الذي اقتلع من وطنه ورمي به في مخيمات اللجوء ليستوطن في بيوته وقراه ومدنه أمثال صديقه شموئيل موريه، إذ يبدو أن كاظم حبيب لم يسمع بعد بفاجعة الشعب الفلسطيني أو أنه متخصص بنوع آخر من الفواجع.
حقا، لقد ألحق كاظم حبيب وأمثاله من تطبيعيين ومتصهينين، يحسبون أنفسهم على اليسار العراقي، عارا ولطخة سوداء بتراث وسردية الحركة الشيوعية العراقية، التي عرفت تاريخيا بأنها الحركة الأكثر كفاحية وصدقا في مناهضتها للصهيونية ماضيا، وانحازوا لانتهازية عبد القادر البستاني وجماعة باريس "اللجنة العربيّة الديموقراطيّة" في وثيقتهم المجللة بالعار (أضواء على القضية الفلسطينية). وهاهي الجماعة المتصهينة تبعث من جديد في صورة كاظم حبيب وأمثاله، فتتآمر ضد تراث فهد وحزبه المناهض للصهيونية، وخانوا دماء شهداء اليسار العراقي بدءا من شاؤول طويق، اليهودي العراقي اليساري المقتول برصاص الشرطة الملكية العراقية، لأنه تظاهر ضد الكيان الصهيوني ودفاعا عن فلسطين وشعبها، ومرورا بشهداء العراق في صفوف المقاومة الفلسطينية ضد هذا الكيان. ولكن هذا العار وهذه اللطخة السوداء ستكونان - في حساب الأجيال والتاريخ - حكرا على هؤلاء المرتدين المتصهينين ولن تضر الشرفاء الأنقياء من جيل الثوريين الشجعان العظماء شيئا!
وأخيرا، فسيكون هذا هو ردي الأخير على السيد كاظم حبيب على الأرجح، إلا إذا تعلم كيف يساجل ويكتب ويرد على الآخرين باحترام ومنطق ولغة مفهومة وبلا شتائم لا تليق بسنِّه وأن يرد على نقاط محددة جاءت في مقالتي ردودا واضحة ودقيقة!
علاء اللامي - كاتب عراقي
.................................
للاطلاع
ماذا في جعبة علاء اللامي حول فاجعة الفرهود ضد اليهود في العراق؟ (1) / د. كاظم حبيب
حجيًة العقل العمومي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. علي رسول الربيعي
بينما تأخذ حجة العقل العمومي كما يقدمها راولز مكانة عالية في المناقشات الفكرية والدراسات الأكاديمية التي تتعلق بالمسوغات والأسباب الدينية، فإن الادعاء المؤيد للمسوغات والأسباب العلمانية هو الأكثر تداولًا في النقاش العام الأوسع. لطالما كان الدين عنصرًا مهمًا في الحياة السياسية في كثير دول (دول كثيرة)، ولكن في أعقاب صعود التطرف "الذي تحركه إيديولوجية دينية شديد الاستقطاب إلى حد كبير حيث يبدو أن المعتقدات والممارسات الدينية تعمل على فرز المواطنين سياسيًا، فقد شهدنا موجة كبيرة من الدعم للرأي القائل بأن الدين خطير أو غير موثوق به سياسياً، لذا يجب خصخصته وأن لا يكون ذو صلة بالسياسة، إذا كان غير ممكن التخلص منه تمامًا.[1] عادةً ما كان المفكرون أكثر حذرًا، عدا قلة جدًا ممن تابع ريتشارد رورتي الذي رأى في وقت من الأوقات أن استخدام االمسًوغات والأسباب الدينية كان "مانعًا للحوار" وأن أولئك الذين يلتزمون بالحكومة الديمقراطية يجب أن يجعلوا الأمر يبدو وكأنه خيار أو "ذوق سيء" أن يظهر المواطنين آرائهم الدينية للتأثير السياسي في المناقشات العامة.[2] تخلي رورتي نفسه عن مثل هذه الادعاءات، معترفًا بأن مثل هذا الالتزام المفترض يعتمد ببساطة على بناء غير معقول لكيفية توصل الأفراد إلى آرائهم السياسية.[3] يفرض الرأي القائل بأن المواطنين المتدينين يجب أن يتصرفوا سياسياً بطرق منفصلة تمامًا عن آرائهم الدينية نموذجًا غير واقعي تمامًا من قبل علم النفس، كما لو كان المؤمنون المتدينون (أو أي شخص آخر، في هذا الصدد) يمكنهم عزل معتقداتهم حول الطبيعة القصوى والنهائية للكون ومكاننا فيه من معتقداتهم فيما يتعلق بما يجب أن تسعى اليه مجتمعاتهم السياسية.[4] قد يكون ذلك بمثابة شعار سياسي جيد عندما يكون لدى خصومك الحزبيين روابط دينية مثيرة للجدل فتقول ينبغي على المواطنين إبقاء وجهات نظرهم الدينية خارج السياسة تمامًا، ولكن يبدو ذلك غير معقول تمامًا كادعاء حول كيفية عمل السياسة في الواقع والتزاماتنا الأخلاقية في ذلك.
يمكن أن تكون شعارات سياسية جيدة تحديدًا لأن أحدى الأشياء، كما يرى تشارلز تايلور،[5] التي تجعل الحداثة بشكل عام والمجتمعات الديمقراطية الحديثة بشكل خاص مميزة للغاية هي طابعها العلماني الذي لا يمكن إنكاره؛ حيث أن مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية برمتها التي كانت ذات يوم تحت وصاية السلطات الدينية تقف الآن مستقلة عن تلك الوصاية. ولذا فلا عجب عند التفكير في أنواع المسوغات والأسباب التي قد تكون قادرة على تبرير نظام ديمقراطي في ظل نوع التعددية السارية حاليًا، إن يتبنى الباحثون المختصون (والجمهور) مسوغات وأسباب ذات طبيعة علمانية بشكل قاطع.
الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ
........................
[1] يمكن أن نجد بعض الأمثلة على هذا ، أنظر:
Sam Harris, The End of Faith: Religion, Terror, and the Future of Reason (NewYork:W.W. Norton & Co., 2004);Sam Harris, Lerur to a Christian Nation (New York: Knopf, 2006); Linker, The Theocons; Phillips, Amenican Theocracy; Sullivan, The Conservative Soul.
[2] Rorty, Richard. "Religion as a Conversation-Stopper." In Philosophy and Social Hope, ed. Richard Rorty. New York: Penguin Books, 1999.
[3] Richard Rorty, "Religion in the Public Square: A Reconsideration," Journal of Religious Ethics 31, no. 1 (2003).
[4] أنظر:
Krause, Civil Passions, especially chapter 2.
[5] Charles Taylor, A S ecular Age (Cambridge, MA: Harvard University Press, 2007).
فشل الإسلام السياسي
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ا. د. علي المرهج
الفشل معناه عدم قدرة هذه الجماعات المدعية احتوائها للإسلام على تحقيق الأفضل لمجتمعها، ولا نحتاج للتدليل على فشل جماعات الإسلام السياسي في قيادة الأمة لما فيه تقدم لأمتنا الإسلامية أو العربية.
لم تنجح تجربة الإسلام السياسي طويلاً ممثلة بحكم الدولة الإسلامية في إيران التي تبنت مواجهة العالم لتكون المُتصدية لما سُميّ بخط الممانعة والمقاومة، فإيران تعيش اليوم ومن قبل أشد حالات الحصار والتغييب المقصود لتاريخها ودورها. اضافة الى فشل الإسلام السياسي الإيراني في التعايش مع المعارضة لا السياسية فقط بل الفكرية أيضا، ليكون مصير خط الاصلاح في إيران هجر كبار العقول كسروش وكديور، بنيما بقي كروبي وحسين موسوي وخاتمي في الاقامة الجبرية ليومنا هذا.
أخفقت جماعة الأخوان المسلمين في مصر، حينما تمكنت هذه الجماعة من مسك زمام القيادة فيها، فآل مصيرها للصراع وخروج ملايين المصريين لرفض حكم الأخوان المسلمين وصولاً لتمكن (السيسي) من الوصول للسلطة.
في العراق أثبتت جماعات الإسلام السياسي فشلها بامتياز في إدارة الدولة والوصول بها لبر الأمان، فحصل ما حصل، وكاد العراقيون أن يقتتلوا فيما بينهم سنة وشيعة.
لا تحتاج لدليل حتى تُثب فشل تجربة الإسلام السياسي الشيعي في العراق، ولن تتعب بمجرد زيارة مناطق الجنوب والوسط بأغلبيتها الشيعية لتكتشف بؤس ما يعيشه جماعات هذا المكون التي تصرخ كل ساعة وكل يوم (ماكو ولي وانريد قائد جعفري) ليصل بها الحال يأساً، لتنشد معترضة (ماكو ولي إلا علي ومنريد قائد جعفري)!، و (منريد قائد جعفري تاليها يطلع سرسري)!.
الإسلام السياسي في ليبيا له ىجذوره منذ حركة (السنوسي)، لتنشط حركة (الإخوان المسلمين) فيها بعد سقوط القذافي، ليكشفوا عن غياب الوعي السياسي عندهم، وبعد حين يكتشف الليبيون عقم التفكير السياسي عند هذه الجماعة التي انبرت جماعتها لتضع نفسها موضع الإصلاحيين والنهضويين، كما هو حال جماعات الإسلام السياسي في العراق ومصر، لتدخل في معادلة (التكفير) لكل مخالف لها!!.
بعد حين تشضت الحركة لتكون جماعات منها تأخذ قراراتها من الخارج وأخرى لا طاقة لها لقبول الديموقراطية بوصفها منهج وطريقة حياة.
غاب المشروع الوطني في ليبيا، فآل مصيرها لما هي فيه الآن من تشتت وتشظي في الولاء لآخر، وغياب الوعي بقيمة الهوية الوطنية.
كانت جماعات الإسلام السياسي في تونس أكثر وعياً من باقي الجماعات الإسلامية التي تمكنت من مسك الحكم في دولها، ليكون راشد الغنوشي صمام أمام لهذه الجماعات واستمرار تأثيرها في السوسطين السياسي والاجتماعي.
كشف السياسي البارز في حزب النهضة التونسي (لطيف زيتون) عن فشل الإسلام السياسي في تونس، فكانت هذه (الجماهعة) مصدراً لتقسيم المجتمع التونسي لا لوجدته.
ليس المهم أن تُقارع الاستبداد، ولكن المهم والأهم في رؤيتك أن تعرف قدرتك وقدرة الجماعة الذين معك على إدارة الدولة بما ينقلها لحال أفضل.
أثبت الإسلام السياسي بتجربته القصيرة في الحُكم على أن جماعته يُجيدون تشتيت الموحدين، ولا قُدرة لهم على جمع المشتتين.
إنهم يحكمون بإسم الحق الذي يظنون أنهم يمتلكونه، ولم يقدروا أن يُقنعوا أنفسهم ويجمعوا شتات التيارات الإسلاميمة المختلفة مع من تمكن من الوصول لقيادة الدولة.
إن لم تكن لديك القدرة على جمع المخالفين لك في الرؤية لا في العقيدة، فتأكد أنك ستفشل في نيل مقبولية من يختلف عنك في العقيدة وتصوراته للوطنية.
الوطن لا يٌحكم برؤية عقائدية يدعي المسؤول فيها أنه (ابن المذهب)، أو (ابن الدين) وأنه محكوم بتكليفه الشرعي!.
الوطن يعني أنك تقبل كل مختلف معك وإن لم يقب بعقيدتك أو مذهبك أو دينك، تقبله لأنه مواطن له حقوق وعليه واجبات، والحقوقو والواجبات ليست دينية ولا مذهبيثة ولا عرقية، كما الحقوق، لأنها من متطلبات المواطنة الحقة.
لا يُمكن لجماعات الإسلام الإسلام السياسي سنية كانت أم شيعية، وقل إسلامية كانت أم من ديانات أخرى أن تعي هذا الخطاب الذي يجعل المواطنة أولوية.
لذلك لن ينجح جماعات الإسلام السياسي في حكم دولة عربية أو إسلامية متعددة الأطياف والمذاهب والأديان، لأنهم يُغلّبون العقيدة على المواطنة وإن ادعوا غير ذلك.
ا. د. علي المرهج
الأفكار والإبداع!!
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صادق السامرائي
سأقترب من الموضوع بزاوية حادة ومعقدة ومركزة لأنه من الموضوعات الثقيلة، والتي تستدعي الدراسة العميقة والبحث المستديم، وقد درتُ حوله في مقالات متنوعة بحثا عن كنه ما فيه من المكنونات الإدراكية والحقائق الجوهرية.
وأعود إلى ما كنتُ أهتم به بعد إنقطاع طويل، بدعوة من الأستاذ مصطفى علي فشكرا له.
وإبتداءً لابد من السؤال عن ماهية الأفكار والإبداع.
فما هي الأفكار؟!!
هل هي مصنوعات بشرية أم موجودات كونية نرتقي إليها؟!!
قد تتضارب الآراء والتصورات والإستنتاجات، ما دمنا نتفاعل مع ظاهرة غير ملموسة أو غير مرئية، لكنها فاعلة في وجودنا العام والخاص.
الكثيرون يرون أن الأفكار من صنع البشر، والواقع السلوكي والتقييم المتواصل لكينونة الأفكار في الأدمغة تُظهِر أنها موجودات قائمة حولنا، وكل منا يمتلك قدرات إصطياد ما يستطيعه منها ويُفاعلها في بودقة دماغه، ليستخرج منها عصارتها أو سلاّف ما فيها.
ويبدو أن هناك تغيرات دماغية تتسبب بإجتذاب نوع من الأفكار دون غيرها، ووفقا للحالة الفاعلة في رأس المتلقي، ولكي ترتقي إلى أي فكرة لا بد أن تمر برياضات، وهي تأملات متواصلة مركزة في موضوع ما، فعندها تتحقق في القشرة الدماغية دوائر تواصلات عُصَيْبيّة ذات سُرَعٍ متفاوتة، تساهم في إحداث مجال كهرومغناطيسي حولها، يساعدها على إستحضار الأفكار المتوافقة مع سرعة جريانها ومتانتها وتماسكها وثباتها ومعززاتها وطاقاتها.
فما هي الأفكار المنجذبة إلى الأدمغة؟
تبدو الأفكار عبارة عن جسيمات موجية أو كالفوتونات الضوئية أو غيرها، لكنها بالتأكيد تعبيرات طاقوية ذات تأثيرات فاعلة في الوجود.
فالوجود بأسره فكرة، ومنه توالدت الأفكار وتنامت وتشعبت، وكأننا نعيش في فضاء مزدحم بالأفكار المحلقة حولنا، والساعية إلى مَن يستقطبها ويرتقي إليها ويتكون بها وفيها.
والفرق بين المخلوقات في قدرتها على الإمساك بنوع الفكرة، التي ما أن تحل في الدماغ حتى تبدأ مشوارها الإستبدادي، الذي تؤسسه بزيادة سرعة الدائرة العُصيبية التي إجتذبتها وبتسخير دوائر عُصيبية أخرى لصالحها، ومن ثم تسود وتتحكم بالوعي والإدراك ولا يمكن زحزحتها، فتبلغ ما نسميه بالوهم الذي يفترس وجودنا بكيفيات لا حصر لها.
وقد تحل ذات الفكرة في أكثر من دماغ وبنسب تفاعلية متفاوتة، وبعضها تمتلك قوة تأثير هائلة على الأدمغة الأخرى فتأسرها، فتجد شخصا صاحب فكرة ما وإذا بها تنطلق منه لتمتلك أدمغة الآلاف، وربما الملايين وتسخرهم لصالح إرادته.
ذلك أنه حلق في مدارات علوية فائقة ذات تأثيرات كهرومغناطيسية هائلة في الفضاء الذي يكون فيه.
وهذه العمليات التواصلية تحصل في القشرة الدماغية، التي لو أزلناها لإنتفى التفكير وما وجدت أفكارا في الرؤوس، ذلك أن الدوائر الدماغية تتحقق فيها وحسب.
والأفكار تحل بالأدمغة بكامل هيأتها وما إعتراها في رحلتها الطويلة وتصادماتها العديدة مع غيرها من الأفكار التي تزاحمها وتتنافس معها، فهي ليست نقية خالصة وإنما فيها الكثير من الشوائب والمُعَكّرات.
وعندما نتساءل عن معنى الإبداع، يكون الجواب في القدرة على تنقية الفكرة الحالّة في الدماغ وتحليتها وتصفيتها، وإعدادها لتكون صالحة للحياة في البيئة التي ستتُرجَم فيها.
أي أن الإبداع يمكن تشبيهه بأحواض وآليات تحلية وتصفية المياه لكي تكون صالحة للشرب، وكل يستطيع أن ينتج ماء ذا نكهة وطعم ما.
والإبداع بحاجة إلى مفردات وعناصر أو أبجديات، وهنا يأتي دور اللغة اللازمة للتعبير عن الفكرة بثوبها الإبداعي، الذي يتناسب مع قدرات الدماغ الذي حلت فيه.
ولا يمكن لإبداع أن يتحقق بدون لغة أيا كان نوعها، ولهذا فاللغة عنصر أساسي في صناعة الإبداع، وكلما زادت مفرداتها في الدماغ المبدع إرتقى إبداعه، وهذا يأخذنا إلى مراكز اللغة في الأدمغة وسلامتها وقدرتها على التواصل والإنطلاق التعبيري التام.
واٌلإبداع المقصود به التعبير المادي والمعنوي عن الفكرة، والفكرة تميل إلى التخلق المادي والعملي أكثر، لأنها تريد ممارسة الحياة وتؤدي رسالتها ودورها الكوني.
وعندما نتساءل عن الأفكار والمشاعر، فأنهما حالة واحدة، بمعنى أن الفكرة عندما تجد الدائرة العُصيبية المناسبة لها في الدماغ فأنها تأتي بكامل ما فيها وحولها، فالفكرة هي التي تحدد مشاعرها وعواطفها، وهي التي تختار إيقاعها، فعندما تأتي لترتدي ثوب الشعر فقد إختارت قياساته وموديلاته أي إيقاعاته، وما على الذي تفاعل معها إلا أن يجيد الإستجابة لإرادة الفكرة، التي تريد أن تبدو بأجمل ما تكون عليه من شكل وتأثير.
ولهذا فأن بحور الشعر إيقاعات تولدت من مسيرة التفاعلاىت القائمة ما بين الأفكار والنفوس ذات الإيقاعات التي تشير إليها.
والأفكار تريد أن تجد لها موطنا متوافقا مع إيقاع ما فينا، والعكس صحيح!!
والطبيعة النفسية لوعاء الشخص تحدد ماهية الأفكار التي ستكون فيه!!
والمستقبل واعد بإكتشافات مذهلة ستقلب معارفنا رأسا على عقب، ولسوف تسجل أجهزة الحاسوب أفكارنا، وسترسم ما في رؤوسنا من أفكار، ولربما سنتوصل إلى إستحضار الزمن بمفرداته منذ الأزل، فالأفكار التي تستوطننا لا تغيب بل تتنامى فينا وتتطور، وتعود إلى فضاءاتها التي جاءت منها بعد أن تموت الأدمغة.
وكلما أبحرنا في أكوان الأفكار نكتسف أننا من الجاهلين، وقل ربي زدني علما، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، وتلك حقيقة أننا لا نعلم وإن توهمنا بعلم!!
د. صادق السامرائي
25\12\2020
المسرح النسويّ: المسرح في المؤنث والمذكر
- التفاصيل
- كتب بواسطة: علي ماجد شبو
"هابل" Hubble هو أسم التلسكوب الفضائي الذي يتجول في الفضاء الخارجي ويلتقط صوراً وإشارات عن المجرّات الكونية الأخرى خارج المجرة التي يقع فيها كوكب الأرض. وفي ذات الوقت يتجول المسبار الفضائي بين الكواكب ويبعث صورا دقيقة عن المريخ ويلتقط أحجاراً من سطحه تسمح للعلماء بإستنتاج إمكانية وجود ماء هناك، أي إمكانية وجود، أو إيجاد، حياة. في الأسفل من هذه الصورة، أي هنا، على سطح هذه الأرض، التي تتنفس الحياة منذ ملايين السنين، تنتشر الحرائق بين غابات العالم من أندونيسيا، وكاليفورنيا وإسبانيا وفرنسا وإيطاليا الى الجزائر مروراً بالبرازيل ونعجز عن إخمادها قبل أن تأكل هذه الحرائق مئات بل آلاف الهيكتارات من الأشجار. وعلى ذات الأرض التي يعيش فيها مختلف أجناس البشر، نعجز عن تحييد القوى التسلطية والقمعية التي تتحكم بالعلاقة بين الرجل والمرأة. أي العجز عن فهم الآخر وإشاعة السلام.
المسرح، بكل أبعاده وأشكاله، يعكس هذا الفضاء من التناقضات والعجز الإنساني. وهو لم يتوقف عن تسليط الضوء الباهر على المشاكل الإنسانية المتنوعة، وجودياً، وإجتماعياً، وإقتصادياً، وسياسياً برؤىً تشوبها المرارة أحياناً، والسخرية في أحيان أخرى، ولكن دون فقدان الأمل. أما المسرح النسوي، فهو وسيلة، لقلب المعادلة التي تتحكم بالعلاقة بين الرجل والمرأة. ولكن من أجل فهم ذلك سيتوجب التساؤل فيما إذا كان هناك أساساً مسرح رجالي قبل هذا النسوي؟ وما هي الأسباب التي أدت الى نشوء المسرح النسوي.
من المعروف بأن المسرح كان في بداياته اليونانية قد أقصى المرأة كلياً من المسرح، فقد كان الرجل هو من يقوم بتشخيص دور المرأة في التراجيديات الإغريقية، واستمر هذا الحال لقرون أمتدت الى بدايات عصر التنوير. حيث حدثت ثورة ثقافية وإجتماعية وتنويرية هائلة، في القرون الوسطى، مما ساعد على إدماج المرأة لأول مرة في التاريخ "كمغنية" عندما ظهر فن الأوبرا لأول مرة.
مع مرور الوقت، برزت أشكال متعددة للمسرح. ومع توسع المسرح في اتجاهاتٍ مختلفةٍ في المواضيع وفي الصيغ الفنية ، ازدادت أهمية وجود المرأة في المسرح أيضًا. بل وأكثر من ذلك، فليس هناك أدنى شك في أن المرأة تشكل كياناً عضوياً في المسرح اليوم ، فهي تعمل في جميع وظائف المسرح من كتابة النص الدرامي، الى السينوغرافيا والإخراج الى التمثيل مروراً بكل الاعمال الفنية والإدارية التي يتطلبها العمل المسرحي. وقد برعت المرأة في كل ما يجعل النص المسرحي عملاً فنياً وإبداعياً مدهشاً ومتكاملاً. في حين ان التاريخ الطويل الذي إجتازته المرأة من المعاناة والصعاب سوف لن يكون من الإنصاف إختصاره ببضع كلمات. بل من المؤسف حقاً أن المسرح، تاريخيًا، كان غير عادل مع المرأة. وعلى الرغم من ذلك ، كان هناك الكثير من النساء اللواتي، بفضل عشقهن للمسرح، وتفانيهن، وتضحياتهن أصبح المسرح اليوم كما نعرفه مختلف تمامًا عن بداياته اليونانية، مسرح تقف فيه المرأة ككاتبة، وكمخرجة، وكممثلة، وكناقدة، وكفنيّة وكإدارية، أي ككل كامل في المسرح.
من أين جاء المسرح النسوي إذن؟ ولفهم ذلك، سيتوجب العودة الى الحركة النسوية في الغرب، فمن رحمها خرج المسرح النسوي. إن الحركة النسوية تسعى، بالمعنى الواسع والعام، إلى لفت الانتباه الى الأدوار الحيوية للمرأة داخل حركة المجتمع، كما تسعى الى تحقيق المساواة للمرأة في عالم أستأثر فيه الرجل تاريخياً بالسلطة في المجالات السياسية، والاقتصادية والاجتماعية وانعكس ذلك أيضاً على العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع وبين أفراد العائلة.
مرّت الحركة النسوية عموماً، وبإختصار شديد، بثلاثة مراحل بدءً من القرن التاسع عشر. وقد ركّزت الحركة في تلك الفترة بشكل أساسي على الحقوق القانونية في المقام الأول مثل حق المرأة في التصويت وحقها في التملك والملكية. أما المرحلة الثانية من الحركة النسوية فقد ترسخت في أوائل الستينيات من القرن الماضي، والتي أستندت، أيديولوجياً، على كتابات سيمون دي بوفوار المحرّضة ضد السكون المجتمعي والداعية لتحرير وإستقلال المرأة خاصة في كتابها الذائع الصيت "الجنس الآخر" بجزئيه، الأول والثاني. وقد ركزت مطاليب هذه المرحلة على أوجه عدم المساواة في الحياة اليومية، مثل الحياة الجنسية، والأسرة، والحقوق الإنجابية، والحق في الإجهاض، وحقوق المرأة في مكان العمل. وبهذا تكون الحركة النسوية قد إتسعت وتطورت خلال المرحلة الثانية. أما المرحلة الثالثة فقد تعززت خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، حيث شكّل مؤتمر المرأة في بجين (بكين) وما صدر عنه، الأنطلاقة الحقيقية والقاعدة القانونية الصلبة للحركة النسوية في العالم (مؤتمر الأمم المتحدة الرابع حول المرأة المنعقد في سبتمبر/أيلول عام 1995 بحضور 180 بلداً وحضور حوالي 2500 "منظمة غير حكومية"، غالبية هذه المنظمات كانت نسائية وحديثة التكوين. علماً بان مشاركة هذه المنظمات سمح لها ولأول مرة في تاريخ الأمم المتحدة). تطورت المرحلة الثالثة النسوية وأتسع أفاق عملها صعوبة وتعقيداً، وصارت تعتمد إلى حد كبير، في عملها، على التقاطع والتنقل فيما بين القطاعات التنموية المتنوعة، وخاصة القطاعات التي على تماس بالحياة اليومية للمجتمع. ثم بدأت بترويج أن فكرة العرق البشري والجنس والطبقة الأجتماعية والقدرة المالية، كلها تتقاطع وجميعها تصب في الكل.
من هذا الرحم وِلِدَ المسرح النسوي خلال السبعينيات. وهو بلا أدنى شك كان قد إستفاد من ثورة 1968 في باريس. وهو يسعى، أي المسرح النسوي، إلى سرد قصص وهموم النساء، وإبراز المرأة كشخصية رئيسية في العمل المسرحي، ومقاومة تهميش المرأة. ثم بدأ المسرح بإستخدام مصطلحات الحركة النسوية من مثل العمل على زعزعة "النظرة الذكورية" في المجتمع. على أن النظرة الذكورية ضمن هذه "الإيديولوجيا"، هي الفكرة العامة القائلة بأن العالم يُنظر إليه فقط من منظور الرجال، وأن هذه النظرة تجعل من النساء، بشكل عام، "كأشياء" جمالية مستحبة أو "كمواضيع" مثيرة للرغبة الجنسية. وانا أجد في هذا الفهم كثير من النمطية السلفية سواء بالصورة التي أُسقطت على المرأة او بالمصطلح ذاته وأعني "الذكورية". لأنني مدرك تماماً بأن هذه المفاهيم وهذه اللغة لا تملك إلاّ أن تمهد للتباعد وليس للتعايش المجتمعي.
إن من أهم بعض سمات "المسرح النسوي" هي العمل من أجل زعزعة وإلغاء "المنظور الذكوري"، ولعمل ذلك يقوم المسرح النسوي بالتمرد على المسرح ذاته، فهو يحاول التفرد بمحاولة تغيير مضمون وشكل الاعمال المسرحية. فمثلاً من حيث المحتوى، ركز المسرح النسوي على ما يلي:
- عرض مفهوم الجنس والعلاقة بين الجنسين، وغالبا ما يعكس الأدوار فيما بين الجنسين أو يقوم بالسخرية منها.
- يروي قصص شخصيات تاريخية مؤثرة، غالبا ما كان يتم تجاهلها.
- يشدد على رواية قصص الإجحاف التي لحقت بالنساء الذين تعرضوا للقمع والاضطهاد.
- يوجه النقد الشديد للأنظمة السياسية والاجتماعية التي ماتزال تُمارس إضطهاد المرأة.
أما من حيث الشكل، فيتحدى المسرح النسوي جميع جوانب عملية الإنتاج، بدءً من هيكلة الحبكة المسرحية إلى عمليات التمثيل والتمرين (البروفة). وتشمل بعض سمات المسرح النسوي، في هذا الجانب، ما يلي:
- من الناحية الشاملة للعرض المسرحي، يحاول المسرح النسوي السماح للممثلات بالتقاطع فيما بينهن وذلك بإعطائهن الفرصة، أحياناً، في سرد قصصهن الشخصية، ضمن القصص التي يتم سردها وطوال عملية البروفة.
- العمل على أسس تعاونية، لأن المسرح النسوي يرفض السلطة الهرمية المعمول بها في المسارح، وذلك من خلال إداريون يحاولون تمكين ممثلاتهم من التدخل في حوار النص، وتعديل حبكة الرواية، والسماح لهم بوضع الاختيارات الاخراجية النهائية.
- إتباع هياكل سردية بديلة - فالمسرح النسوي يرفض السرد التقليدي، وغالباً مايختار السردية المفتوحة النهايات أو الدائرية التي تعود الى البدء أو العرضية التي تتدخل في وسط حكاية أخرى مختلفة.
- التمحور حول موضوع المرأة، يضع المسرح النسوي الشخصيات النسائية في مركز الحدث ، وغالبا ما يستخدم مجموعات من الممثلين عوضاً عن البطل الواحد الواضح.
بطبيعة الحال أنتج "المسرح النسوي" مفاهيمه وشكله من أدوات النقد النسوي التي تتوافق ومجموعة السمات المذكورة أعلاه. ولكني كنت فيما تقدم أستعرض مفاهيم واشكال ولمحات المسرح النسوي كما أُسس لها في المجتمعات الغربية. أود هنا ان أنتقل الى مجتمعاتنا العربية المختلفة والتي يوحدها القمع والقهر والتخلف والبطالة وهواجس الحرية. والمرأة العربية في مركز كل ذلك داخل هذه المجتمعات. للمرأة في المنطقة العربية قضية بدون شك، قضية تتمحور كل تشعباتها حول الاستقلالية والحرية، ولكن هل الرجل، في خلايا المجتمع المتنوعة، هو أكثر حرية؟ يجب ان نفهم بان القضية أساسية جداً ومشتركة. وبان معاداة الرجل او البحث في مفاهيم تزويرية كمفهوم "الذكورية" سيعزز من النظرة المتعصبة واللاأخلاقية، الموجودة أصلاً ضد المرأة. تلك النظرة التي تجعل من المرأة ليس بكائن أنساني مدرك ومتكامل ومستقل، بل كأنثى تثير الإعجاب جمالياً وتؤجج الرغبة الجنسية.
في البلدان العربية، حيث القهر والألم والحزن والفرح كما التفاؤل والامل والتشاؤم واليأس لا يفرق ايأ منهم بين رجل او امرأة، فغالباً ما يكون مصدر القهر و مصدر العبودية واحد. لذلك فإن كان للمرأة معركة، فهي بالضرورة معركة مشتركة مع الرجل ضد التسلط القسري والقمع واستلاب الحريات. ولمحاربة واجتثاث النظرة الدونية التي يحملها بعض الرجال في مجتمعاتنا للأنتقاص من مكانة ودور المرأة، فليتوجه إذن عمل المرأة، بمشاركة الرجل، بصورة دؤوبة من أجل تحرير "عقلية الرجل". ذلك الرجل الذي كبّل المجتمع عقله لقرون طويلة. وبتحرير عقلية الرجل، تتحرر المرأة من معظم المطبات. بهذه المعركة المشتركة، تكون أهداف حركة المرأة قد بلغت وبات عليها العمل مع الرجل لتحقيق مبدئي العدالة والمساواة. ثم العمل على إلغاء كل أفكار ومشاريع الأقصاء، والالتزام بالمشروع الإنساني الكبير في الشروع بالحلم الإنساني بمجتمع موحد كبير على الرغم من اختلاف الثقافات والأديان واللغات. مجتمع موحد عبر إختلاف المسافات.
وحين نعود الى المسرح، سيكون هناك عدد من التساؤلات الشرعية، من قُبيل مالذي أقترفه المسرح بحق المرأة لكي يُختزل بالنسوي؟ أو لموازاته بالنسوي. أو هل يضيف المسرح النسوي بالسمات التي ذكرتها أعلاه الى مسيرة المسرح؟ أنا أعتقد بأن التصنيفات المسرحية "الهامشية" تظلّ، على إمتداد مسيرتها، هامشية، على الرغم من نبل الأفكار التي تحملها، هذا لان هذه التصنيفات لم تُحاكم وجودها ولم تتساءل عن شرعيته. والمسرح النسوي هنا مثال على ذلك. ثم أن هذا التصنيف يسيئ الى المبدأ الأساسي الذي يحتمي به المسرح النسوي وهو حقوق المرأة، ذلك أن تجزأة حقوق الانسان الى حقوق أصغر من مثل حق المرأة، وحق الطفل، وحق المهمشين وغير ذلك الكثير، هو بالحقيقية تجزأة للمبدأ الأساسي، او الحقوق الأساسية وأعني بذلك مجموعة مبادئ حقوق الانسان. ان هذه التجزأة لاتخدم إلاّ السياسيين الفاشلين وللمرحلة الآنية فقط. ثم أن تصنيف المسرح النسوي يرتبط فكريأ بالإقصاء وتهميش الآخر، وجعل نظرة المسرح تتمحور حول مركزية "الأنا الأنثوية Egocentric “، لنا ان نتذكر بأن المسرح أفرز شخصيات نسائية هامة للغاية سلباً، أو إيجاباً من بينها أنتيجون، وأليكترا، وفيدرا ثم الليدي ماكبث، وأفيجيني، وبيرنيس، ونورا، وهيدا جابلر، والآنسة جولي، يرما، وبرناردا ألبا، وكليوباترا، وريّا وسكينة وغيرهن الكثير. إن المسرح بكل أشكاله الفنية والجمالية كان رائداً بطرح ومعالجة هذه المواضيع بطريقة، على الأقل، تسمح للجمهور بأن لا يرى الواقع كما أعتاد أن يراه قبل إرتياد المسرح.
إود أن أتساءل هنا، هل يمكن فعلاً نقل مفاهيم محورية من الحركة النسوية الغربية مثل "النظرة الذكورية" الى داخل هذه المجتمعات العربية دون التسبب في هياج الفتاوي المتشددة. الفتاوي التي تتحكم ببرلمانات وسياسات البلدان العربية. ثم ان الأشكال المقترحة في العمل المسرحي النسوي والمذكورة أعلاه، تبدو، الى حد بعيد، مناقضة تماماً للمهنية المسرحية، ولا أجادل في الأشكال الجمالية التي يبدو لي انها تنحني كثيراً الى السذاجة. لنتذكر ان في المسرح العربي برزت شخصيات نسائية فذة أرست قواعد لمسرح إنساني بأساليب متنوعة من الفن الواعي والجمال الراقي. فهناك فاطمة عيد وسناء جميل وسميحة أيوب، نهاد صليحة من بين عشرات المبدعات في مصر، وكذا الحال في العراق زينب وناهدة الرماح وفوزية عارف، وفي تونس رجاء بن عمار، جليلة بكار وزهيرة بن عمارة، ومن المغرب ثريا جبران ومن الجزائر صونيا ومن لبنان نضال الأشقر، ورندا أسمر، وشادية زيتون ومن الأردن سوسن دروزة ولينا التل ونادرة عمران، وغيرهن الكثير ومن سوريا حنان قصاب حسن وميري اليأس، وغيرهن عشرات السيدات اللواتي لم يتوقفن عن بناء مسرح إنساني جاد، بل وساهموا بشكل فعال في ثقافة بلدانهن. سيدات من جميع البلاد العربية.
وفي الختام، يبدو لي، إن المسرح النسوي، غارقاً بالديماجوجية. فهو يحاول إكتساب الشعبية من خلال إستغلال العواطف الشعبوية، والتحيز ضد الرجل وإثارة الكراهية، وأعتماد السطحية في أثارة موضوعات أساسية تخص القوانين وتشريعات البلاد دونما أثر فاعل على مستوى التغيير المطلوب. كما أن الأعتماد الفكري والسلوكي على بقايا تمردات الستينيات، من القرن المنصرم، مثل البيتلز والهبيز وبقايا شذرات من ثورة 1968 الباريسية، سبغ المسرح النسوي بالهامشية، حيث أن الفكر البشري تسارع في عمقه وفي قدراته على تفهم الآخر ضمن مجتمات متوحدة بإختلافاتها وبتنوعها. أعتقد بأن ظاهرة المسرح النسوي تشبه الى حدّ بعيد ظاهرة كسوف القمر. الظاهرتان تتمتعان بالقدرة على الادهاش وبجماليات من نوع خاص. غير أن الظاهرتين تشكلان إستثناءً في مجرى الحياة اليومية وليس القاعدة.
علي ماجد شبو
ماذا في جعبة علاء اللامي حول فاجعة الفرهود ضد اليهود في العراق؟ (2)
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. كاظم حبيب
الإيديولوجية القومية اليمينية المتطرفة وانقلابيو مايس 1941 في العراق
في هذه الحلقة الثانية سأطرح رؤيتي وما توصلت إليه في أبحاثي عن انقلابيي مايس 1941 وعن تلك النقاط التي أثارها علاء اللامي في مقالته التي حاول فيها الإساءة المقصودة لي والانتقاص دون أدلة وبراهين من البحث العلمي في كتابي المنجز عن "يهود العراق والمواطنة المنتزعة" من خلال ذلك المقال، الذي يدعي بشكل مقصود عدم الاطلاع على هذا الكتاب رغم صدوره في عام 2015 ومقاله مكتوب في عام 2020 ومقالي عن انقلابيي عام 1941 منشور في عام 2011. يبدو بوضوح أن علاء اللامي مأزوم فكرياً وسياسياً ويدرك تماماً خطأ الادعاءات والاتهامات التي وجهها لي، لاسيما اتهام التملق للكيان الصهيوني ومؤسساته الإعلامية والسياسية، وسكوتي عن المؤسسات الصهيونية وإسرائيل فيما حصل من تهجير قسري للعائلات اليهودية من العراق إلى إسرائيل أو التغطية على العصابات الكردية التي كانت تساهم في تهجير اليهود سراً مقابل الحصول على أموال، وهو يعني بهم الأحزاب الكردية.
السؤال المهم الذي يستوجب الإجابة عنه هو: من هم انقلابيو أيار/مايس 1941 في العراق، وما الأهداف التي كانوا يسعون إليها؟
بعد مرور 80 عاماً على تلك الأحداث وصدور مئات الكتب التي تبحث في هذا الموضوع وفي فاجعة الفرهود ضد يهود العراق في عام 1941 تأكد بما لا يقبل الشك أن الحزب السياسي الذي كان وراء تنفيذ الانقلاب هو الحزب الذي تأسس عام 1940 باسم "حزب الشعب"1 وشكل مؤسسوه لجنة سياسية وعسكرية سرية مكونة من مدنيين وعسكريين. فمن هم المدنيون ومن هم العسكريون؟
المدنيون: المجموعة المدنية الأساسية التي شاركت في الانقلاب تنحدر سياسياً من مجموعتين هما:
المجموعة المرتبطة بنظام الحكم الملكي والمؤيدة له وعملت في كل الحكومات التي تشكلت قبل الانقلاب، ولكنها تمردت عليه في أعقاب فشل انقلاب بكر صدقي عام 1936. وأغلب هؤلاء الانقلابيون شاركوا في تنفيذ سياسة النظام الملكي العسكرية المناهضة لمصالح الشعب العراقي والمؤيدة للسياسة البريطانية في العراق، لاسيما في الموقف من الحركات السياسية في الفرات الأوسط وكردستان، وفي مقدمتهم رشيد عالي الكيلاني، وزير الداخلية حينذاك، وبكر صدقي العسكري. ومن بين الجماعات التي شكلت جزءاً من النخب الحاكمة حينذاك وعملت مع رشيد عالي الكيلاني نشير إلى ناجي السويدي وعلي الشيخ محمود الشيخ علي والدكتور محمد حسن سلمان وسامي شوكت وناجي شوكت وغيرهم. ويمكن لكتاب عبد الرزاق الحسيني تاريخ الوزارات العراقية بغض النظر عن نواقصه يقدم صورة جلية عن هؤلاء السياسيين، أو كتاب نجم الدين السهروردي الموسوم "التاريخ لم يبدأ غداً"- حقائق وأسرار عن ثورتي رشيد عالي الكيلاني 41 و58 في العراق2. ومن الجدير بالإشارة إلى أن رشيد عالي الكيلاني كان رئيساً لوزراء العرق ثلاث مرات (الوزارة الأولى 20 أذار/مارس 1933 والوزارة الثانية في 9 أيلول/سبتمبر 1933 والوزارة الثالثة في 31 أذار/مارس 1940)، قبل أن يقود الانقلاب العسكري ويشكل حكومة الدفاع الوطني في الأول من شهر أيار/ مايس 1941.
المدنيون القوميون العرب الذين تبّنوا الفكر القومي اليميني والمتأثر بالفكر القومي النازي وبسياسات ألمانيا الهتلرية. وهنا ترد أسماء كثيرة من العرب العراقيين ومن عرب من دول عربية أخرى. من بين العراقيين نشير إلى: يونس السبعاوي، الذي أول من قام بترجمة ونشر كتابي كفاحي لأدولف هتلر في عام 1933، وناجي شوكت وسامي شوكت ومحمد مهدي كبة، وفائق السامرائي، محمد صديق شنشل وصائب شوكت وخالد الهاشمي ومتى عقراوي ودرويش المقدادي ومحمد علي محمود، وداود السعدي وآخرين. وجدير بالإشارة إلى أن محمد مهدي كبة وفائق السامرائي ومحمد صديق شنشل هو الثلاث الذي شكل في عام 1946 حزب الاستقلال القومي العربي الذي بدا معتدلاً ولكنه حمل ذات الأفكار التي برزت في عام 1935 في نادي المثنى بن حارث الشيباني. ويمكن الإشارة إلى مجموعة كبيرة ممن كانت في حزب الشعب (العربي) السري أو مؤيدة له من العراقيين والعرب منهم قاسم المفتي وغربي الحاج احمد وكاظم الصلح ودرويش المقدادي وقسطنطين زريق وفريد السعد، وعز الدين الشوا، وممدوح السخن ورشاد الشوا وخلوصي خيري وواصف كمال وفريد يعيش وسليم ألنعيمي وصلاح الدين الصباغ ومصطفى الوكيل وغيرهم3.
كما شكلت لجنة من مجموعة عربية تساند القوميين العراقيين العرب قبل وأثناء الانقلاب، منهم: الحاج محمد أمين المفتي، رشيد عالي الگيلاني وناجي شوكت وناجي السويدي ويونس السبعاوي والعقداء الأربعة والعقيد إسماعيل حقي من العراق وشكري القوتلي وعادل أرسلان وزكي الخطيب من سورية، ويوسف ياسين وخالد الهود من العربية السعودية"4. والجدير بالذكر أن الحاج محمد أمين الحسيني، الذي ترك القدس بعد ثورة الشعب الفلسطيني بين 1936-1939 إلى لبنان، ومن ثم إلى العراق عام 1940، كانت له علاقة مع المبعوث الألماني بمدينة القدس الدكتور فرتز غروبا،قام في حينها بترويج فكرة "الجهاد الإسلامي" ضد الاحتلال البريطاني واستقلال الدول العربية وضد الهجرة اليهودية إلى فلسطين من خلال الادعاء بدعم ألمانيا لهذين النهجين5. مع واقع إن مناهضة الوجود اليهودي في ألمانيا قد دفع لمن استطاع الهروب من المانيا التوجه إلى أوروبا ومنها إلى أمريكا ومنها إلى فلسطين أيضاً. لقد كان لفرتس غروبا علاقات مع عرب فلسطين والحاج أمين الحسيني حين كان مبعوثاً لألمانيا بمدينة القدس بفلسطين قبل تعيينه في العراق. وبعد فشل الانقلاب وهروب رشيد عالي الكيلاني والحاج أمين الحسيني عينت وزارة الخارجية الألمانية فرتز غروبا مسؤولاً عن العلاقات معهما.
المجموعة العسكرية: العقداء الأربعة زائداً مجموعة من الضباط القوميين العرب العراقيين، منهم العقيد إسماعيل حقي.
جميع المدنيين القوميين العراقيين والعرب الذين عملوا في بغداد كانوا أعضاء في نادي المثنى الشيباني الذي تأسس عام 1935 واستمر رسمياً حتى عام 1937، وواصل نشاطه غير الرسمي حتى فشل الانقلاب العسكري في نهاية حزيران/يونيو 61941، كما ساهم بتنظيم الوفود إلى ألمانيا لاسيما الطلائع والمشاركة والدفع بتشكيل نظام الفتوة في المدارس العراقية على طريقة تنظيم الطلائع في المانيا وشباب هتلر التي أسست في عام 1922-1945 والتي تشكلت منها فرق العاصفة في ألمانيا وكذلك في إيطاليا. ومن شبيبة العراق القوميين، الذين انتظموا في كتائب الشباب، شكّل منها يونس السبعاوي ميليشيا "فدائيو السبعاوي" التي قامت على صيغة تنظيم وفكر شبيبة ألمانيا الهتلرية وشبيبة موسوليني الإيطالية. كما كان النادي يستورد الأفلام من ألمانيا التي تقدم حياة الألمان في زمن النازية وتروج للفكر النازي الألماني.
لقد كان موقف هذه الجماعات، كما هو حال بقية العراقيين والعراقيات، مناهضاً للوجود البريطاني في العراق، والذي تبلور في ثورة العشرين وفي مناهضة معاهدة 1930 مع بريطانيا وضد تدخل السفارة البريطانية في الشأن العراقي حتى بعد إلغاء الانتداب البريطاني على العراق عام 1932. وكانت علاقة العقداء الأربعة ممتازة بالبيت الهاشمي للعالة المالكة ومع نوري السعيد. إلا أن وصول هتلر إلى السلطة باعتباره حزباً قومياً ومعاداته لبريطانيا بشكل خاص، دع عنك عداءه للسوفييت والشيوعية، قد ساهم ببروز تيار قومي يميني متطرف في صفوف القوميين العرب أعضاء النادي وفي القوات المسلحة العراقية الذين سعوا لتعزيز العلاقات مع ألمانيا أولاً، ومن ثم مع إيطاليا التي تسلَّم الفاشيون الحكم في وقت مبكر وفرضوا نظاماً شبيهاً بالنظام القومي النازي الألماني فيها.
من الصحيح القول بأن القوميين العرب كانوا ضد الهيمنة البريطانية على العراق. ولكن هذا الموقف ضد الهيمنة البريطانية قد اقترن منذ النصف الثاني من العقد الرابع من القرن العشرين بتحول في الفكر والممارسة السياسية إلى:
1) تبني الفكر القومي اليميني المتطرف من خلال تنشيط وتطوير العلاقات السياسية لنادي المثنى مع الجهات الرسمية والحزبية والشعبية الألمانية عبر القنصل الألماني؛
2) إقامة تشكيلات سياسية وشبه عسكرية في المجموعة العراقية مماثلة لما هو موجود في ألمانيا بشكل خاص؛
3) تعزيز العلاقات الثقافية بين نادي المثنى والشخصيات الفكرية القومية مع المؤسسات الثقافية الألمانية لاسيما الدعاية، ومنها الإذاعة والصحافة ونشر الكتب والأفلام الألمانية، وتنظيم المحاضرات في النادي لشخصيات عراقية وعربية وألمانية التي تتضمن دعوة مكشوفة للفكر القومي النازي المناهض لليهود والشيوعية والإنكليز ولصالح ألمانيا الهتلرية. وتنامى هذا النهج في عامي 1939-1941.
4) تبني متشدد مناهض لليهود في العراق بهدف الإساءة لهم وجعل وجودهم في العراق جحيماً لا يطاق، بسبب تفاقم الكراهية والحقد ضدهم. ولم تكن فاجعة الفرهود لتقع لولا تلك الأجواء المسمومة ضدهم، وكانت البداية التي انتهت بصدور قانون إسقاط الجنسية، والذي تناغم مع جهود الحركة الصهيونية العالمية وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية في هدف إخراج اليهود من العراق ونقلهم إلى فلسطين، وفيما بعد إلى إسرائيل.
جدير بالإشارة إلى أن من الخطأ اعتبار كل القوميين العراقيين العرب قد تبنوا الفكر النازي حينذاك، إلا إن موجة الفكر النازية قد تفاقمت بحيث لم يعد يمكن التمييز بين من هم نازيون ومن هم غير نازيين.
إن قراءة التقارير الألمانية حول العلاقة بين القيادة الهتلرية والمجموعة القومية العربية العراقية، وكذلك المجاميع القومية في الدول العربية، ومنها فلسطين حينذاك، وكذلك كثرة من الكتب الصادرة باللغة العربية عن الجهات التي كانت مرتبطة بهذا التيار الفكري القومي وغيرهم، تكشف بوضوح تلك العلاقات المشبوهة التي تؤكد الموقف الكاره لليهود كيهود، رغم كونهم مواطنين عراقيين يحملون الجنسية العراقية (أ)، ولم يقوموا بما يستوجب أصلاً تلك الكراهية والمعاداة.
الحركة الصهيونية في العراق
لم يكن فكر وممارسة الحركة الصهيونية العالمية متغلغلين في أوساط اليهود العراقيين قبل مجيء الملك فيصل الأول إلى العراق. فالمعلومات المتوفرة تشير إلى أن بدايات النشاط الصهيوني في العراق تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بمبادرة فردية محدودة تبناها اليهودي العراقي آهرون ساسون بن الياهو ناحوم الملقب بالمعلم. إلا إن هذه المبادرة لم تتعد حدود قراءة الصحف الصهيونية التي كانت تصل إلى العراق من فلسطين والولايات المتحدة وبريطانيا. وعند متابعة الأدبيات المتوفرة حالياً يظهر بأن النشاط الصهيوني في العراق كان أوسع من هذه المحاولة بدليل وجود ملف يحمل عنوان (النشاط الصهيوني في العراق 1899) في أرشيف جمعية الأليانس الإسرائيلية في باريس، يضم بين طياته مجموعة حوادث بضمنها رسالة كتبها آهرون المعلم." فماذا جاء في هذه الرسالة؟7 تقول الرسالة المؤرخة في شهر نيسان/أبريل من العام 1919 ما يلي:
"إننا نتشرف بإعلامكم بأن الفكرة الصهيونية قد رسخت جذورها في قلب كل واحد من أبناء طائفتنا، وتلبية لطلب الجمهور فقد قررنا أن نؤسس جمعية صهيونية حتى لا يكون نصيبنا في مساعدة الشعب أقل من نصيب بقية أخوتنا، من ألواضح أن المهمات الأساسية لأعضاء جمعيتنا هي إعطاء المعلومات الكافية، ومساعدة أولئك الراغبين في الهجرة إلى البلاد بهدف الاستيطان وإحياء اللغة العبرية في أوساط شبان طائفتنا في العراق التي يربو عددها المائة ألف نسمة"8. لقد كانت هذه الرسالة مبالغ فيها جداً، إذ لم يكن أهرون المعلم نفسه قد تيقن تماماً من أهداف الحركة الصهيونية من جهة، ولأن غالبية يهود العراق لم تكن قد عرفت شيئاً عن طبيعة الحركة الصهيونية من جهة أخرى.
إلا إن هذا قد تغير نسبياً بعد تولي فيصل الأول عرش العراق. فالمعلومات المتوفرة والوثائق المنشورة تؤكد أن اتفاقاً وقع بين حاييم وايزمن وفيصل الأول قبل تسلمه عرش العراق وبرعاية بريطانيا بأن يفسح الملك فيصل الأول المجال للحركة الصهيونية بالعمل في العراق. (أنظر الملحق رقم 1 اتفاق وايزمن وفيصل الأول). وكانت باكورة الأعمال التي قام بها الملك فيصل الأول بعد اعتلائه عرش العراق هي دعوته لوجهاء الطائفة اليهودية ببغداد ومنهم السر ساسون حسقيل وزير المالية، والسيد مناحيم صالح دانيال عضو مجلس المبعوثين في الاستبانة سابقاً، والسيد ألياهو العاني عضو المجلس التأسيسي العراقي فيما بعد وغيرهم وطلب منهم تأسيس جمعية لنشر الآراء الصهيونية وتعاليمها بالعراق. فما كان من الوجهاء إلا أن أجابوه بصوت واحد وبلا تردد أنهم يعارضون الفكرة جملة وتفصلاً معلنين له أنهم عراقيون يخلصون للعراق وحده ولا يرضون عن العراق بديلاً" 9. لقد كان هؤلاء الوجهاء من يهود العراق قد عرفوا وأدركوا النية التي تعمل لها هذه المنظمة اليهودية الدولية والتي يمكن أن تؤدي إلى عواقب وخيمة على يهود العراق والتي تبلورت في ثلاث أهداف أقرها المؤتمر الدولي الأول لهذه المنظمة بمدينة بازل في سويسر في 29 أغسطس/آب 1897 بقيادة تيودور هيرزل (1860-1904م)، وهي:
1- جمع التبرعات لضمان إرسالها للمنظمة الدولية لغرض شراء المزيد من الأراضي ودور السكن في فلسطين لصالح اليهود،
2- والتشجيع على تعلم اللغة العبرية وقراءة الصحف والمجلات بالاقتران مع تأسيس جمعيات صهيونية،
3- وثم تشجيع اليهود العراقيين على الهجرة إلى فلسطين والسكن فيها لمن يرغب بذلك وتوفير مستلزمات هذا السفر.
يشير الدكتور فرتز غروبا إلى "أن الملك فيصل الأول قد تسلم في عام 1933م خلال زيارته للندن اقتراحاً بتوطين مائة ألف يهودي في منطقة دجلة السفلى في موقع بين العزيزية والكوت وعرض على الحكومة العراقية في حالة قبولها الاقتراح فوائد مالية وقروضاً كبيرة بشروط سهلة! ولم يرفض الملك العرض بل أحاله إلى الحكومة العراقية للنظر فيه!" 10. وقد رُفض هذا الطلب من جانب الحكومة العراقية.
بعد وفاة الملك فيصل الأول تغير الموقف إزاء اليهود من جانب الحكومة العراقية الذي أشرنا إليه حين أقدم أرشد العمري على فصل 150 مواطناً يهودياً من وظائفهم في عام 1934، وبدء التحرش الفعلي المتزايد بهم في الدولة والمجتمع. يشير الكاتب الشيوعي العراقي، الذي رفض العيش في إسرائيل وبقي في لندن منذ تهجيره من العراق حتى وفاته في عام 2018 والذي وقف طيلة حياته ضد الفكر القومي الصهيوني، حسقيل قوجمان، الى تنامي العداء لليهود حينذاك بما يلي:
ويشير إلى ذلك المواطن العراقي والشيوعي المعروف حسقيل قوچمان في إجابة له عن واقع الجالية اليهودية بالعراق، إذ كتب يقول: " منذ سنة 1937 بدأنا نحن الطلاب نشعر بوجود دعاية نازية بين الطلاب والمدرسين في المدارس المتوسطة والثانوية. كان ببغداد ناد يسمى نادي غروبا على اسم السفير الألماني بالعراق. كان هذا النادي يدفع لكل طالب ينتمي إليه 250 فلسا في الشهر وكان هذا المبلغ يكفي الطالب للسينما وشراء السجاير وحتى لتناول بعض وجبات الطعام خلال الشهر كله. وكانت تدفع للمدرسين مبالغ تتناسب مع رواتبهم الشهرية لدى الانتماء لهذا النادي. وطبيعي أن التثقيف في هذا النادي كان تثقيفا نازيا ومعادٍ لليهود بصورة خاصة. وفي العطلة الصيفية لسنة 1936 كان مهرجان رياضي في برلين اشترك فيه وفد عراقي يضم عددا من المدرسين والمثقفين والرياضيين العراقيين. وقد شعرنا بعد رجوع هذا الوفد بتأثير الاتجاه النازي عليهم. فأحيانا كان المدرس يلقي علينا محاضرة في صف به أغلبية يهودية موضوعه "كيفية إبادة اليهود في ألمانيا" بدون مراعاة لإحساسنا نحن اليهود الموجودين في الصف. وكان مدرس الفيزياء مثلا يلقي علينا محاضرة في قدرة الشعب الألماني على الاكتفاء الذاتي بزراعة البطاطا في بيوته إذا نشبت الحرب. ولم تكن هذه الثقافة عميقة في نفوس الطلاب. فلم نكن نشعر بيننا بالفرق بين الطالب اليهودي والطالب المسلم أو المسيحي. كنا جميعا كإخوان لا فرق بيننا. كانت تحدث حالات قد تكون مضحكة. فقد يكون طالب غير يهودي ممسكا بأخيه الطالب اليهودي بيده اليسرى وبيده اليمنى قطعة طباشير يكتب فيها على الجدار "كافحوا الذباب اليهودي" بدون أن يشعر أن في هذا مساس بمشاعر صديقه اليهودي الذي يسير معه كأخيه"11.
والمعلومات والوثائق المتوفرة تشير إلى أن الرفيق فهد، سكرتير عام الحزب الشيوعي العراقي، قد توجه برسالة إلى رئيس وزراء الانقلاب رشيد علي الكيلاني، وقبل وقوع فاجعة الفرهود، تتضمن احتجاجاً ضد أعمال العنف والاعتداء التي يتعرض لها اليهود خلال تلك الفترة وتطالبه بضرورة وأهمية عدم التمييز في التعامل ضد اليهود. وجاء في نص الرسالة ما يلي:
"أولاً، يأسف الحزب الشيوعي، بل يشمئز من الأعمال الاستفزازية المدبرة ضد اخوتنا اليهود من قبل أدوات الاستعمار البريطاني من جهة ودعاة الاستعمار الألماني من جهة أخرى. إن الاعتداء على الحريات واقتحام البيوت وسلب الممتلكات وضرب الناس وقتلهم ليست، يا صاحب الفخامة، مخالفة للقانون والعدالة فحسب، بل إنها أمور تتعارض مع النزعة الطبيعية لهذه الأمة إلى الكرم والبسالة والنبل … إن أمثال هذه الأعمال الإجرامية تؤذي سمعة الحركة الوطنية وتؤدي إلى إحداث شرخ في صفوف الجبهة الوطنية الموحدة، وبالتالي إلى الفشل، ومن يستفيد من هذا غير الاستعمار؟ وإننا إذ نعبر بهذا عن عدم موافقتنا، فأننا لا ننكر بشكل من الأشكال وجود خونة ينتمون إلى الطائفة اليهودية وقفوا مع عصابة عبد الإله ونوري السعيد وأتباعهما الشريرة، ولكننا نشعر أن العقاب يجب إلا يعمهم جميعاً، استناداً إلى مواد القانون.
ثانياً، إننا من أصحاب الرأي القائل، في ما يخص الدعاية أنه يجب على الإدارة المختصة أن توجه العراقيين على أساس خطوط وطنية صحيحة، ولكننا لاحظنا مؤخراً، وبقلق غير قليل، … أنها انحرفت إلى سبل لا يمكنها إلا إيذاء الناس … لم نسمع مؤخراً إلا قرعاً للطبول حول "القضية العادلة" لقوى المحور … وإنكم تتفقون معنا، بلا شك، يا صاحب الفخامة، أن القوى المذكورة ليست أقل إمبريالية من بريطانيا."12.
لم تستطع الحركة الصهيونية في العراق الحصول على موطئ قدم فعلي واسع لها الأوساط اليهودية في البلاد، بسبب العلاقة الحميمية التي نشأت بين يهود العراق الذين جُلبوا سبّياً من مدنهم في السامرة ويهودا وأورشليم القدس وغيرها إلى بلاد ما بين النهرين منذ ما يقرب من ثلاثة ألاف سنة وعيشهم في العراق، الذي اعتبر وطن الغالبية العظمى منهم، وبالتالي أصبح العراق وطنهم الأول دون أدنى ريب. وكانت مشاركتهم واسعة في الفترة التي سبقت فاجعة الفرهود في النشاطات الثقافية والاقتصادية والمالية والاجتماعية والسياسية. إلا أن فاجعة الفرهود قد أوجدت شرخاً وخلقت أوضاعاً جديدة، بحيث برزت ثلاث ظواهر ملموسة:
أ- تنامي الخشية لدى جمهرة واسعة من العائلات اليهودية من احتمال تفاقم العداء ضد اليهود وعجز الحكومة العراقية عن الدفاع عن أرواحهم وممتلكاتهم.
ب- بروز نشاط جديد للعناصر الصهيونية بصورة سرية ونشوء أرضية صالحة لعملهم في أوساط اليهود العراقيين واتساع الرغبة في تعلم اللغة العبرية.
ت- بروز أجواء مناهضة للصهيونية أيضاً والتحاق المزيد من المثقفين والمثقفات والعمال اليهود بالحزب الشيوعي العراقي الذي كان يدافع عن حرية وحقوق اليهود ومساواتهم ببقية العراقيين والعراقيات، والذي تبلور في تشكيل عصبة مكافحة الصهيونية في عام 1946، التي دعا إليها وعمل لقيامها الحزب الشيوعي العراقي بمبادرة من فهد (يوسف سلمان يوسف) بهدف التصدي لعمل القوى الصهيونية في العراق، ودعم بقاء اليهود في البلاد والعمل على مكافحة التمييز ضدهم ومساواتهم ببقية المواطنين13.
ورغم إن هذا النشاط الصهيوني لم يبرز بشكل واضح في فترة الحرب العالمية الثانية، إذ بذل يهود العراق جهداً لاعتبار فاجعة الفرهود ذدهم حالة استثنائية بأمل العود إلى الحياة الطبيعية وعلاقات سوية مع بقية بنات وأبناء الشعب العراقي. إلا لإن الفترة التي أعقبت الحرب قد أبرزت ظاهرة تشكيل جماعات إرهابية عمدت إلى تنفيذ بعض التفجيرات لبث الرعب في صفوف اليهود واتهام المسلمين بها، والتي ماثلها قيام بعض القوميين المسلمين العرب العراقيين بأعمال مماثلة ولنفس الهدف، أي بأمل دفع اليهود لمغادرة العراق، إضافة إلى تنامي النشاط الصهيوني من جهة، والنشاط القومي العربي المناهض لليهود من جهة أخرى، والذي تفاقم بعد إعلان تقسيم فلسطين وإعلان قيام دولة إسرائيل. ومن هنا يمكن أن يلاحظ بأن اتجاهين قوميين متطرفين كانا يقودان إلى نتيجة واحدة هي إخراج اليهود من العراق!
د. كاظم حبيب
......................
* الحلقة الثالثة ستتضمن استكمالاً للنقاط التي لم تبحث في هذه الحلقة لاسيما الإجابة عن السؤال التالي: من عمل على تهجير العائلات اليهودية من العراق؟
الملاحق
الملحق رقم 1
الملحق رقم 2
في الثاني من تشرين الثاني / نوفمبر 1917 وجه أرثر جيمس بلفور رسالة إلى اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد (1868-1937م) البريطانية الجنسية ، كما جاء نصها في الموسوعة الحرة ويكبيديا:
وزارة الخارجية
في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917
عزيزي اللورد روتشيلد
يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر".
وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح.
المخلص
آرثر جيمس بلفور
...........................
الهوامش والمصادر
[1] يشير الدكتور إبراهيم خليل العلاف في مقال له عن محمد صديق شنشل إلى أن الحزب السري الذي أسسه القوميون العرب، وكان محمد صيق شنشل عضواً فيه، كان باسم "الحزب العربي السري". أنظر أ. د. إبراهيم خليل العلاف، محمد صديق شنشل والحياة السياسية في العراق المعاصر، موقع دنيا الوطن في 20/12/2009.
[2] أنظر: عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، في عشرة أجزاء، الجزء الخامس، مطبعة العرفان، صيدا-لبنان، 1966، ص 204-282. أنظر أيضاً: نجم الدين السهروردي، التاريخ لم يبدأ غداً، شركة المعرفة، بغداد، ط 2/ 2 مايس 1988.
[3] أنظر أ. د. إبراهيم خليل العلاف، محمد صديق شنشل والحياة السياسية في العراق المعاصر، موقع دنيا الوطن في 20/12/2009.
[4] أنظر: الجيزاني، عبد الله. حزب الاستقلال العراقي 1946-1958 التجربة الفكرية والممارسة السياسية. الطبعة الأولى 1994. بدون ذكر الدار والبلد الذي تمت فيه طباعة الكتاب. ص 37-39.
[5] Schwanitz, Wolfgang G. „Der Geist aus der Lampe“: Fritz Grobba und Berlins Politik im Nahen und Mittleren Orient. COMPARATIV 14 (2004), Heft 1, S. 126-150.
[6] ملاحظة: سُمي النادي باسم القائد العسكري العربي المثنى بن حارث الشيباني أحد قادة جيش المسلمين العرب في المعارك التي دارت ضد الجيش الفارسي الساساني في عام 636م في فترة خلافة أبو بكر الصديق والتي سميت بمعركة القادسية والتي تيمن بها صدام حسين وسمى معاركه في الحرب العراقية الإيرانية بالقادسية أيضاً، وفي كلتا الحالتين، سواء أكان اسم المثنى بن حارث الشيباني أو القادسية هما التعبير عن الموقف القومي من التراث العسكري والشوفيني العربي. ك. حبيب
[7] أحمد وليد خالد. تهجير يهود العراق. موقع كتابات. نشر بتاريخ 21/5/2013.
[8] أنظر: سرحان، علي كامل حمزة، اليهود في الحلة: دراسة تاريخية لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، دار الثقافة والإعلام في الحلة. 2011. ص 171.
[9] أنظر: المصدر السابق نفسه. ص 29/30.
[10] أنظر: المصدر السابق نفسه. ص 30.
[11] حسقيل قوچمان، الجالية اليهودية في العراق سابقا، موقع الحوار المتمدن-العدد: 1104 - 2005 / 02/ 09،
المحور: قراءات في عالم الكتب والمطبوعات.
[12] د. كاظم حبيب ود. زهدي الداوودي، فهد والحركة الوطنية في العراق، دار الكنوز الأدبية، بيروت، طبعة أولى 2003، ص 426/427.
أنظر أيضاً: حنا بطاطو، العراق، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني حتى قيام الجمهورية، ترجمة عفيف الرزاز في ثلاثة كتب، مؤسسة الأبحاث العربية، ط 1، بيروت 1990، الكتاب الثاني-الحزب الشيوعي العراقي، ص 107-109.
[13] د. كاظم حبيب ود. زهدي الداوودي، فهد والحركة الوطنية في العراق، مصدر سابق، 298-298.
أنظر أيضاً: د. عبد اللطيف الراوي، عصبة مكافحة الصهيونية في العراق 1945-1946، دار وهران، دمشق، 1986.
اذا لم تتمكنوا من التكنولوجيا فاعتنقوا الثقافة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. صلاح حزام
وأنا منهمك بقراءة الدراسة المطوّلة والمهمة المعنونة: أشكال من الديمقراطية .. والتي أعدها الاستاذ روبرت أ. دال، (الأكاديمية البريطانية)، وقام بترجمتها د. زهير الخويلدي (كاتب في الفلسفة – تونس) ونشرتها جريدة عالم الثقافة (الالكترونية).. خطرت في بالي افكار عديدة وانا أرى حجم الجهد الفكري الذي بذله الكاتب ومقدار الفائدة التي اودعها في هذا النص الكبير أضافة الى الجهد الذي بذله الدكتور زهير الخويلدي في ترجمة هذه الدراسة الى العربية .(ارسلت له رسالة شكر على جهده المخلص)
استعراض تاريخي رصين لتطور اشكال الحكم الديمقراطي منذ الحياة السابقة لمرحلة ألاستقرار والزراعة وبناء المدن والى عصرنا الحالي..
لا أريد تلخيص وعرض ماجاء في الدراسة لان هذا ليس هدفي من هذه المقالة، بل اردت التركيز على العلاقة الوثيقة بين الديمقراطية والتعليم او الوعي والثقافة بين الجمهور.
لامعنى للديمقراطية اذا تم تطبيقها على مجتمع جاهل، ولن تنجح بدون مؤسسات ضرورية لنجاحها ولن تنجح بدون وعي وادراك لضرورتها والشعور بالحاجة لهذا الشكل من اشكال الحكم ..
اقتبس فيما يلي هذا النص لاهميته ولأنه يلقي الضوء على عراقة الفكر الديمقراطي في الغرب الاوربي كمثال:
(حوالي 800 م، بدأ الأحرار والنبلاء في أجزاء مختلفة من شمال قارة أوروبا في المشاركة مباشرة في الجمعيات المحلية، والتي أضيفت إليها لاحقًا الجمعيات الإقليمية والوطنية المكونة من ممثلين، تم انتخاب بعضهم أو جميعهم، في الوديان الجبلية لجبال الألب"). انتهى الاقتباس..
لقد شكلوا جمعيات تمثيلية منتخبة قبل ١٢٠٠ سنة !!وتم انتخابهم في الجبال والوديان !!
وعندما قرأت طبيعة الحوارات التي دارت في المؤتمر الدستوري الامريكي سنة ١٧٨٧، ابهرني النقاش الفكري بين ماديسون وويلسون حول المصطلحات ودلالاتها واي منها يناسب الولايات المتحدة.
النقاشات الحادة والجدّية حول معاني المصطلحات وكيفية تبنيها وتطبيقها أخذت حيزاً كبيراً، حيث دار حوار طويل حول معنى الديمقراطية ومعنى الجمهورية وكيفية تطبيقهما في الولايات المتحدة..
ناقشوا طويلاً معنى التمثيل الشعبي الذي يؤدي الى وجود ديمقراطية حقيقية يكون فيها الشعب هو السلطة العليا..
ناقشوا حقيقة استبعاد النساء والعبيد والسكان الاصليين والعديد من العبيد المحررين وكيف ان ذلك ينفي صفة الديمقراطية الحقيقية (حسب التعريفات الفلسفية الاغريقية والرومانية) عن الصيغة المقترحة للنظام الامريكي..
درسوا الارتباط بين فرض الضريبة على الافراد وحقهم في المشاركة في الحكم..
درسوا تطور الفكر السياسي الاوربي وتواصلوا مع كبار فلاسفة السياسة ..
اقتبس فيما يلي نصاً ذو اهمية يعكس حجم النشاط الفكري المصاحب لبناء تجربة ديمقراطية رصينة:
(بعد زيارته للولايات المتحدة في 1831-1832، أكد عالم السياسة الفرنسي ألكسيس دي توكفيل بعبارات لا لبس فيها أن الدولة التي لاحظها كانت دولة ديمقراطية – في الواقع، أول ديمقراطية تمثيلية في العالم، حيث كان المبدأ الأساسي للحكومة ” سيادة الشعب “. وصل تقدير توكفيل لنظام الحكم الأمريكي إلى جمهور عريض في أوروبا وخارجها من خلال دراسته الضخمة المكونة من أربع مجلدات “الديمقراطية في أمريكا” (1835-40).) انتهى الاقتباس.
اربع مجلدات لدراسة الديمقراطية الامريكية ... هذه تعني الكثير جداً .
وان الديمقراطية ليست لفظة فارغة وعابرة يتداولها الأميون وأشباه المثقفين الذين لم يقرأ معظمهم كتاباً جاداً في حياته .
السياسيون الاوائل في الولايات المتحدة كانوا مثقفين كباراً تشربوا الفكر الفلسفي اليوناني والروماني وكانوا اساتذة في العلوم والقانون والفلسفة .
أقول ان استقطاباً تاريخياً قد وقع بالفعل وأخذت الدول المتقدمة دور القيادة العلمية والتكنولوجية في العالم ومن العبث التفكير بمجاراتها .. بل يمكن لنا الدخول كشركاء مع العالم المتقدم .
لكننا لازال لدينا ميدان الثقافة الواسع والمتاح والذي يمكن من خلاله تحسين مستوى تفكيرنا وتنظيم علاقاتنا داخلياً ومع العالم وبناء تحالفاتنا المفيدة التي يجب ان تبنى على قواعد منطقية بدلاً من شعارات التحميس (كما يسميها المرحوم علي الوردي).
ثقافة الجمهور العريض وثقافة الطبقة السياسية شرط حتمي وقطعي لنجاح الديمقراطية..
حسن النية والاخلاص الساذج غير المدعوم بثقافة رصينة ومستوى عالٍ من الادراك لحقائق الحياة وواقع العالم المحيط بنا ..لن يكون كافياً لبناء دولة ذات معنى..
ليس المقصود هنا بالثقافة المطلوبة، الذهاب الى دراسة الفكر اليوناني والروماني، ولكن على الأقل الاطلاع على اشكال نظم الحكم في العالم وحقائق السياسة الدولية وطبيعة العلاقات الاقتصادية والاحاطة بطبيعة الاقتصاد والمجتمع العراقي وتاريخه. وحتى الثقافة الدينية يجب ان تكون ثقافة بحقيقة الدين وقواعده الاخلاقية بدلاً عن ثقافة تحليل الخطايا والانتهاكات تحت ذريعة الفتوى الدينية..
ختاماً، لفت نظري في السجال السياسي الامريكي وقبله الاوربي، طرح موضوع الفئات التي تستحق التمتع بالحق الديمقراطي !!
التصويت والمشاركة في صنع القرارات مسؤولية خطيرة ليس الجميع مؤهلاً لها !!
طُرحت فكرة "الديمقراطية العملية"، وهي التي تجعل التمثيل والتصويت بنّاءً ومجدياً .
انا أقول على سبيل المثال: لماذا يشارك الأميون في الانتخابات؟ ماالذي يعرفه هؤلاء عن شؤون الحياة والسياسة وافضل الاختيارات؟
اذا كانت حقوق عاطفية فتلك قضية أخرى، أما اذا كانت تتعلق ببناء بلد فأن الأميين سوف يكونون مادة قابلة للشراء والتلاعب من قبل السياسيين الفاسدين ..
د. صلاح حزام
احسان عبد القدوس.. أديب يعرف كيمياء النجاح
- التفاصيل
- كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني
مما لا ريب فيه أن الأدب هو ديوان الحياة، وعليه فيجب أن نؤمن عن عقيدة راسخة بالتزام الأدب، ورسالة الأديب في المجتمع، الأديب الذي يجب أن يعيش بالناس ومع الناس بعيدًا عن البرج العاجي أو الثرثرة الفارغة التي تؤخر ولا تقدم .
أرى ـ كباحث ـ أن كل صاحب قلم أيًا كان مجاله وتخصصه، حاملاً للأمانة، ومسئولاً عن كلماته، ليس أمام القانون والأجهزة الحكومية، ولكن أمام عقله وضميره ومواطنيه، فالرصاصة الغادرة قد تقتل نفسًا، أما الكلمة المضللة فقد تقتل أمة بكاملها .
لذلك أجل وأقدر وأحترم كل لون أدبي يعكس هذا الالتزام، ويعبر بصدق وجلاء وأمانة عن قضايا شعبنا ومعاناته التي لا تنتهي في الماضي والحاضر، فالأديب عليه أن يكون ناقدًا مصححًا للحاضر القبيح، ومستشرفًا مبشرًا بالقادم الأفضل والأحسن .
وعليه فإننا حين نصادف أدبًا يبعد أو يتخلى عن تحمل الأمانة، أو لا يعبأ بشرف الرسالة، علينا أن نحاول الكشف عن ذلك دون خوف أو جبن أو مواربة، علينا أن نبينه باحثين عما وراءه من أسباب، عارضين موقف الأديب أو المبدع، من خلال عمله الأدبي، موضحين محددين كل الجوانب الإيجابية والسلبية أمام القارئ .
ولا يعني الاهتمام بموقف المبدع من أمته أو شعبه، إغفالاً لجانب الفن، وما يتطلب من قواعد وشروط، يجب علينا قدر الطاقة والإمكان العناية بكلا الأمرين (المعادل الموضوعي)، لأنهما متلازمان، والفن العظيم الرائع هو في نفس الوقت منطويًا على حس إنساني وقومي أصيل، ومعبرًا عن موقف وفلسفة من الحياة والناس والواقع المعاش .
وكل ذلك يجعلنا ننظر إلى مجموعة (لا .. ليس جسدك) كمثال في إطار الأدب التعليمي الهادف الموظف، فأغلب القصص تسعى إلى بث قيمة جديدة والدعوة إليها، أو بيان خطأ فكرة معينة وسلوك خاص، وربما هدفت إلى إبطال تقليد رديء، إنها تعطي درسًا وتقوم خلقًا، تهدم تقليدًا وتبني قيمة، مثلاً هذه القصص: (كرامة زوجتي و(بنت تبحث عن زوج) و(زوجة تبحث عن عمل) و(رجل يبحث عن سيارة) و(حائر بين الحلال والحرام) و(لا .. ليس جسدك) و(المنافقة) و(بلا قانون) و(رجل أعلن إسلامه) و(بنت تحب أمها) و(لم أمد يدي) و(الكبرياء والزوج) و(أختي)، كل هذه القصص تحاول أن تعلمنا شيئًا له قيمة، شيئًا ينفعنا في حاضرنا ومستقبلنا .
وهنا بالطبع سوف يأتي نفر من الناس يحتج ويولول قائلاً: هل تصنفون أدب الأستاذ / إحسان عبد القدوس أو أكثره في الأدب الهادف؟، وبعيدًا عن الدخول في مجادلات أو مناقشات بيزنطية فارغة مع هؤلاء الذين يرفضون كل الرفض اعتبار إبداعات أستاذنا / إحسان عبد القدوس ضمن الأدب الهادف أو الأدب التعليمي، نحب أن نقول:
1 - إن الكاتب الكبير كثيرًا ما يضفي على دروسه ظلالاً، ويغلفها بزينة وزخرفة تخفي هدفه النبيل، ويضيع في زحامها وأصباغها ما أراده من تنوير وتهذيب وتعليم، بل ربما أدت إلى عكس ما أراد، ففتن القراء بالزخرف والقشور، وغاب اللباب عنها .
2 ـ إن الأستاذ / إحسان قد يشتط في بعض الأحايين، وينادي بقيم، ويدعو إلى تقاليد قد لا تتفق مع بعض الأعراف الاجتماعية، بل قد يراها بعض المحافظين متنافية مع الخلق القويم، ويراها الأكثر تشددًا وتزمتًا أنها تتعارض مع مبادئ الدين، وكل ذلك تحت شعار التحرر من التقاليد البالية، وضرورة مسايرة التقدم والتطور، والأخذ بالمدنية والتحضر .
كل ذلك صحيح، ولكن قراءاتي المتواضعة لمعظم إنتاج أستاذنا أوصلتني إلى تفسير أرجو أن يكون صائبًا:
لقد رفع الكاتب الجليل في كل إنتاجه، روايات وقصص ومقالات، رفع راية الحرية، والانطلاق من كل قيد يعيق مسيرة التطور والتقدم والتحضر والتنمية، وهدم كل قديم يجرنا إلى الوراء .
وليس ذلك لمجرد الهدم، ولا هو دعوة للإباحية كما يقول أصحاب العقول الحجرية، أو هو خروج عن الأخلاق القويمة أو الدين الحنيف أو الأعراف السليمة، لا أعتقد ولا أظن، فذلك لا يتفق على وجه الإطلاق مع الحس الوطني الحار الصادق الذي كان يتمتع به أستاذنا الكبير .
لقد تطلع إلى هدف نبيل عظيم، هو محاولة تحرير العقل العربي تمامًا وبكل وسيلة، بطرد القديم كله صالحًا وطالحًا، بزلزلة الثابت من الأعراف والعادات والتقاليد، بإظهار التأييد لما يسمى إباحيًا ولا أخلاقيًا، حتى يستيقظ الجميع من سباتهم العميق، ويندهشوا وينزعجوا ويفكروا جيدًا، ويتم الهدم كاملاً، ثم نبدأ بعد ذلك، وبعد أن نزيل الأنقاض، بناءًا جديدًا لقيم وأخلاق وأعراف جديدة صحيحة تدفعنا دائمًا وأبدًا على الأمام.
وقد ذهبت إلى هذا التفسير من تردد الكاتب في هذه المجموعة بين إدانة الخيانة، وبين تبريرها، أو تركها بدون تعليق، تردده بين أظهار الندم من أبطاله على سوء السلوك والاعتراف بالخطأ، وبين اللامبالاة والتبجح، بين الحديث عن الدين والأخلاق باحترام وقدسية، وبين الاندفاع لما يشبه الإباحية .
إن هذا التردد من الكاتب أو من شخصيات أقاصيصه تكشف لنا أنه لم ينضم إلى أحد الجانبين، لم يحسم رأيه بتأييد هذا ولا ذاك، وإنما هو مشغول بقضية أخرى، غير تحديد الموقف وإبداء الرأي، هو مشغول بالهدم وإزاحة الأنقاض، كي يبدأ البناء الجديد المتين آذي لا يعرف الغش أو الخداع أو النفاق .
وختامًا لهذه المقالة النقدية: نريد أن نطرح سؤلاً وهو: هل كان الأستاذ / إحسان عبد القدوس صحافيًا جذبته القصة ؟، أم كان قصاصًا أغرته الصحافة ؟
مما لا ريب فيه أن في الأستاذ من القاصين خياله المجنح المبدع المحلق، والقدرة الإبداعية على رسم الشخصيات وخلق المواقف وتصوير الأحداث، ثم الإثارة والتشويق، وفيه من الصحافي أسلوب السرد والإخبار وكثرة الإنتاج والشهوة للكتابة في كل الموضوعات بلا انتقاء أو اختيار، ثم الاهتمام بالجماهير التي تحتاج من الجميع كل اهتمام وتقدير ومساعدة، أكبر الظن أنه ـ قبل هذا وذاك ـ كان مصلحًا اجتماعيًا بمعنى الكلمة، مصلحًا يسعى إلى هدفه بوسيلتي الصحافة والقصة معًا، إنه دون شك وطني غيور، يحب وطنه ومواطنيه، ويحفزه الحب إلى إصلاح أحوالهم بشتى الطرق، وفي محاولات دائبة لا تكل ولا تمل، ومن شأن العمل المستمر الدائب أن تكون لصاحبه هفوات، ولا ضير في ذلك، فالتجربة والخطأ أفضل ألف مرة من الركود والخمول والسلبية والثرثرة الفارغة الجاهلة التي تؤخر بلادنا ولا تجعلها تتقدم .لقد كان كاتبنا الكبير / إحسان عبد القدوس (رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جنانه جزاءًا وفاقًا لما قدمه للفكر والأدب) رائدًا في إبداعاته، وسيظل هكذا دائمًا إلى يوم أن يرث الله الأرض ومن عليها .
بقلم: د. يسري عبد الغني
الأدوات الفلسفية في اللغة
- التفاصيل
- كتب بواسطة: ابراهيم ابو عواد
عملية العثور على الأدوات الفلسفية في اللغة تُمثِّل تَحَدِّيًا حقيقيًّا للإنسان، في رحلة بَحْثه عن معنى الوجود الإنساني، وتأثيره في صناعة التفاعل الرمزي بين الشكل الاجتماعي والمُحتوى الفلسفي . وكُل نظرية فكرية تحليلية لا بُد لها مِن أدوات، لأنَّ النظرية ذات كُتلة معرفية ضخمة وشحنة عاطفية هائلة، وهذا يَمنعها مِن تحريك نَفْسها بنَفْسها، لذلك تتحرَّك بأدواتها الإبداعية التي تُمثِّل قُوَّتَها العقلانية الضاربة، وتُقَاتِل بأذرعها الفكرية التي تُمثِّل أسلحتها المعرفية الفَتَّاكة، كما أن هذه الأدوات والأذرُع تَحْمي بِنيةَ النظرية مِن الانهيار تحت ضغط العناصر الاجتماعية، وتَمنع المنطقَ الفلسفي مِن التَشَظِّي والتشتت بفِعل إفرازات البِنى الاستهلاكية .
2
لا يُمكن للإنسان أن يجد مسارَه ومصيرَه خارج اللغة، ولا يَستطيع العُثورَ على جَدوى حياته وفلسفة وجوده خارج اللغة . وإذا لم يجد الإنسانُ الأدواتِ الفلسفية في اللغة، فلن يجدها في أيِّ مكان آخَر . فاللغةُ هي الأُم، وعمليةُ ولادة الأفكار مُستحيلة بدون وُجود أُم . وكما أن السمك لا يعيش خارج الماء، كذلك الفلسفة لا تعيش خارج اللغة . وفي ظِل هذه المُعطيات، ينبغي على الإنسان أن يُركِّز اهتماماته في اللغة، رُوحًا وجسدًا وسُلوكًا وسُلطةً، ويَغوص في اللغة بحثًا عن الأدوات الفلسفية اللازمة لتشريحِ الألفاظ والمعاني في الوجود الإنساني، وتحليلِ الروابط الرمزية بين الشكل الاجتماعي المُسيطر على تصالح الإنسان مع ذاته، وبين المُحتوى الفلسفي المُسيطر على صراع الإنسان معَ ذاته . وبين تصالح الإنسان مع ذاته والصراعِ معها، يَبرُز هامش المُناوَرة الذي يُتيح للعقل الواعي أن يُؤَسِّس مشروعه المعرفي القائم على حرية التعبير المُنضبط بالمصلحة الشخصية والمنفعة العامة، والقادر على التَّحَرُّر الفكري،وتحريرِ السلوك الإنساني من الوهم والعبث.
3
الوجود الإنساني لَيس نسقًا بسيطًا أو مُعادلة خطية بمُتغيِّر واحد، وإنما هو نظام مُركَّب، ومنظومة مُتجانسة تشتمل على الأصول والفروع، والمنابع والروافد، والثوابت والمتغيرات، والجواهر (حقائق الأشياء القائمة بنَفْسها) والأعراض (العناصر القائمة بغَيرها) . وهذا يستلزم أن يتسلَّح الإنسانُ بالأدوات الفلسفية النابعة من مركزية اللغة ورمزيتها، والقادرة على اختراق الحواجز الذهنية، واجتياز المراحل الزمنية، مِن أجل الوصول إلى ماهية الوجود الإنساني، وكشفِ تفاصيل الحياة الكامنة وراء الأقنعة والستائر . وبما أنَّ الحياة حقيقة جوهرية في غاية الخطورة، وليست لُعبة عبثية أو مسرحية هزلية، فإنَّ تفاصيل الحياة تستحق أن تُدرَس بشكل تحليلي وتجميعي، بعيدًا عن العاطفية والمزاجية . والتحليلُ والتجميعُ ينبغي أن يسيرا معًا، لأن العلاقة بينهما تكاملية تجاذبية، بلا تنافُر ولا تعارُض . فالتحليلُ يُقَسِّم تفاصيلَ الحياة المُعقَّدة إلى أجزائها الصغيرة وأنويتها الأولية، مِن أجل ضمان تعدُّد زوايا الرؤية، وفهم الموضوع واستيعابه بشكل سليم ودقيق . والتجميعُ يَحصُر شظايا الحياة المُشتَّتة في بؤرة مركزية واحدة، مِن أجل تكوين روابط منطقية بين أجزاء الحياة ومعناها الكُلِّي، الأمر الذي يُؤَدِّي بالضرورة إلى تسليطِ الضوء الفلسفي على الوجود الإنساني، وتَوظيفِ الشعور الاجتماعي لتعزيز السلام في أعماق الإنسان، وتحقيق المصالحة بَينه وبَين نَفْسه . وهذه هي الضمانة لحماية الإنسان من غُربة الروح عن الجسد .
إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن
أَلأُصُولِيَّةُ بينَ مُقارِبَتَينِ
- التفاصيل
- كتب بواسطة: زعيم الخير الله
أَلأُصُولِيَّةُ عندَ الغَرْبِيين تختلفُ في اشتقاقِها اللُّغَوِيِّ وفي ظُروفِ نَشْأَتِها، عن الاصوليّةِ عندنا ؛ فالاصوليّةُ عندَهُم تعني انغلاقَ الفكرِ والتعصب والدُوغمائية وانتهاكِ حَقِّ الآخَرِ؛ وبالتالي فهي معنىً سلبِيٌّ بغيضٌ مُدَمِّرٌ . هذهِ هي المقارَبَةُ لكلمةِ الاصوليّةِ عندهم .
أَمّا عِنْدَنا فالاصوليَّةُ لاتحملُ هذا المفهومَ السَّلبيَّ الكارِثيِّ المُدَمِّرِ بل لها مفهومُها الايجابيُّ الْبَنّاء. فالجذرُ اللُّغَويُّ للاصوليّة في لغتنا يعني الرجُوعُ الى الاصول، اي: ارجاع الطواهر الى اصولها وهو الاصلُ في كلِّ معرفةٍ، وهو مايطلقُ عليه "التأصيل" .
نحتاج في درساتنا لظواهر الطبيعة ان نرجعها الى اصولها . ماهو أَصلُ الكون؟ كيفَ نَشَأَ العالَم؟ هل اصلُ العالَم هو الانفجار العظيم؟ أم لهُ أَصلٌ اخر؟ كيفَ نَشَأَ الدينُ في حياةِ الانسان؟ وكذلك الامرُ في دراسة الظواهرِ الاجتماعية والسياسية؟ كيف نشأَ المجتمعُ، هل المجتمعُ هو الاصلُ، ام الفرد هو الاصل؟، وكيف نشأت الدول؟. هذا التأصيلُ لاتستغني عنهُ ايةُ معرفةٍ انسانيَّةٍ . وهو معنىَ ايجابي في فهمنا للظواهر الطبيعية والاجتماعية والسنن التي تحكم الاجتماع البشري. وكذلك الامرُ اذا فسرنا الاصوليّة بالعودة الى الاصول والبحث عن الهويّة، فهذا معنىً ايجابي للاصوليّة. والاصلُ في اللغة ماينى عليه غيره، والفقهاء يعتمدون منهجية رد الفروع الى اصولها . والشيعة انقسموا الى اصوليين واخباريين على اساس الاعتماد على علم الاصول في عمليّة الاستنباط الفقهي، ورفض الاستناد الى علم الاصول والتمسك بظواهر الاخبار عند الاخباريين . والعربيُّ يهتم بعلم النسب وهو ارجاع الناس الى اصولهم القبليّة .
وتُصَنِّفُ مقولاتِ مابعد الحداثَةَ كُلَّ من يؤمنُ بمطلقاتٍ باعتباره اصوليّاً بالمعنى الغربيِّ للاصوليّةِ . مشكلةُ التظرف ليست مرتبطةً بالايمان بالمطلقات ؛ لانَّهُ يمكن ان تتعايش المطلقاتُ فيما بينها ؛ فالقُرآنُ الكريم يتحدث عن التحاور بين اصحاب المطلقات، كمافي قوله تعالى :
(ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ). سبأ: الاية : (24).، أو قوله تعالى :(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا). الكهف: الاية: (37).
فلامانعَ من ان يتحاور اصحاب المطلقات، وان يتعايشوا . المشكلةُ في التعصب واقصاء الاخر ناتجة من ثقافتنا وطريقة تعليمنا ومناهجنا الدراسيّة .
وفي الختام اتمنى للجميع عاماً طيباً تنتهي فيه الازمات ويحلُّ التعايش والسلام محل القطيعةِ والاقصاء والتهميش ؛ فالحياةُ تَتَّسِعُ للجميعِ .
زعيم الخيرالله