صحيفة المثقف
  • مدخل
  • الاولى
  • مقالات
    • أقلام حرة
    • آراء
    • أقلام ثقافية
    • قضايا
    • أقلام فكرية
    • شهادات ومذكرات
    • كتب واصدارات
    • علوم
    • دراسات وبحوث
    • ثقافة صحية
    • تنوير واصلاح
  • أدب
    • نصوص
    • ترجمات
    • هايكو
    • روافد
    • قراءات نقدية
  • حوارات
    • حوارات عامة
    • مدارات حوارية
    • نص وحوار
    • مرايا حوارية
    • حوار مفتوح
  • تقارير
    • تقارير وتحقيقات
    • أوركسترا
    • يوتيوب المثقف
    • اخبار ثقافية
  • استفهامات
    • مواربات
    • استطلاع
  • فنون
    • مقاربات فنية وحضارية
    • لوحات فنية
    • معارض تشكيلية
  • ملفات
    • المرأة في أسر العبودية
    • المرأة والسياسة
    • مستقبل الديمقراطية
    • المثقف والانتخابات
    • ملف: المثقف 10 سنوات عطاء زاخر
    • ملفات سابقة
  • تكريم
    • يحيى السماوي
    • وفاء عبد الرزاق
    • عبد الرضا علي
    • شوكت الربيعي
    • فرج ياسين
  • المؤسسة
    • رئيس التحرير
    • إصدارات المثقف
    • كتب ماجد الغرباوي
    • نشاطات المثقف
    • مناسبات المثقف
    • جوائز وشهادات
    • جائزة الابداع
    • ملتقى المثقف
    • ساهم معنا
  • كتّاب مشاركون
  • اتصل بنا

الأخلاق والمعايير.. نابي بوعلي يحاور علي رسول الربيعي (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. نابي بوعلي

2180 علي الربيعي ونابي بوعليهذا الجزء الثاني من الحوار الذي اجراه الأستاذ الدكتور نابي بوعلي مع الأستاذ الدكتور علي رسول الربيعي حول الأخلاق والمعايير.

س11: أ.د. نابي بوعلي: من بين المعايير التي نناقشها مع الآخرين، بالطبع، المعايير الأخلاقية. وجدتك تقول من خلال نقاشنا أن الأخلاق تنطوي على معايير للشعور بالذنب والغضب. يكون الفعل، وفقًا لهذا التفسير، يكون فعل ما خاطئًا من الناحية الأخلاقية إذا وفقط إذا كانت المعايير التي يقبلها المرء تنص على أنه من المنطقي الشعور بالذنب حيال القيام بذلك ومن المنطقي الشعور بشكل من أشكال الغضب - مثل الاستياء أو السخط - إذا فعل ذلك شخص آخر. لكنك – وفي سياق النقاش- تعترف أيضًا بمجموعة واسعة من المشاعر الأخلاقية- الكبرياء والعار والرحمة، على سبيل المثال لا الحصر. فلماذا التركيز على الشعور بالذنب والغضب؟

ج11: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، حسنًا، لقد كنت مهتمًا بهجمات برنارد ويليامز ونيتشه على الأخلاق، وخاصة على الشعور بالذنب والاستياء. ثم فكرت في وجهة نظر جون ستيوارت ميل بأن الأفعال المتعلقة بالذات، بغض النظر عن مدى ضررها، ليست مسائل أخلاقية، على الرغم من أن بعض الناس يقولون إنها كذلك. كتب ميل عن الأخلاق بالمعنى الضيق أنها تتعلق بما هو خطأ أو ليس خطأ وأن القول بأن الفعل خاطئ يعني أنه يجب أن تكون عليه عقوبة - عقوبة من القانون والرأي العام، أو الضمير، الآن، بدا لي أن ما إذا كان يجب أن تكون هناك عقوبة للقانون ليست القضية الحقيقية. فقد نعتقد، على سبيل المثال، أنه يجب تغريم الأشخاص بسبب وقوفهم فوق عدادات وقوف السيارات مع الاعتقاد بأن الأفراط في الوقوف ليس خطأ أخلاقياً. لذا، أعتقد أن الأخلاق بالمعنى الضيق تتعلق ببساطة بما إذا كان يجب أن يكون هناك إقرار بالرأي والضمير.

س12: أ.د. نابي بوعلي: إذن ما هو الذنب بالتحديد؟

ج12: د. علي رسول الربيعي: أعتقد أنه يجب علينا تعريف الشعور بالذنب على أنه الحالة العاطفية التي تنطوي على متلازمة الميول التالية.  نعتقد أن الشعور بالذنب مبرر عندما نعتقد أن الآخرين سيشعرون بحق بالغضب - الاستياء أو الغضب - تجاه أفعالنا. لذلك، يندمج الشعور بالذنب مع استياء أو غضب الآخرين. نعتقد أنه من الطبيعي الشعور بالذنب عندما يكون من المنطقي أن تغضب من الآخرين إذا فعلوا ما فعلناه. بعبارة أخرى، ينطوي الشعور بالذنب على الاعتقاد بأن الغضب سيكون مبررًا، لذا فهو ينشأ بشكل أساس في الظروف التي يتعرض فيها مكاننا في الترتيبات التعاونية للتهديد من ردود فعل الآخرين على أفعالنا. يقودنا الشعور بالذنب إلى اتخاذ خطوات من شأنها، عادةً، تجنب هذا التهديد. عندما نشعر بالذنب، ناسف ونشعر بالسوء حيال أفعالنا، ونتحرك لإظهار هذا الأسف والألم. كما أننا متحمسون للعمل بطرق تؤدي إلى المصالحة. لذلك يميل الشعور بالذنب إلى الأفعال التي تهدئ الغضب.

بالطبع، قد يعتقد المرء أن "الذنب" هو ببساطة مفهوم نستخدمه للإشارة إلى مجموعة كاملة من المشاعر السلبية تجاه أنفسنا. لكن يبدو أنه يختلف عن المشاعر السلبية الأخرى المتعلقة بأنفسنا، مثل الخجل (أو العار). على عكس الشعور بالذنب، لا يبدو أن الخجل يركز بشكل ضيق على حقيقة أن أفعال الشخص كانت خاطئة. بدلاً من ذلك، يبدو لي أن الخجل يركز على أشياء أخرى مثل - مهارات المرء وممتلكاته.

س13: أ.د. نابي بوعلي: لست متأكدًا من أن وجهة نظرك بالذنب تتطابق مع كل ما نشير إليه باسم "الذنب". ماذا عن ذنب الناجين، والذي يمكن فهمه بشكل أفضل على أنه رد فعل لإدراك أن المرء عرضة لحسد الآخرين بدلاً من غضبهم؟

ج13: د. علي رسول الربيعي: أعتقد أن الاستجابة العاطفية لإدراك المرء أن المرء عرضة للحسد ليست الشعور بالذنب، بل الشعور بالخجل. أعتقد أن ذنب الناجي هو رد فعل على الاعتقاد بأن المرء منفتح على استياء الآخرين. يبدو لي أن الأشخاص الناجحين من مجتمع فاشل هم موضع استياء، ويكون رد فعلهم بمشاعر تستجيب لحقيقة أنهم يتعرضون لهذا النوع من الغضب. الآن، أعتقد أنه لا يوجد ما يبرر ذنب الناجين ولا استياءهم. علينا أن نميز السؤال عما إذا كانت هذه المشاعر مبررة من السؤال عما إذا كان من المفهوم أن يشعر الناس بها. ينطبق الشيء نفسه على المشاعر المتعلقة بحالات أخرى، مثل الإخلال بوعد مع مبرر مقبول، قد يشعر المرء بالذنب لفعل ذلك، لكن يمكن للمرء أن يقول لنفسه أن هذا الذنب لا مبرر له وبعد ذلك، عادة ما يتلاشى هذا الشعور.

س14: أ.د. نابي بوعلي: من وجهة نظرك، إذا انتهك شخص ما معيارًا أخلاقيًا يقبله، فسيشعر أن الذنب له ما يبرره، وسيؤدي ذلك عادةً إلى الشعور بالذنب. يثير هذا تساؤلات حول كيفية تعامل تفسيرك مع الأشخاص الذين يبدو أنهم يقبلون قاعدة أخلاقية ولكنهم لا يشعرون بالذنب لخرقها، ولا يعتقدون أنهم يجب أن يشعروا بالذنب.

كنت قبل فترة، على سبيل المثال، اشاهد فيلم "In Cold Blood"، يقول ديك هيكوك، أحد الشخصيات الرئيسة فيه، وهو قاتل ومتعلق جنسيا بالأطفال: " أعرف ما اقوم به خطأ. لكن في الوقت نفسه لم أفكر أبدًا فيما إذا كان هذا صحيحًا أم خاطئًا، ". ولا يظهر أي علامات على شعوره بالذنب ولا يبدو أنه يعتقد أنه يجب أن يشعر بالذنب. هل تقول إنه لا يقبل المعايير الأخلاقية حقًا؟

ج14: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، إنه يتحدث بلغة عامة، لذا فإن أحد الاحتمالات هو أنه قد تعلم اللغة ولكن ليس لديه المسؤولية التي لدينا نحن الآخرين. أعتقد أنه قد يكون هناك من بين الناس العديد من الأشخاص الذين ليس لديهم رد فعل عاطفي طبيعي أزاء الأحكام الأخلاقية. في حالة المعتل اجتماعيا أي الشخص المصاب باضطراب في الشخصية يتجلى في مواقف وسلوكيات معادية للمجتمع وانعدام الضمير. فيكون استيعاب اللغة الأخلاقية أمر غير طبيعي عنده. علينا بعد ذلك أن نسأل أنفسنا ما إذا كان يجب علينا تفسير مثل هذا الشخص على أنه شخص لا يفهم الفكرة ولكنه يعرف كيفية استعمال العبارة أو الكلمة، أو كشخص يفهم الفكرة ولكنه لا يهتم ولا يبالي. لا يبدو أنه يهتم كثيرًا بالطريقة التي نفسر بها السلوك. إذا قلنا، "حسنًا، لديه الفكرة ولكنه لا يهتم"، أنه قادر على استعمال اللغة العامة، ولكنه لا يتمتع بتلك الذهنية التي يتمتع بها معظم الناس عندما يستخدمون اللغة. ربما اختار هيكوك بعض السمات التي تُنسب عمومًا إلى "الخطأ الأخلاقي"، مثل أن القتل والاغتصاب يعتبران خطأ.

2180 علي الربيعي ونابي بوعلي

س15: أ.د. نابي بوعلي: لنفترض أنني مقتنع بالحجج التي تقول بأن لدينا واجبات صعبة وتتطلب الكثير من المهارة والجهد حتى نتمكن من المساعدة، لكنني مع ذلك لا أشعر بالذنب عندما أفشل في توجيه مواردي أو ثروتي لمساعدة الغرباء البعيدين المحتاجين. هل تقول إنني لا أقبل حقًا المعيار الأخلاقي الذي أعترف بها؟

ج15: د. علي رسول الربيعي: حسنًا، أعتقد أنه من المعطيات المثير للاهتمام أننا تم سحبنا من كلا الاتجاهين في هذا الشأن. يبدو لي أنه من الصعب معرفة ما إذا كنت تعتقد حقًا أن الفعل خاطئ عندما لا يكون لديك ميل لتجنبه. إن السؤال، في رأيي، هو ما إذا كنت تعتقد أن الذنب والغضب وارد. يمكنك الاعتقاد بأن الذنب له ما يبرره ولا تشعر بالذنب، ولكن، من وجهة نظري أنت بحاجة إلى آلية تعمل بشكل طبيعي تجعلك تشعر بالذنب. وهذا يعني أن الاعتقاد بأن هناك شعور له ما يبرره هو أن يكون لديك آلية نفسية تعمل بشكل طبيعي على توليد الشعور المعني.

س16: أ.د. نابي بوعلي: أنت ترى إنه من أجل الاعتقاد بأن الذنب مبرر، يجب على المرء أن يندم على القيام بالفعل. لكن قد تكون هناك حالات لا نشعر فيها بالذنب بشكل ينسجم مع ما قمنا به، وأننا نعتقد أننا يجب أن نفعل الشيء نفسه في ظروف مماثلة؟ على سبيل المثال، في "الجرائم والجنح"، أن شخص قتل عشيقته عندما هددت بكشف علاقتهما وكشف مخالفاته المالية. يبدو من المنطقي بالنسبة له أن يشعر بالذنب حيال هذا - وأن يعتقد أن تصرفه سيثير غضب الآخرين اللا أنه لم يشعر بالذنب على ما فعل ولم يندم أبدًا على فعلته. في الواقع، لقد قتل عشيقته ولم يندم أبدًا على فعلته.

ج16: د. علي رسول الربيعي: إنه لأمر محير ما ينطوي عليه العثور على عاطفة غير متماسكة. أعتقد أن الشعور بالذنب يمكن أن يكون مرتبطًا بفكرة: "في موقف مماثل، دعني أفعل الشيء نفسه مرة أخرى". ومع ذلك، أرى أنه من غير المتماسك أن يشعر شخص ما بالذنب عندما لا يندم على فعله. الا يبدو غير متماسك إذا كان يفكر أنه يشعر بالذنب عندما لا يندم على فعله، و"كيف سيكون مستحق اللوم والإدانة!، وايضًا يقول "دعني أفعل ذلك مرة أخرى!". فكر في قصة داود وبتوشيبا في سفر صموئيل الثاني. داود على علاقة مع بتوشيبا زوجة أوريا. حملت بتوشيبا بطفل من داود، ومن أجل التغطية على هذه الفضيحة قتل داود أوريا. بعد ذلك أرسل الله النبي ناثان ليخبر داود بحالة قام فيها رجل غني بسرقة شاة فقير فقط من اجل ان يذبحها لضيفه على العشاء، فالغني بخيل ولئيم جدا وبدلا من ان يذبح من قطيعه الكبير ذبح شاة الفقير الذي لا يملك غيرها. اشتعل داوود غضبا على الغني، وقال لناثان: إن الرجل الذي فعل هذا يستحق أن يموت!  فقال ناثان لداود: "أنت مثل الرجل، وكما تعتقد انه من الصواب أن يموت الرجل الغني في هذه الحالة فكر في نفسك وفيما قمت به.  وفي القول “اسمحوا لي أن أفعل ذلك مرة أخرى".

س17: أ.د. نابي بوعلي: ينطوي الشعور بالذنب على فرض الألم على أنفسنا. ألن نكون أفضل حالًا دون أن نكون عرضة لمثل هذا الجلد الذاتي؟

ج17: د. علي رسول الربيعي: إن خصائص الشعور بالذنب التي تركز على الفعل الاختياري وأنه يتشابك مع الغضب يعني رغم كونه مؤلمًا، إلا أنه عاطفة مفيدة. لأنه إذا كانت معايير الذنب تنص على ذلك عندما ينتهك المرء معايير العمل التعاوني، فعندئذ يكون لدى الناس حافز مشترك لتجنب السلوك الذي يهدد الترتيبات التعاونية. كما أنه يحث على المصالحة عندما يتصرف الناس من أجل تعريض هذه الترتيبات للخطر. لذا فهي تساعد على التعاون. أنا مهتم جدًا بالفرضية القائلة بأن تكيفًا بيولوجيًا هو آلية نفسية تم تكييفها للمساعدة في عدم الاتساق بالذنب. هذا يعني أن الذنب عام وشامل للكل. ومع ذلك، فإن الأدلة من الأنثروبولوجيا مختلطة ومتفاوتة. يبدو أن الغضب على الأشخاص الذين يخالفون الأعراف أمر عام، وقد لا يكون الشعور بالذنب كذلك. لكن الطرق التي يكون فيها الدليل مفيدًا تعطينا أسبابًا لتفضيل الأخلاق على الذنب.

 

 

دايوجانس.. فيلسوف ضد المألوف

التفاصيل
كتب بواسطة: حاتم حميد محسن

حاتم حميد محسنالفيلسوف اليوناني القديم دايوجانس Diogenes المتشائم (ايضا عُرف بـ دايوجانس سينوب "المدينة التركية") ربما هو أول فوضوي او أول عبثي، و أول ساخر، او أول طبيعي اعتمادا على رؤية القارئ.

وفق معايير الزمن الحاضر، كان دايوجانس رجلا مشردا باختياره وكانت أهدافه في الحياة هي البحث عن الحكمة. اتجاهه المتميز في الحياة لم تكن له أية علاقة بعقائد المجتمع وقواعده لا حاليا ولا في العصور القديمة. هو وجد له مأوى في وعاء كبير من الفخار، رافضا كل أشكال الراحة والرفاهية، ملاحظاته حول الحياة والسياسة والمجتمع كانت صائبة تماما رغم انها تجسدت بلغة هجومية.

فلسفة دايوجانس المتشائم

وُلد دايوجانس في مدينة سينوب المدينة الأيونية على ساحل البحر الأسود عام 412 او 404 قبل الميلاد. حيث اعتُبر أحد مؤسسي الفلسفة التشاؤمية او الكلبية الى جانب أنتيثينيس و كريتس. هو اعتقد ان القيم الاجتماعية والسلع المادية والكماليات تدفع الانسان بعيدا عن السعادة، التي لا توجد الاّ عبر العيش في بساطة الطبيعة. ابوه كان يعمل في سك وختم العملة في مدينة سينوب، اما الشاب دايوجانس عمل الى جانب والده في معظم المشاريع المادية. احدى القصص تقول ان الشاب ذهب الى المكان المقدس oracle of Delphi عند اليونان (وهو المكان الذي يُطلب فيه النصح من الآلهة) وقيل له انه يجب ان "يشوّه العملة". وهذا ما قام به بالضبط عند عودته الى مدينته . هو اعتقد انه يجب ان يشوّه او يمحو الناس المرسومين على وجه العملة، أي الحكام.

هذا بالنتيجة قاد الى نفيه من سينوب، ومن ثم ذهب دايوجانس ليعيش في اثينا. هنا بدأ يعيش الحياة البسيطة والتي أصبحت لاحقا تجسد فلسفته الشمولية. اعتاد دايوجانس ان ينام في وعائه الفخاري الكبير اثناء الليل وفي النهار يشحذ ليعيش اثناء تجواله في الشوارع، وهو السلوك الذي تحدّى فيه المعتقدات والقيم الاجتماعية السائدة في ذلك الوقت. في الليل، كان يمشي في الشوارع ممسكا بفانوس، مخبراً الناس انه يبحث عن انسان نزيه. لاحقا هو ادّعى انه لم يجد ابدا مثل هذا الانسان. ان كلمة cynic (في اليونانية تعني يشبه الكلب)، وهي مشتقة من كلمة kynos وتعني الكلب، واستُخدمت لوصف سلوك دايوجانس الشبيه بالكلب، حين عاش في الشوارع، احيانا يأكل اللحم النيء، مؤديا وظائفه البدنية الطبيعية في العلن، كالكلب دون خجل.

أظهر دايوجانس دائما عدم احترامه التام لكل شخص، ولكل معتقد في المجتمع. العديد من الناس أطلقوا عليه المختل عقليا، مع ذلك اصبح معروفا وعلى نطاق واسع بذكاءه وروح الدعابة اللاذعة، ونال احترام الفلاسفة. وجد دايوجانس رغبة في تعلّم الزهد من انتيثينيس، الذي كان تلميذا لسقراط. قيل انه عندما طلب من انتيثينيس تدريسه، كان رد الفيلسوف هو تجاهله، وبعد ان ألح دايوجانس ضربهُ الفيلسوف بعصاة.

بعد هذا النوع من التعامل، أجاب دايوجانس: "إضرب، سوف لن تجد خشبا من القوة ما يكفي ليبعدني عنك، طالما أعتقد ان لديك ما تقول".

وفي النهاية، اصبح دايوجانس تلميذا لدى انتثيسيس رغم الجواب العنيف الأول للفيلسوف، وحالا تفوّق على استاذه بطريقته التقشفية في الحياة وأسّس التشاؤمية كمدرسة في الفكر.

حياة الفضيلة

وفق المستويات الحالية، لو تركنا سلوكه الاجتماعي جانبا، فان دايوجانس يمكن تسميته الطبيعي. فلسفته في التشاؤم كانت ان يعيش حياة الفضيلة التي تشبه كثيرا الحيوان الذي لايمتلك سمات انسانية. حياة بسيطة، لا يحتاج فيها للمتع الدنيوية تماما مثل الكلب. الطريقة التي اعتقد بها دايوجانس والتي يمكن بها تحقيق السعادة كانت من خلال عيش الحياة وفقا للطبيعة، متمتعا بالسعادة من ابسط الاشياء مثل أشعة الشمس، او قليل من ماء بارد في حر الصيف، او عضة فاكهة لذيذة من شجرة. كان ذلك مثالاً للحياة الجيدة لدايوجانس.

رفض الفيلسوف الساخر السلطة، لأنها كانت مدمرة جدا للمجتمع بشكل عام واعتقد ان أغلب الناس منافقون بشأن المعتقدات الاجتماعية. بالنسبه له، السياسيون والحكام هم الأكثر نفاقا . دايوجانس لم يحتقر فقط الحكام والارستقراطيين، وانما ايضا العائلة وجميع المنظمات الاجتماعية والسياسية. هو كره ايضا "الجماهير" مبديا احتقارا متساويا للمجتمع ككل.

2264 دايوجانس

عدم إحترام الحكام

هناك نوادر حول عدم احترام دايوجانس للحكام والذي يُفترض انه حدث في مدينة كورنث corinth، حيث عاش الفيلسوف في ذلك الوقت. حين سمع الاسكندر الاكبر ببعض الطرائف عن دايوجانس اراد مقابلته ثم سافر الى كورث فقط لتلك الغاية.

وبناءّ على وصف المؤرخ بلوتارش Plutarch(46-AD119)، تبادل الرجلان فقط كلمات قليلة.

تقدّم الاسكندر نحو دايوجانس الذي كان يتدفأ تحت أشعة الشمس في الصباح. الاسكندر السعيد لمقابلة المفكر الشهير، سأل دايوجانس ان كانت هناك اي خدمة يقدمها له. أجاب دايوجانس، "أزح قليلا نحو اليمين، أنت تحجب عنّي الشمس". عندئذ صرّح الاسكندر، "لو لم أكن الاسكندر، لرغبت ان أكون دايوجانس". اما دايوجانس فقد أجاب الملك "لو لم أكن دايوجانس لكنتُ لا أزال أرغب ان أكون دايوجانس".

وكفوضوي بلغة اليوم، لسوء الحظ لم يؤمن دايوجانس حتى بكتابة أفكاره. لا وجود لعمل مكتوب له اليوم، لأنه إعتقد ان الناس يفهمون تعاليمه أفضل من خلال الأفعال والمحادثات وليس من خلال القراءة.

مواطن عالمي

هو أحب القول "انا مواطن في العالم" كما هو الحال في فوضويي اليوم، الذين لايؤمنون بالامم والحدود، دايوجانس أحب الذهاب الى حيث ما يحب ويبني بيته – او (يبني وعائه). عبر رفضه الراحة العادية للحياة، التي سخّر لها الآخرون كل حياتهم، رفض دايوجانس فكرة الملكية. هو لم يكن بحاجة لبيت وحتى ملابس أكثر من خرق بالية، اعتماداً على الفصول. هناك عدة قصص احاطت بموت دايوجانس عام 323 قبل الميلاد وهو في عمر الـ 89 عاما. العديد منها تبدو ملفقة، اعتمدت على طريقته في الحياة، كتلك التي تقول انه مات بسبب عضة كلب. لكن من الواضح في فلسفته انه نظر الى العالم الآخر بنفس السخرية التي نظر بها للحياة الارضية في مجتمع منظّم. طوال التاريخ الانساني، وُصف دايوجانس بعدة اشياء. هو بالتأكيد كان فيلسوفا ساخرا وايضا كأول فوضوي ليس وفق معايير اليونان القديمة وانما وفق أعراف المجتمعات الحالية ايضا.

 

حاتم حميد محسن

 

 

أول دراسة نقدية موسّعة لرواية "مستر نوركَه" لنوزت شمدين

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان حسين احمد

عدنان حسين احمدمستر نوركَه.. عراقي يؤمن بوهم الانتماء إلى الأرومة النرويجية

تشتبك رواية "مستر نوركَه" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت لنوزت شمدين مع السيرة الذاتية للكاتب والمخرج المسرحي النرويجي هنريك إبسن، وتجعل من حياته الشخصية، والإبداعية، وتنقلاته في أكثر من بلدٍ أوروبي أشبة بنص موازٍ للنص الروائي الذي كتبه مُوثقًا فيه أوجه التشابه، وإدعّاء صلة الرحم التي تحاول أن تُثبت بأن نافع غانم القصّاب المُلقّب بـ "نوركَة" هو حفيد هنريك إبسن.

يعتمد نوزت شمدين في هذه الرواية على تقنية التعالق Correlation بعدد من الأفكار المتوهجة التي اجترحتها قريحة هنريك إبسن في عدد من مسرحياته مثل "عدوّ الشعب"، "هيدا جابلر"، "عندما نستيقظ نحن الموتى" وما سواها من مسرحياته المعروفة التي تعمّقت في دراسة الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه. لم يكتفِ شمدين بهذه التعالقات المُقتَبسة من مسرحياته مباشرة وإنما لجأ إلى ترصيع نصه السردي ببعض أقوال وحكم إبسن مثل "إذا شكّكتَ بنفسكَ تكون واقفًا على أرضٍ مُهتزّة".

تتداخل الأزمنة في رواية "مستر نوركَه" لكنها تتضح شيئًا فشيئًا حينما نبدأ بزواج غانم أحمد القصّاب من محاسن ذات الخمسة عشر ربيعًا التي انتقلت من حيّ الفيصلية في البصرة إلى الكاظمية في بغداد وتحوّلت حياتها إلى سجن دائم وجحيم لا يُطاق لكنها تحمّلت كل شيء . . . الضرب، والتعنيف، والعزلة الاجتماعية، والأبشع من ذلك كله أنهُ كان يكبرها بـ 33 سنة الأمر الذي وسّع الهوّة بينهما لكنها تحمّلته لمدة 22 عامًا من أجل الحفاظ على ولدها نافع وابنتها واجدة.

لمسات فنتازية

2265 مسترنوركهعلى الرغم من أهمية الشخصيات في هذه الرواية المتشعِّبة إلاّ أن سطوة شخصية نافع لا يمكن إنكارها أبدًا، وسوف تطغى على المسار السردي وتهيمن عليه في الأعمّ الأغلب. لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أن شمدين قد بنى هذه الشخصية الإشكالية بطريقة أسطورية لا تخلو من اللمسات الفنتازية التي تقنع القارئ بالقوة الخارقة التي يمتلكها هذا الشاب اليافع الذي يحفظ كل ما تقع عليه عيناه، وتسمعه أذناه، فذاكرته أشبه بجهاز تسجيل يحفظ كل ما يراه بالفوارز والنقاط من دون أن يفلت منه حرف واحد أو تفوته حركة إعرابية. وسوف يقدّم لاحقًا في المكتبة العامة وصالات بعض المسارح عروضًا مُدهشة لاختبار ذاكرته العجيبة الخارجة عن المألوف.

يتعرّض نافع منذ طفولته إلى عقاب الوالد المتجبِّر كلّما ضبطه يلعب مع أبناء المحلة لكن شقيقته واجدة، الأكبر سنًا منه كانت تكسر هذا الحظر الذي فرضه الوالد، وتسمح له باللعب لمدة نصف ساعة على أن يعود بعدها إلى المنزل، لكنه كان يتمادى في بعض الأحيان ويتأخر فيُوسعه الوالد ضربًا بعصا الخيزان أمام أقرانه غير أنه لم يكن يتألم، ولم يذرف دمعة واحدة قط طوال عشرين دقيقة من العقاب. يتطاول الأب غانم على زوجته محاسن ويصفها بأقذع الألفاظ حين يقول:"ابنُكِ، ابنُ حرام وليس من صُلبي، وجبَ عليّ دفنكما معًا منذ وقت طويل أيتها الـ. . . ." يتضمن النسق السردي للرواية حادثتان لابد من الوقوف عندهما؛ الأولى وهي سفرته إلى البصرة وعمله مع خالة بشير سمبوسة في مطعم يحضّر وجبات طعام يوميًا لطاقم أجنبي متعدد الجنسيات الأمر الذي يدفعهم للانتقال إلى مدينة "القرنة" حيث عمل نوركَه بصفته مساعدًا يتقاضى أجرًا مقابل ذاكرته العجيبة التي تختزن كل شيء تقرأه أو تسمعه. تثير موهبة نوركَه في الحفظ، وقدرته على التذكّر إعجاب الرحّالة النرويجي ثور هايردال الذي يرأس مجموعة تصنع قاربًا من القصب والبردي على غرار قوارب السومريين وينهمك في العمل معهم طوال عطلته الصيفية ويعود إلى بغداد قبل أن يشرع القارب في رحلته لكننا نخرج من هذه القصة بالذات بثيمة معززة لثيمة الرواية الرئيسة التي تحاول أن تثبت صلة الرحم بين نوركّه وجده هنريك يوهان إبسن حيث يخبره هايردال بحكمة هي أقرب إلى النبوءة مفادها أنك "لن تستطيع شراء تذكرة لدخول الجنة؛ لأنّ عليك أن تفتش عنها وتعثر عليها بنفسك، وستفعل هذا بلا شك في يوم من الأيام".

أكلة لحوم البشر

 والحادثة الثانية هي رحلة العائلة إلى قرية "البشائر" التابعة لمحافظة الموصل لزيارة الحاج منذر، وهو شيخ في الثمانينات من عمره سرد لهم عدة قصص عن اضطرار الناس بسبب الفقر والمجاعة إلى أكل لحوم البشر من مختلف الأعمار من دون أن يعرفوا ذلك، فقد قام عبّود وخجّاوة بذبح امرأة أرمنية وعدد من الأطفال الصغار في السن، وطبخوا لحمهم وباعوه على عربة متنقلة في السوق حتى أن أبًا أكل لحم ابنه من دون أن يعرف ذلك. وحينما يتم إبلاغ الشرطة تقبض عليه وعلى زوجته، وتكتشف بقايا بشرية في حفرة بسرداب المنزل، كما يتم العثور على ابنه حازم مكوّرًا مذعورًا في زاوية من زوايا المنزل خشية من أن يطاله غضب ذوي الضحايا ويقطّعوه مثلما قُطعت لحوم أبنائهم. حينما ينتهي الحاج منذر من قصته الفظيعة المؤلمة يخبرهم بأن الطفل المذعور حازم هو غانم القصاب بشحمه ولحمه. فما هو السلوك الذي تنتظره محاسن من طفل شهد جرائم مروّعة تقشعر لها الأبدان؟

وفي أثناء حظر التجوال تدور الشكوك حول متهم بتفجير السفارات يتكلّم اللغة العربية ولغة أخرى يمكن أن تكون النرويجية نخلص منها بأن اسم المتهم هو نافع غانم أحمد القصّاب الذي يُطلق عليه اسم "نوركَه"، وأنّ اسم أمه هو محاسن وحيد، ويسكن العطيفية قرب الجسر، ويدّعي بأنّ جدّه هو الكاتب المسرحي النرويجي هنريك يوهان إبسن، ويسعى بكل الطرق للعودة إلى وطنه بعد غربته الطويلة في العراق. وبَغية إخلاء سبيله جلبت شقيقته واجدة إلى القاضي ملفًا يحتوي على جواز سفرة ورزمة من التقارير الطبية التي تُثبت إعفاءه من الخدمة العسرية لأنه مصاب بالشيزوفرينيا أو الفصام وأنّ ضحايا هذا المرض يتوهمون بأنهم أشخاص آخرون ينتمون عرقيًا إلى شعوب أخرى كما هو الحال مع نوركَه.

شخصيات وهمية

كان نوركَه يُعفى في الدروس المُقرّرة كلها، وفي الصف الخامس الأدبي تحوّل إلى أسطورة في حفظ المواد التي يقرأها عن ظهر قلب، وقد أدهش مُدرّسي التاريخ، والجغرافية، واللغة العربية، والتربية الدينية حينما استظهر لهم موضوعات وقصائد وآيات من الذِكر الحكيم من دون أن يقترف خطأً واحدا حتى بدا للجميع أشبه بالمعجزة في هذه السن المبكرة من حياته. وقد تضاعف هذا الإعجاب به حينما قدّم عروضًا لاختبار ذاكرته في المكتبة العامة وبعض مسارح المدينة لكنهم سرعان ما أوقفوا هذه العروض، ومنعوا مكتبات شارع المتنبي وغيرها من تأمين كتب إبسن ومسرحياته التي أثارت لغطًا كبيرًا في الأوساط الثقافية والفنية في العراق.

على الرغم من أنّ ثيمة الرواية قائمة على وَهَم مرَضي فإن هناك شخصيات "وهمية" أخرى تعرّف إليها نوركَه مثل فاضل الذي يعمل في المكتبة العامة، وهشام الكهل الذي تعرّف إليه في شارع المتنبي وأهداه عددًا من كتب إبسن ومسرحياته، كما تحدث له عن حياته الزوجية مع السيدة النرويجية هايدي وابنهما رؤوف وحفيدهما سيف، وانتقالهما من باريس إلى أوسلو، وعودته إلى العراق بعد وفاة هايدي بسكتة قلبية، وإصابته هو بحادث سيارة حينما عبر الشارع مخمورًا، وأصبح مُعاقًا يتنقل على كرسيّ متحرّك يدفعه حفيده سيف. صار يتردد على هشام يوميًا إلى منزله بالحارثية ويحكي له هذا الأخير عن الحياة في النرويج وتاريخها السياسي والاجتماعي ولكن الأهمّ من ذلك كله أنه كان يروي له حياة هنريك إبسن بالتفصيل الممل ويعزز أوهامه بالعديد من المفاهيم والتصورات من بينها الأزمة المالية التي تعرض لها والد إبسن واضطرته إلى بيع البيت والانتقال إلى منزل آخر، تمامًا كما حصل لوالد نوركَه الذي خسر في صفقة تجارية واضطر لبيع البيت في الكاظمية وشراء بيت متواضع في العطيفية. كما أنّ إبسن قد ارتبط بالسيدة إلسه صوفي وأنجبت منه ولدًا اسمه هانس ياكوب لم يعترف بأبوته لكنه ظل ينفق عليه حتى بلغ سن الرابعة عشرة. كما أن الأب غانم أحمد يعتقد بأنّ زوجته محاسن قد أنجبت نوركَه من علاقة غير شرعية مع عشيقها في البصرة. وهكذا يتقارب الشبه بين نوركَه وجده إبسن في الملابس، والنظارات الدائرية الصغيرة، والعكازة التي يتوكأ عليها.

تقنية الرسائل

لا تخلو تقنية الرسائل في هذه الرواية من إثارة فلقد أرسل نوركَة 227 رسالة إلى أناس متعددين أبرزهم ابن عمّه تانكَريد إبسن يشرح فيها أشياء كثيرة من بينها أسباب تأخره، وموعد وصوله، كما بعث رسائل أخرى لمسؤولين في المملكة النرويجية من بينهم الملك أولاف الخامس، ورئيسة الوزراء آرنا سولبيرغ، وسيتعرّف القارئ من خلال هذه الرسائل إلى البلدين معًا، فالعراق والنرويج متقاربان في المساحة، وكلاهما تعرّض للاحتلال، إذ وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني، فيما رضخت النرويج للاحتلال الألماني النازي. كما شهد البَلَدان نموًا اقتصاديًا سريعًا بعد اكتشاف النفط فيهما في سبعينات القرن الماضي، وقد واصلت النرويج تطورها فيما تراجع العراق كثيرًا.

تنطوي الخطة التي رسمها نوركَه للهجرة إلى النرويج على أربع مراحل تنتهي الأولى عند المنفذ الحدودي بين العراق وتركيا، وتبدأ الثانية من هذا المنفذ لتنتهي عند الساحل البحري في أزمير، فيما تنطلق الثالثة عبر البحر إلى اليونان، وتمرّ الرابعة في سبع دول قبل أن تصل إلى أوسلو. غير أن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن أحيانًا، فلقد غيّر المهرّب مهنّد رأيه وسلك طريق الخالص، كركوك، السليمانية، أربيل، ودهوك، وهناك سوف يسلّمه مهند إلى قوة مسلحة لأنه نرويجي، وقد اصطحب معه لوحة "شلال فورنيك" كدليل دامغ يثبت به نرويجيته، ونظرًا لإخلاصه للشعب النرويجي فهو يريد إعادة هذه اللوحة التي أضحت مُلكًا وطنيًا للشعب النرويجي ولابد من تسليمها إلى موظّف أمين يحافظ عليها من العبث ويمنع سرقتها مُجددًا. يقتاده المسلحون إلى نفق سينهار عليه إثر قصف جوي استهدف رتل سيارات معادية ثم يتم نقلة في أحد الهمرات الثلاثة إلى وحدة طبية، عندها فقط تتقلص ملامح وجهه أول مرة عن ابتسامة مفرحة في حياته وهو يستجيب للصوت الرقيق الذي سأله عن اسمه فيرد:"اسمي نور. . نور . . نوركَه، ثم مال رأسه وغاب كل شيء".

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أن شمدين يتمتع بقدرة ممتازة في رصد المجتمع النرويجي الذي يعيش بين ظهرانيه فهو يصف النرويجيين، تمثيلاً لا حصرًا، بأنهم يشبهون "ترمس الشاي أو القهوة باردون من الخارج ودافئون من الداخل"، وثمة مواضع كثيرة في الرواية تكشف عن طبيعة هذا المجتمع، وتُميط اللثام عن عاداته وتقاليده الاجتماعية التي حققت في خاتمة المطاف المساواة والعدالة الاجتماعية لكل الذين يعيشون في بلاد الثلوج. بقي أن نقول بأن نوزت شمدين قد أنجز حتى الآن خمس روايات وهي "نصف قمر"، "سقوط سرداب"، "شظايا فيروز"، "ديسفيرال" و "مستر نوركَه" التي أحدثَ فيها نقلة نوعية في اللغة المتوهجة، والسرد المنساب، والبنية المعمارية الرصينة التي لا تغادر ذاكرة القارئ بسهولة.

 

عدنان حسين أحمد

 

 

الاخلاق.. الايمان الديني والفلسفة

التفاصيل
كتب بواسطة: علي محمد اليوسف

علي محمد اليوسففيلسوف عصر النهضة جون لوك 1632- 1704 رغم نزعته العلمية التجريبية، وصرامته ألمنهجية في إعتماده مرجعية العقل، إلا أننا نجده مؤمنا بالله الكفيل بسحب الانسان نحو مراتب الأخلاق الرفيعة السامية التي تحقق له سعادته الارضية وهو ما لا يمكن نكرانه كون عماد الأخلاق تهذيب التدّين لها وليس مصدرها الوحيد هو الدين..

جون لوك يعتبر الاخلاق ضرورة حياتية لا غنى للانسان عنها، والضامن والمرجع في التزّود بها هو الإيمان اليقيني القطعي بوجود الله كضرورة ماسّة قصوى في تنظيم حياة الانسان على أسس أخلاقية سليمة. "الله الذي يمتلك القوة اللامتناهية، والخيرية، والحكمة. ما يرتّب على البشر ومن مصلحتهم طاعة أوامره، ولما كان الناس لا يمتلكون أفكارا فطرية، ولديهم قلقا فطريا يلازمهم مدى الحياة، فما عليهم سوى أن يخبروا اللذة ويتجنّبوا الألم."1 هنا جون لوك في دعوته الإيمانية الأخلاقية هذه يتنازعه تيّاران أحدهما منهج الفلسفة التجريبية القائمة على تفعيل العقل البرهاني والمنطق الصارم، والثاني هو الوازع الأخلاقي الذي لا يناله الانسان سوى بالإيمان اليقيني القطعي بوجود الله والإمتثال لأوامره المنصوص عليها في الكتب المقدسة الدينية بغض النظر عن الفوارق بين الاديان في مسألة الاخلاق.

ويسعى لوك خلق توليفة توفيقية تجمعهما معا منهج الاخلاق في الفلسفة والإيمان التديّني بالله..لذا نجد جون لوك عمد  إستنساخ آراء زميله بليز باسكال 1623- 1662 في مذهبه الفلسفي الديني البراجماتي في وجوب الإيمان بوجود الله كضرورة أولى لا يستطيع الانسان العيش بلا قلق يلازمه من دون الإلتزام بالإيمان الديني.

فالإيمان القلبي البراجماتي حسب باسكال بوجود الله لا يخسر به الانسان شيئا يندم عليه في حياته، كما لا يخسر شيئا يندم عليه بعد مماته. فالإيمان الأرضي بالله يمنح الانسان الطمأنينة بالحياة ويزيل عنه القلق والخوف الملازم له. وسوف لن يخسر شيئا في حال لم يتحقق له حلم الخلود في حياة ثانية بعد الممات.

ويصف جون لوك الله " أن الاساس الحقيقي للأخلاق هو إرادة الله وقوته الذي يرى الانسان في الظلام ويمتلك بيده الجزاءات والعقوبات، وهو قوي بدرجة تكفي لمحاسبة المذنب الأكثر تفاخرا". 2 جون لوك يحاول تجذير الاخلاق التي هي سلوك مجتمعي في تشذيبها من الرغبات الغريزية التي لا ينكرها أنها حق الانسان التمتع المعتدل بإشباعها ليس على حساب الآخرين. ومن واجب كل إنسان يرغب تحقيق لذّته بالحياة أن يحتكم بها الى ما يدعو له الإيمان الديني. ومن مصلحة كل شخص أن يكون سلوكه مستمّدا منه.

الله أعطى الانسان عقلا يعرف به تمييز حقائق الأخلاق عن طريق الحدس العقلاني البرهاني، زائدا الوحي فضلا عما يكتسبه العقل من تعاليم أخلاقية متضّمنة في الكتب السماوية، لذا يمكن ترسيخ الأخلاق في تكامل تجربة العقل والوحي. ولا ينسى جون لوك تحذيره من عواقب خرق الأخلاق الإيمانية بأن الانسان يتحمّل مسؤوليته أمام الله وأمام أقرانه في سلوكه الاخلاقي.

الاخلاق الفطرية والمكتسبة؟

جون لوك في الوقت الذي ينكر بإصرارمنهجي عقلي مقولة الأفكار الفطرية إلا أننا نجده يخونه التعبير حينما يستعمل لفظتي الفطرية المعرفية، والغريزة الوراثية بمعنى واحد دليل قوله " العقل حر أن يفكر مليّا وينتقي ويختار، وهو يفعل ذلك وفقا لرغبته الفطرية في تحقيق اللذة وكراهية الالم."2 هنا جون لوك يعمد جعل كل ماهو فطري هو غريزي وكلاهما تحت وصاية العقل عليهما .

اللذة تكون فطرية عندما تكون غريزة موروثة وليست مكتسبة هي حاصل تواضع المجتمع على تداولها وممارستها. لذا يكون كل ما هو فطري غريزيا لا يستطيع العقل التحّكم به بألإلغاء أو الإنصياع البهيمي بإشباعه. أما المعارف فلا تكون موروثة على مستوى توريث العقل لها بل تكون تحصيل حاصل مكتسب من تراكم خبرة مستمدة من المجتمع والمحيط بمرور المراحل العمرية.. ألخبرات المكتسبة ليست خبرات فطرية موروثة. والوراثة تشمل الغرائز وما تحمله كروموسومات الفرد الإنفرادية التي تتوزع خصائص تشكيلة جسمه كافة.

والغرائز الفطرية هي موروثات تلعب فيها الجينات دورا كبيرا في زرعها داخل تكوين الانسان بيولوجيا وفي وظائف الجسم كاملة. لذا تكون الغرائز فطرية على صعيد الإشباع مثل لذة الجنس والإناسة المجتمعية المزروعة بالكائن النوعي الانسان. وحتى نجد فطرية التجمّع النوعي موجودة في الحيوان من نوعه.

أما إجتناب الألم وما تستشعره النفس من بواعث وإحساسات ورغائب إشباعية يتوزّعها السلوك والضمير والاخلاق والحب والعاطفة والحزن والفرح والخوف والقلق وغير ذلك من تجليّات نفسية هي ليست فطرية وانما هي إستعداد فطري  مكتسب بالصقل والتهذيب ويتحّكم بها الفرد بالممارسة والعادة والتقاليد الاجتماعية..

الوحي والمعجزات

يذهب جون لوك ألإيمان بالوحي هو جوهر لا يتعارض مع العقل الذي نسترشد به في كل شيء. وعلينا الإحتكام في تصديق الوحي بمرجعية الايمان بالمعجزات، التي هي فوق العقل لكنها لا تناقضه. من الملاحظ محاولة جون لوك الحّث على الإيمان الديني بالوحي بمرجعية الإحتكام للمعجزات التي لا تقل إشكاليتها مع العقل عن إشكالية الوحي مع العقل وكلتاهما إشكاليتان هما فوق مدركات العقل، لكنهما لا تناقضان العقل حسب ما يرغب جون لوك لا حسب ما تفرضه علينا طبيعة العقل الإدراكية المعرفية. وجون لوك فيلسوف عقلي تجريبي يؤمن بالإدراك التجريبي الحسّي الطريق الوحيد في فهمنا العالم..في نفس وقت يدعو إمكانية البرهنة على المعجزات بالعقل المسّتمد من الإيمان بالله والوحي وهي دعوة ميتافيزيقية صعبة التحقق والتنفيذ.. .

القضية الأخرى التي يثيرها جون لوك والتي يلتقي بها مع ديكارت ويختلفان بالأفكار الفطرية التي يؤمن بها ديكارت ويرفضها جون لوك. الذي يقول في تسويغ حل مسائل اللاهوت بمنطق العقل "إننا لا نستطيع القبول على الإطلاق بحقيقة مناقضة بصورة واضحة ومميزة لمعرفتنا الواضحة المتميزة "3 مبدأ الوضوح والتميّز الذي إعتمده ديكارت وإعتمده جون لوك وأعتمده فينجشتين وأخيرا جورج مور في التحليلية المنطقية هو أن الوضوح والتمييز الذي لا يحتاج برهان العقل عليه هي (البديهيات) المعرفية الشيئية التي لا مجال الشك بها أو مناقشتها، لأن مبدأ الشيئية في الدال والمدلول الفكري اللغوي في التعبير هما من التطابق الذي يلغي أي نوع من الشك الذي يحتاج برهان العقل عليه،مثل قولنا هذا لون ابيض أو هذه منضدة وهكذا من أمثلة شيئية بديهية بالإدراك ألمباشر لها ويتقبّل صحتها العقل بالحدس والحس المباشر الذي يكتسب خاصيّته بالتكرار الذي يصبح عادة بديهية، وهو ما لا يمكننا تعميمه على قضايا ومشكلات فلسفية وفكرية لا يمكن حلّها بالوضوح والتمييز الذي تتطابق به الحواس ومدركات الذهن مع واقع دلالة اللغة والفكر في التعبير عن مدلول شيئي لا يتقّبل برهان عقلي عليه لأنه من بديهيات الموجودات والظواهر المدركة سببيّا أو غير سببيا.

نخلص من هذا الى أن إشكالية الوحي والمعجزات التي هي (فوق عقلية) يجب التسليم بها ليس بالإحتكام العقلي بالوضوح الذي لا يتعارض معها حسب جون لوك، وإنما بالإيمان القلبي الذي لا يخضع الى صرامة العقل التجريبية. من السهل على فيلسوف يحترم مخرجات العقل العلمية جواز قوله أن إشكاليات مثل الوحي والمعجزات التي هي فوق عقلية لا تتعارض مع العقل. حيث يؤكد جون لوك في "مقال في الفهم البشري" أن وجود الله ومباديء الأخلاق يمكن البرهنة عليها بالعقل، والوحي بالكتب المقدسة معرفة لا تناقض العقل ويمكن إمتحان صدقيتها بالمعجزات "4.

جون لوك يلتقي ديكارت في محاولتهما خلق توليفة تجمع العقل والايمان الديني والعلم وهو ما لم يتحقق لكليهما في القرن السابع عشر، فالنسق الإدراكي المفهومي للعقل لا يتقبّل الإنتقائية بالتوظيف المعرفي له، لذا نجد لوك في سعيه خلق مثل تلك التوليفة الإفتعالية كان مناقضا العقل الذي إعتبره الملاذ الاول والاخير الذي يجب أن نحتكم اليه. وهو كما قلنا نفس المّطب الذي وقع فيه ديكارت في محاولة تطويع العقل لإستيعاب المتناقضات بين العقل واللاهوت التديّني الوضعي التي كانت بالنتيجة والمحصّلة محاولة فاشلة.

مصدر الاخلاق

من الأمور التي إستوقفت جون لوك هو مصدر الأخلاق حين يقول "يمكننا تطوير مذهب أخلاقي مستقل عن المنحى التجريبي يقوم على إعتبارات لاهوتية يمكن البرهنة عليها" 5

نستطيع تفسير هذا الرأي بما تحتمله العبارة السابقة بما يلي:

- جون لوك يقرّ ضمنيا أن اللاهوت الديني ليس هو المصدر الوحيد للاخلاق.

- الأخلاق غير المستمّدة من اللاهوت الديني يمكن إخضاعها للعقل البرهاني غير المتعارض معها. بحيث لا تقاطع الإيمان التدّيني ولا تقاطع ممانعة العقل الانصياع لها. وهذه معادلة قلقة غير متوازنة ليس من السهولة التثّت منها..من الأمور التي يتجاهلها لوك في مبحث الأخلاق هي حقيقة الإختلاف الأخلاقي بمعيارية إختلاف المصدر، فالأخلاق التي مصدرها اللاهوت الديني في الوحي والمعجزات والكتب السماوية يطغى عليها الجانب الروحاني الميتافيزيقي الذي لا يطاوع صرامة العقل، أما الأخلاق الوضعية المجتمعية العامة فهي تقوم على قوانين وضعية في تنظيم العلاقات الاخلاقية وفقا لمعطيات عقلية لا تحتاج البرهنة العقلية عليها أنها تخدم الانسان في حياته ولا تقاطع تعاليم اللاهوت الإخلاقية الروحانية. من السهولة إستطاعتنا محاكمة صلاحية الأخلاق المجتمعية للفرد في عدم تقاطعها مع الروحانيات اللاهوتية الدينية وكذلك لا تقاطع تنفيذ ما يجده العقل يحقق مصالح المجتمع.

هذا الإلتباس المتداخل يقودنا الى مسألة هل الأخلاق وحدة كليّة متجانسة تقوم على مثل وقيم وتقاليد لا تكسر توصّيات وتعاليم اللاهوت الديني ولا تقاطع قوانين العقل؟ من جانب الإجابة يجب أن نقرّ بأن الأخلاق الروحانية هي فردية أكثر منها مجتمعية، لأن تنظيم العلاقة الأخلاقية الروحانية لا تخضع لسلطة القوانين الوضعية الأخلاقية التي تنّظم أخلاق المجتمع قبل أخلاق الفرد التي يكفلها ما يسري على الجميع من إنضباط روحاني...

المسألة الثانية ان الأخلاق ليست وحدة متجانسة تحكمّها ضوابط اللاهوت والقوانين الوضعية ولا مشكلة تبقى عالقة في هذا النوع من الإختلاف. فلو نحن أخذنا ترجيح أن مصدر الأخلاق الوحيد هو تعاليم الإيمان التديني نقع في إشكالية وجود شعوب تسكن معنا كوكب الارض اليوم الايمان الديني بينها لا يتجاوز 20 بالمئة من مجموع الشعب وهم ينظمّون حياتهم الأخلاقية على وفق قوانين وضعية طوعية ملزمة يحتاج لاهوت الاديان التّعلم منها الأخلاق مثال اليابان، الصين، دول اوربية، الدول الاسكندنافية وغيرها من دول شرق آسيا.ويختم جون لوك دعوته الاخلاقية أن الايمان بالله هو الطريق الوحيد لتوفير أمن مجتمعي تسوده علاقات المساواة التي تقوم على أخلاق التسامح وقبول الآخر، مستثنيا الملحدين تخريبهم أخلاق المجتمع الدينية والمدنية، معتبرا الملاحدة الذين ينكرون وجود الله هم بالنتيجة لا يؤمنون بأخلاق تقوم على المساواة والتسامح وتعزيز تماسك المجتمع بعيدا عن الكراهية والانتقام وإنتهاك الاخلاق.

توضيح عرضي

نعرّج الى تفريق حول الإيمان الديني الذي هو إشباع حاجة (نفسية) صرفة ونتحفّظ على القول بتعميم الإيمان الديني ميتافيزيقيا على أنه نزعة لا مادية في إشباع حاجة (روحانية) متعاليّة على الملذّات المادية، التي لا ينتج عنها إشباع حاجات ماديّة كما هي إشباع رغبات النفس التي هي تجريد لامادي أيضا ينتج عنها إشباع رغائب بيولوجية في إدامة حياة الانسان.. فالروح سمو عاطفي وجداني ترتبط بالوعي المتعالي على حاجات النفس المادية الحياتية التي هي الأخرى النفس لا مادية أيضا لكنها مقترنة بإشباع حاجات بيولوجية لامادية يحتاجها التوازن السلوكي المجتمعي بالحياة، والنفس بخلاف الروح وكلاهما مصطلحان لا ماديّان تكون محدودة بحاجة إشباع رغبة الطمأنينة والسلوك الاخلاقي والعاطفة والضمير والرحمة وحب الخير والابتعاد عن الشرور والآثام وكلها مفردات تعبّرعن تداخل علاقة الفرد مع المجتمع....أما الإيمان الطبيعي الغرائزي فهو وعي لإشباع حاجات بيولوجية مادية يحتاجها الانسان في حياته اليومية التي هي رغائب النفس وبيولوجيا الجسم الانساني. وكثيرا ما نخلط بين النفس بمفهوم علم النفس مع لفظة الروح بالفلسفة والدين التي هي لفظة ميتافيزيقية- نفسية أشمل من حاجات وتجليّات النفس المطلبية ولا ترادفها لفظة النفس كما هي في أدبيات علم النفس وعلم وظائف الجملة العصبية. كما هو الخطأ المتداول بالفلسفة التي يتعامل مع النفس أنها وعي وجودي. وغالبا ما يتم تداول لفظة الروح بأدبيات الاديان وفي الصوفية أكثر تركيزا من مفهوم النفس. ومن الفلاسفة مثل ديكارت إعتبر (النفس) خالدة لأنها غير مادية ولم يقل خلود (الروح) التي هي أيضا غير مادية وأقرب لتلبية المعنى المراد من الخلود، والأرجح أن تبلور مصطلح الروح كي يكون المقصود به الشعور النفسي العاطفي غير المادي الذي يكون متعاليا متسامّيا على النفس وحاجاتها الجسدية وهي أكثر تجريدا نفسيا مرتبطا بالوعي الايماني الديني، ومعظم أدبيات الاديان تقصد خلود الروح وليس خلود النفس ولا نعدم وجود الخلط بين اللفظتين بالفلسفة كون علم النفس لا يعطي معنى محددا للنفس من خلال الارتباط بالوعي والتفكير والسلوك المتداخل مع علم الاعصاب والدماغ وبيولوجيا المنطقة المحددة المسؤولة في القشرة الجبهوية الامامية الدماغية من حجم الجمجمة عن مثل هذه المصطلحات التي إستطاع علم وظائف الاعضاء والجهاز العصبي وفسلجة بيولوجيا الدماغ إعطائه تعريفات علمية محددة لكل مصطلح ملتبس المعنى بالفلسفة وعلم النفس...

المذاهب الاخلاقية والدينية في القرن الثامن عشر

كان لجون لوك وديفيد هيوم وبيركلي تأثيرا إستثنائيا ليس بالفلسفة فقط في القرن الثامن عشر،بل في الأخلاق واللاهوت، فقد رفع هيوم المنهج التجريبي في البرهنة على الأخلاق وعلم الاجتماع، ماجعل جون لوك يذهب بعيدا في تعميمه المنهج التجريبي في وجوب تحكيم العقل لمعالجة ليس فقط القضايا الاخلاقية والعلوم الاجتماعية، بل البرهنة العقلية على وجود الخالق الله وإثبات الإيمان بالمعجزات الدينية. ونشر جون لوك كتابه "معقولية المسيحية " في الرد على تيّارين تعاظم شأنهما في منحيين هما أولا ردّه على النزعة الإلحادية التي يتزّعمها ديفيد هيوم وفلاسفة فرنسيين وألمان، والمنحى الثاني ردّه على مزاعم ما سمّي بمذهب "المؤلهة الطبيعيون" معتبرا الوهية المسيح معقولة يمكن التجربة عقليا عليها. وأعتبر الوهية المسيح معقولة بمرجعية العقل. ورفع جون لوك شعار "مافوق العقل" في محاولته المزاوجة القائمة على الإيمان بالوحي مع الإستعانة بالعقل معا. 7 ورفض شعار مافوق العقل كما يتوضّح معنا لاحقا.

الاخلاق والعقل

هذه الارضية التي مررنا عليها سريعا جعلت الإيرل الثالث أوف شافتسبري "1671- 1713" يتبّنى النزعة العقلية التجريبية نقلا عن إستاذه ومربيّه جون لوك، ونادى أن الانسان يمتلك نوعين من العواطف الذاتية التي تدفعه نحو تحقيق مصالحه الخاصة، والثانية العواطف الطبيعية الإجتماعية التي يحاول بها تحقيق مصالح مجتمعه وسعادة الآخرين. وأشار الى أن الانسان يمتلك طبائع بشرية شريرة مثل الحسد والغيرة والانانية، وأبرز شيء أشار له أن الأخلاق ليس مصدرها ديني فقط ولم يقاطع أو يهاجم الدين.8. وعمد فرانسيس هايتشسون "1694-1747" أستاذ فلسفة الاخلاق في كلاسكو ربطه ماهو أخلاقي بكل ماهو جيد وجميل وينسجم مع الذوق الاخلاقي العام، فالجميل للفرد هو جميل للمجتمع. وبخلاف ذلك تكون الأخلاق السير نحو الإنحطاط والشر والقبح، وحين سئل كيف لنا الإحتكام عدم الإنزلاق نحو كل ما هو وضيع أخلاقيا أجاب "يكون ذلك بالرجوع الى "الحاسّة الخلقية " التي هي مصدر الشعور الجمالي بالحياة.

الاخلاق والضمير

جوزيف بتلر"1692- 1752" كان أسقفا في الكنيسة الانجليزية، حاول أيضا ربط الأخلاق بالعقل مقتفيا آثار جون لوك وإعتبر كل إنجاز للعقل في منهج التجريب لا يتناقض مع وجود الله، وعلينا الإحتكام الأخلاقي الى الله الذي زرع في أعماقنا الضمير، الملكة العقلية النوعية التي يمتلكها الانسان وحده، وفي إعتماد الضمير يمكننا التمييز بين ماهو أخلاقي مفيد وما هو غير أخلاقي فاسد. من جانبه قام ريتشارد برايس 2723- 1791 الذي سبق كانط في دعوته عدم إقامة الأخلاق على دوافع ذاتية مصدرها النفس مثل الرغبة في تحقيق اللذّة، والمحبّة الغريزية، والحاسّة الأخلاقية،"فالقوانين الأخلاقية هي "عقلية" و "ثابتة " و "أبدية " لأن عقلنا يعرفها بصورة حدسية "9

مذهب المؤلهة الطبيعيون

ظهر مذهب المؤلهة الطبيعيين في بريطانيا وهم فرقة ينكرون التثليث ويؤمنون بالواحدية الإلهية، وقد إستهوتهم فكرة تغليب الطابع الطبيعي للدين، ووجدوا العودة الى العصور البدائية ما يعزز وجهة نظرهم أن اصل الدين هو الطبيعة، وإنبثق عن هذا التمجيد للطبيعة بما عرف بوحدة الوجود كما هو في فلسفة اسبينوزا وهيجل. ونجد هذا المبدأ بشكل مادي متطرف عند فيورباخ الذي لم يستعمل مصطلح وحدة الوجود،بل إعتبر العلاقة بين الطبيعة والانسان هي منشأ الدين. وأصدر كتابين بهذا المعنى "جوهر المسيحية " و"أصل الدين". ورفضوا أصحاب مذهب المؤلهة الطبيعية أن يكون هناك إدراك فوق عقلي حسب إدعاء لوك فالعقل يقبل برهان التجربة ولا يقبل غيرها ليست من طبيعته العلمية.

كما أثار مذهب المؤلهة الطبيعيين حفيظة ديفيد هيوم فأصدر كتابه "محاورات في الدين الطبيعي" هاجمهم فيه مشيرا الى أن العودة بأصول الدين الى مراحل العصور البدائية غير صحيح ولا يمكن القبول به، كون تلك الديانات البدائية لا تؤمن لا بالوحي ولا بالتوحيد بل تؤمن بتعدد الآلهة. لكن مع كل هذا برز عديد من الفكرين الذين وجدوا بمذهب المؤلهة الطبيعيين كانوا دون دراية منهم فتحوا أبواب دراسة الأديان بوسائل علمية تقوم على منهج البحث العلمي الذي يتجاوز الأساطير والخرافات وما يتعالق مع الميتافيزيقا الدينية خارج قدسية ونزاهة الأديان في حقيقتها الإيمانية الروحانية. وقد وصل الامر اليوم الى نشوء علم الاديان الذي يعتمد مدونات التاريخ واركيولوجيا الحفريات الاثارية بمنهج علمي صرف.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

......................................

هوامش: وليم رايت /تاريخ الفلسفة الحديثة/ت محمود سيد احمد/ مراجعة امام عبد الفتاح / 1،2،3،4،5،6/ الصفحتان 174-175

7- نفسه ص 226

8. نفسه ص 227

9. نفسه ص 228

 

 

التعليم في العراق والسير نحو الهاوية

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صالح الطائي

صالح الطائيوأنا أتصفح رفوف مكتبي التي تنوء من ثقل ما تحمل على ظهرها، وجدت مجلة صفراء اللون ورقها متهرئٌ يوحي لك بقدمها، كانت مجلة بسيطة في إخراجها، عظيمة في محتواها، ومحتواها الجميل هو الذي اوحى لي بكتابة هذا الموضوع؛ الذي سأتجاوز فيه الحديث عن الاحصاءات والدراسات التخصصية التي يلجأ إليها الكاتب عادة حينما يتناول مثل هذه المواضيع، لأتكلم ببساطة مستعينا بما احتوته النشرة، وما أثارته فيَّ من مشاعر، بعدما أحيت في نفسي وجعلتني أقارن بين ما ذكره المرحوم عالم الاجتماع العراقي علي الوردي من أن العراقيين في وقت سابق وليس ببعيد كانوا يسمون المدرسة "المبلسة"، أي صانعة الأبالسة، باعتبار انها سوف تشيطن الطلاب وتحرفهم، وإذا بالمدارس تصل بعد زمن يسير جدا إلى مستوى نحسدها عليه في يومنا هذا، لتسهم في تخريج قادة المجتمع وعلمائه!

هذه النشرة او المجلة البسيطة أسمها "اللباب"، واللباب هو الخالص المختار من كل شيء، تقول: فلان لباب قومه، أي هو خيرهم، واللباب لحم الثمرة ما بين القشرة والنوى، ومنه تعرف دقة اختيار الاسم ودلالاته الكبيرة. مكتوب تحت هذا العنوان: نشرة مدرسية تتضمن فعاليات ثانوية الكوت للبنين للنصف الأول من السنة الدراسية 1947 ـ 1948 تحت إشراف الهيئة المدرسية. وهذا العدد هو الأول من السنة الأولى من هذه النشرة، أما جهة الإصدار فهي ثانوية الكوت للبنين.

وكم هو جميل ورائع ان تتولى المدارس الثانوية في العراق ومنها ثانوية الكوت للبنين في أواخر النصف الأول من القرن العشرين إصدار مجلات يحررها الأساتيذ والطلاب سوية، تتناول مواضيع فكرية وأدبية ورياضية بأقلامهم المشتركة، بعض تلك المواضيع كان حداثيا صرفاً مثل موضوع "يجب أن تعمل المرأة" وهو بقلم الطالب صائب ياسر من الصف الأول ب، وبعضها كان تخصصيا مثل موضوع "الرياضة البدنية" للطالب ناجي رشيد من الصف الأول أ، وتطور القوانين والنظريات العلمية للأستاذ عبد الجبار محمد علي، و"إخواني الطلاب" للطالب عصام عيسى من الصف الأول أ، و"الحالة الاجتماعية في الريف العراقي" للطالب صاحب جواد من الصف الثاني أ، وبعضها الآخر كان تاريخيا أو حديثا في السير، مثل موضوع "شوبان" للأستاذ عبد الكريم الخضيري، و"رجل يعمل من أجل السلم" للطالب عبد الكريم جليل من الصف الأول أ، و"هيرناندو كورتيز فاتح المكسيك" المترجم عن الإنكليزية بقلم الأستاذ عبد الخالق جليل. وكان للشعر والقصة والأدب مكانا بارزا على صفحات هذه النشرة التاريخية الرائعة.

لكن الأجمل أن الهيئة التدريسية في الثانوية كانت هي الهيئة الرسمية للمجلة وهي المشرفة على إصارها وعلى المواضيع المنشورة فيها. وأن الهيئة التدريسية كانت تتألف من الشيعة والسنة والمسيحيين والصابئة، ومن العرب والفيليين والأكراد، وكأنها ضمت شعب النسيج المجتمعي العراقي، والكل يعمل من أجل الكل، ولهذا السبب كان التعليم يتقدم والعراق يتقدم والعلوم تزدهر والمجتمع يتطور وينمو ليحيي أصالة تاريخه.

2262 نشرت اللباب

وفضلا عما تقدم وجدت في النشرة أخبارا تربوية متفرقة، ومعلومات تخص الثانوية نفسها، جعلتني أقف احتراما للمعلم العراقي الذي أخلص للعراق وأهله، وعمل بجد من أجل تطوير المجتمع ونشر العلم والفضيلة والوطنية، واستخلصت من تلك الأخبار والمعلومات أن في ذاك الوقت كان في ثانوية الكوت مثلما هو منشور في المجلة جمعيات طلابية مختلفة تقوم بنشاطات متنوعة، منها:

1ـ جمعية إخوان المكتبة: وفيها لجنة إدارية ولجنة المكتبة ولجنة السفرات والحفلات ولجنة إصدار النشرة، وكانت تهدف إلى توسيع مكتبة الثانوية ورفدها بالإصدارات وتشويق الطلبة على المطالعة، ولها نشرة بعنوان "الجامعة" كانت تصدر منذ عام 1944.

2ـ جمعية الفنون الجميلة والخطابة والتمثيل: وقد تم تأسيسها تماشيا مع ولع بعض الطلاب بالفنون المختلفة لتلبي رغباتهم، وتهدف إلى تنمية الملكات والمواهب عند الطلاب وتنظيم السفرات الطلابية، وتدريب الطلاب على الخطابة وتعويدهم على الارتجال في فن الكلام، فضلا عن تدريب الراغبين  منهم على التمثيل والإخراج، ومارست الإخراج فعلا، وتولت إخراج رواية "قاتل أخيه" وهي قصة قصيرة ألمانية للكاتب التشيكي فرانز كافكا، كتبها بين عامي 1916 و 1917، ونشرت للمرة الأولى عام 1917، وظهرت مرة أخرى ضمن مجموعة من قصصه القصيرة، أخرجتها لصالح الثانوية الجعفرية المسائية فرع الكوت. كما كانت تقيم السفرات المدرسية للتعرف على مدن لواء الكوت مثل النعمانية وغيرها.

وكانت لهذه اللجنة نشرتها الخاصة بها، التي تنشر أبحاث الطلبة في مختلف نواحي الفن كحياة الفنانين والرسامين والموسيقيين العالميين.

3ـ جمعية اللغة الإنكليزية: وهي جمعية تهدف إلى تقوية اللغة الإنكليزية عند الطلاب، وتعريفهم بروائع الأدب الإنكليزي، وتقوية الروح الاجتماعية بين الطلاب والمحيط الخارجي.  وكانت لهذه الجمعية نشرتان نصف شهريتان

الأولى: وأسمها "التقدم" فيها أبواب للمختارات الأدبية الإنكليزية شعرا ونثرا، وباباً للترجمة، وباباً للأقاصيص، ومنشورات الطلبة بأقلامهم.

والثانية: بعنوان "الصور" وهي نشرة خاصة بالصور، تعبر عن أي موضوع بمجموعة من الصور تمثله. وتبين أن هذه النشرات كانت تصدر في هذه المدرسة قبل عام 1947.

4ـ جمعية الصناعات الكيماوية: وغايتها تدريب الطلبة على بعض الصناعات الكيماوية المستعملة في الحياة اليومية، والغرض الأساس لها تمرينهم على الدقة التي تتطلبها دراسة الكيمياء والعمل داخل المختبر واستعمال الأجهزة المختبرية.

5ـ جمعية الرياضة والجوال: تولت تكوين فرق رياضية لجميع الصفوف، وتنظيم النشاطات بين الثانوية والمدارس الأخرى، وتنظيم السباقات للطلبة مثل سباقات الضاحية، فضلا عن تنظيم والمشاركة في المخيمات الكشفية، وعملت على إدخال الرياضات الجديدة مثل لعبة الريشة والهوكي والبيسبول. وكانت لها نشرة شهرية يحررها نخبة من رياضيي الثانوية.

وبذا تكون الثانوية قد شكلت جمعيات ولجاناً تتولى التنسيق العلمي والإداري والتربوي والتدريبي، وتسعى إلى تطوير قدرات ومهارات الطلاب وأساتذتهم سوية، والملاحظ أن هذه التشكيلات كانت تعقد اجتماعات دورية للمتابعة والتخطيط، وهذه الاجتماعات كانت تعقد تحت إشراف مباشر من قبل مدير المدرسة والمدرس المختص بالمادة أو الموضوع الذي شكلت الجمعية في حيزه ومن أجله.

وهذا يعني أن بدايات التعليم الابتدائي والثانوي في العراق كانت بمستوى التعليم في البلدان المتقدمة الأخرى إذا ما كانت تتفوق عليه، وقد استمر تطور التعليم في منحناه التصاعدي لغاية مراحل العمل على تسييسه وإخراجه من حياديته، بعد أن أغلق بوجه من لم ينتم للحزب الحاكم، وبعد أن أصبح المعلم بين خيارين إما أن ينتمي للحزب أو ينقل إلى وظيفة أخرى مصحوبا بكثير من علامات الاستفهام. ثم جاء الحصار الاقتصادي فحول المعلم براتبه المحدود إلى شحاذ يستجدي رضا الطلبة الأغنياء ويغض الطرف عن تقصير الطلبة الأغبياء، يوم باع العراقي بقايا كرامته من أجل الحفاظ على عائلته.

والمصيبة الأكبر انه تعرض بعد عام 2003 إلى ضرر مضاعف، حوله إلى عنصر تخريب وتأخير بعد ان عجز من بقي من المعلمين مخلصاً لوظيفته عن التصدي لموجة التخريب الشمولية العارمة التي أسهم بصنعها اشتراك بعض المعلمين وأغلب الطلبة سوية، ولاسيما بعد أن شعر المعلم أنه ينفخ بقربة مثقوبة، وأيقن الطالب أن مصيره الحتمي جنديا في جيش العاطلين بلا أمل ولا إشارة لانفراج قريب.

تذكرت كل هذا وانا أتابع مقطع فيديو لمدرس كان متوجها إلى مدرسته، ويهرول خلفه ثلة من الطلبة الأغبياء من المدرسة نفسها؛ وهم يهتفون: "تعليمكم فاشل"، ولا يجد من يحميه من هتافاتهم التي تجحفه حقه العظيم على الأمة وعليهم وعلى الوطن، وحينما لجأ إلى دورية الشرطة التي كانت تقف قريبا من المدرسة، كان مسؤول الدورية يكلمه باستعلاء وهو جالس في سيارته ولم يكلف نفسه عناء الترجل منها وهو يتحدث مع باني الأجيال، أو الدفاع عنه!.

تذكرت هذا وانا أشاهد الإذلال على وجوه المعلمين الذين لم يجدوا لدى السلطة الحاكمة، ولا في قوانين الدولة ما ينصفهم، إلى درجة أن تطلب الدولة منهم العمل في المدارس مجانا وبدون راتب لعدة سنين على أمل أن تكون لهم الأسبقية في التعيين إذا سمح البنك الدولي الذي نرضخ لشروطه مرغمين بتعيينهم، وهذا ما لن يحدث.

تذكرت هذا وأنا أرى شريط فيديو يظهر فيه أحد المعلمين وهو يقف أمام حفرة في حديقة المدرسة ليعلم تلاميذه الصغار كيفية دفن الميت، وآخر جعل أحد طلابه يمثل دور ميت، ليعلمهم كيفية تغسيل الميت، وقد نجد عما قريب أشرطة يسعى بعض المعلمين فيها لتعليم طلابهم شروط الخرطات التسع.

تذكرت هذا، وتقف أمام ناظري شاخصة كل تلك الأقوال التي قالها الحكماء والعلماء بحق التعليم والمعلم، والحسرة تقتلني لأني أشعر وكأن التعليم والمعلم ماتا في العراق، هذا البلد الذي علم الدنيا الحرف الأول، وأنهما يبحثان عمن يواريهما الثرى رسميا ليعلن العراق بلدا للأمية المطلقة، ويثبت أنه أول بلد في الكون ظل يسير عكسيا فيتأخر، وظلت البلدان الأخرى تتسابق من أجل الفوز بقصب السبق لإسعاد الشعوب وتطويرها.

 

الدكتور صالح الطائي

 

 

عن الجزء الثاني لكتاب: الادب الروسي والعالم العربي

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ضياء نافع

ضياء نافعصدر الجزء الثاني لكتاب – (الادب الروسي والعالم العربي) بقلم المستشرقة الميرا علي زاده عن معهد الاستشراق التابع لاكاديمية العلوم الروسية عام 2020، ولكن – ومع الاسف الشديد – بعد موتها، اذ انها رحلت عام 2019 عن عمر يناهز 79 عاما . لقد صدر الجزء الاول من هذا الكتاب عام 2014 (انظر مقالاتنا الخمس بعنوان – العراقيون في كتاب الادب الروسي والعالم العربي)، والذي  يعّد  واحدا من أهم المصادر الاساسية حول الادب الروسي في العالم العربي وتاريخ العلاقات العربية الروسية الادبية، وكيف تناول الادباء والباحثون العرب الادب الروسي منذ اواسط القرن التاسع عشر والى بداية القرن الحادي و العشرين، وهو جهد علمي هائل وفريد من نوعه في مجال العلاقات الثقافية العربية – الروسية  أنجزته المرحومة الميرا علي زاده  طوال سنين طويلة من عملها في معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية . لقد تحدثت المستشرقة  في الجزء الاول  من كتابها  عن  نتاجات  الادباء الروس  في القرن التاسع عشرمن  بوشكين وتورغينيف وتشيخوف ...الخ، اما الجزء الثاني من هذا الكتاب، فكرّسته للحديث عن تولستوي ودستويفسكي فقط. 

يقع الجزء الثاني لكتاب – الادب الروسي والعالم العربي في 382 صفحة من القطع المتوسط . ويحتوي على فصلين،  الفصل الاول بعنوان – ليف تولستوي غازي الشرق العربي ويتضمن اربعة أقسام هي – على مشارف المجد في العالم العربي (نهاية القرن 19 – اوائل سنوات القرن العشرين)، ثم، تولستوي فنانا في مركز اهتمام الادباء العرب في السنوات 1920 – 1940، ثم، الترجمات الجديدة والنقد في النصف الثاني للقرن العشرين، ثم، تراث تولستوي الابداعي في الشرق العربي في القرن الحادي والعشرين . الفصل الثاني من الكتاب بعنوان – حياة وابداع دستويفسكي بعيون العرب، ويتضمن خمسة أقسام هي – الترجمات الاولى (بداية القرن العشرين)، ثم،التاثير على الادباء العرب في سنوات 1920 – 1940، ثم، ابداع دستويفسكي  بتفسير وترجمات الباحثين  العرب في سنوات 1950 – 1990، ثم، علاقة القراء في سنوات 1970 – 1990، ثم، دستويفسكي والادب العربي في نهاية القرن العشرين – وبداية القرن الحادي والعشرين . وتاتي بعد ذلك قائمة بالمصادر (من ص 331 الى ص 365) وهي باللغتين الروسية والعربية مع ملحق خاص بالمجلات العربية . وتختتم المستشرقة الميرا علي زاده كتابها بقائمة لاسماء الاعلام التي وردت في الكتاب (من ص 365 الى ص 382)، ثم تأتي الخلاصة للكتاب باللغات العربية والانكليزية والفرنسية  .

من الواضح للقارئ (حتى من هذا العرض السريع لفهرس الكتاب) سعة هذا الجهد العلمي الكبير، الذي بذلته المستشرقة المرحومة، وكيف انها استطاعت فعلا ان تغطي مرحلة زمنية واسعة من النشاطات الفكرية، التي قام بها الادباء والباحثون العرب لتعريف القارئ العربي بانجازات الادباء الروس الكبار، ولا نظن، ان هذه السطور الوجيزة يمكن ان تفي هذا الكتاب حقه، ولهذا، فاننا نريد ان نقترح – قبل كل شئ – ان يكون هذا الكتاب مرجعا اساسيا في كل الاقسام الروسية في جامعات العالم العربي، مرجعا يستخدمه اساتذة تلك الاقسام في عملية تدريس مادة الترجمة الادبية في الدراسات الاولية والعليا (من الروسية الى العربية وبالعكس) لطلبتهم، واتمنى ان يكون هذا الكتاب يوما ما مصدرا محوريا لاطروحة ماجستيرعندنا،  تتناول موضوع تاريخ العلاقات الثقافية العربية الروسية  .

  نحاول - في ختام هذا العرض الاوليّ الوجيز جدا للكتاب -  الاشارة فقط الى بعض الاسماء العربية التي وردت فيه، والتعليق قليلا على ما جاء حولهم في هذا العمل الموسوعي  . الاسم الاول، الذي نتوقف عنده هو طه حسين عميد أدبنا وأجيالنا، فقد أشارت المستشرقة الى كتابه الموسوم - (صوت باريس) الصادر عام 1943 في القاهرة، حيث كتب فيه انطباعاته عن تولستوي، وترجمت الى الروسية مقاطع مهمة من ذلك الكتاب . الاسم الثاني هو سامي الدروبي، الذي أشارت اليه المؤلفة في ثمانية مواقع  في كتابها، اذ كيف يمكن الكلام عن دستويفسكي في العالم العربي دون التوقف عند سامي الدروبي، الذي نحت لنفسه تمثالا عربيا شامخا من نتاجات دستويفسكي . الاسم الآخر الذي اريد التوقف عنده هو حياة شرارة ، الرمز الابداعي الساطع  لقسم اللغة الروسية الحبيب في جامعة بغداد، فقد اوردت المستشرقة  ما كتبته حياة شرارة حول تولستوي بسبع صفحات كاملة..... وكان بودي طبعا ان اتوقف – ولو سريعا - عند اسماء اخرى من المبدعين، لكن العين بصيرة واليد قصيرة   يا اكرم فاضل وعلي الشوك ومحمد يونس ومحمود احمد السيد و نجيب المانع وبقية اسماء  الادباء والباحثين  الكبار من العراق ومن البلدان العربية الشقيقة الاخرى، الذين ورد اسمهم في هذا الكتاب ...

الرحمة والغفران  للمرحومة الميرا علي زاده (1940 - 2019)، والصبر والسلوان لنا جميعا على هذه الفاجعة  التي اصيبت بها حركة الاستشراق الروسية، وسيبقى اسمك خالدا  يا  الميرا  علي زاده، لأنه يرتبط ببحوثك وكتبك التي تحوّلت الى مصادر اساسية دائمية في حدائق مكتبة العلاقات الثقافية العربية – الروسية ...

 

أ. د. ضياء نافع

 

 

متى يتخلص العراق من الهيمنة الإيرانية؟

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الخالق حسين

عبد الخالق حسينغني عن القول أن الشعب العراقي هو ليس الشعب الوحيد الذي يتكون من تعددية الأثنيات، والأديان، والمذاهب واللغات، فمعظم شعوب العالم هكذا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، الشعب الهندي يتكون من أكثر من 2000 أثنية ودينية ولغوية (حسب غوغل)، ولكن مع ذلك فالهند تُعد أكبر دولة ديمقراطية متماسكة بوحدتها الوطنية. ونفس الكلام ينطبق على روسيا الاتحادية وغيرها. ولكن الفرق بيننا وبينهم، أن أغلب هذه الشعوب تعيش في وحدة وطنية متآخية بين مكوناتها، وفق مبدأ (الوحدة في التعددية=Unity in the diversity)، بينما العراق الذي هو مهد الحضارة، ومخترع الكتابة والعجلة، وأول مدونة قانونية (شريعة حمورابي...الخ)، صارت التعددية فيه وسيلة لتفتيت الشعب، وإثارة النعرات والصراعات الدموية، فبدلاً من الولاء الوطني للعراق، راح السياسيون يمنحون ولاءهم لدول الجوار، وكل فئة سياسية تحاول الإستقواء بدولة مجاورة لإلحاق أشد الأضرار بالوحدة الوطنية العراقية.

فالعراق ما أن يتخلص، أو يكاد أن يتخلص من خطر داهم حتى ويظهر له خطر آخر. فبعد دحر عصابات (داعش) ظهرت له مخاطر المليشيات الولائية الموالية لإيران، والتي هي لا تقل خطورة من داعش. وهذه المليشيات وقواها السياسية والإعلامية راحت تستخدم المشاعر الدينية والمذهبية، والمصطلحات السياسية ذات النكهة الرومانسية الثورية والجاذبية لدى أغلب العراقيين البسطاء، مثل (المقاومة الوطنية)، و(خط المقاومة) ويقصدون بها مقاومة "الاحتلال الأمريكي"، وكأن العراق فعلاً محتل من قبل أمريكا. بينما الكل يعرف أن وجود عدد قليل من العسكريين الدوليين من بينهم أمريكان، جاؤوا بناءً على دعوة من الحكومة العراقية لمساعدة العراق في حربه على داعش، وليسوا قوات احتلال إطلاقاً.

فقد كتب في هذا الخصوص الباحث الأكاديمي العراقي الدكتور عقيل عباس، مقالاً قيماً بحلقات بعنوان: ("المقاومة" من خطاب التحرير إلى اضعاف الدولة)، شرح فيه بمنتهى الموضوعية، والوضوح مخاطر التلاعب بالألفاظ  لإظهار الحق بالباطل والباطل بالحق، لدغدغة مشاعر المواطنين الدينية والوطنية وتوجيهها لتدمير الوطن وإضعافه بدلاً من تقويته وإعماره. (1، 2).

 فمن يتابع مواقع التواصل الاجتماعي، يقرأ العجب من تعليقات ومجادلات، وبمختلف الدرجات من  السخف والتفاهة والهراء، و الحدة، والعنف اللفظي في التخوين والتكفير ضد كل من يختلف معهم، وتعليق كل مساوئنا على نظرية المؤامرة وشماعة الآخرين.

فعلى سبيل المثال، نقرأ هذه الأيام عن زيارة قداسة البابا فرانسيس للعراق، التي في رأي كل ذي عقل سليم ومخلص للعراق، أن هذه الزيارة لها فوائد كبيرة وكثيرة للشعب العراقي الجريح المحروم من الأمن والاستقرار. فهذه الزيارة مناسبة للتقارب بين الأديان، والتآخي بين مكونات الشعب العراقي، و الفات نظر العالم إلى ما يتمتع به العراق من مواقع أثرية وتاريخية ودينية، حيث وُلد فيه أبو الأنبياء النبي إبراهيم، ومنه ظهرت الأديان السماوية (الإبراهيمية) الثلاثة الكبرى: اليهودية والمسيحية والإسلام، وسيستفيد منها العراق اقتصادياً، وإعلامياً، ومعنوياً في تشجيع السياحة الدينية من أتباع مختلف الديانات في العالم... إلى آخره، فيما لو تم التعامل مع هذه المناسبة المهمة بطريقة حضارية راقية تتناسب ومكانة العراق التاريخية.

ولكن بدلاً من ذلك نرى البعض الآخر وخاصة من أنصار إيران، يحاولون تسميم عقول العراقيين، و الرأي العام العالمي، فيتمادون في تضليل الجهلة، فيقولون أن الغرض الوحيد من زيارة البابا للعراق هو لخدمة الصهيونية بالترويج لسياسة التطبيع مع إسرائيل!!

والأسوأ من ذلك طلع علينا جهبذ آخر يقول: أن ((زيارة البابا الى العراق في هذا الوقت بالذات لها علاقة بالتنبؤات التوراتية والانجيلية.. انهم يحاولون تأخير ظهور الامام المهدي القائم صاحب العصر والزمان ارواحنا لتراب مقدمه الفداء .. وتأخير عودة السيد المسيح على الحبيب المصطفى نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام .. وذلك ليحافظوا على مكاسبهم الدنيوية الفانية... ولكن هيهات فإنهم لن يستطيعوا( وان اجتمعوا ) تحدي مشيئة الخالق وإيقاف عجلة التاريخ...)) أنتهى الاقتباس، وأترك الحكم لنباهة القارئ الكريم على هذا التخريف.

وإذا ما ذكرت لهم خلاف ذلك فسرعان ما يتهمونك بأبشع التهم، وينعتونك بأسوأ النعوت من بينها أنك جاهل، وجوكر أمريكي، وعميل صهيوني، ...الخ. وهذا بالطبع نوع من الإبتزاز، ولإسكات كل من يتجرأ ليفهمهم الحقيقة.

فمنذ سقوط النظام البعثي الفاشي في العراق استغلت إيران الوضع الجديد الهش في العراق، وعملت على إضعافه وحرمانه من أي استقرار، وذلك عن طريق تشكيل عشرات المليشيات المسلحة الموالية لها والممولة من قبلها. والسؤال المهم هو لماذا تصر الحكومة الإيرانية الإسلامية على إضعاف العراق وإبقاء شعبه مفتتاً، وفي صراعات دائمة بين مكوناته وقواه السياسية، وتريد مواجهة أمريكا في العراق؟

في الحقيقة إن إيران ليست وحدها التي لا تريد نجاح الديمقراطية في العراق ولا استقراره، بل جميع دول الجوار تسعى لهذا الغرض الدنيء ، وذلك بسبب خوفها من نجاح الديمقراطية التي يسمونها بـ"الديمقراطية الأمريكية" لتقبيح صورتها، وذلك خوفاً من وصول عدواها إلى شعوبهم، وخاصة إيران لأن ظروفها تشبه ظروف العراق.

فإيران تعاونت مع الامريكان في أول الأمر لتغيير نظام صدام في العراق، ونظام طلبان في أفغانستان، ليصبح العراق تحت سيطرتهم، والتخلص من طلبان عدوتهم. ولكن الايرانيين لن يسمحوا للعراق ان يستقر سياسياً، ويزدهر إقتصادياً في الصناعة والزراعة والخدمات وغيرها، لأنهم يريدون العراق أن يبقى متخلفاً وضعيفاً وساحة لتصفية حساباتهم، وسوقًا لبضائعهم، وامتدادا الى حدودهم .... وقد أخبرني صديق مطلع على السياسة الإيرانية نقلاً عن مسؤول ايراني كبير، قائلاً: "لن نسمح للعراق ان يستقر لأن استقرار العراق يفتح علينا ابواب جهنم. لأن الشعب الإيراني مثل الشعب العراقي مكون من قوميات وأديان وطوائف متعددة، ونجاح التجربة الديمقراطية العراقية سوف يشجع هؤلاء للمطالبة بنفس الاشياء، وتكون لهم نفس الاهداف." لذلك لن يسمحوا للعراقيين ان يستمتعوا بالديمقراطية.

والجدير بالذكر أن إيران تاريخيا سبب عدم استقرار العراق منذ الدولة الساسانية وإلى اليوم. والحكام الملالي رغم أنهم يدَّعون التشيع إلى الإمام علي وأهل البيت، إلا إنهم عملياً يتبعون سياسة معاوية وعمر ابن العاص في الخبث والدهاء. فإيران لم تبعث جيشاً لتحتل العراق، بل شكلت عشرات المليشيات الولائية من العراقيين، والتي تأتمر بأوامر الولي الفقيه الإيراني، وتعمل على إضعاف الحكومة العراقية، وبعد أن أضفت القداسة الدينية على هذه المليشيات واعتبرتها ضمن الحشد الشعبي. وهذا ما يسميه المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي بـ(الإستحمار)، أي أن الدولة الأجنبية تستحمر أبناء البلد، ويسيطرون عليه عن طريقهم. وهذا ما اتبعته إيران في لبنان، وسوريا، واليمن بالإضافة إلى العراق طبعاً. وقد وضحنا ذلك وأكدنا عليه في مقال لنا بعنوان (المليشيات (الولائية) ليست من الحشد الشعبي)، أن هذه المليشيات هي ضد استقرار العراق وتحقيق الأجندة الإيرانية.(3)

لقد ذكرنا مراراً ونعيد عسى أن تنفع الذكرى، أن إيران تستغل شيعة البلدان العربية، والقضية الفلسطينية لأغراضها السياسية التوسعية، وبذلك فهي أضرت بمصلحة الشيعة العرب حيث جعلتهم في موضع الشبهة في ولائهم لأوطانهم العربية، كما ألحقت أشد الأضرار بالقضية الفلسطينية.

 

د.عبد الخالق حسين

...........................

روابط ذات صلة

1- د.عقيل عباس: "المقاومة" من خطاب التحرير إلى اضعاف الدولة (1)

https://akhbaar.org/home/2021/2/280047.html

 2- د.عقيل عباس: المقاومة من خطاب التحرير إلى إضعاف الدولة (2)

https://akhbaar.org/home/2021/2/280047.html

3- عبدالخالق حسين: المليشيات (الولائية) ليست من الحشد الشعبي

https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=696336

 

المثقف في حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي (204): النص والأخلاق

التفاصيل
كتب بواسطة: صحيفة المثقف

majed algharbawi6خاص بالمثقف: الحلقة الرابعة بعد المئتين، من الحوار المفتوح مع ماجد الغرباوي، حيث يواصل فيها حديثه عن الأخلاق:

النص والأخلاق

ماجد الغرباوي: رغم الاستثناءات المتقدمة غير أن منابع الإلهام لا تنضب. تجدها نابضة في جملة نصوص دينية وأخلاقية، ومجمل التراث الثقافي الإنساني. نصوص غنية بدلالاتها وإيحاءاتها، تمثّل الأصل والأساس، وماعداها، رغم غلبتها، استثناء، تفرضه تداعيات صراعات المجتمع، ونزاع السلطة، واستفحال الظلم والاستبداد والجور وأهواء النفس. بل كل نص يمكن أن يكون مصدر إلهام أخلاقي تبعاً لزاوية النظر، وقبليات المتلقي، ومدى استعداده بين متمرد، صاخب في سلوكه، يعاني تشوهات أخلاقية، وعاهات نفسية، مطمورة في أعماقه. وشخص منفتح، يتسم بنقاء السريرة، تلامس قلبه نسمات النص، فتُضيء ومضاتُه الأخلاقية روحه، ويفيق ضميره من غفوة الكسل، ويكتسب مناعة تقاوم المنكر والرذيلة، فيمتلئ وجدانه، ويزداد حبه للفضيلة وعمل الخير، ويستجيب للواجب الأخلاقي برؤية إنسانية منفتحة. هذا النوع من الناس ينصت، تؤثر فيه الثقافة. سرعان ما يؤوب لنفسه، ويكتشف خطأه. لا يكابر ولا يخاتل: (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، يصارح نفسه، ويكاشف سريرته. يتألم ويندم، ترق مشاعره، ويلين قلبه، ثم يعود لفطرته، لتلك المشاعر الإنسانية يصغي لها، يتعهدها، حتى تغدو طبعا وسجية، لا تغادر سلوكه. بهؤلاء ترقى المجتمعات. بالعقل والتأمل والأخلاق الحميدة. لا يوجد إنسان معصوم (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ)، لكن بالتربية والتذكر والندم يستعيد الإنسان إنسانيته: (وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).

وأقصد بكلامي "أن كل نص يمكن أن يكون مصدر إلهام أخلاقي"، مجموعة نصوص جاءت في سياق ما تم استثناؤه من نصوص الشريعة، كقوله تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)، التي تمثل موقفا أخلاقيا، خاصة والآية تؤكد على السلم حتى مع الريبة والشك. فتكون نصوصا استثناء داخل الاستثناء. كأحكام الحرب، التي هي أحكام تاريخية طارئة، يتنافى ظاهرها مع العدل كآية السيف وغيرها. لكن رغم سياقات آيات القتال، تجد ثمة آيات تمثل خلاصة أخلاقية، كهذه الآية. حيث نفهم منها أصالة السلم، عندما ترتفع ضرورة العنف والقتال. وأن الحرب ليست مقصودة بذاتها لولا ضرورات الدفاع عن النفس والرسالة آنذاك. وأيضا الآية التي تنهى عن الحرب الابتدائية، والآية التي تؤكد الالتزام بالعهود والمواثيق، وعدم مؤاخذة من لم يتورط بالحرب والعدوان، وإن كان في جبهة الأعداء. هذه الآيات بالذات تصلح أن تكون منطلقا لمكافحة دعاة العنف والإرهاب أخلاقيا، فهي بحد ذاتها موقف أخلاقي. السلم موقف إنساني أخلاقي. عدم البدء بالحرب والعدوان موقف أخلاقي إنساني. بمعنى أدق بما أن السلم قيمة أخلاقية، ينبغي الاستجابة له بدوافع إنسانية خالصة. فهذه الآيات تشكل وسطا للتفاهم مع الآخر، الذي يحتكم للشريعة في تقرير الحُسن والقُبح، فتكون حجة عليه. بهذا تعضّد هذه الآيات رصيد النصوص الأخلاقية الملهمة، لتزكية النفس وصلابة الضمير. ويمكن توضيح الفكرة بشكل أفضل من خلال آية: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). التي جاءت في سياق أحكام القتال، بعد النهي عن تواد الذين كفروا، ثم يأتي الاستثناء ليفسر لنا سبب القطيعة. وأن التحريم جاء بفعل عدوانية الطرّف الآخر. وأما التواد والتواصل مع غير المحارب فلم ينه عنه، وهذا موقف أخلاقي. بل نفهم من الآية أن الأصل هو العلاقة الإنسانية، حالت الحرب والعدوان دون استمرارها. بمعنى أدق نفهم من تأكيد الدين على العلاقة الإنسانية أنها الأصل في العلاقات الاجتماعية، لا يؤثر فيها اختلاف الأديان، فمن استثنتهم الآية كانوا في جبهة العدو، وكان المتوقع أن تشملهم العقوبة، لكنه استثناهم باعتبار أصالة العلاقات الاجتماعية وخطورة دورها على الوشائج بين أبناء القبيلة الواحدة. فالتأكيد على العلاقات الإنسانية خطاب أخلاقي ملهم، في ضوئه يمكن رسم علاقتنا بالآخر. وبهذا الشكل يمكننا تقصي نصوص كثيرة، تعزز ثقافتنا الإنسانية الملهمة.

تقدم أن الضمير أحد مجسات العقل العملي، توقظه إيحاءات النصوص، وتؤثر فيه الخطابات الإنسانية. تنفض عنه غبار التقاعس والكسل والتردد. وتنزع عنه غشاوة العمى والزيغ، وتجعله أكثر إخلاصا لمبادئه، لا يفكر بالخيانة. وتمده بثقة تعزز دوره الرقابي، وهذا غاية ما نطمح له من الروافد الثقافية لاستعادة القيم الإنسانية، واستتباب قيم الفضيلة. إن مغريات الحياة، السلطة والمال والجنس، تشكل خطرا حقيقيا عندما يتخلى الفرد عن قيمه ومبادئه الأخلاقية. ونكوص الضمير أو انهياره سبب أساس وراء ذلك، من هنا أجد أن يقظة الضمير وحمايته، تضمن استقامة الفرد وهو يخوض معترك الحياة اليومية، تتجاذبه قوى الخير والشر. صحيح أن الأخلاق مستقلة عن الدين بمعنى التشريع، غير أن للدين بمعنى الإيمان دورا مهما، لقوة إيقاعه وتأثيره على مشاعر الفرد، سواء من خلال تجربته الفردية أو ضمن السلوك العام للمجتمع. الأخلاق لها وازع ذاتي، نابع من فطرة الإنسان، غير أن الضمير يتعرض لخطر المراوغة فيحتاج للتذكرة والتنبيه. وهذا هو الدافع وراء الاهتمام بمرجعياته وروافده الثقافية والإيمانية، لتفادي زلاته وتقهقره. بل بشكل صريح، ما نقوم به إجراء احترازي لترويّض الوحش الرابض في أعماقنا، وتفادي خياناته وموته. فهي، سواء كانت نصوص دينية أو نصوص إنسانية، روافد أخلاقية تهشّم تراكمات أيديولوجيا التطرف الديني والطائفي، وترقى بوعي الفرد إلى مستوى إنساني رفيع. تثري الفكر، وتضفي معنى مشرقا للحياة، وتقدم تفسيرا جميلا لدلالاتها، كي لا تختزل بالجانب المادي والجسدي، ويرقى الفرد إلى مستوى الفضيلة، والقيم الإنسانية الرفيعة، ميزانا في أعماله وسلوكه ومواقفه.

إن انهيار القيم الأخلاقية على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية، وتفاقم العنف والإرهاب والفساد، وتفشي قيم الرذيلة وانعدام الضمير، وتلاشي الإرادة الخيرة أمام مغريات المال والسياسة والجنس، وضمور القيم الأخلاقية والدينية، وكل ما يعزز مشاعر الخير والمحبة، كل هذا وغيره يدفع للتفتيش عن روافد ثقافية تعضد قيم الفضيلة. تبعث الروح ثانية في ضمائر ماتت تحت وطأة جنون الإنسان، وزيغه عن الحق، وتشبثه بالباطل طريقا لتحقيق مآربه، فكانت ضحاياهم ضلوع الفقراء التي سحقتها الفاقة والجوع، وضياع حق الناس المساكين، وانعدام العدل والأمن، وسيادة الظلم والجور والعدوان. ويمكن الإشارة لمجموعة مفاهيم تطرقت لها النصوص الديني، هي مشتركات إنسانية، أكتسبت بانتمائها للكتب المقدسة، قدسية سماوية، كالرحمة والتراحم والعفو والصدق والإخلاص، وغير ذلك. مفاهيم يمكن توظيفها لتعزيز قيم الفضيلة.

رؤية مكثفة

سبق أن قدمت مفهوما للدين يحتاج استيعابه قدرا كبيرا من التأمل والخروج من نمط التدين والنسق العقدي السائد. (يراجع كتاب الفلسفة النسوية في مشروع ماجد الغرباوي التنويري). وهو مفهوم يعوّل عليه في استرداد الأخلاق الانسانية السامية، مهما تباعدت الانتماءات الدينية والاجتماعية، لكن يبقى الدين بهذا المفهوم قدرا مشتركا، يتفق عليه الجميع باستنثاء من يرفض الدين، بل حتى هؤلاء يعترفون بالجانب الروحي للإنسان، وقدرته على تزكية النفس وثراء القيم الإنسانية. ولا ريب في مثالية هذه الصيغة، لأنها لا تشبع فضول الحس الطاغي للدين في مجتمعاتنا، والارتهان له في تحقيق أهدافهم السياسية. بات الدين يشغل مساحة واسعة من حياة الناس، وبات الفرد مرتهنا للفتوى في جميع تصرفاته وسلوكه. ومن يدمن التقليد ويلتفت للعمامة في كل إيماءة يرتاب من العقل ويرفض اختزال الدين، ويتسع مفهوم الدين لديه لكل تفاصيل حياته. لذا نخلص إضافة لما تقدم أن الدين وفقا لما هو سائد ومتداول: (نسق من الأفكار والمعتقدات، يوجه وعي الفرد وسلوكه. ويجيب على الأسئلة الوجودية الكبرى، ويقدم تفسيرا لظواهر الحياة والموت وما بعد الموت، والغاية من خلق الإنسان. وكيفية النجاة يوم المعاد. ويتسم بقدرته على ربط الإنسان بالغيب والمطلق، وارتهان مشاعره وقلبه. وهو تجربة روحية ومنظومة أخلاقية تضبط الأداء السلوكي للفرد والمجتمع). وهو وفقا للرؤية الكونية للديانات الإبراهيمة يقوم على وحدانية الخالق، وتحرير الإنسان من جميع العبوديات، وجعل الآخرة امتدادا للحياة الدنيا، وفق تصور عقدي يربط مصير الإنسان بعمله، ويعتبر الدنيا ممرا للآخرة: (وَمَا هَٰذِهِ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَآ إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ ۚلَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ). فالدين برؤية مكثفة حزمة مفاهيم عقدية وأخلاقية ونفسية وشعورية تلامس مشاعر الإنسان وتؤثر فيها. وهذا القدر من الفهم للدين كفيل بالتأثير على ضمير الإنسان وارتهانه، شريطة الإيمان بالله واليوم الآخر. وتأثيره يتطلب إيمان الفرد، برؤية كونية، تمهّد للتسيلم والانقياد فيؤوب لنفسه وقيمه الأخلاقية: (الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). ومن يفتقر لهذا المواصفات لا يستجيب لنداء الضمير الديني بسهولة، وقد يتمرد عليه، بل يمكن استخلاص نتيجة: أن "سيء الخُلق لا دين له". أو "من ساء خُلقه ساء دينه"

إن ميزة النص الديني في قدرته على تحريك مشاعر الإنسان، وهيمنته على مكامن الوعي، من خلال خطاب يتمتع بقوة إيقاعه، حينما يختار من اللغة ما يخدم أهدافه، ومن البلاغة والبديع ما يثير الدهشة والحيرة، ويختار مناطق اشتغال قلقة، لا يمكن للعقل البتّ فيها، سوى مشاعر لا يعرف مصدرها، هي تجليات القلق المصيري الذي هو قلق وجودي متجذر في النفس البشرية. وقد دأب القرآن قياس الغائب على الحاضر. والغيب على الشهادة وفق مسلّمات قرآنية: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)، (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ)، (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)، (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ). ليفسح المجال لتمثّل الغيب وغرائبية عالمه، وفق نسبية الحقيقة. أي أن الحقائق المجرّدة والحقائق الميتافيزيقية تبقى نسبية لا حقيقة لها خارج النص والفضاء المعرفي للفرد، الذي يختلف في روافده الثقافية من شخص لآخر، فيكون وعي المرء مرتهناً لقبلياته وطبيعة فهمه للنص المقدس. بهذا نفهم أن الفرد شريك في تشكيل الحقيقة النسبية. وبما أن الخطاب إملاء، والموقف منه موقف تأويلي، تتحكم به قبليات المتلقي، فيتفرد الدين في رسم الحقيقة، من خلال النص ذاته، والخبرة الحياتية في أفق النصوص المقدسة. فيبقى المتلقي محاصرا في تلقي معارفه. لذا ما لم يترك المتلقي مسافة بينه وبين النص، ويخرج من هيمنته، لا يمكنه فهم دلالته، ويكتفي بالانقياد اللاشعوري. وعليه فالمشترك الثقافي الذي يتوقف عليه الفهم، يتأسس عبر ثقافة دينية. بمعنى آخر أن قبليات المتلقي تمت صياغتها وفق ثقافة دينية. أو شاركت فيها بنسب متفاوتة، تؤهله لفهم النص ضمن سياقاتها. إذ نفترض أن المتلقي ينتمي أساسا لبيئة دينية أو مجتمع تهيمن الثقافة الدينية على مفاصل وعيه الاجتماعي. كل ذلك في إطار رؤية كونية توحيدية للعالم. فهو منذ البدء يسلم بيقينيات مكتسبة حيث تترسب المفاهيم الأولية والمقولات الأساسية لا شعوريا، بفعل التربية والمحيط والخطاب العاطفي والمقارنات البسيطة وإثارة المكامن النفسية، وبساطة القدرات العقلية. وهذه المرحلة لا يغادرها الإنسان إلا بيقظة حقيقية تقاوم إغراءات الخطاب وهو يمرر مسلّماته، ويحجب دوره في التأثير. لذا تجد بعض الناس مرابطا في هذه المرحلة حتى مماته، مهما كان مستواه العلمي والأكاديمي. فالوعي غير العلم والمعرفة. الوعي مرتبط بقدرة الفرد على الإدراك والتشخيص، وقراءة ما وراء الكلام، والتكهن الصادق بمراميه ومقاصده. فلا يخدعه النص. بل يتحرى صدقيته، وسياقاته، ويتأنى في فهمه. وهذا يعتمد على يقظة العقل. (كتاب النص وسؤال الحقيقية، 78). فترى الفرد يتأثر بالنص رغم علمه بضعفه أحيانا، مما يعني أن مركز اشتغال النص خارج وعي المتلقي، فهو يستهدف بنية المقولات الأساسية التي يراهن عليها في وجود حقيقته. (المصدر نفسه، ص8). فنخلص أن المتلقي يشارك في تشكيل حقيقة المفاهيم المجردة والقضايا الماورائية. وهذا سبب تفاوت التمثل، حيث يلعب المخيال دورا أساسا فيه، لأنه تأويل. إضافة لقبلياته، التي هي نتاج تربية وبيئة ثقافية دينية. فيكون تأثير النص مضمونا تقريبا ما لم يكن الفرد بطبيعته متمردا، يرفض إملاءات النص ما لم تخضع لنقد عقلي، ومراجعة علمية بحثا عن مدى صدقية دلالاته وإخباراته.

في ضوء هذه المقدمة حول فهم النص من قبل المتلقي يمكننا تحديد نسبة احتمال تأثير النص الديني على مسار الفرد، لنعرف قيمة الرهان على النصوص الدينية في المسألة الأخلاقية، وهل ثمة سبب معقول للتفاؤل؟. أعتقد أن فائض الرهان على النص الديني في المسألة الأخلاقية سببه صورة مضخمة، هي ذات الصورة التي عطلت وظائفه، وورطته في قضايا خارج اختصاصه، لولا رغبات أيديولوجية وسياسية. لا يكفي وجود نص ديني أو خصوص النص المقدس، ما لم يكن الفرد مؤمنا، كما دلت الآية المتقدمة. فالإيمان يلعب دورا في رفع وخفض احتمال الهداية، بينما احتمال هداية غير المؤمن من ذات النص فضئيلة أو غير محتملة، وهو ما عبّرت عنه آية: (خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ). كما أن وعي المتلقي وقبلياته، تلعب هي الأخرى دورا أساسا. لذا لا يمكن الذهاب بعيدا في رهاننا على النص الديني خاصة، ويكون البحث عن روافد غيرها مبررا جدا. وهذا يفسر سبب انهيار الأخلاق رغم طغيان الدين في المجتمع، كما هو حال مجتمعاتنا المسكونة بالدين، غير أن سلوكها يعكس مستوى التزامها الديني والأخلاقي. وهو ما أشرت له مفصلا سابقا. فوجود نص ديني لا يكفي لتزكية النفس وحماية الضمير والالتزام بالأخلاق، بل يشترط حرية المتلقي وإرادته وقدرته على اتخاذ القرار. بينما نجد العقل المسلم مرتهن للتراث، لا يلامس القرآن إلا من خلال نصوص ثانوية. فلا يصدق مفهوم الحرية هنا، بل هو عقل أسير جهله وتخلفه ودوغمائيته. كما ليس كل الناس قادرين على التمييز بين آيات الكتب، وفرز ما كان مطلقا أو مقيدا بظرفه، لذا تجد دليل الحركات الإسلامية المتطرفة كداعش هي ذات آيات القتال. لأنهم يعتقدون بإطلاقها، ويؤمنون بنسخ جميع آيات الرحمة والمودة والعفو والمغفرة بآية السيف. وهذا ليس موجبا لليأس، ومازال طيف واسع من الناس أوفياء لقيمهم، وكل ما يحتاجونه تذكير متواصل بحقيقتهم. فالإنسان يغفل، ومفاتن الحياة واسعة، والتحدي في داخل النفس البشرية.

يأتي في الحلقة القادمة

 

............................

للاطلاع على حلقات:

حوار مفتوح مع ماجد الغرباوي

 

للمشاركة في الحوار تُرسل الأسئلة على الإميل أدناه

almothaqaf@almothaqaf.com

 

جبرا إبراهيم جبرا.. الشاعر والأديب والفنان (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليالحياة مهنتي وهوايتي معاً . أشعر أنني فتحت صدري وعقلي لأناس كثيرين، وكانت في صلتي بهم دائماً حرارة إيجابية تجعلني أريد أن أفهمهم وأتعاطف معهم، أو أتفاعل معهم، بما يعقب ذلك دائماً من حب أو خيبة، أو مرارة أو غضب . هذه هي دروبي إلي الرؤية النهائية التي هي: جبرا إبراهيم جبرا؛ ذلك الشاعر والناقد الفلسطيني الذي يعد اسماً كبيراً بين الأسماء التي تنتمي إلي زمن عربي هو زمن الولادة والانتقال إلي حقبة جديدة من الثقافة والفكر العربي، هي: "حقبة التحول" الذي وضع الحد الفاصل، الأساسي والعميق بين مرحلتين في الثقافة العربية الحديثة: فأما المرحلة الأولي فقد ركزت نفسها من خلال ذلك "المعطي الإحيائي" وامتدت به إلي ما يُعتبر لمحات تجديدية لم تمتلك من قوة التأثير ما يجعل منها تياراً.. وأما المرحلة الثانية والتي يمثلها "جبرا" وجيله، وقد وضعوا أنفسهم (وعصرهم) في إطار أخذت نفسها وعملها بفكرة التقدم بالحياة والإنسان من خلال ما قدمت من مفهومات وأعمال وعيها الجديد، وعبرت بها عن وجودها الجديد، فاتحة لعصرها، كما لنفسها، أفق الحداثة، بكل ما رسم من صور متغيرة ومغيرة للواقع العربي الجديد...وبفعل فكرة التواصل لما هو وجود مستمر للجيل في مسار حركته هذه، وما هو بناء متواصل لما يؤكد فيه الجديد نفسه، وتؤكد فيه الحداثة مفهومها ومعناها، كان التوتر الخلاق رفيق هذا الجيل، والإضافة طابع عمله المميز.. فكان، بذلك جيلاً مؤسساً بحق وحقيقة.

يعد "جبرا" من المبدعين البارعين، ذا خبرة واسعة وثقافة موسوعية كثيفة، ذا فطنة وذكاء حادين، يسخر ذلك في صنع الحدث الأدبي والعمل الفني، مما يجعل أعماله الأدبية تفيض بالجاذبية الساحرة والاستقطابية المفرطة، لأنه صاحب حضور فعال في خلق الحالة السردية القصصية التي تميزه عن غيره من الروائيين والقصاصين معاً، لذلك نجده يعيش حالة تعبيرية مفعمة بالإحساس، تفوح منها لحظات الصدق الوصفي والتفاعلي والحالة الاندماجية في الحدث، لدرجة أن الإنسان يري نفسه في الفن القصصي أو الروائي الذي يقرأه من خلال أسطر جبرا ومفرداته، ما يزيد تلك الحالة ميزة إيجابية في أن جبرا يقتدر علي تغيير العادي والمألوف في البيئة والحياة بشكل عام إلي مادة فنية غزيرة تتجمل بالأفكار المفعمة بالثقافة  والتفاعل مع الحياة، لذا نجد موهبة جبرا قد تساعد علي إثارة  ما يسمي بالواقعي والمتخيل في إبداعاته، وكأن العلاقة بين (الواقعي والمتخيل) علاقة تكاملية جدلية بنائية، حيث تتجدد الروعة وتستمد نمائها من ذاتها حتي لا تنقضي.

ومثل ذلك يخلق حالة من الإغراء الإيجابي لدي كل من الدارسين والباحثين والمتمتعين بفنون "جبرا" أن يبحثوا عنه بين أعماله وإبداعاته وشخوصه التي ينميها ويجعلها تحكي كل ما يريد أن يحيه، فنري شخوصه وهم يفعلون ويعتمرون الروايات والقصص التي نماها جبرا بذوقه وفكر هو يدل علي ذلك عبق ثقافته المتجددة، من أجل معرفة الأحداث ومتابعة المشاهد واللقطات التي تعجبها رواياته وقصصه، ويجعل هناك أحياناً حالة من المشابهة التطابقية بين شخوصه وذاته، لأن المرء يستطيع أن يخرج ملامح وصفات جبرا الخاصة من خلال نصه المشخص.

وكل ذلك يرينا أن "جبرا" يمتلك موهبة عميقة بالغة الجذور، فهو من الذين امتلكوا القص وعشق ما له علاقة بالفن، فعشق الرسم والشعر والموسيقي، وعشق الإثارة، والرقص والطبيعة وكل ما له صلة بالجمال..  كان "جبرا إبراهيم جبرا" قارئاً كبيراً، ومحباً للقراءة إلي درجة الهذيان ، ولا بد أن يتشكل من خلال هذه القراءة ناقد كبير.

وُلد "جبرا إبراهيم جبرا مسعود" في بيت لحم يوم 28-8-1920، والتحق بمدرسة طائفة السريان خلال المرحلة الابتدائية، ثم بمدرسة بيت لحم الوطنية، والمدرسة الرشيدية في القدس التي أتاحت له التعرف على الأستاذة الكبار، أمثال إبراهيم طوقان، واسحق موسى الحسيني، وأبي سلمى (عبد الكريم الكرمي)، ومحمد خورشيد (العدناني)، ثم التحق بالكلية العربية في القدس. وخلال هذه الفترة تمكن من اللغتين العربية والإنجليزية بشكل ممتاز، إضافة إلى لغة السريان التي هي طائفة أسرته.

نشا " جبرا" في بيت لحم، ودرس في مدرسة السريان الكاثوليك، فألم بالإنجليزية والسريانية، إضافة إلي إتقانه العربية ؛ مما شكل عنده أداة بارزة من أدوات النقد، وفي كلية العربية في القدس، درس: الأدب، والتربية، وكان ميالاً إلي الكتابة العربية أثناء دراسته.   سافر "جبرا" الى مصر ومن ثم إلى بريطانيا حيث التحق بجامعة كمبردج، وحصل منها على الماجستير في النقد الأدبي عام 1948. وفي إنجلترا درس الأدب الإنجليزي، فظهرت ميوله إلي الاهتمام بالنقد، فكان النقد في تلك الحقبة يعني نقد الأدب لا مجرد تاريخ الأدب، وفهم " جبرا" التاريخ باعتباره عنصراً مساعداً في عملية الإبانة عن مخفي الأمور، عن طريق وضعه في سياق معين.

درس "جبرا" أساليب النقد الأدبي الحديث في أشهر المدارس النقدية في إنجلترا وأمريكا "التي تصر علي النص مجرداً من أي اعتبار آخر" . وقد درس في عام 1975م التحولات الاجتماعية العربية من خلال بعض الشعراء المعاصرين (محمد مهدي الجواهري، ويوسف الخال، وبدر شاكر السياب، وأودونيس (علي أحمد سعيد)، وتوفيق صائغ، ونزار قباني).

بعد دراسته في كمبريدج وهارفارد توجه إلى العراق لتدريس الأدب الإنجليزي. وهناك تعرف على الآنسة لميعة برقي العسكري التي شكلت انعطافاً في مسار حياته. فقد تزوجا وانجبا ولدين، هما سدير وياسر، وحمل جبرا الجنسية العراقية التي ما كان لها أن تفصله عن جنسيته الفلسطينية التي حافظ على لهجتها،  حتى آخر لحظة في حياته.

وكان لجبرا شأن كبير في الحياة الثقافية العراقية، حيث أنشأ مع الفنان الكبير جواد سليم “جماعة بغداد للفن الحديث” عام 1951. وكتب مقدمة المجموعة المبكرة "أغاني المدينة الميتة" للشاعر "بلند الحيدري". وأثرت صداقته في بدر شاكر السياب الذي أطلع من جبرا على فصول من كتاب "الغصن الذهبي" للسير جيمس فريزر، وهو مما أسهم في اقتناع السياب بالمدرسة التموزية في الشعر. وإلى ذلك كان لنتاج جبرا نفسه من رواية وقصة قصيرة ورسوم ونقد وترجمة أثر كبير في الأجيال العربية.

أما فيما يتعلق بالتيارات النقدية التي تأثر بها  جبرا في رؤيته النقدية، فتتمثل في: المدرسة المنهجية الشكلانية، ومدرسة النقد الجديد في أوربا . ومن المعروف أن " جبرا" لم يتأثر بالمدارس الماركسية ومنطلقاتها وتوجهاتها السائدة في إنجلترا – مثلاً – ولكن ميوله الخاصة كانت نحو المدارس التي لا تحفل إلا بالنص.

وعن تكوين شخصيته: تركت فاجعة سقوط فلسطين، وتعرض الشعب الفلسطيني لأكبر عملية قرصنة في التاريخ الإنساني أثراً كبيراً في تكوين شخصية " جبرا" الأديب والناقد، فقد انصبت اهتمامه بعد النكبة علي الأدب العربي، واتجه إلي الكتابة العربية؛ لإبراز الهوية  الحضارية لهذه الأمة، مؤمناً بأن الانطلاق إلي العالمية والمشروع الأدبي الإنساني يأتي من خلال الانطلاق في البيئة الشعبية التي تعكس– بكل صدق – هوية هذا الشعب الذي هو واحد منه، وقد حاول من خلال العمل الروائي – بكل شخوصه – أن يعكس تجربته الذاتية.

قال " جبرا" عن هذه المرحلة ": وكان مجيئ إلي بغداد عام 1948م هو البداية لمرحلة فاصلة في حياتي الفكرية، إذ جعلت أحول همي من جديد نحو الكتابة العربية حول مواضيع الإبداع العربي، مزاوجاً كما كنت من قبل أزاوج بين الكتابة كعملية خلق والكتابة كعملية نقد جاعلاً العمليتين تصب كلتاهما في الأخرى كأمر حتمي.

تعرف "جبرا" في بداية نشاطه الأدبي علي النقد الجديد – كما راجت هذه التسمية –الذي يقوم أساساً علي فصل النص عن صاحبه، واكتناه النص للبحث في طياته بهدف استخراج ما فيه . وقد درس " جبرا" هذا المنهج من خلال أعمال: آي. إيه ريتشارد، وأرشي بولد ماكليش . واستفاد " جبرا" من هذا المنهج في بلورة مفاهيمه التي برزت في مقالاته النقدية وحواراته المتتابعة، وأشار إليه حين عده مدا نابعا من ينابيع نقدية، استقيت من كتب أفلاطون وأرسطو. وبين أنه ربما نبع من القضايا الإنسانية الراهنة، وهب بحد ذاتها تعبير المرء عن ذات في ممارسته حقه كإنسان.

لقد عاش "جبرا" زمناً وعمرا حافلاً بالعطاء الكثير، كتب في مجالات متعددة، إذ عرفنا له الفن الروائي، فكتب " السفينة" والبحث عن وليد مسعود، وقصة حب محبوسة مع الفنان المبدع "عبد الرحمن منيف"، وغيرها، وكتب أيضا في مجالات النقد مثل الحرية والطوفان وكذلك الفن في العراق اليوم باللغة الإنجليزية والرحلة الثامنة والفن العراقي المعاصر وغير ذلك الكثير وترجم أعمالا أدبية ممتعة منها ثمانية أعمال لشكسبير، كمسرحية عطيل، وهاملت، وماكبث، والملك لير، وعطيل، والعاصفة، والسونيتات لشكسبير، وبرج بابل لأندريه مارو، والأمير السعيد لأوسكار وايلد، والصخب والعنف لوليام فوكنر، وما قبل الفلسفة لهنري فرانكفورت.. وهلم جرا ؛ ولجبرا دراسات هي: ترويض النمرة، والحرية والطوفان، والفن والحلم والفعل، وتأملات في بنيان مرمري، والنار والجوهر، والأسطورة والرمز، فيما جمعت أعماله النقدية في كتاب بعنوان "اقنعة الحقيقة.. أقنعة الخيال". ومن أجل ذلك نال جائزة صدام حسين للرواية العربية، ونال أيضا جائزة سلطان العويس للنقد الأدبي عام 1990، ووسام القدس تقديرا لإنجازه الأدبي.

"جبرا" قامة ثقافية رفيعة وعالية كما تبين في تقويم المثقفين الحقيقيين له، وهذه ميزة اكتسبها من خلال تقديم نتاج إبداعي ثر في حقول إبداعية مختلفة، وليس بمعونة واجهات سياسية وإعلامية بارعة في صناعة النجوم الخلّب. هو الذي ترك إرثاً واسعاً يعدّ اليوم جزءاً من أهم منجزات الثقافة العربية المعاصرة.

وعلى الرغم من أن عالم "جبرا"، متعدد الوجوه، يقرأ في مراجعه الثقافية، فإن تلك المراجع تستمد دلالتها من مفهوم أساسي هو: التجربة المعيشة، التي تحكي فقدان الوطن وتجربة اللاجئ. وقد تسرب هذان البعدان عميقاً في شخصية جبرا وإنتاجه الفكري، وقسما الزمن الى قسمين متلازمين: القدس وما قبل اللجوء، إذ جبرا في مدينته الأثيرة يعلم ويرسم وينشئ النوادي الفنية، وحصار القدس وما بعد اللجوء. والقسم الأول يحرض الذاكرة ويرسل بها بعيداً إلى أيام الطفولة والصبا، التي تحتل فيها مدينة "بيت لحم" موقعاً واسعاً، رسمه جبرا بحنين دافئ في "البئر الأولى"، أما القسم الثاني فينتشر في "رواية الأمل"، التي تحلم بفلسطيني نظيف كريم الخلق يعشق المعرفة، يليق بالمهمة الموكلة اليه، التي تعني استعادة ما فقده والعودة من جديد إلى الوطن.

من كل سبق يتضح لنا أن "جبر إبراهيم جبرا" كان متعدد المواهب والقدرات، فقد كتب الرواية والقصة القصيرة والسيرة، والشعر، والنقد الأدبي والفني، وكذلك المقالة، كما مارس الرسم، وعمل في إحياء تراث وفن بغداد، وقد ترجم عددا من الكتب الثمينة، فكان نعم الإنسان المثقف المبدع والأكاديمي الناجح، والفنان المتعدد المواهب في النماء والعطاء، فقد لقي احتراماً وتقديراً من المجتمع العراقي بأكمله دون النظر إلي الانتماءات السياسية، إلي أن توفاه الله في شهر كانون الأول عام 1994 ودفن في بغداد.

رحل "جبرا" مع أشياء كثيرة رحلت، فلا القدس التي عاش فيها بقيت كما كانت، ولا بغداد وقاها الزمن من لعنات مقبلة.. وفي نهاية هذا المقال أقول مع بعض القائلين: إن كان لهذا الفلسطيني، المصاغ من الألفة والنجابة، صفة تليق به، فهي: المتعدد، لا بمعنى عدم اليقين، كما يقال، بل بمعنى: فائض الموهبة، الذي أخذ به إلى أجناس كتابية متعددة، وإلى ألوان من الفنون... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

1- ماجد السامرائي: جبرا إبراهيم جبرا رجل فكر وإبداع .. مقال منشور في مجلة آداب، عدد 3-4، سنة 43، عام 1995.

2- خالد علي مصطفى: "جبرا ابراهيم جبرا شاعراً" .. مقال منشور في مجلة آداب، عدد 3-4، سنة 43، عام 1995.

3- د. محمد ماجد مجلي الدخيل: الرؤية النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، مجلة جامعة الملك عبدالعزيز: الآداب والعلوم الانسانية، م 23، ص ص89-103-2016.

4- جبرا إبراهيم جبرا… الروائي الموسوعي | القدس العربي.. مقال.

5- «جبرا إبراهيم جبرا»: الإنسان الكامل والفنان الكامل – إضاءات.

6- جبرا إبراهيم جبرا.. أهم من ترجم أعمال شكسبير | الوفد.

7- صورة القدس في روايات جبرا ابراهيم جبرا | مجلة جامعة الأزهر – غزة.

 

 

عن عمر الخيام ورباعياته

التفاصيل
كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني

يسري عبد الغنيقامت شهرة الخيام على الرباعيات وهي تلك المقطوعات الشعرية المقسمة إلى أربعة أبيات ضمنها فلسفته في الوجود والملاحظ في الرباعيات هو اتفاق البيت الأول والثاني والرابع في الروي واستقلال البيت الثالث برويه وهو مايشبه كثيرا الدوبيت الرباعي الفارسي الأصل.

ولئن اختلف نقاد الأدب ودارسو حياة الخيام في صحة نسبة الرباعيات إليه أو بعضها، فمن قائل أنها ليست لعمر الخيام الرياضي، وإنما لشاعر آخر بهذا الاسم، إلى ناقد آخر يزعم أن بعضها تصح نسبتها إليه، وبعضها الآخر مدسوس عليه خصوصا ما تعلق بالإشارة إلى الغيب والقدر والإيمان والبعث، وقد تعمد كثيرون تشويه صورة الخيام غيرة وحسدا فنظموا شعرا ونسبوه إليه حتى تثور عليه العامة وينتهي أمره إلى الحاكم الذي سيأمر بقتله رميا بالزندقة، وفي أدبنا نظير لذلك، فالمعري دس عليه الكثيرون شعرا لم يقله يثور فيه على الأديان بل يسفهها وينتقد الرسل ويشكك في عالم الغيب غير أن المعري برئ من ذلك ومن قائل أن كثيرا من محبي الخيام والمتحمسين له كلما وجدوا شعرا على شاكلة الرباعيات وخفي عليهم قائله نسبوه إليه عن حسن نية.

ولاشك أن استقصاء الأمر صعب وتتبع مسارب التاريخ المظلمة في ظل غياب الوثائق التاريخية التي تنير حلكاته يجعل من الأمر شبه مستحيل !

ولقد رأى نقاد الأدب عندنا وشعراؤنا المحدثون الرأي الأول أي صحة نسبة بعض الرباعيات إلى الخيام وإنكار البعض الآخر وتحمسوا لها تحمسا منقطع النظير، والحق أن الرباعيات تحفة فنية وكنز أدبي حقيق بالخلود وحقيق بالعالمية لأن مضمونها إنساني، على الرغم من تأخر اكتشاف ذلك ولسكوت فيتزجرالد الإنجليزي دالة على الخيام فهو الذي اكتشفها ودرسها وتحمس لها وترجمها إلى الانجليزية فأحدثت دويا كبيرا تجاوز إنجلترا إلى أروبا و أمريكا ، بل أسس فيتزجرالد ناديا في لندن سماه " نادي الخيام " ضم كل محبي الخيام وشعره ، ولم يكتف بذلك بل سافر إلى مسقط رأس الخيام وزار قبره و أحضر معه زهرة من الزهور الجافة من حول القبر وغرسها في ناديه بلندن حتى تنفحهم بأريج الشاعر و أريج رباعياته ، ودعك من الأسطورة التي روج لها الكثيرون من محبي الخيام والتي تزعم أن الخيام تنبأ في حياته بنمو نوع معين من الزهور حول قبره ، وهذا اللون من القصص نعرف المغزى منه، فالشخصية التاريخية يخلق محبوها أساطير حولها حتى يستلوا مشاعر الإعجاب من الناس ويخلقوا هالة من القداسة لأن النفس المحبة تنزع إلى أن تشاركها الأنفس مشاعرها ، غير أن الناقد الحصيف لا يفوته ذلك ،وباكتشاف فيتزجرالد للخيام وترجمته لرباعياته تنبه أدباؤنا ونقادنا إلى قيمة الرباعيات ومضمونها الانساني وغناها الشعوري وقيمها الفنية والجمالية وتحمسوا لنقلها إلى لغة الضاد ومنهم من عربها عن الإنجليزية كمحمد السباعي ومنهم من عربها عن الفارسية كالشاعر المصري أحمد رامي الذي سافر إلى باريس لدراسة اللغة الفارسية عامين منقبا وباحثا في الأدب الفارسي ورباعيات الخيام تحديدا ،وعقب عودته توظف أمينا بدار الكتب المصرية وكان قد تهيأ له زاد أدبي فأسقط كثيرا من الرباعيات وعرب ما وثق أنه تصح نسبته إلى الخيام وقد شاعت هذه الترجمة بعد أن غنت أم كلثوم بعضا منها .

وربما كان في ترجمة رامي بعض التصرف غير أنه سعى جهده حتى لا يتقول على الخيام ما لم يقله أوأن يخرج عن روح الرباعيات ساعيا جهده في ذات الوقت أن تكون الرباعيات في العربية تحفة بيانية و إنسانية وغير السباعي ورامي من الذين ترجموا الرباعيات الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي و أحمد الصافي النجفي وقد عرباها عن الفارسية، ووديع البستاني و الشاعر البحريني إبراهيم العريض وقد عرباها عن الإنجليزية ، وليست هذه هي كل الترجمات إنما المشهور منها وستبقى بسحرها ومضمونها الإنساني وحيرتها الوجودية مصدر إغراء للأدباء العرب على مر الأجيال وكر الدهور بنقلها كرة أخرى إلى العربية إمعانا في الدقة والقرب من روحها وروح مبتكرها .

فرباعيات الخيام إذا ترنيمة حزينة تنعى إلينا زوال الانسان وهيمنة الزمن وقهره للموجودات وانقلاب لحظات المتعة شقوة وانقلاب أيام الانسان مجرد ذكرى شأن الجذوة تشع نارا ونورا ثم تخبو رمادا و الانسان لا حول له و لا قوة أمام هذا القهر الكوني المتجلي في الموت الذي يطال بسيفه الانسان ثمرة الوجود ومكمن العبقرية وسر الحياة ومستودع المشاعر فيغدو ذلك الكائن رهين اللحد والدود والظلام الأبدي كأن لم يكن بالأمس ذلك الشاعر أو العالم أو الحاكم أو الفقيه أو الثري الذي ملأ الأسماع و الأبصار ، وتغدو لحظات صفوه و أنسه مجرد ذكرى ، فما الذي ينقذ الإنسان من هذا المأزق الوجودي ؟ لا شيء غير طلب النشوة التي تهيؤها الخمرة والبهجة التي ينشرها مجلس أنس وذلك عزاؤه وذريعته إلى تناسي فجيعة الموت مادام ليس في الإمكان تفادي قبضته .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني      

 

الضغوطات.. صِنَاعَة ذَاتِيَّةٌ!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. نيرمين ماجد البورنو

نيرمين ماجد البورنوتعتبر الضغوطات اليومية من الأمور التي تصاحب الكثير من الناس لكن بدرجات وأشكال والوان مختلفة، فقد تجتمع كل جيوش الأفكار والظروف القاسية جملة واحدة بلا مقدمات فتجعل الكثير يحس بأنه حبيس سجين لجملة من الأفكار المنهكة وتشعره بأنه يصارع ويكابد الزمن وكأنه آلة تعمل بمقاييس وحسابات وأرقام فقط ليعيش وبلا جدوي، لقد أعجبتني قاعدة نفسية تقول "ما تمارسه يوميا ستتقنه بكفاءة، فعندما تمارس القلق ستقلق لأتفه الأمور، وعندما تمارس الغضب ستغضب بدون سبب، لذا مارس الطمأنينة لتتقن السكينة، ومارس التفاؤل والأمل لتتقن راحة البال ومارس الثقة وحسن الظن بالله في حياتك تنعم السعادة والأمان والخير" وهي ربما ما دفعني لكتابة هذا المقال، فالأفكار أذن هي بمثابة الجيوش تبني وتهدم تسند وتكسر تزهر وتسحق تقبع في أعماق أرواحنا ،قادرة بلحظة على أن تملك  احساسنا اما بالنصر أو الهزيمة وأنت من يحدد المسار.

لكل انسان فلسفة معينة في مواجهة ضغوطات الحياة لكني كثيرا ما اتساءل لماذا بعض البشر يصر على قتل روحه وهو حي بمصاحبة المرضي النفسين من الناس والمتلونين، ولماذا تكون رده فعله بالمواقف تجاههم باردة وكأنه يصبح أعمي البصر والبصيرة فيمحي ويغفر ويصبر على الأذية وعلى حواراتهم السفسطائية التي تزعزع وتهدم، فهل الحب يغفر الأذى للدرجة التي تسحق الروح، ولماذا يتمسك ويهتم بأناس همهم الوحيد الصعود على الأكتاف متثعلبين متلونين حسب مزاجهم لا يعرفهم ولا يتعرفون عليه الا في وقت المصائب والأزمات والمصالح والديون، يتمسك بهم ويتابعهم ويسحق وينهش روحه فينطوي وينعزل بذكرياتهم وتصرفاتهم ويتبع ويتحسس أخبارهم التي تشعره بالضيق وتعكر صفوه ويفقد احساس المتعة في الحياة ويضخم أحاسيسه السلبية ويفقد الكلام ويلجأ بالنهاية الى المهدئات والأطباء النفسيين لكي يتجاوز على مضض الحياة المرهقة، ولماذا لا يتعلم بأن الرحيل عن مثل هؤلاء حياة وفي ابتعادهم سعادة وفي مسح صورهم سكينة وفي نسيانهم ومقاطعتهم راحة نفسية كبيرة، وأنه يجب أن يبني حوله سورا حتى لو كان افتراضيا يدخل فيه الناس الأصحاء الأسوياء لكي ينعم بحياة سوية، ويجب أن يلغي ويعي ويعتزل كل ما يؤذيه من الانصاف في الحياة سواء أكان نصف صديق أو نصف حب أو نصف اهتمام.

أنت لست نصفا ولست بعاجز لكي ترتضي هكذا نوعية من البشر، أنت انسان من لحم ودم وشعور واحساس وروح وجدت كي تعيش الحياة، فيجب أن تعي وتعلم وتتعلم أن الشخص الذي يؤلمك لا يستحقك، فلا تجبر نفسك على الاعتراف بذلك واحترم نفسك وكيانك وتجاوز ضعفك وأرسم حدودك ولا تخف من وضع الحدود وقل "لا " للمواقف وللأشخاص وللأشياء التي لا تحبها أو التي تسبب لك الألم والنزيف والتي تؤذيك وتقتلك بصمت، حتى لو اتهمت بالغرور فليكن ذلك فهي تهمة لا عار فيها لأنك ستدرك مع مرور الوقت أنك هولت الأمر ونسيت نفسك، لحظتها فقط ستدرك وستحزن على عمرك الى ضاع وأحاسيسك التي أكلت وشيبت شعرك حزنا وألما ، وان حزنك لم يكن الا بسبب تحليلك العميق للأشياء التي مرت عابرة في حياتك وأنها لم تكن تتطلب منك سوى أن تتخطاها وتشطبها من مخيلتك.

الحياة قطار محطاته سنوات العمر نحياها مع أناس بقوا وأناس اختفوا وتلاشوا وأناس غردوا وخانوا وأناس جحدوا وأناس بقوا صامتين على ناصية الحياة وأناس صانوا الود والحب والعشرة، وفي كل محطة رحلة قصيرة نحياها بحلوها بمرها ونتلاقى بوجوه عابرة، وكل يوم يمر ونحن على قيد الحياة نتعلم دروس وعبر ونتلقى صفعات لم نكن نتوقعها، ليس سهلًا على الإطلاق أن تتعرض لخيبة أمل لكن الحياة مدرسة تعلمنا من فصولها المؤلمة الصفعات تلو الصفعات، علمتنا أكثر مما تعلمنا من الكتب في المدارس ولكن لا يعرف تلك الدروس والعبر الا من خاض وغاص بين الصفحات المطوية وحارب في معارك الحياة ونبش في ثناياها وتعمق في معاني وسر جمالها، عبارة ترددت على أسماعنا كثيرا وهي" الحياة مدرسة " لكننا لا نسمعها الا ممن خاضوا وتعاركوا مع الحياة وصدموا بخسارات مؤلمة وذاقوا مرارة الهجران والجحود وتعلموا الدروس والعبر الكثيرة والكبيرة فنضجوا وتصدوا وعاشوا أحرارا، فلنتعلم اذن ممن صفعتهم الحياة التجاهل وان نراجع حسابتنا ونصالح الحياة ونحب من يحبنا ويقدرنا، فالحياة تعلمنا الحب والتجارب تعلمنا من نحب والمواقف تعلما من يحبنا، فلا تخسر نفسك وأنت تحاول الحفاظ على أشخاص لا يهتمون بفقدانك، فبقدر الصفعات نتعلم ونزداد خبرة وصلابة ونتعلم كيف نملك القوة الحقيقة التي تعانق الروح وتتربع في القلب فهي اختيار وليس اجبار، لكي نعيش بسلام وأمان، وأن لا ننخدع بجمال الوجوه وزينة الملابس وعطرها الفواح لان للأسف كثير من الناس تبدل الأقنعة حسب المصلحة كما يبدلون ثيابهم فلا مبادئ تحكمهم، ولا قوانين الأخلاق تسيِّرهم ،وابحث فقط عن جمال الروح لأن بقربها تداوي وتلتئم الجروح، الأيام دول بين الناس، شراً فعلت أو خيراً، سترُده الحياة لك يوماً ما، فلا بد اذن من السير قدما والنجاح في مسيرة الحياة ولنجعلها مزدهرة عامرة بأناس محبين متفائلين وكفانا غباءا واستهتارا، فلا بد أن نتعلم ونرتقي باختياراتنا لنكمل بذكاء المسار والمشوار، فالحياة سلاسل وورود وأشواك ومحن وثقل يحنيك بلا رحمة، من منا لم تصفعه الحياة صفعات، ومن منا لم تحط عليه مرات ومرات، فحياتكم متوقفة على اختياركم، فلا تعطي الأشياء ولا الأشخاص أكبر من حجمهم وتوقف عن كونك مخذولا ضعيفا فالأقوياء فقط هم من يخوضون معارك الحياة، وينبغي التوقف عن التمسك بوجود هؤلاء في حياتك وحولك لأنهم مصدر يأسك فأهم علاج لك قبول نفسك وحب الحياة والتفاؤل والابتعاد عن الأفراد الذين يرون الأشياء بمنظور سلبي ومتشائم ويمدوك بالتالي بالطاقة السلبية، فالحياة اذن أكبر من أن تختصر في كلمات ووريقات ومقالات وأشعار وخواطر وأقوال وحكم، لكن هل سألت نفسك يوما ماذا تعلمت من الطعنات والخيبات وكيف تصرفت مع ضغوط الحياة ....!

 

د. نيرمين ماجد البورنو

 

 

التراث العلمي العربي المطمور!!

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صادق السامرائي

صادق السامرائيالتراث: ما خلفه السلف من آثار علمية وفنية وأدبية مادية ومعنوية، كالكتب والآثار والآراء والأنماط، والعادات الحضارية المنتقلة جيلا بعد جيل.

لو تصفحنا الإعلام بأنواعه المرئي والمكتوب والمسموع، فلن نجد شيئا عن التراث  العلمي العربي، ومن النادر أن تجد مقالة مكتوبة بهذا الخصوص، وتتساءل لماذا؟!!

ما نسميه تراثا إختصرناه، وعلى مدى أكثر من قرن، بما يتصل بالكرسي، وألفنا المئات من الكتب عن (تراث الكراسي)، وهو عبارة عن صراعات متوحشة من أجل السلطة والمال، أعطيت مسميات وعناوين من أجل المتاجرة بها والإستثمار فيها، فصارت مذهبية وطائفية وفئوية وعائلية وغيرها، وفي جوهرها كرسي وقوة وسلطة ومال، ولا علاقة لها بما عشناه من أوهام وأضاليل وإفتراءات .

أين التراث العلمي العربي الذي تعلمت منه الدنيا؟!!

لماذا لا يجتهد العرب بإحياء مخطوطات أجدادهم العلماء ويتفاخرون بإنجازاتهم، بدلا من التركيزعلى ما جرى من صراعات حول الكراسي؟!!

فلماذا لا نجد كتابات لمفكرينا عن التراث العلمي العربي، فما يسود في كتاباتهم  محاولات لتفسير الصراعات الدائرة حول الكراسي عبر مراحل التأريخ الدامي التفاعلات.

ولماذا تنغمس الأمة بالمشين وتتجاهل الزاهي الثمين؟!!

التركيز على التراث العلمي العربي يخرجنا من الظلمات، ويطلقنا في فضاءات النور والبهجة والسعادة الإنسانية.

فهل أنها هجمة شرسة على الأمة بإسم التراث والدين، ومحاولة لخلع الأجيال من أصلها، وتحويلها إلى قشور تذروها رياح العصور؟!!

إن أبناء الأمة المنوَّرين مطالبون بإظهار تراث الأمة العلمي، بدلا من التيهان في أفاعيل الكراسي وإختصار مسيرتها بها، وما هي إلا صراعات في قصور التسلط عليها وكنز مالها والتمتع بثرواتها وخيراتها، وحرمان أبنائها من أبسط الحقوق، ولذلك أبَتْ الكراسي أن تقيم حكما دستوريا يراعي حقوق المواطنين، لأنه سيحدد صلاحيات السلطان ويخرجه من دائرة المطلق، التي تعني الحكم بأمر الله.

ولهذا أدعو إلى حملة لإحياء التراث العلمي العربي لكي نعاصر ونكون!!

إن تراثنا العلمي جوهر ذات الأمة، ونبراس وجودها الخالد، فهل من همّة غيورة وعزيمة واعية؟!!

 

د. صادق السامرائي

 

 

مسارات الخطاب.. طُرق مفتوحة

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سامي عبد العال

سامي عبد العالبأية صورةٍ يطرح الخطابُ رسالته حتى وإن كانت غير معلنة؟ كيف يستثمر موارد الثقافة لمراوغة متلقيه؟ وهل ثمة جوانب أخرى في الخطاب غير معروفةٍ؟... تلك اسئلة تخص المتلقي وجهاً لوجه. بالقطع لن أطرح وصفات سحرية إنما سأبرز بعض الأفكار. فالمسار يرتبط باستراتيجية الفكر والتداول وسلطة اللغة. وخاصةً أن حالة المجتمع تحدد إلى درجة بعيدةٍ لماذا تنتشر خطابات دون غيرها. فخطابات الهوس الجمعي (مذاهب- فضائح- شعارات- طوائف- مواكب سياسية زائفة- أيديولوجيات دينية- أخبار كاذبة fake news) تجارةٌ لا تبور. كما أنَّ التأويل المتبادل (بين الأفراد) يبلِّل المواضع الزلقة التي تسربها نحو أهداف  ومآرب مبتغاة. والمسارات خطوط وآثار يترقبها صانع الخطاب لتأكيد المعاني وبث رسائله. وبالطبع سيتذرع بجميع حيل الثقافة وألاعيبها في صقل مهاراته.

أكبر حادثة في مسار أي خطاب هي عملية التلقي. نقول حادثة لأنَّها تبرهن: أن مضامين الخطاب قد تكمُن في تلقيه. هي تتيح له وجوداً ناشطاً في الثقافة مع انجاز الصياغة. فإذا كانت الأخيرةُ مناسبةً، فلا تتحدد اعتباطاً لكن بعد تلك العملية. وإن كانت ذات معنى فسُيعْرف الأمر أيضاً من تأثيرها.

هناك فكرة أنَّ الخطاب الذي لا يُقرأ غير موجود. ويبدو السؤال تلقائياً: ما فائدته إن لم يكن كذلك، أهو بلغة مجهولةٍ أم أنه على شفير النهاية؟! يقال أيضاً بصدد النص إذا ما لم يُقرأ يعتبر كأنَّه لم يكُّن. وتلك الفكرة مأخوذة من نظريات النقد الأدبي. على أساس أنّ القراءات المتعددة، بل المتنازعة والمتنافسة، تعطي الخطاب تأثيره. وكلما كانت السياقات متنوعة تظهر الفوارق بينها. فالخطاب أشبه ببلُّورة دوّارة تحوى جميع الانحناءات والالتواءات والمرايا العاكسة للأضواء. والقارئ حينما يحاول تثبيت البلورة لا يستطيع وقوفاً على لون بعينه. ولا يمكنه حتى التأكُّد من ألوانها. كما أنَّه غير بات الرأي في تداخل الانحناءات. والأكثر بروزاً أنَّ الاختلافات تزداد مع انعكاس الرؤى وزوايا النظر.

يترتب على الفكرة أنَّ الخطاب يمر بعدة مسارات:

1- مسار الصياغة المراوغة: يلجأ الخطاب إلى أقنعةِ التعبيرات الدالة بالنسبة لمتلقيه. إذ تمثل صيغاً تضمن المرور ناقلةً معها حمولات أيديولوجية أخرى. في المعتاد لا يوجد خطاب على تنوع مجالاته إلاَّ ويأخذ اللغة بهذا المفهوم. لهذا يلتقيكَ الكلام كوجه، كسمةٍ معبرة عن المحتوى. والأخير لن يطرح نفسه عفواً. عليك أنْ تجمع أو تطرح أو تضرب المعاني مع بعضها البعض. فعندما يراهن الخطاب السياسي على الوطن والمواطنين بصيغة "أيها الأخوة المواطنون...." كما كان يقال من زعماء العرب، فإنّه يقابل متلقيه بهذا الوجه البرَّاق bright face.

فإذا تحدث الخطاب السابق عن الحقوق والواجبات، كما سنعرف لاحقاً بصدد رسائله، كانت عبارات" ينبغي" محددة للدلالة انحيازاً لقائلها. ثم سرعان ما تتواتر الأهداف في الطَرْقِ على المصالح الساخنة وفقاً لطبيعة المرحلة السياسية. هنا يتغلغل الخطاب في أفق التوقعات العامة، كأنه يباشر عمله فيما وراء المعنى الفوري. إنه يطرح صيغة وراء أخرى بقصد مكثف لتخدير يقظة المتلقي. فإذا بكلامه (أي الخطاب) يتجاوز الواقع نحو كسب مزيد من الثقة.

هكذا تشتغل الصيغ الخطابية على كسب الثقة تجاه الآخرين في المقام الأول. بحيث تفلت من مصفاة النقد ومن غربلة القراءة الفاحصة. إن الصيغ البلاغية مع التدقيق نجدها مدفوعة بطابع التمرير الخفي للمعنى. لهذا يمثل الاستهلال في الخطاب السياسي والديني أمراً ضرورياً. فهو ليس استهلالاً عادياً، لكنه "استقبال واستدبار" في الوقت نفسه. استقبال لوعي المتلقي وملاحقته بالعبارات الخاطفة حتى يتم إرهاق الوعي. تماماً كالملاكم الذي يعاجِل خصمه بالضربات المباشرة. ويفعل ذلك لإحراز فوز ساحق بالضربة القاضية من الجولة الأولى. ومن لا ينتبه بصدد الخطاب السياسي إلى هذا الاستقبال ربما يعاني دواراً نتيجة أثر الصيغ في خطف رؤيته. أما الاستدبار، فلأنَّ الخطاب يريد أن ينهي وعياً سابقاً بعدم أهمية ما سيقول. يحاول الخطاب في تلك اللحظة إعادة برمجة عقول المتلقين وتسريب قناعاته الوظيفية بأنه مختلف في التوجُّه والنتائج.

هكذا من أول وهلة يطرح الخطاب الديني بعد الحمد لله والصلاة على رسوله الكريم أنَّ: "شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". هذا الاستهلال الصياغي هو عتبة الخطاب القُصوى. العتبة التي تقودنا إلى صحن ودهاليز التعبيرات التي تطوي السماء والأرض. وكثيراً ما تردد ألسنة الخطباء أنَّ هذا النص حديث شريف. أقرب معنى إليه ما جاء في صحيح البخاري باب الاقتداء بسنن الرسول: "حدثنا آدم بن أبي إياس: حدثنا شُعبة: أخبرنا عمرو بن مُرة، سمعت مُرة الهمداني يقول: قال عَبْدُ اللِه: إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين"( صحيح البخاري، موسوعة الحديث الشريف، الكتب الستة، الجزء الثاني، إشراف ومراجعة صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض السعودية 1419 هـ، ص606).

وطالما أنَّه حديث – ولسنا بجدال ما إذا كان صيحاً أم لا- فإنَّ استعماله بذات الاستشهاد دون مقدمات استعمال مطلق الحدود، مطلق المعنى ولا يقف عند أية محاذير. إنه يطلب بحسب توظيفه الخطابي ألاَّ يتحدث المتلقي، ألاَّ يعترض على شيء!! فهو قاطع رغم عدم توضيح الخطاب: أي الأمور المحدثة كانت شراً وأيها ستكون خيراً؟ وهو كذلك قول نهائي قاطع الدلالة برغم التدرج من الأشياء المحدثة إلى البدعة تحديداً.

واللافت أنه يُطرّح بقصد البدء المفتوح. كأن المخاطِب يقول لا تتحدثوا عن أي شيء جديد. ولا عن مناسبته، ولاعن حقيقته من قريب أو بعيد. لأنَّ شرَّ الأمور محدثاتها. ويوازي بلا تروٍ بين (المحدَث بعامة والشر) من الأمور موازاة تفصيلية. وعليه بات الشيءُ المألوف فقط هي الخير. أي شؤون الأمس أخيَّر من اليوم وأول أمس أكثر خيريَّة من الأمس... وهكذا رجوعاً إلى الوراء حتى العصور الأولى. بالتالي ممكن للقول السابق أنْ يبرر أي شيء قائم مها يكن. وربما ينفي بل يكفِّر أيَ شيء مغاير لأنَّه محدث.

يجري القول في استهلال الخطاب على منوال التعبير الشائع خارج مجاله القرآني "ألا لعنة الله على الظالمين". لكن الظالمين في القرآن معروفون بمواقف معينةٍ قد نفهمها من الآيات الواردة بهذا الصدد. أما وصفهم الإنساني بمحل اللعنة الخطابية بلا تخصيص ففيه شك. لأنّه بالإمكان التلاعب باللعنة إذا كانت تقصد شخصاً مجهولاً. وقد تكون من قبيل العنف اللفظي بين الأفراد. إن صيغة "شر الأمور" سترمي إلى شيء قريبٍ من هذا ما لم تكن الكلمات ملاءمة لسياقها.

لذلك من المسائل الغامضة في صياغة الخطابات الدينية تلك العتبات اللغوية المُجهلَّة. فهي تقود بطبيعتها إلى المجهول. ويصبح الداخل عبرها معرّضاً لنفس المصير. لننظر بدقة ماذا تقول "عتبة البدعة". إنها تخيف المستمع من لحظة دخوله إلى ساحة سماعها: إياك أن تكون من أصحاب المحدثات: يجب عليك ألاَّ تقترب منها أو ترددها أو يأخذك هاجس بالسير وراءها. لكن ما هي... لا يعرف. ولم يخبره أحد عن طبيعتها على الأقل في ذات الخطاب!!

كما أنّ إطلاقها هكذا في سقف اللغة يجعل المستمع عاجزاً عن التركيز فيما سيأتي وستسرق انتباهه. ولربما يردد مادام الأمر من أوله هكذا عين الشر(أول القصيدة كفر كما يقال)، فكيف سيكون باب الخروج من الخطاب. ويبدو أنَّه لن يجد مخرجاً، فالاستدراج واضح إلى النهاية. فإذا كانت محدثات الأمور شراً، فآلية الخطاب الديني أن يعدد الأشياء جراً إلى المصير المرسوم. فها هي المحدَثة بين غمضة عين وانتباهتها تصبح بدعةً، والبدعة ضلالة والضلالة في النار!! والزمن كمرحلة بين البدعة والضلالة منعدم دون مراجعة ودون حكم ولا نقض ولا حتى دفاع. ثم تجرى الضلالة برقاً حاملة المحدثات إلى العذاب دون غفران.  كل هذا استهلال بلا شرح أنَّ البدعة تصبح كذلك إذا كانت في الدين وأصوله الاعتقادية، في ثوابت العقيدة وأصول الشرع كما جرى كلام الفقهاء. وحتى هذا المعنى فالقرآن حسمه من الجذور: " من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". أما محدثات الحياة من تطور معرفي وتقني وفكري وعمراني ومدني، فجميعها من البدع القريبة إلى الإبداع، ولا تجري مجرى الأولى.

إذن صياغة الخطاب تطرح قضايا ضمنية في غاية الخطورة. وعلى القارئ إثارة أسئلة في المناطق الرخوة من المعنى وحول أساليب استعمالها. فهذه المناطق في العادة تنمو خلالها طفيليات المصالح وجراثيم المذاهب. إن تقارب المعاني على سطح الخطاب يقتضي التنقيب في تباعده بمجمل أعماقه السحيقة. وهذا خيط مهم في مسار القراءة. لأنَّ موضوع الكلام، أي ترتيب وحداته وتتابع علاقاته ومناطقه الدلالية، سيعطينا فكرةً ما إذا كانت ثمة قفزات منطقية في الصياغة أم لا. إنَّ العقل المعبر(المدبر) وراء الكلام يلجأ إلى صيغ التجاور اللوني. كمن يريد أن يحيك ثوباً من رقائع متنوعة ومتنافرة. حينئذ هل هو محكوم بالأسلوب أم بالنموذج أم بالغاية العملية من الثوب؟

إذا تتبعنا أحد هذه الخيارات سنفهم ماذا نقول هنا. لأنَّ خطاباً من قبيل الخطاب الديني السابق يقع في معضلة الثغرات بين الثلاثة ( الأسلوب والنموذج والغاية ). ولهذا يجب على القارئ الحفر عبر تفاعل الأطراف الثلاثة. لا من أجل التفرقة بينها إنما لكشف أيِّ تاريخ، أي تفسير للدين يهيمن على صيغ الخطاب، أية أغراض ومصالح تحكمه. وما معنى وجود نماذج لغوية معدة لخطف الأهداف الخاصة، وكيف يجري ذلك في سياق التواصل؟

2- مسار المناورات: وهي أساليب وآليات ومفاهيم ومقولات يتوسل بها الخطاب بلوغاً للأهداف. يمكننا الاهتمام بها كمنطق حاكم لتبرير القضايا، وعرض الجانب الحجاجي والدعائي منها، وإلقاء المضامين رغبةً في الاقناع. والآليات يستخدمها الخطاب عادة بشكل ضمني. أي يتفهمها القارئ من بين الأفكار المطروحة. لأنَّها تأتي بصيغة هكذا تجري الحقيقة كما يراها وكما يريد أنْ يطرحها للآخرين بذات الطريقة. كل ما في المسألة هو تعزيزه لرأيه وأغراضه بمناورات تسهل ابتلاع المحتوى.

لا تجري المناورات الخطابية كما نستعملها بمعناها الشائع لكنها أكثر من مجرد أداة. لأن الأداة تحتاج إلى صياغة جديدة في كل مرة يُطرح فيه الخطاب. بالتالي تَجُر معها تصورات تحكم عموماً استعمال اللغة والايهام بها. ففي الخطاب هناك معطى المواقف والرؤى مثلما أوضحنا، وعليهما ينظر صاحب الخطاب ماذا يختار من أداة ناجعة للتأثير في الآخرين، كيف يصوغ الأفكار ويغلفها وكيف يجد منفذاً للإفلات من المآزق.

للتدليل على هذا نوضح أن الخطاب السياسي يستعمل وحداته الخطابية من جهة التعبير عن الأحداث والدور المنتظر للأطراف ومن جهة فاعلية أصحابه. نقول يستعمل كل ذلك بمنطق "القوة" وإمكانية الهيمنة. فالتعبير يبقى مدفوعاً إلى معناه بمقدار ما يتمسك بعنفه المختزن. رأينا خطاب الأنظمة السياسية العربية إلى مواطني الدولة خطاباً قمعياً. لأنَّه يعجن كلماته ودلالاته من بطش السلطة ومدادها. وهي سلطة غاشمة تحت الطلب، فإذا كانت أحلام المواطنين ترمي إلى التغييرٍ فلا ترى السلطة سبيلاً إلى ذلك.

قِسْ على هذا كافة قضايا الخطاب السياسي. فحديثه عن التنمية الاقتصادية على سبيل المثال ينقل أساليب التمويه. أي حين يتحدث عن مشروعات تنموية، يلجأ إلى احصائيات وراء أخرى بجوار أرقام في أرقام. وتلك الأخيرة لا ضابطَ لها. كأن سلطة الدولة تقول بأنها عقل إحصائي. ومن يُرد التحقق فليذهب إلى الجحيم. أي أنْ يأكل نفسه أو يتحقق- دون جدوى- وسط غياب المعلومات وتداولها وشفافيتها. والتلويح بالقوة العنيفة من وراء الأرقام بمثابة استعمالها إزاء الرافضين للمشهد العبثي. إذن آلية الخطاب صياغة للقوة القامعة عبر حسابات وجداول لمصادرة المعرفة بالواقع. وبها يتم الرمي إلى غلق منافذ الحوار. فإنْ كانت الأرقام لا تكذب كما يُقال، فلِمَ نجادل أو نناقش!! وعليه تجري مفاهيم الخطاب السياسي كمفاهيم سلطة عمياء لا غير. بحيث تتقدم بلاغة المشهد الحسابي على أية بلاغة أخرى. ولو كانت تتحدث عن وضع حقيقي.

أما الخطاب الاجتماعي، فتتركز آلياته حول القوة الاجتماعية وأنماط العادات و الرأسمال القيمي. بحيث تكون مقولات العائلة والأبوة والمعتقدات مستعملة انطلاقاً من مرجعية المجتمع نحو المعاني المتداولة. وتسهم الآليات في إيجاد نظام دلالي يعتمد توثيقاً للتعبيرات ووظائفها في إنجاز أعمال الأفراد. وطبعاً يختلف كل خطاب عن غيره في آلياته. لأنها تتغاير وفقاً للسياق الفاعلة فيه. لو وجدنا طقساً اجتماعياً دينياً كالأعياد فإنَّ خطاباً اجتماعياً يلجأ إلى المزج بين العاطفة الدينية والبعد الإنساني لتحديد صور الحياة. لأن حركة المجتمعات العربية حركة بطيئة وتقليدية. ولهذا تستند إلى عوامل السكون أكثر مما تستند إلى مسببات التغير.

ويأخذ الخطاب الاجتماعي في الانتشار آلياً حتى يشمل كافة الفئات والأفراد. فهناك في أي مجتمع خلق فضاءات لتسريب الخطاب. مثل نوافذ العلاقات العامة ومناسبات الحكي وسرد القصص والأشعار. إن استعمال هذه الأشياء كآليات يعيد إنتاج الخطاب ليطرحه على نطاق عام يعلقه بمفاهيم الحياة الاجتماعية.

بناء على ذلك من الأهمية تتبع استعمال آليات الخطاب. لأنها تخترق كافة وحداته وفي نفس الوقت تحمل المعنى. وهي أنسب نقطة يمكن للقارئ النفاذ منها لكشف طبيعة الخطاب ومناوراته. بل بإمكانها أن تربط جميع المفاهيم وبإمكانها بالتوازي أن تُضعفها إلى حد الانهيار. لكن يعتمد ذلك الكشف على قدرة القراءة على تحديد معالم المعاني وارتباطها بالأهداف. فالخطاب يعطى الآلية مساحة من المناورة ومن الوقوف في خلفية الصيغ تقريباً. وعلى وجه السرعة تمثل الآلية بالنسبة إلى المعنى "عربة الطوارئ المتنقلة" لترميم التعبيرات إن حدث خلل. وتتخفى الآليات لدرجة أنها قد تغيب عن وضوح العبارة. فهي مهيمنة بشكل ضمني وتمثل قواعد اللعب على ذهنية المتلقي. هي تحاول أن تقول بمراوغة اللغة: ما أمرره من أفكارٍ إنما يوجد لديكم وأنتم قادرون على قبوله.

3- مسار الرسالة: هي غاية الخطاب من خلال الصياغة والآليات، وهي كذلك النقطة القصوى التي يحاول بلوغها. لكنها تتخفى هي الأخرى بمقدار ما يومئ التعبير ويكشف، وبمقدار ما تحاك الحيل البلاغية لتقريب الصورة المطلوبة. أحياناً تظهر الغاية في المواقف الحدية حينما يطرح الخطاب رسالته إلى فئةٍ أو إلى مجموعة حركية كالحال مع خطاب الجماعات الجهادية. إذ يظهر ملغماً برسائل يفهمها أتباعُه ومناصروه. وقد يتحركون من فورهم لتنفيذ المهام المُوكلة إليهم. والرسالة تضرب موعداً مع الوقائع والأحداث. بمعنى أنها نوع من المساهمة فيها وترك التأثير على المدى المناسب. إذن رسائل الخطاب الديني من حيث المنطلق إدارة للصراع السياسي أو الاجتماعي بقفازات اللغة.

تنطلق الرسالة للمستهدفين من وراء هذه العملية. وطبعاً يجرى ذلك وفقاً لاحتمالات الخطاب نفسه وتجسيده للمصالح. بهذه الزاوية، تترجم الرسالة الوظائف السالفة أو إحداها في ضوء ما يمكن أنْ تحرزه. والرسالة تتويج لنقطتي الصيغة والآلية أثناء الممارسة، فالأخيرتان مرحلتان لبلوغها وتسديدها في المرمى. هي مثل احراز الهدف في مباريات كرة القدم. هناك الخطط والتكتيك والجوانب الفنية والبدنية، وهناك  إيقاع الزمن من أجل تسديد الأهداف في الوقت المناسب. ذلك كله يشمل تكتيك المباراة، احتمالات الإخفاق والنجاح، والعمل على استغلال ثغرات الخصوم واحتواء خططه الفنية. لهذا يقال تُسجل الأهداف عادة نتيجة أخطاء الخصم دفاعاً أو تغطية أو هجوماً أو خططاً. وهذا بالتقريب ما يوجد في الخطاب. فالخطاب نظرية لمباريات التواصل بشتى مجالاته. الجوانب الفنية منه تتوافر على خطط للمعاني وعلى حبكة التعبير وعلى استثمار أخطاء الأطراف المتحاورة. والرسالة بالنسبة إليه هي التصويب أثناء غفلة المراقبة بكل حنكة ودهاء.

أحيانا تجري الرسالة باستراتيجية التفاوض. حيث تُرسل من أجل تقريب وجهات النظر وطرح التبادل الدلالي بين الخطابات. وهي في الأعم رسالة عملية على أساس أنَّ طرفاً سيلتزم بشيء معين في مقابل التزام أطراف أخرى بما عليها. في هذا الإطار تجس الرسالة نبض العلاقة القائمة وإمكانية فهم الخطاب على الوجه المطلوب. ورجوعاً إلى فكرة المباريات تصبح صيغة الرسالة مكتوبة كما لو كانت أفقاً للتفاعل بشكل ما. ففي التفاوض هناك أطراف وهناك اللعب بالقُوى. لصالح من ومن يستطيع مغالبة غيره؟ هذه موضوعات نسبية من واقع المباراة الخطابية. هنالك بالمثل فرص ومكاسب تُوفر تشويقاً للعب. فكلما كانت صيغة التفاوض جارية مع الفرص تستطيع إحراز بعض الأهداف ولو قريبة.

كنا قد سمعنا في بعض الآونة ضمن الخطابات السياسية مصطلح "مغازلة أمريكا" أو "مغازلة الغرب" وبخاصة إذا كان الكلام يطرح تصوراً يأخذ بتوجُه الغرب حول قضايا دولية وإقليمية في هذا الشأن. وعادة تطرح أموراً تتعلق بسياسات الدول الغربية مثل محاربة الإرهاب أو الصراع العربي الإسرائيلي أو تطبيق برامج الديمقراطية وفتح المناطق لوجود الجيوش الغربية. هنا يمكن التفرقة بين أنماطٍ من سياسات الغزل الخطابي وليس نمطاً واحداً.

أولاً: الغزل العفيف

هو رسائل يشي مضمونها بالتقرب من الغرب ودوله. وإذا وجدوا تعبيراً معسولاً قالوا عنه "تفهمات" بين القوى. حيث تُرسِلّ كلمات طمأنة وهدهدة سياسية حول المسائل العالقة. كما هو الشأن بين "الفلسطينيين والاسرائيليين" حول قيام دولتين منفصلتين، كأنَّ الطرفين المتصارعين قد اتفقا ضمناً على أشياء بعينها أو على الأقل لا مانع من الاتفاق. ويبذل الطرفان أقصى جهدهما في طلاء العبارات بكم من التقارب الشكلي. بينما المضمون يحمل صراعاً من نوعٍ ما.. وإلاَّ ما المبرر في وجود تنازع. قد تكون الرسالة في اتجاه كهذا دفعاً بالأمور نحو طريق معين لمعرفة رد الفعل المقابل. لكن ظاهرها يبدو جذاباً وتسمى في هذه الحالة بلون اختبار. أي الاطلاع على ما يريده الطرف الأخر وماهية تصوراته في المرحلة الراهنة والقريبة على الأقل.

ليس هذا الغزل مقصوراً على السياسة فقط، بل واسع الانتشار في الحياة الاجتماعية عند حالات المصاهرة. تطرح الرسائل عن طريق أفراد فاعلين اجتماعياً لمعرفة ردود الأفعال من أهل العروس، وتكون غالباً نوعاً من التودد والتقارب. وفي هذا يبذل الوسيط طاقته الخطابية في توجيه الرسائل بحسب الاتجاه المفضل لدى الطرف المقصود. كنوع من التمهيد لإتمام مهمة الزواج. وهي في النهاية تحمل سمات التفاوض على قاعدة المباريات الاجتماعية. أما إجمالاً في المجتمع العربي فنتيجة لفقدان قيم العمل بات الكلام المعسول من لوازم التعامل مع الفنيين والحرفيين لإنجاز الأعمال على الوجه المقبول. واصبح كذلك من الرشاوى المعنوية في الإدارة للحصول على الأوراق الرسمية واستمالة أصحاب القرار.

ثانياً: الغزل الفضائحي

إذ تنتقل رسالة الخطاب من التلميح إلى الطابع العلني( التصريح). عادة ما تلجأ إليه الدول لممارسة ضغوط قوية على دول أخرى. على سبيل التوضيح قد تُكْشف صفقات أسلحة تحت عنوان التعاون العسكري أو تبادل الخبرات كما في مجال وجود خبراء من دولةٍ غير مرغوبة على الأراضي الوطنية. فإذا ما عُرف ذلك الشأن جماهيرياً، يسبب إحراجاً لمسؤولين أو لإظهار حجم العلاقات بين الدولتين. لقد مارست أمريكا هذه التعرية حين أظهرت ملفات مخابراتية سرية لرؤساء دول ولمسؤولين حكوميين كما حدث في بعض الأوقات مع إيران ومصر وسوريا. هي تريد حرق أوراقهم السياسية للضرب في عمق الحالة الخاصة بالدول المنتمين إليها.

ويظهر ذلك بالخطاب الاجتماعي ضمن رسائل التشهير بأشخاص ومضغ سلوكياتهم والتعليق عليها في غير مكانٍ. هي رسائل تغص بها عبارات النميمة والخطاب اللاأخلاقي العام. وهذا جزء من علاقات الأفراد وخبزهم اليومي في المجتمعات التقليدية. بحكم أنها تتسع إلى مساحة زمنيةٍ ليست بالقليلة للتحدث عن الآخرين. الحديث الذي يُترك للكلام المعمى حيث يتخلل المناسبات والطقوس. إنَّه الكلام المحشو بهتك الأسرار وإفشاء المكنون بالنفوس على الملأ. وعادة ما تتسع رقعته نظراً لفراغ العقل من القضايا وفراغ الأيدي من العمل والانتاج. كارثة ما بعدها كارثة أن يتجذر هذا الفراغ بأعماق المجتمع العربي مع امتلاء الجيوب والكروش. حتى إذا ما تُركت رسالة فضائحية لدى فرد أو في مناسبة تطير بسرعة الضوء في أرجاء الأدمغة  كأنَّها  كلام هوائي.

مع تنوع وسائل الاعلام ظهرت هذه الرسائل في الخطاب الديني من خلال التكفير. إذ تصبح الفتاوى منصة لإطلاق أعيرة تكفيرية تصيب من تصيب. لقد أصبح التشهير عنواناً للبرامج الدينية إزاء أشخاص أو ضد أناس دون سواهم. وشمل التكفير جميع معانيه من التكفير الديني إلى التكفير الاجتماعي إلى التكفير السياسي حين يتم اعتبار المكفَّرين خارجين عن المجتمع وموروثاته والدولة التي ترعاه. وحيث كان ينبغي احترام الآخرين يلاحقهم الإفتاء التشهيري إرسالاً لرسائل تستعمل عبر الأحداث السياسية. وذلك يجد صداه الشعبي، لأنَّ هناك قطاعاً جماهيرياً عريضاً يخلع عقلة مع حذائه حين يشاهد البرامج التليفزيونية. ويتقلب مع الآراء من الأدنى إلى الأقصى مأخوذا بألقاب الخطباء وأشكالهم.

ثالثاً: الغزل العنيف

وهو رسائل إهدار الدم والإيعاز بمحاربة المجتمع إذا لم ينصع لاتجاهات متشددة سياسياً ودينياً. هذا الغزل يسمى كذلك لأنَّه بدأ بإرسال عبارات العداء- من الجماعات الجهادية - إلى أمريكا. وهو غزل لأنَّه رسالة لالتهام أصحابها، أي التهام المرسِل وصانع الخطاب، دعوة مفتوحة لأمريكا للبحث عن عدو محتمل. فماذا تملك تلك الجماعات أمام أكبر قوة مسلحة في العالم سوى تفجير هنا أو تدمير هناك؟! أنت حين تفتح فم أسد وتداعب أسنانه فهذا معناه وضع رقبتك بين فكيه. ولا سيما أنك تمتلك رقبة غزال لا أكثر ولا أقل. أنت تغريه باستثارة قوته الطائشة، وشحذ غرائز التدمير لديه.

إنَّ الجهاديين يحاربون عدوا هلامياً. لأنَّ أمريكا تتوحد في أنحاء العالم مع قوى وعصابات ومافيا محلية. كما أنها مثل ظل العدو يوجد أينما يوجد من يناصبها العداء. وهي تحارب هؤلاء بنفس أسلوبهم وتستدرجهم وتصنعهم من حيث لا يعلمون.

إذن رسائل التهديد الدائمة التي نسمعها عن طريق وسائل الاتصال ومن خلال مواقع إلكترونية إنما هي استحضار للجان والأرواح الشريرة. فماذا ينتظر من يطلق نفير الحرب سوى الحرب؟، ماذا يتوقع من يهدد الآخرين غير تكالب الأقوى على افتراسه؟! نقول في المثل الشعبي: من يُحْضر العفريت عليه بكيفية صرفه، لكن ماذا لو أنَّ العفريت لا ينصرف كما تفعل أمريكا؟ وماذا لو كان يحارب صورته المقلوبة؟ فجماعات التكفير الدموي كانت هي صور أمريكا في مرآة الواقع.

وبالفعل هذا ما حدث. فبسبب رسائل خطابية اجتاحت أمريكا– واعتبرتها فرصة ذهبية- أفغانستان والعراق وبعض مناطق الصراعات المسلحة. وكانت الرسائل تتجدد من حين لأخر حين تحتاجها أمريكا في الأحداث الطارئة مثل خطب اسامة بن لادن والظواهري وأبي بكر البغدادي. وأثير الجدل الطويل حينئذ... من يصوغ تلك الرسائل العدائية، وما هي الأصوات التي تلقيها؟، أهي أصوات الأشخاص المشهورين للتنظيمات الجهادية أم غيرهم أم أصوات مستعارة؟ وماذا عن محتواها، وأية أبعاد ترسِلها ولماذا تحمل طابعها الاستراتيجي بالنسبة للآخر العولمي؟ ولماذا تصدر أولاً من قنوات إعلامية معينة كقناتي الجزيرة والعربية؟ تعاملت امريكا مع صيغ الخطاب الجهادي على أنها خطط في طريقها للتنفيذ.

لقد كثُر في وقته حديث المحللين عن شفرات تحملها الرسائل، فتم الإشارة إلى الخلايا الإرهابية النائمة في القارة الأوروبية، وإلى التنظيمات الموازية التي تتخفى في أسماء أخرى. وجرى النظر إلى مصادر تمويلها والبحث عن أرصدتها في معظم دول العالم. هوس الرسائل الجهادية قابلته هيستريا العنف الأقوى المنظم. هيستريا القوانين المحددة لحركة رجال التنظيمات الدينية وأفكارهم. وعلى الرغم من إدراكنا للرسائل لكن وصل الأمر أننا لم نعد نعرف من يرسل لمن ...الجهاديون يرسلون لأمريكا أم أمريكا ترسل للجهاديين!!

الرسائل الخطابية جزء لا يتجزأ من حركة العالم وقواه. هي فصل من سيناريو إدارة الصراع.  رسائل حقيقية أو غير حقيقية ليست هذه هي القضية مع تجييش مظاهر العولمة، ومع تحالفات دولية عسكرية تحتاج عمل. المهم إذن استنفار أمنى يكفل شحن اللاوعي نحو العدو القادم. فصناعة العدو هي السلعة الأكثر جودة ورواجاً بالنسبة لأمريكا وللقوى العظمى.

إن فائض القوة يقتضي دوماً مناطق للتفريغ وإعادة الانتاج، لمن يطلبها ولو برساله من قندهار أو الصومال أو كهوف الدواعش. و لمن يبحث عنها ولو برساله فضائية وسط أحراش وراء أحراش. في حالة وجود القوة لا بد من الرسالة. أبداً لا تذهب رسالة إلى الضعفاء، ولا تستحق عناء صياغتها. أنما الأقوياء إلى درجة الجنون هم غايتها وإن أرسلوها إلى أنفسهم. ألم يقل بوش الابن ذات يوم إنه يحارب باسم الرب؟  وقال أبو بكر البغدادي لا حقاً أنه يقاتل لإعلاء كلمة الله. إذن تضارب الأرباب يوحد المصالح.

ومن طبيعة هذه الرسائل العنيفة تعدد المتلقين لها. أدركت المجتمعات العربية أن صراعاً عولمياً بين تنظيمات وأطراف دولية سيطال البيئة المحلية. إن لم يكن مباشرة فهناك من يعتنق نفس الفكر واسلوب المواجهة. وليس أمامه سوى للانتظار حتى يتحرك. كانت رسائل الخطاب كلمات للعالم بنفس حروف العولمة وبنفس أزيائها. لأول مرة تحتل الرسالة مكانَ الخطاب كل الخطاب. هكذا ينبغي لقراءة واعية أن تتساءل: لماذا يُختزل العالم في رسائل متبادلة، مادية أو تفجيرية أو إعلامية؟! كان معتاداً أنْ توضح الرسالة طبيعة الخطاب بيد أنها حلت محله وحولته إلى أشباح مسلحة في بقاع العالم. ويمكن للقراءة أن تقول كانت الرسالة إجرائية. فتفجير برجي التجارة كان رسالة ليس إلاَّ. وكان غزلاً عنيفاً لم ندرك أبعاده إلا باجتياح العراق وملاحقة أعضاء القاعدة على طريقة البلاي ستيشن play station. وكان بمثابة الدخول إلى العالم السفلي لصيغ الخطاب السياسي وكتابة لاهوت الإرهاب ومحاربته على يد بوش. عالم وصفته الأساطير اليونانية بأنه مأوى الأرواح النكدة والشياطين العملاقة.

رابعاً: الغزل السخيف

المتمثل في رسائل لا تمل الأنظمة السياسية العربية - على اختلافها- من مخاطبة الجماهير بأنهم يرفلون في أثواب الديمقراطية والاستقرار. وأنهم قاب قوسين أو أدني من معانقة رفاهية اليوتوبيا كمواطني الدول المتقدمة.

كان الحاكم يقصد بها السخرية إلى درجة السخافة من تطلعات شعبه. على الرغم من أن الرسالة تطرح بأسلوب طقوسي ومنضبط في الأعياد الوطنية. حيث يتلقفها مؤيدوه للطواف على بقاع قاحلة من الدولة. وعلى الرغم من أنَّ حاكماً عربياً لو نظر إلى صورته في المرآة لن يجد غير نظرات مراوغة إلاَّ أنه كان يتجاهل مرايا بحجم الجهل الضارب أطنابه ومرايا بحجم التخلف والفقر. لكن بفضل تصديق الكلام على مستوى الوعي الاعتيادي، يذهب الخطاب إلى مداعبة أحلام البسطاء. ويبلغ سخافته أنه يعيش بهم في أوهام ملئوها أوهام. ومازالت تلك الألاعيب سارية بعد طوفان الربيع العربي.

ونظراً لارتباط وضع الديمقراطية في هذه الحالة بعلاقات خارجية مع هيئات دولية، فإن الرسالة تترك اصداءها بالخارج أيضاً. فإذا كان الحاكم يراود الشعب عن نفسه بغزل حول نظامه السياسي، وإذا كان يرسل برسائل وهم يستقبلونها منتشين، فإنَّه حقاً يلتزم بمبادئ حقوق الإنسان وبمبادئ العدالة. إذن هذه الرسالة تهدف إلى مغازلة المجتمع الدولي. وكما يتوقع سيُقال بأن دولته تستحق جميع الألقاب الشرفية من جهة عضويتها بين دول العالم.

خامساً: الغزل الطريف

هو ما كان يصعد مع رسائل المبايعة من أتباع الحكام العرب وحاشيتهم باسم الشعب المغلوب على أمره. على أساس أنَّهم (أي الحكام) مصدر الخير والحرية والعدالة والنعيم في الدنيا والأخرة. وأنه لولا وجودهم ما كان المجتمع لينعم بالرخاء. وهذه طرفة تاريخية لدرجة السخرية، كررت نفسها من مجتمع عربي لأخر، واستعادت زمن آلهة الأساطير اليوم.

الرسالة تقلب المتعارف عليه في الخطاب السياسي. فالمعروف أن الخطاب يصاغ وفقاً لأليات النظام وقواه. أما أن تتصاعد نغمات التبجيل من أفواه الجماهير. أي باسم الخطاب العام، فهذا معناه طرافة الوضع إلى درجة التنكيت. كأنْ يجري على ألسنة الناس هذا الهتاف" الرئيس يريد تغيير الشعب". هذا بالضبط الوجه المطابق لذلك الغزل. بدلاً من تطوير حالة النظام و بناء الممارسة السياسية يكون الدفع باتجاه اسقاط الشعب. طبعاً تلك الرسالة لا تظهر- كما نراها في مناسبة وغير مناسبة- إلا لضحالة الرأي العام وغياب النقد الاجتماعي والسياسي. وفي هذا السياق الثقافي تظهر نعرات التقديس للشيوخ ورجال الدين والتعصب المقيت للمذاهب والرؤى الحدية دون اختلاف. إنه جزء من الرسالة، ما ينطبق على قداسة الحاكم سينطبق على تأليه الأشخاص باسم التحزب الديني. فالخطابات تتقارب لدرجة التماهي اغترافاً من معين اللغة.

 

سامي عبد العال

 

 

(شلونك انت؟).. مهداة الى المعلم، أمل الوطن في يومه

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمد حسين النجم

محمد حسين النجمكان المعلم اساس البناء الاجتماعي للوطن، وهي الحقيقة التي يعرفها اعداء الوطن وتناساها غباءا او عمدا الفاسدون . كرامة الوطن من كرامته، ففي اليوم الذي كان المعلم جزءا من الطبقة الوسطى، ويوم كان ابناء المجتمع يرفعون رؤوسهم عاليا املا بان تطال قامة المعلم السامقة، استطاع المجتمع ان يصل الى ذرى المجد ويضع اقدامه على طريق التقدم .

ولاجل اسقاط شموخ المعلم وقيادته لمجتمعه كان يجب اسقاط كرامته، وليس اكثر مهانة للمعلم من ان يشعر بالضعة والهوان ازاء من ينبغي ان يقودهم . وكان الحرمان اساس هذه الضعة والهوان .

خلال تسعينيات القرن الماضي كان الحصار الاقتصادي اكثر الوسائل فتكا بمفاصل المجتمع حين استطاع الاطاحة بأهم ما يمكن ان يبني المجتمع وهو القيم الاخلاقية . فإزاء انتشار قيم الفهلوة والخداع والرياء والغش والسرقة والتحايل والمحسوبية والوساطة، بات ابناء المجتمع يشعرون ببؤس ما تعلموا من قيم، بل وصار حق الحياة ،الذي هددته ظروف الحصار، المبرر لكل ما يسلكه الفرد من اساليب، كان يوما ما يدعوها بالقذرة . .

لم يكن حال المعلم بأفضل من بقية ابناء مجتمعه، بل وجدناه ينزل من مهابته وعليائه ليخوض مع الخائضين، وكان لابد ان يترك ما تعلمه من قيم وراء ظهره، وكان لابد ان تنتقل هذه المسالك الى ميدان عمله . وهكذا بدئنا نشهد صعود قطعان من المتخرجين من المدارس لايملكون من القيم ولا من العلم، كونهم صعدوا بالاساليب القذرة التي فرضتها ظروف الحصار التي كرست قيما بديلة ليس من السهولة قلعها واستئصالها ما لم تتم معالجتها باساليب علمية قادرة على ان تعيد الى المجتمع والى المعلم قيمه وتقاليده المفقودة .

يحضرني هنا احد الامثلة التي تم من خلالها اسقاط هيبة المعلم وعلو شانه بين ابناء مجتمعه .

في عهد النظام السابق، وحين انحدر المستوى المعيشي للمعلم الى الحد الادنى، كان يصعب عليه ان يؤمّن مستلزمات عيشه، فضلا عن اجور سفر من تنسب للتعليم في  مناطق الارياف والمناطق النائية . وعلى الرغم من ان بقايا ما يحمله ابناء المجتمع من تقدير للمعلم ودوره، بالاضافة الى الحاجة الاجتماعية للتعليم دفعت  الكثير من ميسوري تلك المناطق واعيانها الى النظر بعين العطف والشفقة على المعلم فبدات بتامين اجور سفره الى مناطقهم من خلال جمع التبرعات، الا انها كانت جرحا غائرا في قلب المعلم الذي صار بين نارين، نار هوان العوز والحاجة التي تضطره لان لايانف اخذ العطايا تلك وبين نار الدكتاتورية التي تمنعه ان يصرخ ثارا لكرامته، وقد استطاع احد اولئك المعلمين ان يعبر بصدق عن هذه المعاناة من خلال خطابه الموجه للمعلم، قصيدة يقول فيها:

شلونك انته

ادري بيك تموت سكته

وادري بيه رويتبك بين الرواتب صار نكته

جم درس عمدن تركته؟ وجم قلم تلميذ بكته؟

صار عنوانك حرامي مو معلم مجتمع وانته قدوته

انتهت قم للمعلم وفه التبجيل وانجل بحضرته

انتهت من كامو الوادم يلموله كروته .

هذا الواقع المريع الذي مر به المعلم كان ينبغي ان تتم معالجته اذا مااردنا للمجتمع ان ينبني على اسس اخلاقية ترى بالعلم قيمة اسمى من كثير من القيم المادية والتي يمكن ان تعيده الى طريق التقدم والرقي . وعلى الرغم من بعض بوادر الانفراج والتطور بالمستوى المعيشي للمعلم بعد التغيير اسوة بباقي موظفي الدولة، الا ان الاكتفاء بتحسين رواتب المعلمين لايكفي بحد ذاته علاجا للامراض التي استشرت بمفاصل التعليم ليس اقلها التباين الكبير بين المدخولات التي جعلت المتمسكين بالاساليب (القذرة) اعلى شانا منه نتيجة لانتشار الفساد في مفاصل الدولة، بالاضافة الى غياب المعالجات الاقتصادية العلمية القادرة على حمايته من اهتزاز مستواه ذاك امام آفة التضخم، فالمعلم الذي كان احد عناصر الطبقة الوسطى، وصاحب التاثير الاجتماعي على مر التاريخ، انحدر الى مستوى الطبقة الفقيرة، وصار يزجي وقته في البحث عن اعادة التوازن الى متطلبات حياته المعيشية تاركا تواصله العلمي، بل والبعض ممن انحدر يوما لضعفه وعاد الى رشده صار نادما على تركه ماكان يمتاز به من امتيازات الاساليب القذرة والتي دفعت قطاع منهم الى العودة اليها .

لنستمع الى شاعرنا المعلم في خطابه لزميله:

شلونك انته

ادري ماميّت ضميرك بس غصب بيدك خنكته

جي رفض يحترمك السافل قبل وانت احترمته

صار تاجر واحتقر ذات المعلم وانته سكته

وقلمك (ابغمده) انتحر جي ماشهرته

ادري ماميت ضميرك، بس مثل قلمك كسرته

ليس اقسى من ان تكون بين خيارين افضلهما مر، وليس اقسى من صورة ذاك المعلم الذي  سعى جاهدا ليؤمن لقمة عيش ابنائه بكل شرف ولم يجد الا ان يمتنع عن اطعام نفسه توفيرا لاطفاله فذهب شهيد شرفه وعزة نفسه .وهل اقسى على المرء من ان لايجد قوت عياله؟ باع المعلم، ابان الحصار، كل مايملك ثم باع كثير منهم شرفه الوظيفي والعلمي لاجل تامين لقمة عيشه:

شلونك انته

الله يعينك ع الوكت صعبه خبزته

وادري بيك تفكر بسعر الطحين ولا درس يمكن شرحته

وحته اعرفك، حته اعز كتبك عليك

برخص بعته .

هذا ماانتهى اليه حال المعلم في مخطط مدروس اتقن العدو وضعه واجاد اغبياء المجتمع تنفيذه، واستمر الفاسدون على انتهاجه كي لا يكون شاهدا على فسادهم وكشف عوراتهم . في مقابل هذا تجد بعضا من سقطة المجتمع من يحاول النيل من المعلم بترديد غبي لتبريرات غبية يحاول الفاسدون ترويجها لديمومة فسادهم . ان اكثر ما يغيظ الفاسدين ان يرتفع شان المعلم ويعود الى مكانته قائدا لمجتمعه، فالفاسدون يعلمون تماما بالتاريخ المشرف الذي سجله المعلم طيلة تاريخه قبل ان تدور عليه الدوائر، لنستمع الى شاعرنا:

واول المطلوب منك

من تموت تموت سكته

واكف يموت النخل، وعروكه ماتنكر تربته

مو جنت عنوان كل جيل اليمر وانته شمعته

جم عهد بايد هدمته، وجم حكم كامل رفضته

لقد تمت تصفية مهمة المعلم لكي لاتقوم للمجتمع قائمة، ولازال في مجتمعنا، وجلهم من استفاد من فترة الانهيار القيمي، من يحاول تكريس هذه التصفية كي يستمر مستفيدا من فرص الانهيار والسقوط والذي يجد في ارتقاء منزلة المعلم تهديدا لمكاسبه وفساده .انه مسعى لتكريس قيم الوضاعة التي جعلت من الوضيع سيدا :

اشمعنه من تاجر وضيع تموت سكته

وتخدم الدلال والدجال وتعيش بخدمته

المعلم مو معلم من تجر ياخة قميصه

اكبال تلميذه سمل دلاله وتلوث بدلته

المعلم آية من آيات وجدان الزمان

ولا نبي ماجل مهنته

نعم انه المعلم الذي يحاول الرعاع ان يسئ الى قدره يعينهم في ذلك المطبلون من جهلة الامة، والسذج الذين لايجدون في مطالبات المعلم بالعيش الكريم الا مطمع مادي متناسين تلك الدعوة السامية التي اطلقها ابو ذر الغفاري: عجبي من من لا يجد قوت يومه ولا يرفع السيف بوجه ظالميه . وبمستوى عقليات اغبياء الامة لابد ان ابا ذر كان ماديا قبيحا مثله مثل اساتذة الجامعات ومعلمي المدارس حين دافعوا عن عيشهم الكفاف .

واخيرا يطلقها شاعرنا، وهو آنئذ يعيش في جور الدكتاتورية، دعوته للثورة بوجه ظالميه:

شكك الثوب الحقير الذلك او بيدك لبسته

وفصل من (الله واكبر) من علم مدرستك الثوبك ركعته .

واذا كان للمجتمع من امل بالعودة الى قيمه الاصيلة وبنائه الراسخ فعليه ان يعيد النظر بالكثير مما يحمل من مساوئ النظر الى دور المعلم الذي عمل النظام السابق ويعمل النظام الحالي على ترسيخها متحججا بصعوبة الظروف والازمة المالية للتستر على اجندته التي اوصلت الوطن الى هذا المستوى بفسادهم وسوء ادارتهم للحكم . ان الذي يحاول النيل من المعلم، ويتباكى حسرة على عدم وصول وطنه الى مستوى الاوطان الاخرى عليه ان يتذكر بان انهيار اليابان في عام 1945 واستسلامها كان يمكن ان يكون ابديا لولا وجود من عرف قيمة المعلم، فما يشاع عن امبراطور اليابان حين اشر سبب تقدم اليابان ووصولها الى ماوصلت اليه اشار الى المعلم، وقال: لقد منحنا المعلم راتب الوزير وسلطة القاضي وهيبة الامبراطور . وا ن مجتمعا يبخل على معلمه ببعض هذه مصيره مزبلة التاريخ، وهو ماوصلنا اليه.

 

د. محمد حسين النجم

الجامعة المستنصرية

 

قصة السينما في مصر بين معايير الجودة والإخفاق

التفاصيل
كتب بواسطة: عدنان حسين احمد

عدنان حسين احمدثمة كُتب تموت إثرَ ولادتها القيصرية مباشرة لأنها تحمل بذرة فنائها في داخلها، وهناك كُتب يمكن أن تعيش وتعمّر طويلاً لأنها تحمل بذرة حياتها الإبداعية في أفكارها، وثيماتها، ومقارباتها الفنية التي يتداخل فيها المبنى والمعنى. وكتاب "قصة السينما في مصر" للناقد السينمائي سعدالدين توفيق الصادر عن "دار الهلال" في القاهرة سنة 1969 هو من نمط هذه الكُتب الحيّة التي يمكن لها أن تعمّر طويلاً  لثراء مضمونها، وعمق رؤيتها النقدية، وسلاسة أسلوبها السردي الذي يتماهى مع الموضوعات التي يعالجها بلغة حيّة نابضة تشعر بحرارتها بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على كتابتها بحيث يخالجك الشعور وكأنها كُتبت الآن وخرجت توًّا من المطبعة!

يتألف الكتاب، الذي يقع في 180 صفحة من القطع المتوسط، من مقدمة وسبعة فصول مستوفية للموضوعات التي تناولها الناقد السينمائي الراحل سعدالدين توفيق، طيّب الله ثراه. وما إن يشرع المتلقّي بقراءة المقدمة التي كتبها المؤلف بصيغة استفهامية يتساءل فيها: هل ولد فنٌ مصري جديد بعد أربعين عامًا من الإنتاج السينمائي الذي أُنجز في الأعوام الممتدة بين1927 و1969بحيث بلغ رصيد السينما المصرية 1500 فيلم روائي؟ إذ اعتبر الناقد أنّ السينما المصرية قد بدأت فعليًا بفيلم "ليلى" الروائي الطويل الذي صدر في 16 نوفمبر 1927، وهو من إخراج عزيزة أمير، وإستيفان روستي، وأمير عُرفي الذين اشتركوا في التمثيل إضافة إلى آسيا داغر، وحسين فوزي، وأحمد جلال سالم وآخرين.

لا ينفي سعدالدين توفيق أن السينما المصرية قد انطلقت قبل عشر سنوات من ذلك التاريخ لكن التجارب التي أُنجزت قبل فيلم "ليلى" لم تكن سوى محاولات بدائية تفتقر إلى النضج الفني، وهي في مجملها أفلام قصيرة أنجزها مغامرون، بعضهم أجانب، لا يمتلكون رؤىً فنية تؤهلهم لإنجاز أفلام سينمائية ناجحة.

يعتقد توفيق أن الفيلم المصري طوال تلك العقود الأربعة لم يخلق بصمتهُ الخاصة مثل الفيلم الياباني أو الهندي أو الإيطالي أو الفرنسي، والسبب لأنه لا يتوفر على أسلوب سينمائي مصري، ولا ينفرد بنكهة خاصة تُميّزه عن بقية الأفلام العالمية التي تحيل مباشرة إلى بلدانها. وبَغية الإجابة على السؤال الإشكالي يدعونا الناقد إلى متابعة "قصة السينما في مصر" خلال أربعة عقود منذ انطلاقتها الأولى حتى السنة صدر فيها هذا الكتاب النقدي القيّم.

جرائد ومجلات سينمائية مصرية

2261 قصة السينمايتضمن الفصل الأول معلومات غزيرة عن تاريخ السينما المصرية وظهور الجرائد والمجلات السينمائية المتخصصة. كما يسلّط الناقدُ الضوءَ على فيلمي "ليلى" و"زينب" ويُحيطنا علمًا بالظروف والملابسات التي أحاطت بهما. وإذا كان الفرنسيون يفتخرون بأول عرض سينمائي تجاري في 28 ديسمبر 1895، في الصالون الهندي بمقهى "جران كافيه" في شارع كابوسين في باريس فإن مصر قد عرضت بعد أسبوع أول فيلم سينمائي في مقهى "زواني" في الأسكندرية، وتبعتها القاهرة حين عرضت أول فيلم في 28 يناير 1896، في سينما سانتي. يتوقف الباحث عند بعض الأفلام القصيرة التي أُنجزت عام 1917 من بينها "شرف البدوي" و"الأزهار المميتة" اللذين اشترك في تمثيلهما محمد كريم قبل أن يسافر إلى إيطاليا وألمانيا لاحقًا بهدف الدراسة والنهل من الثقافة السينمائية الأوروبية.

يُثبّت الباحث معلومات مهمة من قبيل أول ممثل مصري وهو فوزي الجزايرلي الذي اشترك، هو وابنته إحسان الجزايرلي، في فيلم "مدام لورينا" سنة 1918 للمخرج والمصوّر الإيطالي لاريتشي، ثم يُنجز  محمد بيومي فيلم "الباشكاتب" عام 1923، ويقوم بإخراج أفلام فكاهية على غرار أفلام تشارلي تشابلن وأولها "المعلّم برسوم يبحث عن وظيفة". كما أصدر بيّومي أول جريدة سينمائية اسمها "جريدة آمون". فيما أصدر محمد توفيق أول مجلة سينمائية بعنوان "الصوّر المتحركة" سنة 1923. ومن جهته قام الناقد السينمائي السيد حسن جمعة بإصدار مجلة "معرض السينما" سنة 1924 في الأسكندرية وهو، كما يصفه الباحث، من روّاد الصحافة السينمائية الجادين والمثقفين.  وفي 25 نوفمبر صدرت مجلة "المسرح" التي يعدّها الباحث من أقوى وأحسن المجلات التي صدرت في مصر، ويرأس تحريرها الناقد الفني محمد عبدالمجيد حلمي، ورغم أنها متخصصة بالمسرح لكنها كانت تنشر الأخبار السينمائية المحلية المحدودة. وهكذا توالى صدور المجلات مثل "الصباح"، و"نشرة مينا فيلم" في الأسكندرية، و"نشرة أوليمبيا السينماتوغرافية" في القاهرة إلى أن بدأت الصحف اليومية تخصص بابًا أسبوعيًا للسينما مثل جريدة "البلاغ الأسبوعي" التي يحررها السيد حسن جمعة ثم بدأت الصحفُ الأخرى تُقلّدها وتحذو حذوها.

المُخرج محمد كريم سبق الواقعية الإيطالية بربع قرن

تبنّت المخرجة والممثلة الرائدة عزيزة أمير عرض فيلمها الموسوم "ليلى" على حسابها الخاص في سينما متروبول وكان من بين المدعوين محمد طلعت حرب وأمير الشعراء أحمد شوقي، وبعد العرض خاطبها حرب قائلاً:"لقد حققتِ يا سيدتي ما لم يستطع الرجال أن يفعلوه"، كما قال شوقي:"أرجو أن أرى هذا الهلال ينمو حتى يصبح بدرًا كاملا". الغريب أنّ الرقابة قد "حذفت مشهدًا من الفيلم تظهر فيه طبلية تتناول عليها الأسرة طعامها"! من دون أن يوضّح سبب الحذف. كما يذهب الباحث إلى أنّ فيلم "ليلى" هو "أول فيلم مصري مائة بالمائة" مع العلم أن وداد عرفي قد اشترك في تمثيل الفيلم وإخراجه وهو تركي الأصل، وأنّ إستفان روستي من أم إيطالية وأب نمساوي، كما أنّ آسيا داغر من أصول لبنانية.

ينطوي الفيلم الثاني "زينب" الذي توقف عنده الناقد طويلاً على كثير من المفاجآت. فقد عُرض في سينما متروبول في القاهرة في 12 مارس 1930 في مرحلة السينما الصامتة. وشارك في التمثيل زكي رستم، وبهيجة حافظ، وسراج منير، ودولت أبيض، وعلوية جميل إضافة إلى أعداد كبيرة من الفلاحين لم يمثّلوا قط في حياتهم. وكان الفيلم من إخراج محمد كريم الذي اقتبس القصة السينمائية من رواية "زينب" للدكتور محمد حسين هيكل الذي كتبها هو الآخر عن قصة حقيقية وقعت في كفر غنّام بمحافظة الشرقية، وقد ذهب المخرج إلى هناك ورأى بيت "زينب الإمام"، وهذا هو اسمها الحقيقي، وأكتشف أن الدكتور هيكل كان يحبها. وحينما عُرض الفيلم وحقّق نجاحًا باهرًا أعاد محمد حسين هيكل طباعة روايته ونشرها باسمه الصريح بعد أن ظهرت سنة 1914 بعنوان "مناظر وأخلاق ريفية" ومذيّلة بتوقيع "مصري فلاح". ما يهمنا في هذا الفيلم أنّ مُخرجه محمد كريم قد سبق الواقعية الإيطالية بربع قرن فقد صوّر الشوارع والحقول وأسطح المنازل في قرى الشرقية والقليوبية والفيّوم لسبب بسيط وهو عدم وجود الأستوديوهات السينمائية في مصر، كما استعمل الناس العاديين والمجاميع الفلاحية بدلاً من الممثلين المحترفين الذين يكلّفونه بعض الأموال. ومع ذلك فمحمد كريم يعد المخرج الأول الذي أظهر القرية المصرية على الشاشة. وجدير ذكره أنّ هذا الفيلم الصامت سوف يحوّله المخرج إلى فيلم ناطق سنة 1952.

يتناول الناقد في الفصل الثاني السرعة التي تكلّم فيها الفيلم المصري ولم يتأخر عن شقيقه الأمريكي "مغنّي الجاز" الذي عُرض في عام 1927، إذ سارع المخرج المثابر محمد كريم إلى وضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الناطق الأول "أولاد الذوات" في 14 مارس 1932. ونظرًا للتكاليف الباهضة للأفلام الناطقة فقد جعلهُ نصف ناطق، بينما ظل النصف الآخر صامتًا. وقد حاول بعض المنتجين تحويل أفلامهم الصامتة إلى ناطقة كما حدث لفيلم "تحت ضوء القمر" من إخراج شكري ماضي الذي واجهَ بعض العقبات حينما سجّل الحوار على إسطوانات كانت تُدار مع الفيلم في أثناء عرضه لكن الصوت لم يتطابق مع الصورة وسبّب لهم العديد من المواقف المُحرجة. ينتقد سعدالدين توفيق ضعف قصة الفيلم، ورداءة الماكياج، وهبوط مستوى أداء الممثلين.

التعبير بالصورة والإلمام باللغة السينمائية

يتوقف الناقد عند ثلاث مُخرجات وهنّ عزيزة أمير التي أنجزت فيلم "كفّري عن خطيئتكِ"، وفاطمة رشدي التي حقّقت فيلم "الزواج"، وبهيجة حافظ التي تألقت في فيلم "الضحايا" ونجحت في تجربتها الإخراجية أمّا أميرة وفاطمة فقد فشل فيلميهما فشلاً ذريعًا الأمر الذي دفعهما إلى عدم تكرار تجربة الإخراج والاكتفاء بالتمثيل والإنتاج وكتابة السيناريو كما فعلت فاطمة رشدي.

يُحيط هذا الفصل بثلاثة مخرجين روّاد أيضًا وهم محمد كريم الذي أشرنا إليه سابقًا، وأحمد جلال الذي قدّم لنا "عيون ساحرة"، وهو أول فيلم مصري من أفلام الخيال العلمي الذي لم تألفه السينمائية المصرية آنذاك، وتوجو مزراحي الذي أتحفنا بعدد من الأفلام الروائية مثل "الكوكايين" 1930، و"أولاد مصر". ما يميّز هذا المخرج، بحسب سعدالدين توفيق، أنه "كان يُجيد التعبير بالصورة، وملمًّا باللغة السينمائية، وكان الحوار قليلاً في أفلامه إلى درجة مُلفتة للنظر" كما كان يلجأ إلى الفوتومونتاج Photomontage للتعبير عن مرحلة الانتقال في قصصه (والفوتو مونتاج هو عملية تعديل وتركيب لصورتين أو أكثر بواسطة الفوتوشوب لإنشاء صورة تحمل شيئًا من الخيال". كان مزراحي يعتمد كثيرًا على الوجوه الجديدة بخلاف أقرانه الذين كانوا يعوّلون على الممثلين المسرحيين الذين ذاع صيتهم آنذاك فتخلصَ هو من معضلة الأداء المسرحي، وسوف يتحول مزراحي من الأفلام الاجتماعية إلى الأفلام الفكاهية مثل "الدكتور فرحات" الذي حقق نجاحا هائلاً في حينه. لابد من العودة إلى المخرج محمد كريم الذي أنجز فيلم "الوردة البيضاء" بطولة الفنان محمد عبدالوهاب الذي حقق نجاحًا غير مسبوق حتى أنه أن إيراداته قد بلغت ربع مليون جنيه، وهو ثاني فيلم غنائي مصري بعد "أنشودة الفؤاد". لا يفوت سعدالدين الإشارة إلى أوجه التشابه بين "الوردة والبيضاء" و"غادة الكاميليا"، كما ينوّه إلى أنّ القصة السينمائية في الثلاثينيات لم تُعنَ بوضع حلول للمشكلات الاجتماعية التي تُثقل كاهل المواطنين المصريين، وأنّ عيون المنتجين كانت مصوّبة إلى شباك التذاكر.

السينما فتحت أبواب الشهرة للمطربين المصريين والعرب

يتمحور الفصل الثالث على "مدرسة إستوديو مصر " الذي أسّسه طلعت حرب سنة 1935 لكن المؤلف يسبق ذلك التاريخ قليلاً ويتوقف عند بعض الأسماء الفنية التي تمّ إيفادها للخارج  وهم أحمد بدرخان وموريس كسّاب لدراسة الإخراج في فرنسا، ومحمد عبدالعظيم وحسن مراد لدراسة التصوير في ألمانيا، وآخرين لدراسة الصوت والديكور والمونتاج. وأشار إلى أنّ فيلم "وداد" بطولة أم كلثوم، وإخراج أحمد بدرخان  قد تعثّر حينما أزاحوا بدرخان وأسندوا المهمة الإخراجية إلى الخبير الألماني فريتز كرامب، الذي لم يكن مخرجًا في الأصل، فجاءت المَشاهد بطيئة مملّة، وحركة الكاميرا بدائية، والتصوير ضعيف، فلاغرابة أن يكون الإخراج هزيلاً وخاليًا من أي لمسة فنية. ومع ذلك فقد حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا شجّع أم كلثوم على الظهور في أفلام أخرى. عُرض هذا الفيلم في مهرجان البندقية سنة 1936، وهو أول فيلم مصري يُعرض في مهرجان دولي. أما بدرخان فيُعدّ أول مصري درس السينما في باريس، وأول فنان ألّف كتابًا عن السينما جاء تحت عنوان "فن السينما" يشرح فيه كيف يُصنع الفيلم من بداية الفكرة حتى ظهوره على الشاشة.

قدّم المخرج محمد كريم عددًا من الأفلام الغنائية من بينها "دموع الحُب"، "يوم سعيد"، و"رصاصة في القلب" بطولة الفنان محمد عبدالوهاب الذي لمس ثمرة نجاحه في الفيلم الغنائي. كما قدّم كريم عددًا من الوجوه النسائية الجديدة مثل نجاة علي، ليلى مراد، رجاء عبده، ليلى فوزي اللواتي سوف يصبحنَ نجوم الشاشة العربية. يشيد المؤلف بإمكانية محمد كريم ويفضّلهُ على ماريو فولْبي ويعتبرهُ "أوسعُ خيالاً، وأرقُّ حسًا، وأكثر شاعرية"، ويعتقد بأنّ لا أحد استطاع أن يحل مشكلة "الأغنية السينمائية" حتى ذلك الوقت. ويرى بأن الأغنية يجب أن تكون جزءًا من القصة السينمائية لا أن تكون شيئًا زائدًا أو مُلصقًا بها.

يعرّج الناقد على بعض أفلام توجو مزراحي مثل "ليلى"، تمثيل ليلى مراد، وحسين صدقي، وفيلم "سلامة" بطولة أم كلثوم ويحيى شاهين. والمعروف عن مزراحي هو حبه لمصر، وسعية الدائم لبث المحبة بين اليهود والمسلمين، وحينما هُجِّر اليهود من مصر لم يذهب إلى إسرائيل، وإنما توجه إلى إيطاليا وفارق الحياة هناك.

يرصد المؤلف بعض الأفلام المختلفة عن النمط السائد مثل فيلم "العزيمة" قصة وإخراج كمال سليم، وهي تجربة فنية تذكرنا بالسينما الواقعية الإيطالية ولا يلوذ بالحلول الماورائية التي يضع فيها البطل ثقته بالقَدَر أو الحظ أو المُصادفة. وقد شبّه الناقد سعدالدين توفيق هذا الفيلم "بالنبات غير الطبيعي" من ناحية التكنيك في الأقل.

لا ينسى المؤلف إشادة الصحفي والكاتب السينمائي الفرنسي جورج سادول بفيلم "العزيمة" 1939 لكمال سليم كواحد من أحسن الأفلام التي ظهرت في الفترة الواقعة بين 1930- 1945. وقد نشر هذا التقييم الإيجابي في كتابه المعنون بـ"قاموس الأفلام" الذي صدر عام 1965.

تفاهة القصة في الأفلام الاستعراضية

يركز المؤلف في الفصل الرابع على أفلام ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تضاعف فيها عدد الأفلام المنتَجة من 16 فيلمًا عام 1943 إلى 67 فيلمًا عام 1945 فظهرت موجة من "الأفلام التافهة" كما يصفها سعد الدين توفيق لأنها تعتمد على قصص ساذجة، وتتكئ على النكتة اللفظية، وتعوّل على الإغراء الأمر الذي أفضى إلى هبوط مستوياتها الفنية. ومع ذلك فقد ظهرت حزمة من الأفلام الجيدة لنخبة من المخرجين أمثال محمد كريم وآسيا داغر وأحمد جلال، وأعقبهم ظهور صلاح أبو سيف الذي قدّم فيلمه الأول بعنوان "دايمًا في قلبي" 1946 المُقتبس عن فيلم "جسر ووترلو"، كما قدّم كامل التلمساني فيلم "السوق السوداء" الذي يُعد امتدادًا للمدرسة الواقعية وعالج فيه قضية الإتجار بقوت الشعب. ومع أنه فيلم جيد لكنه فشل فشلاً ذريعًا. كما سطع اسم مخرج ثالث من تلاميذ إستوديو مصر هو أحمد كامل مرسي وقدّم أقوى أفلامه وهو "النائب العام" ثم انصرف بعدها لإخراج أفلام وثائقية عن الفنانين التشكيليين مثل محمود سعيد وراغب عيّاد. ثم ظهر ثلاثة مخرجين جدد وهم عزالدين ذو الفقار الذي قدّم "أسير الظلام"، وامتازت أفلامه بالشاعرية والرِقة ووصفه أحد النقاد بأنه "شاعر وراء الكاميرا"، ويختار المؤلف ثلاثة من أنجح أفلامه وهي "بين الأطلال"، "رُدّ قلبي" و"نهر الحُب". أمّا المخرج الثاني فهو أنور وجدي الذي قدّم العديد من الأفلام الاستعراضية مثل "ليلى بنت الفقراء"، "عنبر" و"غزل البنات" وحقق نجاحًا طيبًا وظل طوال الأربعينات نجم الشاشة الأول. ويعتقد المؤلف بأنّ وجدي قد عالج العيب الجوهري في معظم الأفلام الاستعراضية وهو "تفاهة القصة" ولم يبخل على أفلامه ألبتّة، فقد كانت الديكورات ضخمة، ويهتم بالملابس كثيرًا، ويجد الحلول للمشكلات التي تصادفه في أثناء التصوير.

الرقابة المصرية رفضت فيلم "القاهرة الجديدة" ست مرات

تُهيمن على الفصل الخامس الأفلام الواقعية التي أنجزها صلاح أبو سيف بين الأعوام 1952- 1962 وكانت سببًا لشهرته مثل "لك يوم يا ظالم"، " الأسطى حسن"، "ريا وسكينة"، "الوحش"، "شباب امرأة" و"الفتوّة". وكان البطل في الأفلام هو الإنسان المسحوق والفقير والمهمّش ضحية الاستغلال والإقطاع. ومن المؤكد أن صلاح أبو سيف قد تأثر بالأفلام الواقعية في إيطاليا، وقرر أن ينقل هذه التجربة إلى الشاشة الكبيرة في مصر، خصوصًا وأنّ المخرجين الإيطاليين كانوا يأخذون قصص أفلامهم من أخبار الحوادث التي تنشرها الصحف اليومية الإيطالية. وتكمن الخطورة في نقل الحوادث أنها أصبحت معروفة للناس الأمر الذي يفقدها عنصري المفاجأة والدهشة مثل قصة السفاحتين "ريا وسكينة" اللتين روّعتا أهالي الأسكندرية، أو قصة السفّاح الصعيدي "الخط" الذي أرعب الناس في عموم المدن المصرية. ومع ذلك فقد جازف أبو سيف وأنجز هذه الأفلام بطريقة واقعية لا تنقصها الخبرة، والرؤية الإخراجية المدروسة التي تنطوي على حسٍ نقدي واضح للمجتمع المصري. يؤكد المؤلف بأنّ الرقابة الحكومية في الأربعينات والخمسينات كانت ترفض أي قصة سينمائية ذات مضمون سياسي فلاغرابة أن ترفض التصريح لصلاح أبو سيف بإخراج فيلم "القاهرة الجديدة" لستٍ مرات متتالية، وفي كل مرة كان يقدّم الفيلم بعنوان جديد، وقد نجح في المرة السادسة حينما قدّمه بعد عشرين سنة بعنوان "القاهرة 30". أمّا فيلم "الأسطى حسن" فقد رفضت الرقابة عرضه ما لم يكتب المخرج في نهاية عبارة "القناعة كنز لا يفتى!".

كمال الشيخ تلميذ هتيشكوك

تناول المؤلف عددًا من الأعمال التي انضوت تحت قائمة "الأفلام الوطنية" من بينها "رُدّ قلبي" لعزالدين ذو الفقار، و"مصفى كامل" لأحمد بدرخان، و"جميلة" ليوسف شاهين. وقد ظهر في هذه المرحلة أربعة مخرجين سينقشون أسماءهم في ذاكرة المشاهدين العرب وهم كمال الشيخ، يوسف شاهين، توفيق صالح، وعاطف سالم حيث أنجز كمال الشيخ فيلم "حياة أو موت" الخالي من العناصر التقليدية المتعارف عليها، وقد وصفه النقاد بأنه تلميذ هتيشكوك. فيما قدّم يوسف شاهين "صراع في الوادي" الذي يعالج قضية الإقطاع واستبداده في الريف المصري. كما قدّم "باب الحديد" الذي يراهن على الصورة، ويتضاءل فيه الحوار إلى درجة كبيرة. ركزّ المخرج الثالث توفيق صالح على الحارة المصرية في "درب المهابيل" فيما وجّه عنايته إلى القرية المصرية في "صراع الأبطال" وأنتقد العديد من الظواهر الاجتماعية مثل هيمنة الدجل والشعوذة وعدم الإيمان بالطب والعلم في المناطق الشعبية على وجه الخصوص. وفيما يخص المخرج الرابع فيكفي أن نشير إلى فلم "أم العروسة" الذي يحيلنا مباشرة إلى الواقعية الإيطالية الجديدة التي أثرّت على بعض المخرجين المصريين الذين تبنّوا هذه الموجة وأنجزوا أفلامًا ما تزال راسخة في أذهان المتلقين في عموم البلدان العربية.

يحتشد هذا الفصل بآراء نقدية كثيرة للمؤلف حيث يصف سلسلة الأفلام الفكاهية لاسماعيل يس بـ "الرخيصة والرديئة جدًا ولهذا انصرف عنها الجمهور لاحقًا بعد أن ملّ من التكرار الساذج للحركات التهريجية" وقد شخّص الناقد سعدالدين توفيق الأسباب أولها ضعف قصص هذه الأفلام وتشابهها شكلاً ومضمونًا.

"في بيتنا رجل" أحسن الأفلام الوطنية  التي قدّمتها السينما المصرية

لا ينسى المؤلف أن يتوقف عند المخرجين الذين انتبهوا قصص وروايات الأدباء المصريين مثل طه حسين، ونجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبد القدوس وقد حصل الأخير على أكبر أجر تقاضاه وهو 4000 جنيه مصري. وقد أخرج صلاح أبو سيف خمس روايات له وهي "الوسادة الخالية"، "لا أنام"، "الطريق المسدود"، "لا تُطفئ الشمس"، و"أنا حرة". فيما أخرج هنري بركات "في بيتنا رجل" الذي يُعدّ من أحسن الأفلام الوطنية التي قدّمتها السينما المصرية وحققت نجاحًا كبيرًا. أما فيلم "البنات والصيف" لعبدالقدوس أيضًا فقد اشترك في إخراجه ثلاثة مخرجين وهم عزالدين ذو الفقار، صلاح أبو سيف، وفطين عبدالوهاب، لأن الكتاب يتألف من ثلاثة قصص، وسُميّت هذه المرحلة بمرحلة النقد الاجتماعي، "وقد عاب عليه البعض بالانتقال من أفلام بولاق إلى أفلام الزمالك".

الملحوظة الأخيرة في هذا الفصل هي أن عدد الأفلام التي ظهرت خلال الحقبة المحصورة بين عامي 1952- 1962 هو 600 فيلم روائي بينما لا يزيد عدد كُتّاب السيناريو عن أصابع اليد الواحدة، ولعل القارئ الكريم سيعرف حتمًا  السرّ الكامن وراء "تفاهة" القصص السينمائية التي دمغت أفلامنا خلال تلك الحقبة الزمنية التي غلبت عليها "الكلفتة والاستعجال" بتعبير سعدالدين توفيق مع أنّ أهم ما يحتاج إليه الفيلم هو القصة السينمائية السوية والناجحة. وقد أنشأت وزارة الثقافة في حينه "معهد السينما" سنة 1959، ثم أردفته بـ "معهد السيناريو" سنة 1963 لكن خريجي هذين المعهدين ما يزالون بعيدين عن الميدان حتى ذلك الوقت المُشار إليه توًا.

أفلام المؤسسة ليست أفضل من الفيلم التجاري

يقتصر الفصل السادس على دراسة "القطّاع العام" الذي يمثّل المرحلة السادسة من مراحل تطور السينما المصرية 1963- 1969 والأفلام التي أنتجتها مؤسسة السينما التي تعاقدت مع عدد غير قليل من السينمائيين للعمل في أفلام "حرف ب" ومعنى "حرف ب " هنا هو أفلام من الدرجة الثانية قليلة التكاليف. وكانت النتيجة أن ظهرت أفلام هزيلة لا تختلف مطلقًا عن الأفلام الهابطة التي أنتجها القطاع الخاص، فزالت مخاوف هذا الأخير وتيقّن بأن أفلام المؤسسة ليست أفضل من الفيلم التجاري الخاص مع بعض الاستثناءات المحدودة هنا وهناك. وقد انهال النقاد على أفلام المؤسسة باللوم والتقريع وأعتبروا أن السينما المصرية قد عادت عشرين سنة إلى الوراء. وأصبح اسم "من أجل حنفي" لحسن الصيفي عنوانًا وأنموذجًا للفيلم الرديء الأمر الذي دفع المؤسسة إلى إيقاف عرض الباقي من أفلامها. وقد فلَتَ من بين الأفلام الرديئة فيلم "الناصر صلاح الدين" ليوسف شاهين الذي ساهمت المؤسسة بتمويلية، ويعدّ نقلة واسعة من أفلام الصالونات إلى الإنتاج الضخم والمشرّف الذي يقف جنبًا إلى جنب مع أفلام هوليوود الكبيرة. وأجمل ما في هذا الفيلم، كما يرى سعدالدين توفيق، هو المَشاهد الخالية من الحوار، وقد استغرق إنجاز الفيلم سنتين من التأمل والعمل الدؤوب. وفي عام 1966 أنجزت المؤسسة أفلامًا مهمة حققت رسالتها مثل "ثورة اليمن" لعاطف سالم، و"القاهرة 30" لصلاح أبو سيف، و"السمّان والخريف" لحسام الدين مصطفى. أما مرحلة الإنتاج المشترك فلم ينجح أيضًا وكان بعض أفلامها أردأ من أفلام "حرف ب" مثل "ابتسامة أبو الهول" و"ابن كليوباترا"، وهكذا فشلت الشركة في أن تحقق انطلاق السينما العربية في المجال العالمي لأنها لم تحاول أن تتعاقد مع أسماء إخراجية كبيرة مثل روسلّيني أو رينيه كلير، أو إيليا كازان الأمر الذي دفعهم لإعادة النظر بالقطاع العام وإعادة تشكيل المؤسسة على وفق سياسة جديدة لإنتاج الأفلام الروائية.

صرامة نقدية لا تنتصر إلاّ للعمل الفني الناجح

قبل أن يثبِّت الناقد سعدالدين توفيق قائمة بأفضل فيلم مصري يعترف بأنه اختياره قد وقع على الأفلام التي تميّزت بمستواها الفني، وقد انتقى فيلم "زينب" كأفضل فيلم في ذلك الوقت لأنه حقق نقلة إلى الأمام، ولو عُرض الآن لضحك الناس عليه أكثر من أفلام فؤاد المهندس. كما أهمل الأفلام التي أنجزها مخرجون أجانب مثل لاشين وفريتز كرامب وأندرو مارتون وما سواهم. ولو ألقينا نظرة عجلى على المئة فيلم لوجدناها تبدأ بـ "زينب"، و"أولاد الذوات"، و"الوردة البيضاء" للمخرج محمد كريم، وتنتهي بـ "شيء من الخوف" لحسين كمال، و"يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق صالح، و"أبي فوق الشجرة" لحسين كمال.

جدير ذكره بأنّ الناقد سعدالدين توفيق قد صدر له إضافة إلى "قصة السينما في مصر" كتاب بعنوان "فنان الشعب: صلاح أبو سيف"، كما ترجم "قصة السينما في العالم: من الفيلم الصامت إلى السينيراما" لآرثر نايت. ويكفي القارئ العربي، المتخصص وغير المتخصص، أن يقرأ "قصة السينما في مصر" ليعرف جدية الناقد الفذ سعدالدين توفيق، وصرامة آرائه النقدية التي تخلو من المجاملات، ولا تنتصر إلاّ للعمل الفني الناجح الذي يحترم ذائقة المتلقين.

 

عدنان حسين أحمد

 

 

دانيليفسكي وقضية الأوهام الأيديولوجية واليقظة السياسية الروسية (6)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي

ميثم الجنابي"الأوربة الروسية" تقليد ومرض

عندما وضع دانيليفسكي كامل استنتاجاته تجاه الإشكالية الواقعية للتقليد الأوربي في روسيا، فإنه توصل إلى أن الشعب الروسي منقسم إلى طبقتين متختلفتين بعضهما عن بعض. الطبقات الاجتماعية الدنيا ظلت روسية الروح والشخصية، بينما تحولت الطبقة العليا إلى أوروبية المنزع. فالطبقات المتأوربة تأخذ كل ما هو أوربي. وتعتقد بأن كل ما هو جيد في الغرب جيد بالنسبة لروسيا. وبهذه الطريقة تم نقل العديد من الأنماط الأوربية في مختلف مفاصل الدولة والثقافة والحياة. بينما كشفت التجربة بشكل تام وواضح، بأن كل هذه الأشياء غير مقبولة. وإنها تجف وهي في المهد. الأمر الذي يجعلها تطالب بإمدادات مستمرة وجديدة. وفي الوقت نفسه تقول التجربة التاريخية للروس، بأن التغييرات في الحياة الاجتماعية العامة والحكومية النابعة من الاحتياجات الداخلية للشعب قد جرى قبولها بنجاح. ومن ثم، فإن أعظم الإصلاحات التاريخية التي جرى تطبيقها في روسيا والتي عادت عليها بفوائد جمة لم يجر إحداثها وفقًا لنموذج غربي. بل على العكس. لقد جرى تطبيقها وفقًا لخطة مميزة عززت رفاهية الناس وحريتهم. أما الصيغة المتطرفة والأكثر ضررا وضراوة من بين أولئك المتأوربين، فهي تلك التي تنظر إلى كافة مظاهر الحياة الداخلية والخارجية لروسيا من وجهة نظر أوربية. إذ تسعى هذه النظرة بكل الوسائل المتاحة أن تدرج وتدخل كل ظواهر الحياة الروسية تحت معايير الحياة الأوربية أما بصورة غير واعية بسبب استلابها أمام الفكر الأوربي، أو  بوعي من أجل إعطاء هذه الظواهر هيئة التشريف والتكريم والتبجيل. ومنها يمكن أن نفهم خلوهم من كل هذه المظاهر في حال انعدام "شخصيتهم الأوربية"، كما يقول دانيليفسكي. ولعل أحد الأمثلة النموذجية بهذا الصدد هو الموقف من قضية القسطنطينية (اسطنبول). فأوربا تتهم الروس بسعيهم للهيمنة عليها. بينما نشعر نحن بالخجل من هذا الاتهام، كما لو انه بالفعل فعلاً سيئاً. فقد استولت إنجلترا على جميع المضايق البحرية في أغلب مناطق العالم. بل من غير المعروف لماذا استولوا على صخرة على الأراضي الإسبانية (جبل طارق) من اجل السيطرة على مدخل البحر الأبيض المتوسط. أما ما يتعلق بنا فيجري رفض حتى فرضية حقنا في الدخول الحر إلى منازلنا، دعك عن الالتزام الأخلاقي بإبعاد الأتراك عن الأراضي السلافية واليونانية. إن كل هذه الأمثلة مؤشر على أعراض المرض، الذي يمكن أن نطلق عليها تسمية ضعف الروح الوطنية في طبقات المجتمع الروسي الأكثر تعليمًا. وهي في الوقت نفسه السبب الجيني للمرض، والذي تنشأ منه وتدعمه باستمرار. إن هذا المرض يعوق بلوغ الأهداف الكبرى للشعب الروسي. كما يمكنه استنزاف ربيع الروح الوطنية، ويحرم الحياة التاريخية للشعب الروسي من القوة الحيوية الداخلية، بحيث يجعل من وجوده شيئا عديم الجدوى والفائدة. أما الاستنتاج النهائي الذي توصل إليه دانيليفسكي في مجرى دراسته وتحليله ونقده لمرض التقليد أو مرض الأوربة الروسية، فيقوم في إقراره، بأن كل ما هو خال من المحتوى الذاتي لا يتعدى كونه قمامة سوف يجري جمعها ووضعها في نيران الحساب التاريخي.

الحضارة الأوربية ليست عالمية

لقد أدى هذا الإستنتاج الفكري والثقافي العميق الذي توصل إليه دانيليفسكي إلى وضع ونقد السؤال الأعم والأعمق في الوقت نفسه عما إذا كانت الحضارة الأوروبية متطابقة مع الحضارة العالمية أو الإنسانية العامة؟ أي عما إذا كانت الحضارة الأوربية تتطابق مع مفهوم وفكرة العالمية والإنسانية العامة.

إن الوعي الأوربي، كما يقول دانيليفسكي، ينطلق من مقدمات ترتقي عنده إلى مصاف البديهة التاريخية والثقافية. وهذه المقدمات هي كل من تصوير الشرق والغرب على أنهما نقيضان وقطبان؛ وأن الأوربي الغربي هو قطب التقدم والتطور والتقدم بينما الشرق (آسيا) هو قطب الركود والغباء؛ وأن الغرب محبوب والشرق مكروه؛ وأن الفكرة الأوربية تنطلق من أنها الكلّ والمطلق والحقيقة والجمال والخلاص، وما عداها ركود وموت؛ وأن أوروبا هي إنسانية كاملة وبدونها لا يمكن أن تكون هناك حضارة. بمعنى انه لا وجود للتقدم خارجها.

أما من حيث الواقع والتاريخ والثقافة الفعلية، فإن كل هذه المقدمات "الفكرية" هي هراء مطلق وسطحية إلى درجة يجعل حتى من دحضها امرا مخجل، كما يقول دانيليفسكي. لاسيما وأن تقسيم العالم نفسه إلى أجزاء هو تقسيم مصطنع. أما المعيار الحق فهو أن البحر أو البحار هي التي تقّسم الكرة الأرضية. وبالتالي، فإن أي جزء من أجزاء العالم لا يمثل ولا يمكنه أن يمثل الخصائص التي قد يضعها أحدهم في معارضة الآخر. فمصر وساحل البحر المتوسط عمومًا أكثر البلدان قدرة على الثقافة. وأن أوروبا في الواقع هي جزء من آسيا. ومن ثم لا تختلف عن الأجزاء الأخرى. وبالتالي لا يمكنها أن تعارض بشكل كامل وتختلف اختلافا تاما عن الآخرين. كما أن الواقع يبرهن على أنه في جميع أنحاء العالم توجد بلدان قادرة وأخرى أقل قدرة على تطوير المدنية. وبالتالي، فإن السمعة التي تتمع بها أوربا هي نتاج حالة نعرفها. رغم أن بقية آسيا لديها ثقافة أكثر أصالة على الإطلاق من الأوربية. فالعديد من فروع الصناعة الصينية لا تزال في درجة من الكمال لا يمكن للصناعة الأوربية بلوغها. وينطبق هذا على صناعات أخرى عديدة. كما تحتل الصين المكان الأول على الكرة الأرضية بالزراعة العقلانية. والبستنة الصينية أيضا ربما تكون الأولى في العالم. وينطبق الشيء نفسه على وسائل الراحة. وقد عرف الصينيون قبل الأوربيين بقرون عديدة البارود والطباعة والبوصلة وورق الكتابة. كما أن لأهل الصين أدب هائل ونمط من الفلسفة. وعندما كانت مذاهب الإغريق القدماء تؤمن بالخرافات، فإن علماء الفلك الصينيون لاحظوا بالفعل هذه الأجرام السماوية علميا. بل أنهم تركوا الإغريق والرومان في الكثير من مجالات التطور العلمي وراءهم بمساحات شاسعة. أما السبب الآخر والأكثر أهمية لرفض فكرة انعدام أية حضارة مستقلة خارج أنماط الثقافة الجرمانية الرومية أو الأوروبية، والتي يجري لصق كلمة العالمية بها، فيقوم في أن التاريخ السابق طوّر حضارات تاريخية كبرى. وبالتالي، فإن هذه الفكرة الأوربية هي نتاج سوء فهم واسع الانتشار.

في نقد النزعة الأوربية وحضارتها

انتقد دانيليفسكي نمط التقسيم التاريخي الذي صنعه الأوربيون لأنفسهم على مثال تاريخهم الخاص، والذي حاولوا جعله نموذجا للتقسيم التاريخي للجميع. من هنا قوله، بأن فكرة الأوربيين عن التاريخ القديم والوسيط والحديث مرتبط بتاريخ الدولة الرومانية. وهو تاريخ أوربي بحت وجزئي في الوقت نفسه. أما محاولة سحبها على تواريخ الأمم الأخرى أو العالم ككل فهو أما سوء فهم أو خرافة. إذ لكل أمة وحضارة تاريخها القديم والوسيط والحديث. وذلك لأن لكل منهما مراحل تطور خاصة به. لاسيما وأن لهذا التقسيم نماذجه في أمور أخرى عديدة، كما هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة لنمو الإنسان وحياته. إذ يمكننا التمييز بين ثلاث مراحل فيها وهي الطفولة والشباب والشيخوخة. كما يمكننا تقسيمها إلى أربع مراحل وهي الطفولة والمراهقة والرجولة والشيخوخة، أو مراحل أكثر مثل الطفولة والمراهقة والشباب والرجولة والشيخوخة والهرم. وبالتالي، يمكن ابتداع أعداد أخرى لفترات التطور في حياة الأقوام التاريخية،كما يقول دانيليفسكي.

وعندما ننظر إلى نشوء وتطور الأنماط التاريخية الثقافية الكبرى أو الحضارات الأصلية، فإننا نراها مرتبة ترتيبًا زمنيًا على التوالي وهي: المصرية، والصينية، والآشورية – البابلية – الفينيقية - الكلدانية أو السامية القديمة، والهندية، والإيرانية، والعبرية، واليونانية، والرومية، والسامية الجديدة أو العربية، والجرمانية الرومية أو الأوروبية1 . وأضاف دانيليفسكي إلى هذه المجموعة العشرة مما أسماه بالنمطين الأمريكيين وهما كل من المكسيكي وحضارة البيرو، اللذين ماتا قبل أن يكتملا. وعلى هذا الأساس استنتج، بأن الشعوب التي شكلت هذه الأنماط التاريخية الثقافية هي الوحيدة التي كانت تمثل قوى إيجابية في تاريخ البشرية. وذلك لأن كل منها وضع بصورة مستقلة بداية تطوره الذاتي انطلاقا من خصوصيته وطبيعته الروحية. ومن الناحية التاريخية عادة ما كان يجري نقل ثمار كل منها للآخر بصفتها مواد للتغذية أو سماد للتخصيب بمواد متنوعة قابلة للهضم ومستوعبة للتربة التي كان من المقرر أن يتطور فيها النمط التالي، كما نراه على مثال ظهور وتدرج وتطور الأنماط التاريخية الثقافية. فقد طورت هذه الأنماط الثقافية والتاريخية شخصياتها الفردية، كما يقول دانيليفسكي. وبالتالي ساهمت في تنوع مظاهر الروح البشري، ناهيك عن تلك الاكتشافات والاختراعات مثل النظام العشري من علامات الأرقام، والبوصلة، وصناعة دودة القز، والبارود وغيرها من الانجازات العلمية الكبيرة، التي تم نقلها إلى أوروبا من الشرق بمساعدة العرب.

ووضع دانيليفسكي هذه الحصيلة وكثير من الجوانب التي اخضعها للتحليل والاستعراض والنقد في استنتاج دقيق يقول، بأن تقسيم التاريخ إلى ثلاث مراحل هي فكرة أوربية خالصة. ومن ثم تخصها لحالها فقط ولا علاقة لها بتاريخ الأنماط التاريخية الثقافية أو الحضارات الكبرى للماضي والحاضر.

إن تسلسل الانماط التاريخية الثقافية الكبرى، أو الحضارات الأصيلة، كما يصفها دانيليفسكي، يشير إلى أنها عرضة للزوال التاريخي. بمعنى انه ليست هناك حضارة أو نمط تاريخي ثقافي قادر على العيش دوما. والمصطلح الدقيق الذي وضعه واستعاض به عن مصطلح الحضارة يتضمن فكرة التاريخي، أي العابر بمعايير الزمن. وذلك لأن بدايته هو نشوء وتكون وتكامل ذاتي مديد، أي تاريخ الصيرورة الأولية والانتقال من المرحلة الاثنوغرافية إلى مرحلة الأصالة الذاتية كما اسماه دانيليفسكي. وما بعدها هو إنتاج مثمر قصير، شأن كل ما في الطبيعة. وبقدر ما ينطبق ذلك على الأنماط القديمة، فإنه ينطبق بالقدر ذاته على النمط الأوربي. من هنا ظهور الفكرة النقدية المتعلقة بمستقبل هذا النمط الثقافي. فهو من حيث البداية والأصل نمط تاريخي. ومن حيث ثماره هو نمط أوربي. وبالتالي، فإن حالة الإثمار التي لازمت إبداعه العظيم تفترض، شأن من سبقه، بالضرورة للانحلال. من هنا سؤاله عما إذا كان الغرب، بوصفه حامل الثقافة الأوربية، سيتعرض للتعفن والانحلال أم لا؟

موت الحضارة الأوربية

وفي معرض اجابته على هذا السؤال- الإشكالية انطلق دانيليفسكي من فكرة مفادها أن الشعوب الأوربية أنتجت أسس تفكير جديدة وطريقة جديدة للبحث العلمي. وبدأ أثرها منذ عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر بإعطاء نتائج نظرية وعملية وفيرة. حيث جرى إبداع وتأسيس كل شيء أصلي في الفن والعلوم الأوروبية. مما حدد تطورها اللاحق ضمن هذا الإطار. وتمثل حالة نمو الثمار وحصادها مرحلة الانحدار التاريخي والنفوذ الزمني للحضارة. فالثمار هي بداية الخريف. وألوانه هي نهاية الربيع. الأمر الذي يؤيد الاستنتاج القائل، بأن القوى الإبداعية لأوربا قد دخلت بالفعل في هذا المسار المحتوم منذ مائة وخمسين أو مائتي عامًا مضت،كما يقول دانيليفسكي. وهي الفكرة التي سيكررها شبنغلر لاحقا في موقفه من "أفول أوربا". وشدد دانيليفسكي أيضا، على انه قد يكون من الصعب القول ما إذا كان الصيف بمعنى كونه الوقت المبكر أو أواخر الخريف، فإن الشمس هي التي تزرع هذه الفاكهة، وأنها تمر بالفعل وراء خط الطول وتميل بالفعل نحو الغرب. سوف يصبح هذا الوضع أكثر وضوحًا إذا استطعنا أن نحدد طبيعة القوى التي بنت وحافظت على بناء الحضارة الأوروبية.

ومن هذه المقدمة والنتيجة في الوقت نفسه، حاول دانيليفسكي الإجابة على ما في الزوال المحتمل والقريب للنمط التاريخي الثقافي الأوربي من آفاق جلية بالنسبة للنمط التاريخي الثقافي السلافي. وانطلق في تأسيسه لهذه الفكرة من أن للأحداث التاريخية في مجرى تطورها ومستويات كمالها، فوارق كبرى لا معنى للمقارنة بينها بما يتعارض مع قواعد النظام الطبيعي. وأن التمييز النوعي للأنماط التاريخية الثقافية هو أعلى مبدأ في التقسيم. بمعنى انه يبلور الفكرة التي تعارض مختلف النماذج البدائية والضيقة في ما يخص تقسيم وتقييم الأمم وحضاراتها. بمعنى انه يريد الرجوع بالأقوام إلى أنماطها الثقافية، أي التركيز على أولوية وجوهرية الإبداع الثقافي الحضاري، بوصفها المساهمة الذاتية الفعلية في تاريخ الأمم والعالم ككل. وسبب ذلك يقوم في أن الأقوام والشعوب، كما يقول دانيليفسكي، تختلف من حيث مكوناتها الإثنوغرافية. وعلى أساسها تنقسم البشرية إلى عدة مجموعات كبيرة. وواحدة من هذه المجموعات هي أسرة الشعوب السلافية. وهي تتميز بذاتها ومن ثم تختلف عن المجموعات البشرية الأخرى مثل السنسكريتية والإيرانية والهيلانية واللاتينية والألمانية. ويترتب على ذلك أن أسرة الأمم السلافية تشكِّل نمطا تاريخيا ثقافيًا متميزًا. ومع أن دانيليفسكي يتكلم عنه بمعايير الاحتمال، إلا انه احتمال يرتقي بالنسبة له إلى مصاف اليقين.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

1- هنا ثمة خطأ تاريخي يقوم في تجاهله للحضارة السومرية. كما أنها الأقدم من كل تلك الحضارات التي أشار اليها دانيليفسكي. وقد يكون السبب هو عدم اطلاعه آنذاك على هذا الجانب، أو أن المعارف بالحضارة السومرية وتاريخها لم تكن بعد واسعة الانتشار في الدراسات المتخصصة بتاريخ الحضارات بشكل خاص.

 

الدكتور عبد الواحد، لؤلؤة الترجمة الأدبية الحديثة (2)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد علينعود وننهي حديثنا عن الدكتور عبد الواحد، لؤلؤة الترجمة الأدبية الحديثة، وهنا نقول:  درّس الدكتور لؤلؤة الشعر الإنجليزي سنواتٍ في كليّة الآداب، فكان يضفي على الدرس حيوية تخرج به، أحياناًً، من إطاره القديم، وبيئته البعيدة؛ لتجعله يلامس نبض طلبته في ما يرون، ويسمعون، ويقع عليهم وإذا كان غيره من أساتذة الأدب الإنجليزي قد قصروا همّهم على تخصصهم، ووفّروا جهدهم على قاعة درسهم؛ فإنّه كان من قاعة الدرس ينظر إلى ساحة الأدب العربيّ لقد كان يريد، منذ أن بدأ، أن يجمع شرف الأدبين، وأن ينظر في الأدب العربيّ بمنظار مصقول بأشعّة من الأدب الغربي.

كان الأدب الإنجليزي، بأعصره كلّها، قد تغلغل فيه؛ فكراً وفناً؛ فأفضى به نحو قدر رحيب من الحريّة في الكلام، وفي الكتابة، وفي مزاولة تبيان ما يراه من العيوب، والنقائص ولعلّه مضى مع حريّته في الكلام، ولعلّه لم يحترس؛ فاضطرب الحبل، واختلّ، وانقطع، وخرج من الجامعة في سنة 1977، وبقي، بعدها، قليلاً في البلد، ثمّ غادر ليستأنف شوطاً آخر من رحلته.

ومن كتبه المؤلفة (البحث عن معنى)، و(النفخ في الرماد)، (منازل القمر)، (شواطئ الضياع)، (مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات: دراسة نقدية في الشعر العربي المعاصر)، (الصوت والصدى: دراسات ومترجمات نقدية)، (التناص في الشعر العربي المعاصر")، (معلمي الأول" مساهمة في كتاب تكريم جبرا إبراهيم جبرا: القلق وتمجيد الحياة)، (شارع الأميرات: السيرة الذاتية لجبرا إبراهيم جبرا"،)، (الحب شرقاً… الحب غرباً").

أما كتبه المترجمة فكثيرة منها ( موسوعة المصطلح النقدي) وتقع في 44 جزءً ومن المسرحيات التي ترجمها، مسرحية تيمون آردن،  جون آردن، مياه بابل، رقصة العريف (سلسلة من المسرح العالمي - 80/1)، وليم ﺷﮑﺴﭙير، تيمون الأثيني (سلسلة من المسرح العالمي - 95)، موسوعة المصطلح النقدي: سلسلة من 44 جزءً ظهر منها 16 جزءً، ﮔﻠﻢ: وليم بليك، وليم ﺷﮑﺴﭙير، ﭘيركليس، وليم ﺷﮑﺴﭙير، سيمبلين، رابندرنات تاﮔور، أغان وأشعار، سلمى الخضراء الجيوسي: الشعر العربي الحديث، جزءان، إسماعيل الفاروقي و د. لوس لمياء الفاروقي، أطلس الحضارة الإسلامية، (رؤيتي)، (قصائد من الصحراء) إلى الإنجليزية، وكتاب (رياح الصحراء) إلى اللغة العربية، من الشعر العربي في العراق / مختارات قدم لها ونقلها الى الإنجليزية عبد الواحد لؤلؤة.، الأتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث / [تأليف] سلمى الخضراء الجيوسي، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة.. وهلم جرا..

وبالمناسبة هو متزوج من سيدة فلسطينية. وله ابن منها يعمل قائد أوركسترا في أمريكا. وهو متقاعد في إنجلترا.. يجيد الإنجليزية (تخصص) الفرنسية (جيد جداً) الألمانية، الإسبانية، الإيطالية (وسط).. وفي الأول من شهر سبتمبر لعام 2004م كان المستشار الثقافي – المكتب التنفيذي للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم – دبي –الإمارات العربية المتحدة.. نال جائزة البابطين للإبداع في نقد الشعر- الكويت عام 2002م، وجائزة الإبداع الثقافي – رابطة الكتّاب الأردنيين – عمّان 2005م.. وهو على علمه بالنقد الأدبي الغربيّ وبمناهجه، وبما يستجدّ فيه؛ لم يقع أسير حبائله، ولم يقبل منه كلّ ما يأتي به؛ إنّما يقف منه، في كلّ الأحوال، وقفة الناقد الذي يعرف ما يأخذ وما يدع .

ومطلبه الذي لا يُخلي يده منه؛ الوضوح، واستبانة الدلالة، واستقامة الرؤية؛ حتّى يستقيم الفهم؛ يقول: ( فأنت تقرأ أفلاطون في الجمهوريّة، أو في المحاورات، وتفهم ما تقرأ فيلذّ لك . ثمّ تبدأ تساورك الشكوك؛ هل أنت حقّاً تفهم ما تقرأ، وتجد متعة فيه ؟ ثمّ تبدأ تساءل نفسك؛ لماذا قالوا لك إنّ الفلسفة صعبة الفهم تستغلق على القارئ ؟ ثمّ تقرأ كتاباً لأحد الفلاسفة المعاصرين؛ فلا تفهم ما تقرأ . وتعجب أن يكون فيلسوف معاصر أصعب على الفهم من أفلاطون نفسه . وأحسب أنّ الفرق بين الاثنين يقع في باب الفرق في وضوح الرؤية . فذلك يعي ما يقول، ويقوله بكلّ تواضع، وهذا " دماغه ملخبطة .. سمك لبن، تمر هندي ".

وقد كان حريصاً على شرط الوضوح في ما كتب، وفي ما ترجم؛ شأنه في ذلك شأن ذوي الثقافة الإنكليزية؛ إذ يجمعهم، في أغلبهم، وضوح الرؤية، وسلامة البيان عنها؛ كمثل "جبرا إبراهيم جبرا"، و"عبد العزيز حمودة"، و"محمد عناني"، و"محمّد عصفور"، وآخرين .

في حوار أجراه سلام نوري مع الدكتور عبد الواحد لؤلؤة ونشر بجريدة العراق يوم 25 كانون الثاني 2001 قال في قضية قراءة الخطاب الأدبي بوصفه موضوعا للبحث،:" أرى الاقتراب من النص الادبي " . وأضاف: " أن فرض قالب في النقد على النص أشبه بوضع العربة امام الحصان، ومثل ذلك يقرر الناقد مسبقا أنه سيصطنع المقترب التاريخي، أو الجمالي، أو النفسي، أو البنيوي، أو التفكيكين في تناول النص الأدبي، فأول ناقد في تاريخ الحضارة هو أرسطو الذي يتناول (الدراما) والمأساة بخاصة في كتابه المعروف باسم ( فن الشـعر ) ثم يضع أرسطو قوالب نقدية مسبقة في تناول فنون الشعر، بل أنه تناول المعروف في تلك الفنون في عصره وما سبق .. ومن تلك الأمثلة استخراج أرسطو قواعده النقدية وأهمها فكرة الوحدات الثلاث في الدراما، وهي أن الدراما يحسن أن تتوفر فيها وحدة الزمن ووحدة مكان الفعل ووحدة الفعل الذي قاد إلى المأساة وهذه الوحدات أصبحت قاعدة في النقد الأوربي الحديث . وقد حدث مثل هذا في تراثنا العربي فالخليل بن احمد الفراهيدي تناول المعروف من الشعر واستخلص منه قاعدة عروضية .. وعبثا يحاول اليوم بعض نقادنا عندما لا يرجعون إلى النصوص، بل يريدون تطويع الخطاب النقدي الى مذاهب غريبة عن واقعنا .. وعن تراثنا" .

كان الدكتور عبد الواحد لؤلؤة يؤكد بأن الترجمة أمانة وقد أجرت معه جريدة الثورة (البغدادية) حوارا لمناسبة حضوره مهرجان المربد في بغداد سنة 2002 ونشر في العدد الصادر يوم 1 آذار 2002 قال فيه:" أن المترجم ينبغي أن يكون أميناً في نقل النص كما أن على المترجم أن يتسلح بأدوات عديدة منها معرفته الدقيقة بلغته أولاً وباللغة التي ينقل عنها، ولا يكفي في ذلك استخدام القاموس، فكم من كلمة يورد القاموس لها معنى لكنها ترد بمعنى آخر في سياق النص" .. وبشأن إشكالية ترجمة الشعر قال الدكتور لؤلؤة: " ليس من السهل ترجمة الشعر، لان ذلك يتطلب حسا مرهفا بالمفردة والمهم نقل مناخ القصيدة ". وحول تباين الرؤى في الترجمة مع تعاقب الأجيال قال لمحمد إسماعيل الذي أجرى معه حواراً نشره في جريدة الجمهورية ( البغدادية) يوم 31 من كانون الثاني 2003 قال:" قارن ترجمة خليل مطران في عشرينات القرن الماضي بترجمة استاذي المرحوم جبرا ابراهيم جبرا، وأحسب أنه لو امتد به العمر وأعاد ترجمة عطيل لشكسبير لكان لترجمته نكهة اخرى تتغير بتغير الأوضاع والأزمان والأذواق، وينعكس ذلك على أسلوب الترجمة لذا كان من الضروري إعادة ترجمة الشوامخ مرة كل جيل من الزمان".

ومع إن عبد الواحد لؤلؤة يشيد بما قدمه المترجمون العرب، ومنهم العراقيون من جهود في مجال رفد حركة الترجمة ورفد الساحة الثقافية العربية بالعديد من النتاجات الأدبية والفكرية، إلا أنه يعيب عليهم تأخرهم في البدء بالترجمة، ويقول أن الترجمة عن اللغات الحية تتأخر عندنا كثيراً إلى حد أن بعض الموجات النقدية نشأت ونمت وازدهرت ثم ذوت، حتى إذا ماتت وأعلنت نهايتها جاء المترجمون ليشرعوا في الترجمة .. ولم تعد مسألة التأخر في الترجمة وقلة ما يترجم من اللغات الحية بغائبة عن أحد، فلقد اكدت التقارير التي تصدرها الهيئات الأكاديمية العالمية أن ما يترجم في كل البلدان العربية في سنة واحدة لا يصل إلى ما يترجمه بلد اوربي صغير وتلك بحق واحدة من المشاكل التي تعاني منها حركة الثقافة العربية المعاصرة .

وعندما صدر عن مشروع "كلمة" في أبوظبي كتاب "الغنائيات" لويليام شكسبير، ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، الذي قدّم شروحا وتفسيراتٍ مستفيضة لكل غنائية على انفراد، مُعتمدا فيها على أفضل ما كتبه النقاد البريطانيون والمتخصصون في أدب شكسبير على وجه التحديد، أمثال "دون باترسن"، "ستيفن بوث" و"كاثرين دنكان" وآخرين لا مجال لذكرهم جميعا.

ينقسم كتاب "الغنائيات" إلى أربعة أقسام رئيسة، وهي المقدمة الرصينة، وتراجم الغنائيات بالعربية، والنصوص الإنكليزية. هذا إضافة إلى الشروحات الوافية التي لم تترك شاردة أو واردة إلا وتوقّف عندها الباحث والمترجم عبد الواحد لؤلؤة المعروف بملَكته النقدية المرهفة. لا بد من الإقرار سلفاً بأن هذه المراجعة لا يمكن أن تغطي الكم الكبير من المعلومات النوعية التي وردت في المقدمة والتراجم والشروح الدقيقة التي تنطوي على إحالات نقدية وفكرية وتاريخية تحلّ كثيرا من الإشكالات المتعلقة بالعاشق والمعشوق والسيدة السمراء التي سرقها المعشوق، أو اللص الظريف من الشاعر، كما تسلّط هذه الشروح الضوء على بعض الاستنتاجات الخاطئة، التي حاولت أن تلصق تهمة المثلية الجنسية بشكسبير، ولو كان كذلك لما قصّر حُسّاده ومنافسوه من الشعراء والكُتّاب المسرحيين في الترويج لهذه التهمة وتكريسها كحقيقة دامغة في حياته الشخصية.

تشي المقدمة الشافية للؤلؤة بإعجابه الواضح بأستاذه الراحل "جبرا إبراهيم جبرا"،الذي ترجم أربعين "سونيتة"، فقط تاركاً البقية الباقية لغيره من المترجمين، وحجته في ذلك "أنها تتطلّب الكثير من الشروح والتعليقات الأكاديمية التي تقتل الشعر فيها"، غير أن لؤلؤة لم يقتنع بهذه الإجابة فتحدّاه "جبرا" أن يقوم بهذه المهمة، كجزء من نشاطه الأكاديمي فقَبِل لؤلؤة بهذا التحدي، ولو بعد 30 عاما.ً

أشار لؤلؤة في مقدمته إلى ترجمتين اثنتين فقط للغنائيات، وهما ترجمة "جبرا إبراهيم جبرا"، وترجمة "كمال أبو ديب"، وحقيقة الأمر أن هناك ترجمة ثالثة اضطلع بها الشاعر والمترجم المصري "بدر توفيق" وجاءت تحت عنوان "سونيتات شكسبير الكاملة مع النص الإنجليزي"، كما ترجم الشاعر الراحل "سركون بولص" بعضاً من سونيتات شكسبير، منتقداً فيها ترجمة "جبرا إبراهيم جبرا"، لعدم مراعاته للسياقات اللفظية في هذه السونيتات، أو حتى في المسرحيات الشكسبيرية التي ترجمها.

يشيد لؤلؤة بترجمة أستاذه "جبرا" ويصفها بأنها "أنيقة العبارة، دقيقة في فهم المعنى"، لكنه ينتقد توسّعه في العبارة الإنجليزية المكثفة، لكي يجعلها مُستساغة في العربية. وقد اكتفى "جبرا" بهوامش قليلة عوضا عن الشروح الطويلة، كي يظل تركيز القارئ مُنصّبا على القصائد نفسها، لا على الشروح والإحالات الجانبية.

يُعرِّب لؤلؤة كلمة سونيت بـ«الغنائية»، بخلاف بقية المترجمين العرب الذين يفضلون الاحتفاظ بالاسم الأصلي، وحجته الدامغة في ذلك أنها مشتقة من كلمة "  Sonetto" الإيطالية، التي تعني بالعربية "الأغنية الصغيرة أو القصيدة القصيرة التي وُضعت للغناء".

تعود الغنائية الإنجليزية شكلاً ومضموناً إلى الغنائيات الإيطالية التي وضعها "بتراركا"، ثم نقلها شعراء إنجليز أمثال "سير توماس" و"ايات" و"إيرل أوف سري"، ثم استعمل هذا النمط سير "فيليب سدني" إلى أن جاء شكسبير فكتب "154" غنائية مطوِّرا نظامها البتراركي الذي يتألف من "ثُمانية" و"سُداسية" إلى ثلاث رباعيات ومزدَوجة في ختام القصيدة، آخذين بنظر الاعتبار أن بتراركا نفسه قد استوحى ذلك من دانته أليغيري الذي كتب عدداً من غنائيات الحب التي ظهرت في مجموعته الشعرية المسماة "الحياة الجديدة"... وللحديث بقية ولكن هذه المرة مع أستاذه جبرا إبراهيم جبرا.. الشاعر والروائي والفنان..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

1- عبد الواحد لؤلؤة:  شواطئ الضياع (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999).

2- عبد الواحد لؤلؤة: مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات: دراسة نقدية في الشعر العربي (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2002).

3- عبد الواحد لؤلؤة: الصوت والصدى: دراسات ومترجمات نقدية ـ (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 2005).

4- الاستاذ حميد المطبعي: موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين، الجزء الأول. الناشر, بغداد: وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، ١٩٩٥.

5- سعيد عدنان المحنة وآخرون: منهج النقد الجديد عند الناقد عبد الواحد لؤلؤة، بحث منشور بمجلة الباحث – العدد 29، 2018.

6- أ .د.ابراهيم خليل العلاف:الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة (مقال).

7- مقابلة عبدالواحد لؤلؤة مع محمد رضا نصرالله في برنامج (الكلمة تدق ساعة) عام ١٩٧٨م (يوتيوب).

 

سطور في مواجهة القبح

التفاصيل
كتب بواسطة: د. بليغ حمدي اسماعيل

بليغ حمدي اسماعيلبين مشروعية الفنون الإنسانية وتحريمها بنصوص تراثية قاطعة تدور المعركة من جديد بين أنصار ورواد التنوير في الوطن العربي الذين لا يزالوا يتشبثون بمشروعهم النهضوي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبين ما يحلو لي تسميتهم بأمراء النساء لكثرة اهتمامهم بل ولولعهم بفقه المرأة بنفس القدر بهوس الدعوة إلى الجهاد ضد الأنظمة العربية الإسلامية القائمة والفتوى بالتحريم للفنون أولئك أيضا الذين لم يتخلوا فقط عن طروحاتهم الراديكالية الأكثر تطرفا فحسب، بل اجتهدوا أيضا في توسيع دوائر جهالاتهم الإنسانية بتحريم كل ما هو جميل وإباحة كل ما يتعلق بهوسهم المستدام بجسد المرأة وصوتها وزيها والحصول على براءات اختراع لجهاد النكاح وجهاد الحب، وإطلاق العنان لدعوات الترويع والاغتيال والقتل لكل ما هو مخالف لفكرهم الذي تم توصيفه من جانب علماء الدين الأجلاء بأنه فاسد ومغلوط وبحاجة إلى تصحيح ومراجعة .

في الوقت نفسه نجد عشرات الأئمة وشيوخا منتسبين إلى أكبر مؤسسة دينية إسلامية في العالم الأزهر الشريف يؤكدون في صحائفهم وكتبهم الأكاديمية رهينة الحبس على أرفف مكتبات الجامعات فقط وكذلك بعض المواقع الإلكترونية محدودة الانتشار يؤكدون قيمة الفن في الإسلام، وأن الإسلام الحنيف القويم لا يتصادم مع الفنون الجميلة بكافة صورها، وعلى حسب نص قول أحدهم بأنه لا وجود ولا مكان ولا حيز مسافة ربما لمن يقول إن هناك تعارضا بين الفن والإسلام.

ولكن على الشاطئ الآخر الأكثر احتداما وعصبية وقلقا بشأن ترسيخ وجودهم غير الفطري في المجتمعات الإسلامية الصحيحة يرون تحريم كل صور الفنون وأشكالها وصانعيها أيضا، وهؤلاء وصل بهم الأمر إلى تحريم دمى الأطفال الصغار ومنع الصور المصاحبة لقصص الناشئة أيضا بجانب الفتوى القطعية بتحريم أفلام الكارتون للصغار فقط هم يدشنون حروبهم من أجل خلافة واهية لا أساس لها سوى نصوص تراثية كتبها أشخاص ينتمون لعصور بائدة هم أنفسهم أسهموا في إسقاط دولة الخلافة الإسلامية بخروجهم الزمني عن أحداث العصر الذي عاشوا فيه.

وبين الفريقين ـ حقا ـ تدور معركة حامية الوطيس إن جاز استخدام تعبير تراثي غير متداول لكن إنها معركة بين فريق على إصراره في شهود الإنسانية وحضورها، وفريق آخر يبدو أن لا نهاية لهوسه بالتحريم .

ولقد اتفق المتخصصون في مجال الفنون على تقسيمات مميزة للفن عبر عصوره التاريخية، حتى أصبحت هذه التقسيمات متغلغلة في الوعي الجمعي لدى أفراد المجتمع العربي الضارب في اتساعه الثقافي والأيديولوجي والانتماء المذهبي أيضا باختلاف تكوينهم وتأسيسهم الفكري الأمر الذي يزيد من المشهد الراهن اضطرابا وغموضا، ومن هذه التقسيمات ما عرف بالفن الإسلامي الذي امتلك خصوصية ميزته عن باقي التصنيفات والتقسيمات  التاريخية للفن عبر العصور . وقصد بالفن الإسلامي وفقا لزعم الخبراء والمتخصصين أنفسهم  ذلك المنتج الذي تم إبداعه منذ الفتوحات العربية للأقطار والأمصار والذي اتسم بطراز إسلامي لم يخل من العمارة ذات الطابع الديني أو المتعلق بالرموز والإشارات الدينية مثل الخطوط العربية والنقوش المختلفة لها، وكذلك رموز خاصة مثل الهلال أو العرائس الصغيرة التي توضع داخل مجسمات وهياكل علاوة على الرسم العثماني للقرآن الكريم الذي حفلت به كافة العمارة الإسلامية .

ولاشك أن الفن الإسلامي لعب دوراً كبيراً في الحفاظ على التراث المادي للثقافة العربية والإسلامية  هذا الشأن الذي يعكر صفو كافة التنظيمات الجهادية في الشرق الأوسط فقد برعت تلك التنظيمات في تدمير كل مظاهر الشهود المعماري العربي بحجة أنها تمثل ملمحا من ملامح جاهلية العصر، فلقد مثل هذا الفن عبر عصوره جزءاً من ذاكرة الثقافة البصرية المرتبطة بتاريخ الإنسان العربي في بيئته، وهذا المنتج العربي الخالص كان يقف وراءه مبدع تشكيلي يتسم بالإبداع والجدة والأصالة، يستعين بكافة الطقوس الإسلامية الفريدة لتغليف منتجه الإبداعي الذي مثل خصوصية فريدة .

ويكفي المرء أن يطالع عملاً فنياً مصبوغاً بإشارات وطقوس إسلامية عربية حتى يتبين طبيعة وكنه هذا العمل، والذي كان يحمل عدة وظائف نفعية وجمالية، حيث إن الإنسان العربي قديماً كان يحتاج إلى الجمال الذي يحقق له ثقة وتميزاً وإشباعاً للوجدان .لكن للأسف كل يوم وليلة نشاهد هذا التدمير الداعشي الخبيث بكافة مظاهر المعمار الإسلامي الفريد الذي لم يتكرر لأسباب تتعلق بظروف الثقافة العربية المعاصرة.

ولم يقتصر الفن الإسلامي على الفنون التشكيلية المتعلقة بالمعمار أو الرسم بل تجاوز ذلك ليشمل فنوناً أخرى مثل الموسيقى والغناء وما يرتبط به من إيقاع جسدي يمكننا أن نطلق عليه على استحياء كلمة الرقص، ومن هنا تأتي المشكلة التي قد يواجهها الفن الإسلامي في المرحلة المقبلة والتي تشهد تصاعداً كبيراً للتيارات الدينية السلفية والتي ترى في الفن حرمة وبدعة .

فكتب معظم إن لم تكن كافة الجماعات الراديكالية بدءا من الجماعة الإسلامية التي انفجر تكوينها في سبعينيات القرن العشرين وزاد انفجارها بتكوين وتأسيس فرق صغرى عنها مثل جماعة التكفير والهجرة والسلفية الجهادية حتى انتهى بنا المشهد إلى التسليم بوجود تنظيم داعش الإرهابي  تؤكد على حرمة الفن بل تذهب بفكرها القمعي المتطرف  بعيداً بأن الفن شرك بالله وكفر بين، ومن هذا المنطلق فجميع الفنون حرام لأنها أولاً تلهي عن ذكر الله، بالإضافة إلى أنها من وساوس الشيطان التي تبعد المرء عن ربه، وبشأن فتاويهم دار الجدل الطويل بين المتزعمين لتكفير الفنون، وبين المستنيرين من رجال الدين الذي لا يرون حرمة أو شركاً في الفنون التي تبعث الجمال بالوجدان وليس من شأنها أن تبعد المرء عن ربه في عباداته وفرائضه المكتوبة .

ولكن تجد في سياق الكتابات الأصولية المعاصرة  من يشير إلى وجود ما يسمى بالفن الإسلامي ولكن متجنبين كلمة الفن ليضعوا مكانها كلمة عمل هذا مع اختلاف توجهات أصحاب هذه الكتابات التي قد تشير إلى الفن باعتباره ثمة خطوط وتصاميم تشبه الأرابيسك فحسب، وهم يقصدون بالطبع العمارة الإسلامية التي تتمثل في النقوش والزخارف والرسوم المجردة من التجسيد، لذا فلا وجود للأنواع الأخرى من الفنون التي ارتبطت بالفن الإسلامي مثل الرسم والنحت والموسيقى وأخيراً الغناء أو الإنشاد.

ولا يستطيع منكر أن ينسى الدور الذي لعبه الفن الراقي البعيد عن المشاعر الرخيصة المبتذلة، حين ساهم في تأجيج مشاعر الكثير من البلدان العربية وقت مشاهداتهم التاريخية من انتصارات أو أعياد أو ما تزامن وقت ثورات الربيع العربي حيث كان الفن من تصوير وموسيقى خصيصة رئيسة في المشهد الثوري آنذاك ، وكم كان الفن باعثاً لاستمرارية تلك الاحتجاجات والانتفاضات والثورات ورغم ذلك الحضور الطاغي للفن لم نجد ساعتها من أولياء التيارات الدينية من يحرمه أو أن ينكر دوره بالقول أو بالفعل .

هذا ما يؤده تأريخ تلك الفترات حيث كمون فتاوى التحريم وتعطيل العمل بقانون الرفض والتجريم والتفسيق الجاهز لدى تلك التيارات والجماعات، هي فقط جديرة وماهرة في القفز على مكتسبات الفعل الشعبي الجمعي واقتناصها بعيدا عن طموحات الوطن وآماله.

لكن، ماذا يحدث لو تمكنت تنظيمات الراديكالية مثل تنظيم داعش من افتراس المدنية ووجوه الثقافة الجمالية،  وسقطت الأوطان والمجتمعات  في أيدي هذه التيارات المتشددة ؟ هذا سؤال لابد وأن يطرح استشرافاً لمستقبل قد يبدو غامضاً بعض الشئ، ولا يستطيع شخص أن يتنبئ بإحداثيات هذا الشرق المسكين ثقافيا وتنويريا  في ظل حالات الالتباس والغموض التي تعتريه . فهل حينئذ سيتم القضاء على هذا الرصيد التاريخي للفن في كل دول العرب ؟ وحينما أتكلم على الفن لا أشير إلى الفنون الاقتصادية تلك التي تستحوذ على ما في جيوب العوام المستهلكين للثقافة بغير انتاجها من نقود مثل السينما والغناء التجاري والمسرح الاستثماري، بل الفن في منحاه غير الاقتصادي مثل الرسم والنحت والأشغال الفنية والفنون الشعبية والموسيقى التي لا تستهدف الربح .

وهؤلاء المنتمون لهذه الفنون الجميلة بالطبع يعانون من أزمة الاستبعاد الاجتماعي من الأساس فلا تراهم في برامج التوك شو، وربما تتعمد الفضائيات العربية واسعة الانتشار  في  استضافتهم إلا  في أوقات عادة ما يكون جهاز التلفاز مغلقاً كساعات العصر المنسية، أو بعد الثالثة صباحاً، وبالتالي لن يشاهد الفنان سواه منفرداً بالجلوس على مقعده وهو يتجرع أحزانه .

وظاهرة تحريم الفن وإقصائه من الوجود الإنساني لم تكن حاضرة اليوم فقط، بل كلنا لا يزال يتذكر  ما شاهدناه منذ فترة ليست بالوجيزة زمنيا في مدينة الإسكندرية المصرية من تغطية لبعض التماثيل التاريخية في إحدى اللقاءات الدينية لشيوخ السلفية لهو خير دليل على مستقبل آت، يحرم فيه الفن الجميل، ولست أدعي رغم كوني متخصصاً في الدراسات الإسلامية بأن وجود تلك التماثيل وغيرها لا تدخل في باب التحريم من منطق الاجتهاد، أولاً لأننا لا نعبد مثل هذه التماثيل والحمد لله منذ بزوغ الإسلام، ثانياً أن هذه الأعمال الفنية هي خير شاهد على حقبة تاريخية مرت واستقرت بمصر المحروسة وجزء من ماضيها الذي لم نشاهده رأي العين . لكن تظل المشكلة ذهنية وزمنية لدى هؤلاء نظرا لتوقف عجلة الزمن بهم عند نص تراثي أنتجه شخص في ظروف معينة وتوقيت يصعب معه تأويل الحاضر بالماضي.

وإذا كان المنتمون للتيارات المتشددة دينياً يدركون أن هناك وجوداً لا يمكن طمسه اسمه الفن الإسلامي، فكيف يجوز لهم بعد ذلك طمس معالم هذا الفن الذي كان ضمن سياق الحضارة الإسلامية في أزهر وأزهى عصورها، وتكفي شهادة عالمين أثريين هما (دوجلاس بريور) و(إيملي تيتر) حينما أكدا انفراد الإنسان المصري في صبغ جميع ألوان الفنون، وأن الهوية المصرية تبدو ثابتة في كافة الفنون التي أنتجتها الحضارة الإنسانية .

وإذا كنا غير مشاركين للدولة العثمانية حينما قررت أن تنقل الصناع المهرة إلى الأستانة لتشييد حضارة عالمية هي تركيا الآن، فإننا نبدو الآن أكثر تخاذلاً حينما نصمت ونحن نرى بعض مظاهر القمع المتمثل في فتاوى داعش تجاه الفن الراقي النظيف والبعيد عن الابتذال والعهر .

وعودة إلى تأريخ معاصر بعض الشئ، تحديدا في مطلع شهر فبراير من العام 2012م أي في ظل المد السياسي والتصاعد الشعبوي المحموم لتنظيم حسن البنا المعروف بجماعة الإخوان وأيضا  فصائل التيار السلفي المتعددة، تناقلت معظم الوسائط الإعلامية خبرين مفادهما صدور حكم بحبس بعض الفنانين وتغريمهم ماليا نتيجة الدعوى القضائية التي اتهمتهم وقتئذ بالإساءة إلى الدين الإسلامي وازدرائهم له في أعمالهم السينمائية والمسرحية في بعض الأعمال السينمائية التي تم عرضها منذ عشرات السنين. والخبر الثاني هو الاعتداء على طاقم العمل الفني لمسلسل ذات عن رواية المبدع صنع الله إبراهيم التي تحمل نفس الاسم، والاعتراض جاء نتيجة لارتداء بطلات المسلسل ملابس لا تليق بالحرم الجامعي نظراً لأن المشاهد كانت تصور به . ولا أظن أن هؤلاء قد قرأوا نص الرواية التي خطها صنع الله إبراهيم والتي طالعتها منذ سنوات بعيدة وإلا رموا هذا الرجل بالكفر ونشر الرذيلة والإباحية كما كان يفعل ذلك أباطرة التكفير مع عميد الرواية العربية نجيب محفوظ في القرن الماضي وفعلوها مع المفكر نصر حامد أبو زيد وأدونيس وكثيرين غيرهم .

والحق أقول إن من يدعي لنفسه امتيازاً للدفاع عن الإسلام فلينتبه إلى مزاعم المستشرقين ومطاعنهم في الدين، ومطاعن الاستشراق المعاصر ومحاولات تشويه الإسلام، أما المزايدات الإعلامية التي انتشرت ولا تزال تنتشر بخطىً وئيدة على استحياء الظهور نتيجة ارتفاع وهبوط  موجة التيارات الراديكالية المتطرفة فهي محاولة لإيجاد مقعد وثير لفئات وطوائف وفصائل باتت محرومة من التواجد داخل أنساق المجتمعات العربية لفترات طويلة .

وكم هو مضحك عندما نشاهد ونحن أكثر ولعا بالفرجة بعض الفنانين أنفسهم أولئك المدعين بالانتماءات الدينية والذين قفزوا على مشهد استلاب الجماعة لحكم مصر بأنهم أعلنوا توبتهم عن أعمالهم التي قدموها، فماذا سيفعل إذن أولئك الموتورين حينما لا يجدون قضايا يدغدغون مشاعر البسطاء بها ويدخلونا في قضايا ترهق عقل الوطن الذي هو بحاجة ماسة لفكر واضح ورأي سديد .وليت هؤلاء الذين أعلنوا وصايتهم على نشر الفضيلة في المحروسة تيقنوا من حجمهم حينما علموا حجم وكم التيارات والائتلافات والحركات التي أعلنت تضامنها على سبيل المثال لا الحصر مع عادل إمام في قضيته التي لا محل لها من الإعراب في نص بات مشوهاً لغوياً أقصد مصر الجميلة وقتما أقيمت دعوى قضائية ضده بشأن ازدراء الإسلام.

وإذا كان المتشددون قد أضافوا لأنفسهم دوراً جديداً في المشهد الاجتماعي المعاصر وهو دور المخرج لذلك أعلنوا إنهاء المشهد الحالي، فكان عليهم أن يقدموا لنا تصوراً واضحاً في صورة مكتوبة عن رؤيتهم للفن، وإذا كان حراماً أو ضلالاً بائناً، فإنني أطالبهم بصفة استثنائية أن يقترحوا لنا بدائل ترويحية لا تخرجنا من باب الفضيلة ولا تزهق أرواحنا من الفتنة، وأعتقد أنهم لا يجيدون ذلك لأن من اعتاد الرفض والقمع لم يعتاد على التجديد والإبداع .

حقاً إن الفنون جميعها في مرحلة استثنائية في ظل هذا التصاعد غير المحمود للأفكار التي باتت غير صالحة هذه الأيام، الفنون التي تحيا في ظل الحريات بعض التيارات تحاول وأدها بطريقة مفجعة وحشية، لذا سيبقى هناك جدل واسع وصراع مستدام بين حالة راهنة؛ مبدعون يشكلون وجهاً لهذا الوطن، وأمير وخليفة واهم ارتدى ثوب المخرج متطرف لا علاقة له بالفن الخام ولا بما يتشابك مع جوهر الثقافة العربية، كل ما يعنيه هو أن يتقمص دور المخرج فيصرح بصوت عال دونما علم أو رؤية : اقطع ..

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية (م)

كلية التربية ـ جامعة المنيا ـ مصر

 

 

سلطة الإحتلال وسياسة إحتواء العشائر

التفاصيل
كتب بواسطة: د. عبد الحسين الطائي

عبد الحسين صالح الطائيقرن على تشكيل الدولة العراقية (3).

شجعت السلطات العثمانية سياسة النزاع والتنافس بين العشائر العراقية لغرض إضعافها، لكي لا يتفقوا ضدها، فعملت على تقوية الإدارة المركزية العثمانية على حساب المشايخ. من نتائج هذه السياسة المنازعات الكثيرة بين العشائر وإضطراب الأمن، وتصاعد عمليات السلب والنهب وقطع الطرق. ولما حصلت الحرب العالمية الأولى 1914، وضعفت سيطرة الحكومة عن بعض المناطق، أصبح الكثير من التجار مضطرين أن يدفعوا لشيوخ العشائر الاتاوات، وإلا تعرضوا للنهب والسلب.

مارست سلطة الإحتلال البريطانية للفترة (1914-1920)، سياسة توطيد الإحتلال. وهي على وعي تام بالتركيبة الإجتماعية في العراق. كانت رؤيتهم بإنه  لو أتيح للعراقيين الإستقلال التام في حكم أنفسهم لأكل بعضهم بعضاً. ولهذا من واجبهم الإستمرار في حكم العراق مدة كافية إلى أن يتعودوا على الحياة المدنية الحديثة، ويتركوا عاداتهم القبلية القديمة في الغزو والثأر وسفك الدماء. ولكي تُرسخ إحتلالها وتُبقي العراق تحت هيمنتها، وجدت بأن أفضل طريقة لذلك هي ترسيخ العادات والأعراف البالية السائدة آنذاك.

لذا خلقت كيانات عشائرية منفصلة لإستخدامها كسلاح وقوة توازن مع المتغيرات الجديدة في العراق. إعتمدت العادات والأعراف العشائرية وصاغتها على شكل قواعد قانونية نافذة، ووضعتها موضع التنفيذ. فأصبح قانون دعاوي العشائر سارياً منذ 21/02/ 1916، وفحواه أن أي نزاع، بإستثناء نزاع الأراضي، يكون أحد طرفيه أو كليهما من أفراد العشائر، يحال من الحاكم السياسي للمنطقة التي حدث فيها النزاع إلى جهة قضائية عشائرية تتألف من شيوخ أو محكمين عشائريين لإنهاء النزاع وفقاً للعرف. القانون أعطى لبعض المشايخ سلطة التفرد في فصل الدعاوي والمنازعات التي تحدث بين الفلاحين أو أبناء العشائر، وبالتنسيق مع سلطة الإحتلال، وبهذا لم يعد بالإمكان أن يتحرر أي فلاح من الإلتزامات التي تقيده.

كانت مبررات إختيار هذا النظام بإنه يناسب العادات والتقاليد المحلية، وصعوبة تطبيق القانون المدني وقانون العقوبات على أفراد العشائر. وتشكيل المجالس الإدارية المحلية في كل وحدة إدارية عامل مشجع للشيوخ على حفظ الأمن والنظام في مناطقهم. وفي نفس الوقت تم تشكيل قوات جديدة من أبناء المناطق التي دخلتها سلطة الإحتلال سميت (الشبانة)، التي وضعت تحت قيادة أبناء الشيوخ لتقوم بأعمال الحراسة الليلية ونقل البريد.

اتبعت السلطات البريطانية سياسة الإحتواء من خلال العمل على توحيد العشائر بدلاً من تشتيتها بإختيار شيخ واحد في كل منطقة أو عشيرة كبيرة وتقديم كل الدعم له، سواء أكان ذلك بالمال والنفوذ، أو بالسلاح عند الضرورة، ليكون قائداً يقوم بمسؤولية الأمن والنظام في المنطقة المحددة له. أرادت سلطة الإحتلال بهذه العملية الحصول على منفعة متبادلة، بحصر السلطة بيد الشيوخ الذين وقع عليهم الإختيار، وضمان حماية مصالحهم بجعل الشيوخ على الإستعداد بتنفيذ ما يطلب منهم.

هذه السياسة أفادت وأضرت سلطة الإحتلال، فهي وطدت من هيمنتهم وسيطرتهم على الكثير من المناطق، لا سيما الريفية منها، فأدت إلى زيادة في الإنتاج الزراعي. ولكن من جهة أخرى هذه السياسة جعلت الكثير من العراقيين وشيوخ العشائر يقفون بالضد منهم، محملين بالحقد والغضب والكراهية ضدهم. لأنهم أرضوا شيخاً واحداً في كل منطقة، ومنحوه سلطة التحكم بالآخرين. فليس من الهين على شيوخ المنطقة أن يروا واحداً منهم قد أصبح السيد المطلق يأمر وينهي من غير رادع. ومما زاد في الأمر سوءاً أن سلطة الإحتلال في إختيارهم بعض الشيوخ لم يراعوا قواعد وراثة المشيخة المتعارف عليها. كان اختيارهم لمن أبدى لهم الطاعة والولاء، أو له سابقة إتصال بهم في العهد التركي، بغض النظر عن مقامه الحقيقي في العشيرة.

إعتمدت سلطة الإحتلال على إستغلال وإذكاء تناقضات المجتمع العراقي وتوظيفها بإدارة الأزمات وليس حلها. وذلك من خلال الإستراتيجية المعروفة في إدارة المستعمرات على مبدأ "فرق تسد".  لصالح إقامة وإدامة بنية كولونيالية تابعة وخاضعة للهيمنة. كما ساهمت في إعادة تشكيل الطبقات الاجتماعية ـ الاقتصادية وإنتاج طبقة سياسية، كقاعدة للنظام، من كبار ملاك الأراضي والشرائح الكمبرادورية وكبار الضباط الذين خدموا في الدولة العثمانية وبعض الشرائح الهامشية. وذلك من خلال العديد من القوانين التي حولت الملكية العامة للأراضي العشائرية إلى ملك لشيوخ العشائر. والخطوة الأشد خطورة للتحكم بالإقتصاد العراقي هي تسليم النفط الذي يمثل الثروة الأساسية في العراق كبلد يعتمد على الإقتصاد الريعي إلى الشركات الإحتكارية البريطانية في أغلبه، وربط الدينار العراقي بالجنيه الإسترليني فأحكمت سيطرتها على الإقتصاد العراقي.

أسس البريطانيون الدولة العراقية الحديثة بضغط من التحالف الديني العشائري، لكنهم لم يفلحوا في إرساء قيم المجتمع السياسي المعاصر في العراق. فمثلما أهمل العثمانيون وضع العشائر واقتصروا على جباية الضرائب منها، تعامل البريطانيون معها كأمر واقع. وقد فشلت الحكومات المتعاقبة في صهر الإنتماءات القبلية والطائفية في وعاء وطني واحد، وبهذا فالمشكلة العشائرية متشعبة وقديمة قدم تأسيس الدولة العراقية.

وقد إتضح لسلطة الإحتلال، فيما بعد، ضرر سياستهم هذه عند إندلاع ثورة العشرين. وهذا ما أكده فيليب آيرلاند في كتابه "العراق، دراسة في تطوره السياسي"، بأن الكثيرمن الشيوخ الذين شاركوا في الثورة العراقية الكبرى كانت خصومتهم موجهة نحو الشيوخ المقربين لسلطة الإحتلال أكثر مما كانت موجهة نحو سلطة الإحتلال. فهم قد وجدوا في الثورة أملاً يرفع عنهم كابوس أولئك الشيوخ وكابوس الحكومة التي تؤيدهم.

أبقت الدولة العراقية الحديثة الأنظمة والتشريعات التي أصدرها القائد العام للقوات البريطانية، في القانون الأساسي الذي صدر في 1925. ويمكن الرجوع إلى المادة 114، التي نصت على أن: "جميع البيانات والأنظمة والقوانين التي أصدرها القائد العام والمندوب السامي والتي أصدرتها حكومة الملك فيصل منذ 1914 تعد قوانين صحيحة من تاريخ تنفيذها".

 المجتمع العراقي لم يستفد من الإحتلال البريطاني في توسيع دائرة المدنية وتحديث العراق على غرار الدول المتقدمة بالحدود الممكنة. وذلك بسبب الموروث الثقافي الذي ورثناه من الدولة العثمانية، وصدى فتاوى الجهاد والشعارات الأيديولوجية. لقد تمادى الكثير من رؤساء العشائر في التدخل والتأثير بمسارات السياسة الحكومية، الكثير منها كانت بسبب المصالح الذاتية لشيوخ العشائر. هذه الحالة برهنت على تشتت الوحدة الوطنية لدى العشائر وغياب دوافع المواطنة التي زعزعت الإستقرار السياسي، مما ضيع فرص التطور الحضاري المدني للدولة. وبقيت السمة العامة للعشائر، بمختلف المراحل الزمنية، في إتجاه إنماء الروح العشائرية على حساب الروح الوطنية العراقية، أي تغليب الهُوِيَّة الفرعية على الهُوِيَّة الوطنية. عدا فترة إنحسار قصيرة في زمن الزعيم عبدالكريم قاسم الذي حدّ من النفوذ الإقطاعي بإصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم 30 لسنة 1958، الذي قلص نفوذ الشيوخ والأعيان المستمد من ملكية الأرض.

 

د.  عبد الحسين صالح الطائي

...............

المراجع:

- د. علي الوردي: لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج6، دار كوفان للنشر، لندن 1992.

- الحسني، عبدالرزاق: تاريخ العراق السياسي الحديث، الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع، ج1، ط7، بغداد 2008.

- الفياض، د. عامر حسن، وحمادي، صفد عبدالعزيز، المواطنة وبناء الدولة المدنية الحديثة، في العهد الملكي مجلة المعهد، العدد 11، معهد العلمين للدراسات العليا، النجف 2017.

- وجدان فالح حسن: المواطنة ودورها في ترصين الوحدة الوطنية في العراق، مجلة دراسات إسلامية معاصرة، العدد السادس، السنة الثالثة، 2012.

 - كامل هادي الجباري: إشكاليات بناء الدولة، الدولة العراقية الأولى، مركز النور للدراسات، بتاريخ 19/09/2009.

- محمد عبدالرحمن عريف: السياسة البريطانية مع العشائر العراقية.. مقدمات ثورة العشرين، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والإستراتيجية.

رابط المقالة الأولى:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953410

رابط المقالة الثانية:

https://www.almothaqaf.com/a/opinions/953571

 

 

جولة سريعة في حاضر وماضي الأدب الروماني (3-3)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. صالح الرزوق

صالح الرزوقحوار أدبي مع ماغراس ماريا فنوك ودافيد بول فنوك

إعداد وترجمة: صالح الرزوق

س 5: هل تعتقد أن الأدب السوفياتي ترك ندوبا عميقة في جسم الأدب الروماني؟. هل تعتقد أن الروس أخذوا مكان السوفييت بأي معنى؟. وبرأيك هل مدرسة الواقع الاجتماعي لا تزال تعمل في الأدب الروماني؟.

جواب: كان تجريف الأدب الروماني واحدا من أكثر الأمور المحزنة في تاريخ رومانيا. في ذلك الوقت ترجم دستور الاتحاد السوفياتي إلى اللغة الرومانية، وقدم مجانا بآلاف النسخ من أجل الاطلاع والدراسة. وكما ذكرت أعلاه كان هناك الكثير من الكتاب الذين استغلوا هذا الوضع السياسي. منهم ميخائيل سادوفيانو (1880-1961) وهو كاتب نثر بارز برع في كتابة الروايات التاريخية. وبعد عام 1945 أصبح رجل دولة عظيم وتأثر عمله الأدبي بقوة بالاتجاه السياسي الجديد. وكان مدافعاً قوياً عن "ثقافة البروليتاريا". في روايته "ميتريا كوكور" تحول لدعم الواقعية الاشتراكية ومنحها "هيبة وعمقا". ثم أصبح عضوا في الجمعية الرومانية للصداقة مع الاتحاد السوفياتي، وبعد ذلك ترأسها، وأيد نشاط دار نشر الكتب الروسية في بوخارست. واحتشد مع الستالينية في روايته (الضوء يبزغ في الشرق)، وهو شعار مؤيد للسوفيات، وقد وضع تعارضا بين الضوء والظلام، الأول للسياسات السوفيتية والأخير للرأسمالية. وهكذا تحدث سادوفيانو عن "تنين شكوكي" هزمته "شمس الشرق".

ومثله زاهاريا ستانكو (1902-1974) كاتب نثر، شاعر، مدير عام للمسرح الوطني في بوخارست، صحفي، رئيس اتحاد الكتاب في رومانيا، عضو في أكاديمية جمهورية رومانيا الاشتراكية، عضو في الحزب الشيوعي الروماني وفي لجنته المركزية، وعضو مجلس الدولة لجمهورية رومانيا الاشتراكية. في عام 1971 حصل على وسام بطل العمل في جمهورية رومانيا الاشتراكية. بعد عام 1945 أصبح مناضلا نشطا لصالح اليسار. وعكست كتاباته الحركات الأدبية الواقعية والطبيعية. ترجمت روايته الأولى الهامة “حافي القدمين”  إلى ما يقرب من 30 لغة. وقد تم الترويج لها بشكل مكثف عام 1948 (عندما تم نشرها)، وطوال فترة الشيوعية (حتى نهاية كانون الأول / ديسمبر 1989). وخلال الحربين العالميتين التزم بالاشتراكية. وبسبب قناعاته السياسية وكونه مناهضا للنازية، سُجن في معسكر الاعتقال في ترغو جيو (رومانيا). ولمدة عشرة أيام أضرب عن الطعام. وقد دفعته هذه التجربة من حياته لكتابة “أيامي في معسكر اعتقال”. وفي عام 1951  نشر “رحلة إلى الاتحاد السوفياتي - ملاحظات وانطباعات”. وكتب عن المباني الهامة في "الحركة الشيوعية الدولية"، وسار على جدران الكرملين، وزار متحف وضريح لينين، ومعرض تريتياكوف، ومكتبة  ف.إ. لينين، النصب التذكاري لثورة أكتوبر العظيمة، شارع غوركي، الساحة الحمراء. مع احترام كبير وفي مناسبات عديدة أكد حبه العميق تجاه "القوة السوفيتية العظمى" و"جوزيف فيساريونوفيتش ستالين، الأب العظيم والعبقري للشعوب". وطغى عليه الانفعال خلال وقفته لبضع لحظات أمام نعش لينين، الزعيم الذي ينام بعمق بعد حياة من الاضطرابات المستمرة والنضال، والعمل الجاد والانتصارات" بتعبيره.

س 6: من كان أكثر تأثيرا، الكاتب الوطني الملتزم أم المنشق؟ أمثلة مع ذكر الأسباب من فضلك.

جواب: كلاهما. والفرق الوحيد هو أن بعض الكتاب المنشقين الذين يعيشون في رومانيا اعتادوا على كتابة أدب "مخفي وسري"، في حين أن أولئك الذين يعيشون في الغرب كانوا من "المدفعية الثقيلة".

س 7: أين  يوضع أدب رومانيا المعاصرة على خريطة العالم؟.

جواب: هذا سؤال صعب ويتضمن العديد من الأجوبة المعقدة والمتشابكة. في الواقع الأدب الروماني المعاصر موجود في كل مكان وربما هو غائب أيضا عنه. وهو أول وآخر كهف من كهوف اللغة الرومانية (باعتبار أنها ليست لغة محادثة على نطاق عالمي). لكن قيمته المعاصرة لا يمكن إنكارها. إنما من دواعي الخجل والعار أن الأسباب المالية تمنع وصول هؤلاء الكتاب وأعمالهم للساحة الدولية أو لمؤسسات الترجمة التي لها حضور وسمعة. وفقط بعد تحقيق هذه المهمة يمكن تقدير مكانة الأدب الروماني فعليا. الحقيقة المؤسفة أن أدبنا في الوقت الراهن غير ممثل بقوة، وربما يحتل المرتبة الأخيرة بهذا الخصوص. وفي معظم الحالات، ستظل الجهود الشاقة التي يبذلها الكتاب الرومانيون ليكونوا منشورين ومعروفين محدودة بحدود بلدهم وواقعهم المحلي. أما النشر في الخارج والجوائز الدولية فهي عشوائية ودون أي صدى. حتى الأسماء الهامة تفشل بعبور هذه العوائق. وبرأيي لا تفيد قيمة المشاهير الحقيقية والأصيلة إذا اختنقت في الداخل، ولا بد من إشادة دولية. وبالتالي، وعلى الرغم من الوجود الهادئ، فإن سعي الأدب الروماني لفرض نفسه على خريطة العالم لن يكون ناجحا، إذا استمر في السير على نفس الطريق القديم.

أما لماذا ذكرت أن الأدب الروماني ليس في أي مكان أو أنه في آخر القائمة؟. سأقتبس هنا عبارة من فاسيلي ألساندري (1821-1890) يقول فيها: "الرومانيون كانوا شعراء بالفطرة".

في الواقع هو كان يتحدث عن الجيل الذهبي من الكتاب الكلاسيكيين الرومانيين. ولكن هذه العبارة المنصفة التي تناسب تلك الأوقات، يفصلها مسافة واسعة عن واقع الأدب الروماني في المهجر والمنفى. إن الصورة من ناحية القيمة الأدبية غير واضحة ومشكوك بها.  من وجهة النظر هذه يمكن أن تفهم أن أي شيء مكتوب على ورقة له قيمة أدبية. وقد بلغ التكبر من جراء تصنيفك بين الأدباء “الجيدين” مستويات خيالية. ففي بعض الحالات يتجلى في الكتابة جهل لا يغتفر، مع عجز في فهم معرفة اللغة الرومانية والنحو والإملاء (حتى دور النشر ترفض تحمل مسؤولية التدقيق اللغوي لأنها لا تفكر إلا بتحقيق أعلى ربح ممكن ولا تكلف مصححين بغاية التدقيق)، وعدم احترام اللغة الرومانية التي يدعون لحمايتها يأتي من عدم وجود قراءة واسعة لما سوف يكتب، وعدم وجود مفاهيم مستقرة للنظرية الأدبية، وفقر بمخزون الكلمات بشكل غير لائق ومؤسف، مع أساليب سيئة وغير دقيقة وتفاصيل زائدة عن الحاجة إلخ. وعلى الرغم من كل هذا ووفقا لمصالح مختلفة، من الجماعات وبقية الزمر، يمكن توفير مبالغ معتبرة من النقود لشراء “مفتاح السعادة”.  حتى هنا الفساد يحكم. وبصفة عامة إن السياسيين وممثلي النظام المالي الإداري لا يهتمون كثيرا بالأدب، وهكذا، هنا أيضا، وكذلك في أي مجال عمل آخر، تسود المصالح الشخصية والعشائرية. ومن الناحية الإحصائية، تشير التقارير إلى أن الخطط الثقافية قد أنجزت (تماماً كما حدث في العصور القديمة الطيبة للشيوعية). القيمة لا تقودنا لأي مكان. ومصير الكتب هو أن يتم توزيعها أساسا في رومانيا أو على حلقات مغلقة في الخارج. لكن نشر كتاب أو مقالة عابرة في مجلة لا يكفي لشطب بند من قائمة المهام المؤجلة. والآن أخبرني كيف يمكن للأدب الروماني المعاصر أن يفرض قيمته الحقيقية على أساس فضاء دولي مفتوح ومتصل؟... 

2260 romania

س 7: هل تعتقد أن سقوط سياسة الستار الحديدي ساعد الأدب الروماني بأي شكل من الأشكال؟. وبعبارة أخرى هل تعتقد أن الغرب والعولمة ساعدا الحياة الفكرية لرومانيا المعاصرة بأي شكل من الأشكال؟

جواب: لا، لا أعتقد ذلك. برأيي تلك الأحداث لم تغير، ولم تساعد، الأدب الروماني الذي ظهر بعد عام 1989. وأفضّل أن أقول كان هناك تضامن قوي من الكتاب المنشقين الموجودين في البلدان الأوروبية قبل سقوط الشيوعية. أما الأدبيات التي ظهرت بعد عام 1989 فقد سجلت انقطاعا معرفيا أساء لخلفيات مشتركة كانت موجودة في جذور الأدب الروماني.

س 8: أخيرا. أنتما مترجمان. ما هي طبيعة الإضافة التي تقدمتما بها وباختصار. كيف تكون الترجمة؟ من؟ على أي أساس يكون اختيار المادة / النص؟ وكيف تكون آلية العمل؟ كلمة بكلمة أم أن الالتزام يكون بالمضمون والمعاني؟.

جواب (من دافيد بول فنوك): إذا كانت ترجمة عمل مهمة سهلة هذا يعني أنه يمكن لأي شخص أن يفعل ذلك باستخدام جهاز كمبيوتر. لقد رأيت مثل هذه المحاولات من قبل "المترجمين"، وهذا شيء يسبب الخزي خاصة عندما يكون الكاتب غير معتاد على اللغة الجديدة. الكاتب يدفع دون أن يعرف ما هو المردود. وهذا يمكن أن يدمر المؤلف في الخارج. عند ترجمة الشعر يجب أن تبقى القافية والإيقاع قريبين قدر الإمكان من النص الأصلي. وهذا يتطلب في كثير من الأحيان الاتصال بالشاعر، ومناقشة الموضوع العام لعمله، وكيفية ارتباط كل سطر بالهدف منه (مضمونه). وهو تحد حقيقي للمترجم. وعندما يتم كتابة قصيدة، يوجد الكثير من المعاني في بضع كلمات. ويجب على المترجم دراسة كل سطر لاكتشاف معناه ووضع ذلك في الترجمة. ولاحقا يجب أن تحتوي الترجمة على كل ذلك. وضمنا نفهم أنه يجب البحث عن الكلمة المناسبة لتنسجم مع اللغة المضيفة. وهنا يأتي دور الخبرة والموهبة. لقد أمضيت أنا وماريا أسابيع في ترجمة قصيدة لتكون بشكل مثالي، ولا سيما أن الشاعر لا يعرف اللغة التي ستستضيفه.

جواب (من ماغراس ماريا فنوك): سأبدأ بالقول إنه بالإضافة إلى الموسيقى أو أي فنون أخرى، كان الأدب دائماً وسيظل على مستوى لغة كونية. وفي معرض الحديث عن الثقافات الأخرى، قد نقول إن الناس قد رغبوا دائماً في قراءة واكتشاف أشياء جديدة وغير معروفة. لهذا السبب، زوجي ديفيد وأنا، اعتبرنا أن التعامل مع الترجمات الأدبية مهمة متميزة. والكتب التي قمنا بترجمتها من الرومانية إلى الإنجليزية أو الفرنسية أو العكس قد تجاوزت منذ فترة طويلة حدود بلدان الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، فرنسا، الهند، تركيا، جمهورية تشيك، ورومانيا.

أما كيف نترجم؟. غني عن القول إنه فيما يتعلق بالترجمات لا توجد قاعدة ذهبية. وفقا للتقارب الروحي، كل مترجم يختار الكتاب أو المؤلف الذي يناسبه. ولن أتمكن أبدا من ترجمة نص لا يروق لي أو لقلبي. وكان علينا مرات عديدة أن نتقن النصوص، للقضاء على الكلمات اللغوية الغريبة، التكرار، عدم الصراحة إلخ. وميزة عملنا المشترك هي أنني وديفيد متحدثان أصليان باللغتين الإنكليزية والرومانية. في مناسبات عديدة نناقش بعض التعبيرات التي هي محددة للنص الأصلي، وبالطبع، نحن نحاول إيجاد أفضل حل لغوي للغة المضيفة. لا يمكن ترجمة بعض السونيتات كلمة بكلمة (ومن المدهش أن المؤلفين يرفضون في كثير من الأحيان أن يفهموا أن بعض التعابير ليس لها مرادف باللغة المضيفة، كما أنه ليس لتراكيبهم معنى بها). وهم يعتقدون أن كل شيء يمكن ترجمته. لكن الأمور لا تسير هكذا. هناك الكثير من الكلمات والتعابير التي لا يمكن ترجمتها. وسيكون على المترجم دائمًا البحث عن الحل الذي يجعل، من خلال احترام النص الأصلي، الصيغة المترجمة مناسبة للقارئ الأجنبي. وفيما يتعلق بالنص المترجم، فإن موقف المترجم يجب أن يكون دائماً على مسافة محايدة. على الرغم من أنه يقع في بعض الأحيان في موقف أسميه „حالة سندريلا“، فالمترجم ليس قاموساً، أو أنه شخص يعرف الكثير من الكلمات بلغة أجنبية. بل إن براعته وفنه بالترجمة يوضحه التعبير الشهير „استلمه، هو لك“  traduttore ، traditore!. الترجمات هي مثل عمل الصائغ، إنه انصهار مثالي مع النص. يجب على المترجم دائمًا أن يقرأ الكثير ويواكب النصوص الفلسفية والتاريخية والفنية والدينية وغيرها من أنواع النصوص. وبذلك فقط سيتمكن من معرفة ما يدور في ذهن صاحب النص على وجه الدقة، حتى عندما يستخدم كلمة واحدة أو تعبيراً في نصه. بالنسبة لي الاتصال المباشر مع المؤلف مهم جدا. وقد تكون مناقشاتنا لا نهاية لها، ومتنوعة، ويبدو أنها قد لا تكون لها صلة بما يفترض أن أترجمه. ولكن بالتالي أستطيع أن أكتشف بعض أسرار المؤلف، وطريقة تفكيره، وبعض نبضات ومكنونات قلبه.

وفي كثير من الأحيان أقرأ الآراء التي أعرب عنها أشخاص بلا ثقافة، ويدعون أنهم على إلمام بالترجمة، مع أنهم دون أي علاقة بهذا العمل. أو أنهم يشتكون من تكلفة الترجمة. وهنا سأدافع عن المترجمين المحترفين وسأقول إن جميع الذين أدلوا بمثل هذه البيانات لم يكن لديهم أي فكرة عما كانوا يتحدثون عنه. لماذا تدفع لمترجم مزيف لا يعرف عمله، وتتسبب بضرر فادح للمؤلف المعني أو للأدب الذي ينتمي إليه، في حين يمكنك إجراء نفس الصفقة مع المترجمين المؤهلين والموهوبين للغاية؟. ربما أولئك الذين يرغبون في أن يترجموا إلى اللغات الأجنبية ويتجاوزون حدود أدب وطنهم، عليهم تقدير العمل الشاق للمترجم، وبدلا من دفع المال لقاء خدمات لا قيمة لها، من الأفضل التعامل مباشرة مع مترجم محترف. أحيانا قد تبدو الترجمات في بعض الأحيان أفضل من نصوصها الأصلية لدرجة لا يمكن تصديقها.  معظم النصوص التي ترجمناها كانت مصحوبة بتعليقاتنا ومقالاتنا النقدية التي عبرت عما شعرنا به عندما عملنا عليها. وقد نُشرت تفسيراتنا وآراؤنا إما في تلك الكتب أو في المجلات الأدبية الدولية، وفي عدد لا يحصى من الكتب، أو المؤتمرات التي عقدت في جامعات مرموقة أو في معارض دولية حيث كانت الفنون البصرية والموسيقى والأدب متطابقة لحسن الحظ مع بعضها بعضا.

 

 

فوضى (الربيع العربي) تطبيقٌ للجيل الرابع للحروب

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ابراهيم أبراش

ابراهيم أبراشبالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على بداية ما تواترت وسائل الإعلام على نعته بـ (الربيع العربي) إلا أن فوضاه ما زالت مستمرة في تونس ومصر حيث كانت البداية والمراهنات الواعدة والتدخل الخارجي محدوداً، إلى اليمن وليبيا وسوريا حيث التدخل الخارجي الفج والمفضوح، كما أن الجدل والنقاش ما زال محتدماً ما إن كان ما يجري ثورات شعبية و ربيعاً عربياً أم مخططاً يندرج في سياق (الفوضى الخلاقة أو البناءة Creative Chaos التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس منذ 2005 في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير والجديد؟.

لا نقلل من دوافع التحركات الشعبية في أيامها الأولى ولا في الأحزاب والقوى الوطنية التي شاركت فيها، كما لا نقلل من حجم المعاناة بسبب ممارسات أنظمة مستبِدة والحاجة الملحة للتغيير، إلا أن حجم وسرعة التدخل الغربي في مجرى الثورات العربية يؤكد أن الغرب لم يكن بعيداً عما يجري سواء من خلال التخطيط المُسبق موظِفاً شعار دمقرطة الشرق الأوسط ونشر الحريات وصناعة شرق أوسط جديد الخ، أو التدخل اللاحق كما جرى في ليبيا حيث قامت طائرات حلف الأطلسي باستهداف الجيش الليبي والرئيس القذافي مباشرة، أيضاُ من خلال تحريك الجماعات والدول التابعة للغرب كجماعات الإسلام السياسي وخصوصاً الإخوان المسلمين الذين كانوا يراقبون الوضع ويديرونه في البداية من مواقعهم ومراكزهم القيادية في عواصم الغرب، ومن بعض دول الخليج العربي وتركيا التي قدمت كل التسهيلات اللوجستية بالإضافة إلى تدخلها العسكري المباشر في سوريا والعراق وليبيا.

هذا التدخل الخارجي الفج اعترف به رئيس الوزراء ووزير خارجية قطر السابق حمد بن جاسم آل ثاني في برنامج "الحقيقة" في تلفزيون قطر في أكتوبر 2017 حين اعترف أنه وفي السنوات الأولى للأحداث تم انفاق أكثر من 13 مليار دولار لإسقاط نظام الاسد ودعم المعارضة في ليبيا واليمن، وعن التدخل في سوريا تحديداً قال : " أي شيء يذهب إلى سوريا كان يتم عبر تركيا ويُنسَّق مع القوّات الأميركية وكان توزيع كل شيء يتمّ عن طريق القوات الأميركية والأتراك ونحن والأخوان في السعودية، كلهم موجودون عسكرياً في سوريا".

ربما يقول قائل كيف يُعقل أن هذا التحالف الكبير الذي تقوده أمريكا وهذه المليارات التي أنفِقت لم تستطع اسقاط نظام الأسد وتنهي الحروب المتواصلة حتى اليوم في اليمن وليبيا والعراق بحيث تستلم قوى المعارضة الديمقراطية المدعومة غربياً زمام الأمور؟ وهل استمرار الحروب الأهلية يعني فشل الغرب وحلفائه في تحقيق أهدافهم؟ وهل هناك فعلاً نظرية تسمى الفوضى الخلاقة؟.

نفس التساؤلات يمكن استحضارها عندما قامت قوات التحالف الثلاثيني بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في بداية 1991 بحرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي وتم آنذاك تدمير الجزء الأكبر من الجيش العراقي وكان في استطاعة التحالف الاستمرار بالحرب واسقاط نظام صدام حسين ولكنه لم يفعل، وحتى بعد احتلال العراق 2003 وانهاء حكم صدام حسين استمرت الفوضى والحرب الأهلية إلى اليوم؟. ولا يخرج عن هذا السياق ما جرى ويجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة حيث قام جيش الاحتلال الصهيوني بحصار قطاع غزة بعد سيطرة حركة حماس عليه في يونيو 2007 كما شنت ثلاثة حروب مدمرة على القطاع دون أن يصل الأمر لإعادة احتلال قطاع غزة وانهاء سلطة حماس ولا مساعدة السلطة على استعادة القطاع؟. أيضاً استمرار النزاع مع إيران دون الدخول في حرب مباشرة معها.

فهل كل هذا يعني فشل أمريكا والغرب وإسرائيل في تحقيق أهدافهم؟ أم أن هناك قراءة أخرى لكل ما يجري ملخصها أن استمرار الحروب الأهلية وحالة الفوضى والانقسام الفلسطيني وتجزئة دول المنطقة كان الهدف الرئيس لأمريكا وتحالف الثورات المضادة ؟ وبالتالي فإن أمريكا وحلفاءها لم يفشلوا بل يحققون أهدافهم كما خططوا لها .

في محاولة لفهم ما يجري في المنطقة العربية وما سيكون عليه الحال في عهد الرئيس جو بايدن الذي يبدو أنه سيُحيي ويجدد سياسة الفوضى الخلاقة، يجب معرفة ما طرأ على الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في العقود الأخيرة حيث تم اعتماد ما يسمى (الجيل الرابع من الحروب (Fourth-generation warfare. وذلك بعد صدور كتاب بهذا الاسم عام 1989 للمؤلف الأمريكي وليام ليند William S. Lind، ومن بعده شاع المصطلح وتعددت الكتابات عنه، ويمكن تعريف هذه الحرب بأنها تجاوز للأشكال أو الأجيال الثلاثة السابقة للحروب إلى نوع جديد تتميز بأنها حروب بالإكراه تهدف إلى إفشال الدولة القومية المستهدفة وزعزعة استقرارها وإفقادها سيطرتها شبه الكاملة على القوات العسكرية وعودة أنماط الصراعات التقليدية من طائفية ومذهبية وقبلية، ثم فرض واقع جديد يراعي المصالح الامريكية، وفي هذا الواقع الجديد يصبح المواطنون مرتزقة عند عدوهم أي أمريكا أو من يدير هذه الحرب.

كان البروفسور “ماكس مانوارينج” MaxG.Manwaring أستاذ و باحث في الاستراتيجية العسكرية في معهد الدراسات الاستراتيجية والعسكرية التابع للجيش الأمريكي أهم من تحدث عن هذا النوع من الحروب وكانت غالبية محاضراته مغلفة وقاصرة على القيادات العسكرية والأمنية الأمريكية والإسرائيلية ، إلا أن مضامينها تم تسريبها ومنها المحاضرة التي ألقاها في إسرائيل في الأول من ديسمبر 2018 أمام عدد من كبار الضباط من حلف الناتو والجيش الصهيوني، حيث وضح أهداف الجيل الرابع من الحرب وملخصها كما قال “ليس الهدف تحطيم المؤسسة العسكرية لإحدى الأمم أو تدمير قدرتها العسكرية، بل الهدف هو الإنهاك، التآكل البطيء، لكن بثبات..!فهدفنا هو إرغام العدو على الرضوخ لإرادتنا... الهدف زعزعة الاستقرار، وهذه الزعزعة ينفذها مواطنون من الدولة العدو لخلق الدولة الفاشلة، وهنا نستطيع التحكم، وهذه العملية تنفذ بخطوات ببطء وهدوء وباستخدام مواطني دولة العدو" .

أما لماذا لا يتم الانهيار السريع بدل التآكل الهادئ والبطيء؟ لأن التآكل البطيء يعني خراب متدرج للمدن، وتحويل الناس الى قطعان هائمة وشل قدرة البلد العدو على تلبية الحاجات الاساسية، بل تحويل نقص هذه الحاجات الى وجه آخر من وجوه الحرب، وهو عمل مدروس ومنظم بدقة..!!

خلاصة حروب الجيل الرابع أو ما يُطلق عليها أيضاً الحرب غير المتماثلة Asymmetric Warfare فصلتها بشكل أشمل النسخة الإنكليزية من موسوعة Wikipediaحيث ذكرت بأنها تتميز عن الحروب السابقة ببعض أو كل العناصر أدناه :"

1- مُعقّدة وطويلة الأجل.

2- تستخدم الإرهاب.

3- لا تستند إلى قاعدة وطنية، فهي متعددة الجنسيات وغير مركزية.

4- تشهد هجوماً مباشراً على المبادئ والمثل العليا الأساسية للعدو.

5- حرب نفسية متطورة ومعقدة للغاية، لا سيما من خلال التضليل الإعلامي وشن حرب قانونية.

6- استخدام جميع الضغوط المتاحة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً.

7- عدم وجود تسلسل هرمي.

8- تعتمد على عمليات صغيرة الحجم وشبكة ممتدة من الاتصالات والدعم المالي.

9- استخدام حركات التمرَّد وتكتيكات حرب العصابات."

هذا التحول في مفهوم واستراتيجية الحرب يكمن في جوهر الفوضى الخلاقة أو البناءة التي قررت الإدارة الامريكية تبنيها للتعامل مع منطقة الشرق الأوسط مع حرب الخليج الثانية ثم بعد أحداث 11 سبتمبر 2001.

 

إن من يتمعن بتفاصيل وعناصر ما يجري في المنطقة العربية منذ حرب الخليج الثانية وفي ظل ما يسمى بالربيع العربي وما جرى ويجري في العراق ومناطق السلطة الفلسطينية سيجد إجابة عن كل التساؤلات التي سبق أن أشرنا إليها. الجيل الرابع من الحرب هو الوجه الآخر أو التطبيق العملي لسياسة الفوضى الخلاقة التي تحدثت عنها كونداليزا رايس عندما أشارت إلى أن هدف الولايات المتحدة هو تفكيك الشرق الأوسط وإعادة تركيبه من جديد بما يشمل إسرائيل – وهو ما جرى مع التطبيع الأخير- وبما لا يتعارض من المصالح الامريكية.

الولايات المتحدة وإسرائيل ومن يتم توظيفهم من حلفاء لم يكونوا يستهدفون زعيماً عربياً بعينه أو دولة عربية محددة بسبب غياب الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان، بل الأمة العربية ومشروعها القومي وإمكانية نهضتها وتوحدها، وبالتالي فإن العدو أو الخصم الذي يجب تدميره وتفكيكه هو الأمة العربية والزعماء والدول الذين يمكنهم أن يشكلوا قاعدة منطلق لنهضة الأمة العربية .

ما يؤكد نجاح أدوات الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لتحقق أهدافها من خلال تطبيق الجيل الرابع من الحرب نلمسه من خلال مقارنة ما ورد حول أهداف هذه الحرب مع نتائج فوضى الربيع العربي حيث آل (الربيع العربي) إلى:

1- إثارة النعرات الطائفية والعرقية والمناطقية

2- صعود جماعات الإسلام السياسي المتطرفة وتراجع القوى المدنية والديمقراطية .

3- تهديد وتفكيك الدولة الوطنية وما تم مراكمته من انجازات تم تحقبقها بمعاناة ونضالات الشعب.

4- انهيار الروابط القومية العربية أو ما يسمى المشروع القومي العربي.

5- تراجع مسار الانتقال الديمقراطي السلمي .

6- تدخل دول الجوار وخصوصا تركيا وإيران والكيان الصهيوني.

7- تزايد النفوذ الغربي والروسي.

8- استنزاف الثروات والمقدرات المالية العربية.

9- تغُّول إسرائيل وغياب أية مصادر تهددها.

10- تحويل دول ما يسمى الربيع العربي إلى دول فاشلة.

 وأخيراً فإن ما صدر من تصريحات عن الرئيس الأمريكي بايدن وفريقه تجاه المنطقة يؤشر إلى العودة لتوظيف الجيل الرابع من الحرب أو الفوضى الخلاقة تحت شعار الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان أو حل الدولتين بالنسبة للقضية الفلسطينية، ولا يوجد لدى الإدارة الأمريكية الجديدة أية نية أو توجه لحل مشاكل دول المنطقة بل إدارة للصراعات والحروب .

 

إبراهيم أبراش

 

 

قراءة واقتباسات في كتاب: «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي

التفاصيل
كتب بواسطة: السعيد بوشلالق

السعيد بوشلالق- كان أول إصدار لكتاب «مهزلة العقل البشري» في طبعته الأولى عام 1959، وفي طبعته الثانية عام 1994. صدر عن دار كوفان لندن، توزيع دار الكنوز الأدبية بيروت لبنان.

- الدكتور علي الوردي عالم اجتماع عراقي (1913 – 1995)

- يتكون الكتاب من مقدمة واثني عشر فصلاً وخاتمة، موزعة على 302 صفحة، الفصول عبارة على مقالات هي: (- طبيعة المدنية، - منطق المتعصبين، - علي بن أبي طالب، - عيب المدينة الفاضلة، - أنواع التنازع وأسبابه، - القوقعة البشرية، - التنازع والتعاون، - مهزلة العقل البشري، - ما هي السفسطة، - الديمقراطية في الإسلام، - علي وعمر، - التاريخ والتدافع الاجتماعي، - خاتمة المهزلة بعض رجال الدِّين.) أغلب هذه المقالات جاءت ردّاً على الكُتاب الذين انتقدوا ما جاء في كتابه “وعاظ السلاطين”، إذن هذا الكتاب «مهزلة العقل البشري» جاء دعماً وإسناداً للأفكار التي طرحها الدكتور علي الوردي في كتابه السالف الذكر. فالكاتب انتقد أصحاب البرج العاجي الذين أسماهم “الطَّوبَائيين”، الرافضين لأي تغيير فكري يُطرح على المجتمع.

- يقول علي الوردي في مقدمة كتابه «مهزلة العقل البشري»: (كتبتُ هذا الكتاب فصولاً متفرقة في أوقاتٍ شتى وذلك بعد صدور كتابي الأخير “وعاظ السلاطين”، وهذه الفصول ليست في موضوع واحد. وقد يؤلف بينها أنها كُتِبتْ تحت تأثير الضجة التي قامت حول كتابي الأخير. وأحسب أنها ستُرضي قوماً وتُغضِب آخرين. ولستُ أريد أن يرضى عني جميع الناس، فرضاً الناس غاية لا تنال… حسبي أن أفتح الباب للقراء لكي يبحثوا ويتناقشوا، والحقيقة هي في الواقع بنت البحث والمناقشة.) ص 07

- ويصب الدكتور علي الوردي جم غضبه على فئة مِن رجال الدِّين فيقول في مقدمة كتابه: (يحاول بعض المتحذلقين من رجال الدِّين ادعاء التجديد فيما يكتبون ويخطبون وتراهم لذلك يحفظون بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة يتلقفونها من المجلات والجرائد المحلية ثم يكررونها في كلامهم إذ يحسبون أنهم بهذا قد صاروا مجددين، ويحلو لبعضهم أن يُقال عنه أنه جمع بين القديم والحديث ثم يرفع أنفه مغروراً بهذا العلم العجيب الذي وعاه في صدره. ينبغي أن يفهم هؤلاء أن التجديد في الفكر لا يعني التشدق بالمصطلحات الحديثة، إنه بالأحرى تغيير عام في المقاييس الذّهنية التي يجري عليها المرء في تفكيره.) ص 09

- ويرى أنّ الفكرة ينبغي أن تكون عملية ممكنة التطبيق إذ (لا يكفي في الفكرة أن تكون صحيحة بِحدِّ ذاتها. الأحرى بها أن تكون عملية ممكنة التّطبيق. وكثيراً ما تكون الأفكار الّتي يأتي بها الطُّوبائيون مِن أصحابِ البرج العاجي رائعة ولكنها في الوقت ذاته عقيمة تضر النّاس أكثر مما تنفعهم.) ص 13

- ويدعو الكاتب إلى التّطور فيقول: (إنّ مِن المفاهيم الجديدة الّتي يؤمن بها المنطق الحديث هو مفهوم الحركة والتّطور. فكل شيء في هذا الكون يتطور مِن حال إلى حال ولا رادّ لتطوره. وقد أصبح مِن الواجب على الواعظين أن يدرسوا نواميس هذا التّطور قبل أن يُمطروا النّاس بوابل مواعظهم الرّنانة.) ص 13

- ويُخاطب الواعظين قائلاً:(على الواعظين أن يفحصوا قوة التّيار قبل محاولتهم أن يُقاوموه. إنّ عليهم بعبارة أخرى أن يفهموا أو أن يسكتوا.) ص 16

- نقاط على هامش كتاب: «مهزلة العقل البشري» لـ علي الوردي

- رغم أن كتاب «مهزلة العقل البشري» لعلي الوردي قد صدر في عام 1959 إلاّ أنِّي أجد روح مضمونه لا زالت تخيّم على عالمنا العربي والإسلامي في زمننا هذا، إذ أن المشاكل التي انتقدها الكاتب بقيت تشكل تهديداً من الماضي على حاضره ومستقبله..

- يبحث الكاتب في مواضيع اجتماعية لفهم الطبيعة البشرية، من خلال منطق علم الاجتماع..

- بعد قرأتي لهذا الكتاب أجد أنّ الكاتب كان أحرى به أن يخُص عنوان الكتاب فيسميه (مهزلة العقل الإسلامي) بدلاً من العقل البشري، فالعقل العربي والإسلامي قد تم مغالطته وخداعه طيلة القرون الماضية والزّجِّ به في أتون الصراع الطائفي المقيت الشِّيعي السُّنّي الّذي لا زالت انعكاساته السلبية معيقة تكبل الأمة وتسحبها إلى الخلف وتمنعها من الاندفاع في حركة التّاريخ. وكأن التّاريخ الإسلامي قد توقف نهائياً وتجمد دون حراك عند تلك المأساة القاسية التي تقاتل فيها المسلمين في موقعة صفين والجمل ومأساة كربلاء...

- النسبة الغالبة مِن محتوى الكتاب خصصها الكاتب للحديث عن ذلك الخلاف المفتعل الشِّيعي السُّني. أصوله وأسبابه وتفاعلاته.

2259 مهزلة العقل البشري- اقتباسات من كتاب: «مهزلة العقل البشري» لـ علي الوردي

1 - الفصل الأول: طبيعة المدنية

- (إن الاتفاق يبعث التماسك في المجتمع، ولكنه يبعث فيه الجمود أيضاً، فاتحاد الأفراد يخلق منهم قوة لا يُستهان بها تجاه الجماعات الأخرى، وهو في عين الوقت يجعلهم عاجزين عن التطور أو التكيف للظروف المستجدة.) ص 20

- (الإنسان الّذي يعيش في مجتمع متحرك لا يستطيع أن يحصل على الطمأنينة وراحة البال الّتي يحصل عليها الإنسان في المجتمع الرّاكد. إنّه يُجابه في كُلِّ يوم مشكلة، ولا يكاد ينتهي منها حتى تبغته مشكلة أخرى.وهو في دأبٍ متواصل لا يستريح إلاّ عند الموت.) ص 21

- (إنّ النّفس البشرية تحترق لكي تنير باحتراقها سبيل التّطور الصّاخِب.) ص 21

- (يُخيل إلى بعض المغفّلين من المفكرين أن المجتمع البشري قادر على أن يكون مطمئناً متمسكاً بالتقاليد القديمة من جهة، وأن يكون متطوراً يسير في سبيل الحضارة النامية من الجهة الأخرى، وهذا خيال غريب لا ينبعث إلاّ في أذهان أصحاب البرج العاجي الذي يغفلون عن حقيقة المجتمع الذي يعيشون فيه.) ص 22

- (يقول توينبي، المؤرخ المعروف، أن الصفة الرئيسية التي تميز المدنية عن الحياة البدائية هي الإبداع. فالحياة البدائية يسودها التقليد بينما الإبداع يسود حياة المدنية.) ص 22

- (يعتقد السُّذج مِن المفكرين بأن مِن الممكن تجزئة المدنية. أي أنهم يظنون بأنهم قادرين على تنقية المدنية مِن شقائها وقلقها مع الاحتفاظ بإبداعها وتجديدها. وهذا رأي لا يستسيغه المنطق الحديث. فالمدنية كُلٌّ لا يتجزأ. فإن هي جاءت إلى مجتمعٍ جلبت معها محاسنها ومساوئها معاً. إنّ مِن المستحيل الفصل بين حسنات المدنية وسيئاتها.) ص 26

- (إنّ التّجديد في الأفكار هو الّذي يخشاه مشايخ الدِّين لا الأفكار ذاتها.) ص 28

2 - الفصل الثاني: منطق المتعصبين

- (إن الذين يُمارسون المنطق القديم في هذا العصر يُشبهون أولئك الأبطال، مِن طراز عنترة العبسي، الذين يهجمون بالسيف على جندي حديث يحمل بيده رشاشاً سريع الطلقات. فهم مهما تفننوا في إبداء ضروب البسالة والشّجاعة فإنّ الرّشاش يحصدهم في أرجح الظّن، حيث لا ينفعهم آنذاك بسالة ولا حماسة.) ص 38

- (إنّ مِن شرائط المنهج العلمي الدّقيق أن يكون صاحبه مشككاً حائراً قبل أن يبدأ بالبحث. أما أن يدّعي النظرة الموضوعية وهو منغمس في إيمانه إلى قمة رأسه فمعنى ذلك أنّه مُغفّل أو مُخادع.) ص 40

- (لم يبتكر العقل البشري مكيدة أبشع من مكيدة الحق والحقيقة. ولست أجد إنساناً في هذه الدنيا لا يدعي حبّ الحق والحقيقة. حتى أولئك الظّلمة الذين ملأوا صفحات التّاريخ بمظالمهم التي تقشعر منها الأبدان. ولا تكاد تستمع إلى أقوالهم حتى تجدها مفعمة بحبِّ الحق والحقيقة. والويل عندئذ لذلك البائس الذي يقع تحت وطأتهم. فهو يتلوى من شدّة الظّلم الواقع عليه منهم بينما هم يرفعون عقيرتهم هاتفين بأنشودة الحق والحقيقة.) ص 41

- (إنّ مِن الظلم حقّاً أن نُعاقب النّاس على عقائدهم الّتي لُقِنوا بِها في نشأتهم الاجتماعية.) ص 43

- (كان القُدماء يصفون الدليل القوي الواضح بأنه الشمس في رابعة النّهار. ونسوا أنّ الشّمس نفسها على شدة وضوحها لا تصلح دليلاً كافياً لدى الإنسان إذا كان أعمى، أو إذا كانت الشّمس محجوبة عنه بغلافٍ سميك.) ص 45

- (العقل البشري لا يحس بوطأة الإطار الموضوع عليه إلاّ إذا انتقل إلى مجتمع جديد، ولاحظ هناك أفكاراً ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة، إنّه يشعر عندئذ بأنّه كان مثقلاً بالقيود الفكرية وأن فكره بدأ يتفتح.) ص 47

- (الإنسان كلما ازداد تجوالاً في الأفاق وإطلاعاً على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود قليلاً أو كثيراً. وكلما كان الإنسان أكثر انعزلاً كلما كان أكثر تعصباً وأضيق ذهناً.) ص 47

3 - الفصل الثالث: علي بن أبي طالب

- (إنّنا ندرس التاريخ لكي نستفيد منه لحاضرنا ومستقبلنا. هذا هو مقصد الشُّعوب الحية من دراسة التّاريخ. ومن السخرية أن نتجادل على أمر مضى عليه ثلاثة عشر قرناً من غير أن ننتفع منه لحاضرنا أو مستقبلنا شيئاً... ونحن حين ندرس التّاريخ نريد أن نستشف منه تنازع المبادئ فيه، ونتخذ الأبطال رموزاً لتلك المبادئ.) ص 53

- (إن نظام الأكثرية الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة لم يقم إلاّ بعد توافر شروط عديدة، أهمها: انتشار التعليم ووعي الرأي العام وتكون الأحزاب السياسية وارتفاع شأن الصحافة وما أشبه... وكلما اشتد وعي الناس وانتشر التعليم ازدادت مقدرة الأكثرية على أن تفرض رأيها على الحكام.)  ص 57

- (إن المسلمين اليوم، يدرسون التّاريخ لكي يعرفوا أنّ فلاناً كان أشجع وأعلم وأفضل مِن فلان، لا يزيدون على ذلك شيئاً. بينما هم سادرون في وضعهم الاجتماعي السيئ، فلا يحاولون أن يعتبروا بما في التّاريخ مِن عظاتٍ بالغات.) ص 58

- (يُحكى أن رجلاً كان كثير البُكاءِ على الحسين بن علي – رضي الله تعالى عنهما – وكان لا يفتأ حين يذكر الحسين أن يقول: ليتني كنت معه فأفوز فوزاً عظيماً. وشاء القدر أن يرى هذا الرّجل الحسين في منامه وهو مُحاطٌ بالأعداءِ مِن كلِّ جانبٍ، وحيداً يستغيث فلا يُغيثه أحد. ونظر الرّجلُ إلى الجيشِ العرمرم الّذي كان يُحاصرُ الحسين في كربلاء وسيوفه تلمعُ في الفّضاء وقد امتلأتْ ساحة المعركة بِجُثثِ القتلى تسيل منها الدِّماء. عند ذاك أدرك الرّجل شدّة الخطر المحيط بالحسينِ وبِمَن يُريد أن ينصره. فخفض الرّجلً رأسه وأخذ يُهرولُ بين التِّلال مخافة أن يراه الحسين فيستدعيه لنصرته. ولكن الحسين رآه على أي حال فاستدعاه وأعطاه دِرعاً وسيفاً وطلب منه أن يُناضل دونه. ولم يكد صاحبنا يستلم الدِّرع والسّيف، حتى أطلق ساقيه للرِّيح لا يلوي على شيءٍ. إنّه لم يكتف بِخذلان الحسين، بل سرق سيفه ودرعه أيضاً مع الأسف الشّديد.) ص 58

- (كلنا ننادي بالحق والحقيقة عندما نخطب أو نتجادل أو نتلو القصائد الرنانة. ولكننا نفعل ذلك لأننا نشعر في قرارة أنفسنا بأن هذه الأقوال التي نتشدق بِها سليمة لا ضرر منها ولا مسؤولية عليها. حتى إذا جد الجد وصار الحق معارضاً لما نحن فيه أسرعنا إلى جعبتنا المملوءة بالأدلة العقلية والنّقلية فاخترنا منها ما يُلائم موقفنا وصورّنا الحق بالصُّورة الّتي ترضينا. ثم لا ننسى بعد ذلك أن نواصل تلاوة القصائد الرّنانة مِن جديد.) ص 58

- (أصبح النّاس اليوم يَلهجون بحبِّ علي ويتغنون بأماديحه فلا يعترض عليهم أحد. وبهذا نسي النّاس الوضع الدّقيق الّذي كان حُبُّ علي فيه يعني السِّجن والعذاب أو ضياع النّفس والمال. ترك النّاسُ علياً في حياته ثُمّ تمسكوا به بعد وفاته وتلك هي المأساة الكبرى!.) ص 66

- (إذا اتسعت الفجوة بين الحاكم والمحكوم صار المحكوم يعاكس كل دعوة يدعو إليها الحاكم. والمحكوم يجد نفسه آنذاك مدفوعاً إلى الغُلو في حُبِّ أي شخص يكرهه الحاكم أو يدعو إلى سبِّه.) ص 67

4 - الفصل الرابع: عيب المدينة الفاضلة ّ

- (كلّ إنسان ميال إلى الاستبداد والظلم حين يُترك على دست الحكم مُنفرداً يحكم كما يشاء. يقول الإمام علي: “مَن ملك استأثر”. وهذه كلمة تُفصح عن طبيعة الإنسان إفصاحاً بليغاً.) ص 71

- (قيل أن شخصاً علم القطط أن تحمل الشُّموع له على مائدة الطّعام. فجاء أحد ضيوفه وهو يحمل في جيبه فأراً ثُمّ أطلقه على المائدة. وسرعان ما انطلقت القطط وراءه ورمت بالشُّموع على المائدة لتحرقها وتحرق مَنْ كان يأكل منها. إنّ الذي يُريد أن يُغير طبيعة الإنسان بواسطة الموعظة والكلام المجرد لا يختلف عن الذي علّم القطط حمل الشُّموع. فالنّاس يستمعون له ويتأدبون أمامه ويسيرون بين يديه بوقارٍ كأنهم أنبياء. ولا تكاد ترمي لهم بشيء ثمين حتى ينطلقوا وراءه متكالبين، إذ ينسون ما قال لهم الواعظ وبماذا أجابوه.) ص 71

- (لعلنا لا نُغالي إذا قلنا أن معظم أفكار القدماء هي أفكار رائعة وجميلة ولكن فيها عيب كبير هي أنها غير عملية.) ص 73

- (إذا رأينا فكرة جميلة لا يتبعها النّاس على توالي الأجيال فمعنى ذلك أنّ العيب فيها لا في النّاس.) ص 74

- (كلما ازداد الإنسان غباوة ازداد يقيناً بأنه أفضل مِن غيره في كلّ شيء.) ص 75

- (الإنسان مجبولٌ أن يرى الحقيقة مِن خلال مصلحته ومألوفات محيطه. فإذا اتحدت مصلحته مع تلك المألوفات الاجتماعية صعب عليه أن يعترف بالحقيقة المخالفة لهما ولو كانت ساطعة كالشّمس في رابعة النّهار.) ص 76

- (الحياة، عبارة عن تفاعل وتناقض وتنازع. ولولا ذلك لما كان هناك شيء اسمه حضارة أو مجتمع.) ص 77

- (الدِّيمقراطية عادة اجتماعية قبل أن تكون فكرة طوبائية. ونحن نحتاج إلى ممارسة تلك التّجارب القاسية جيلاً بعد جيل، فنقوم بِها ونقع عدة مرات، حتى يتغلغل منطق الدِّيمقراطية في صميم مفاهيمنا وتقاليدنا، وعندئذ نخرج مِن قوقعتنا الفكرية القديمة إلى عالم واسع يكون فيه التّنازع والتّعاون صنوين لا يفترقان.) ص 84

5 - الفصل الخامس: أنواع التّنازع وأسبابه

- (الإنسان مجبول على التّنازع في صميم تكوينه فإذا قلّ التّنازع الفعلي في محيطه لجأ إلى اصطناع تنازع وهمي..) ص 88

- (إن التّنازع صفة أساسية في الطّبيعة البشرية. حتى التّعاون ما هو إلاّ صورة مِن صور التّنازع. فالإنسان يتعاون مع بعض النّاس لكي يكون أقدر على التّنازع ضد البعض الآخر.) ص 89

- (الإنسان مجبول قان يرى في نفسه الفضل أو الامتياز على أقرانه في أمر مِن الأمور. فهو إذا وجد النّاس يحترمون أحد أقرانه لصفةٍ ممتازة فيه، حاول أن يُنافسه فيها. فإذا عجز عن ذلك ابتكر لنفسه المعاذير وأخذ يقول بأنّ تلك الصِّفة لا أهمية لها، وأنّ هناك صفة أخرى أهم منها وأنفع للمجتمع. ثُمّ يحاول أن ينسب هذه الصِّفة الأخرى لنفسه لكي يشعر مِن جرائها بالامتياز على وجه مِن الوجوه.) ص 94

- (يعزو كارفر التّنازع البشري إلى سببين. أولهما هو استحالة إشباع الحاجات البشرية كلها، وثانيهما هو حُبُّ الإنسان نفسه وتقديره لها أكثر مما يستحق.) ص 95

- (إن رجال الدِّين يغفرون للسلاطين حين يرونهم يتنافسون على الإمارة ويتكالبون ويتنازعون، ويطلب كل منهم زيادة نصيبه على حساب الآخرين. فهم يغفرون لهم ذلك ولكنهم لا يغفرون لعامة النّاسِ أن يطالبوا وأن يحتجوا وأن يسعوا في سبيل المزيدِ مِن كل شيء.) ص 99

- (إن وعاظ السّلاطين يذمُّون كلّ فتنة تقوم في وجه السُّلطان، فإذا نجحت تلك الفتنة واستتب لها الأمر أخذ الواعظون يطلبون مِن النّاسِ إطاعة السُّلطان الجديد وينسون بذلك طاعة وِليّ أمرهم السابق..) ص 100

6 - الفصل السادس: القوقعة البشرية

- (الإنسان كما نلاحظه اليوم، أناني يعيش داخل قوقعته الذّاتية، وهو لا يرى الحقيقة إلاّ مِن خلال هذه القوقعة المُحصّنة.) ص 104

- (إنّ كلّ طائفة مِن النّاسِ تعتقد أنّ ثقافتها هي الصّحيحة وأنّ قيمها الاجتماعية هي المعيار الثابت الذي يميز به الحق عن الباطل. والإنسان الذي ينشأ في مجتمع معين لا بد أن يتأثر بمقاييس ذلك المجتمع مِن حيث يشعر أو لا يشعر.) ص 104

- (إنّ القوقعة البشرية تكون في أوج قوتها أثناء سنوات الطُّفولة الباكرة. فالطِّفل إذ يرى الدُّنيا بمنظار عواطفه وملذاته. وهو لا يستطيع أن يُفرِّق بين الحقيقة الموضوعية وبين عاطفته نحوها. فالحسن في رأيه حسن لأنه محبوب لديه أو لذيذ. والحسن ينقلب قبيحاً حالما يصير مكروهاً أو مؤلماً... يكبر الطِّفل وينضج عقله وقد يُصبح مِن المُحنكين أو الحُكماء ولكن بقية من هذه النظرة القوقعية تبقى في قرارة نفسه قليلاً أو كثيراً. وكلما ازدادت حنكة الإنسان وتجاربه ضعفت فيه تلك النظرة ولكنها لن تموت أبداً.) ص 105

- (يصعب على الإنسان أن يتخلص من قوقعته الذّاتية مهما حاول. فهي تكتنفه مِن حيث لا يشعر بِها، إنّها تجعله يضخم محاسنه الخاصة في الوقت الذي يضخم فيه مساوئ منافسيه وخصومه.) ص 106

- (الإنسان مجبول أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكراً لا يخلو مِن مبالغة.) ص 106

- (مزية الفلاسفة أنهم يتكلمون فلا يرد عليهم أحد مخافة أن يتهمه النّاس بالغباوة أو الغفلة أو الجهل.) ص 110

7 - الفصل السابع: التّنازع والتّعاون

- (يقول ابن خلدون: إنّ التّنازع عنصر أساسي مِن عناصر الطبيعة البشرية. فكُل إنسان يُحِبّ الرئاسة وهو لا يتردد عن التّنازع والتّنافس في سبيلها إذا وجد في نفسه القدرة على ذلك.) ص 115

- (إن المجتمع البشري لا يمكن أن يخلو مِن تنازع كما لا يُمكن أن يخلو مِن تعاون. كلا الأمرين متلازمين في حياة النّاس. ولا يمكن أن يظهر أحدهما إلاّ ويظهر الآخر معه ليحد منه ويتمم وجوده. إنّ التّنازع والتّعاون هما دعامتا الاجتماع البشري.) ص 116

- (إنّ التّنازع والتّعاون متلازمان في الإنسان لا ينفك احدهما عن الآخر. فلا يستطيع الإنسان أن يتنازع مع جميع النّاس إلاّ إذا كان مُصاباً بعلةٍ نفسية. إنّه حين يتنازع مع فريقٍ يجد نفسه مُضطراً إلى التّعاون مع فريق آخر. وهكذا تنشأ الجماعات والأحزاب والكتل السياسية والفرق الدِّينية. وكلما لاحظت نِزاعاً في جانبٍ فاعلم أنّ هناك تعاوناً في جانبٍ آخر.) ص 118

- (لا شك أن التنازع مُضرٌ بالإنسان ولكنه نافع له أيضاً. فهو الذي يحفِّز الإنسان نحو العمل المثمر والإبداع. وبِه يشعر الإنسان بأنه حي ينمو. فلو كان الناس متآخين إخاءً تاماً، يبتسم بعضهم لبعض ويعانق بعضهم بعضاً ثم يذهب كل منهم في طريقه من غير منافسة أو تكالب لشعروا بأن الموت خير لهم من هذه الحياة الرتيبة.) ص 118

- (المجتمع الذي تسوده قوى المحافظين يتعفن كالماء الرّاكد. أما المجتمع الذي تسوده قوى المجددين فيتمرد كالطُّوفان حيث يجتاز الحدود والسُّدود.. والمجتمع الصّالح ذلك الّذي يتحرك بهدوء فلا يتعفن ولا يطغى، إذ يتوازن فيه قوى المحافظة والتّجديد فلا تطغى إحداهما على الأخرى.

إنّ المحافظين يدعون دوماً إلى صيانة التّماسك الاجتماعي. وهم يُقدسون وحدة الجماعة ويُكفِّرون من يشق عصا الطّاعة عليها. أما المجددون فيدعون مِن جانبهم إلى التّطور أو الثورة ولا يُبالون بوحدة الجماعة بمقدار ما يُبالون بالتكيف أو التّقدم.) ص 120

- (يقول مانهايم: إن الأفكار البشرية على نوعين متضادين:

1 – الأفكار المحافظة التي تؤيد النِّظام القائم وهو يُسميها Ideologies .

2 – الأفكار المعارضة التي تدعو إلى نظام مثالي وهو يُطلق عليه Utopias.

ويذهب مانهايم إلى أنّ أصحاب المصالح القائمة هم دعاة مِن أولي الأفكار المحافظة. فهم يدعون إلى تدعيم الواقع الرّاهن، فليس في الإمكان أبدع مما كان. وكلّ إصلاح يُعد في رأيهم مُربِكاً للمجتمع ومقلقاً لنظامه القائم.) ص 127

8 - الفصل الثامن: مهزلة العقل البشري

- (ثبت اليوم أنّ العقل البشري صنيعة مِن صنائع المجتمع. وهو لا ينمو أو ينضج إلاّ في زحمة الاتصال الاجتماعي... إنّ أي إنسان لا ينمو عقله إلاّ في حدود القالب الذي يصنعه المجتمع له.) ص 133

- (إن من مزايا هذا العصر الذي نعيش فيه هو أن الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها وأخذ يحل محلها سلطان النسبية فما هو حق في نظرك قد يكون باطلاً في نظر غيرك. و ما كان جميلاً أمس قد ينقلب قبيحاً اليوم . كل ذلك يجري في عقلك وأنت ساهٍ عنه كأن الأمر لا يعنيك.) ص 134

- (ليس مِن الممكن أن نقول عن شيء أنّه غير معقول بمجرد أن نراه مخالفاً لمألوفاتنا السابقة. إنّ ما نقول عنه اليوم أنّه غير معقول، قد يُصبح معقولاً غداً.) ص 143

- (إنّ الحقيقة ليست إلاّ فرضية يفترضها الإنسان كي يستعين بها على حل مشكلات الحياة. فالحقيقة المطلقة غير موجودة وإن هي وجدت فالعقل لا البشري لا يفهمها أو هو لا يريد أن يفهمها لأنها لا تنفعه في الحياة. إنّ الإنسان في حاجة إلى الحقيقة النسبية التي تساعده على حل مشكلاته الراهنة. و كثيراً ما يكون الوهم أنفع له من الحقيقة المطلقة المعلقة في الفراغ.) ص 146

- (المنطق الحديث قد أنكر وجود الحقيقة المطلقة عملياً ونظرياً، وهو يرى في كلِّ فكرةٍ جانباً مِن الصواب في حدود الإطار الخاص بها. والفكرة الّتي هي مغلوطة في نظرك قد تكون صحيحة في نظر غيرك لأنه يراها بمنظاره الّذي فرضه المجتمع عليه أو فرضته مصالحه الخاصّة أو عقده النفسية.) ص 151

9 - الفصل التاسع: ما هي السّفسطة؟

- (مِن محاسن السّفسطة أنّها غير منافقة. فهي تؤمن بالحقيقة النسبية قولاً وفعلاً. أمّا أصحاب المنطق القديم فهم يؤمنون بالحقيقة المطلقة نظرياً ويخالفونها عملياً... فكل فريق يُدافع عن الحقيقة التي يشتهيها ثُم يدعي بعد ذلك أنه من طلاب الحقيقة الخالدة التي تصلح لكل زمان ومكان.) ص 153

- (يجب أن لا ننسى أن الطُّغاة الذين كانوا يشترون آلاف الجواري بأموالِ الأمة كانوا يجدون حولهم عدداً كبيراً مِن الفقهاء العظام يؤيدونهم فيما يفعلون ويأتون بالأدلة العقلية والنّقلية للبرهنة على أن ذلك موافق لما أمر الله به رسوله.) ص 154

- (كان أفلاطون يرى بأن العدل عبارة عن فكرة مجردة يمكن الوصول إليها عن طريق التّفكير السّليم. أما السفسطائيون فكانوا على العكس من ذلك يرون العدل من صنع التّاريخ ونتيجة من نتائج التفاعل الاجتماعي. ومعنى هذا أن العدل ليس فكرة مجردة قائمة في الفراغ، إنّما هو صنيعة التّطور التّاريخي ولا تعينه إلاّ حجة البشر المساهمين في تكوين التّاريخ.) ص 155

- (ذهب السفسطائيون إلى أن الحقيقة هي تناقض ونزاع. فكل إنسانٍ يرى الحقيقة حسبما تقتضيه مصالحه وشهواته، وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث الحقيقة الوسطى التي تنفع النّوع الإنساني بوجه عام. ولو أن القدماء فهموا هذه النظرية السفسطائية حق فهمها وأعطوها ما تستحق من عناية لاختفى جزء كبير من الظلم الذي كان يعج به التّاريخ القديم.) ص 155

- (كان الفكر البشري، ولا يزال، محتاجاً إلى نوعين مِن الآراء يتنازعان ويتفاعلان: الآراء الأفلاطونية والآراء السوفسطائية. تلك تصعد به إلى السّماء وهذه تنزل به إلى الأرض. وعند هذا يتضح للبشر ماهية الحقيقة مِن كلتا وجهتيها.) ص 166

- (رأيت ذات يوم رجلاً من العامة يستمع إلى خطيبٍ وهو معجبٌ به أشدّ الإعجاب. فسألته: ماذا فهمت؟ فأجابني وهو حانق: وهل أستطيع أن أفهم ما يقوله هذا العالم العظيم!. يظن هذا المسكين أن من شروط العظمة في الفكر أن يكون غامضاً غير مفهوم، فإذا اتضح كلامه وأدرك المستمعون معناه بسهولة، إنحط من مكانته العالية التي كان فيها.) ص 167

- (إنّ العدل لا يتأتى إلاّ إذا توازنت قوى الخصوم المتضادة، وكلما تعادلت هذه القوى كان ذلك ادعى إلى العدلِ وأكثر قُرباً منه. ومعنى هذا أن العدل «صيرورة اجتماعية» أكثر مما هو فكرة مطلقة معلقة في الفراغ.) ص 170

10 - الفصل العاشر: الدِّيمقراطية في الإسلام

- (بدأ الإسلام في أول أمره نظاماً ديمقراطياً ولكن الدِّيمقراطية اختفت منه بعدما رفع معاوية المصاحف وقال للمسلمين: تعالوا نحتكم إلى كتاب الله. وكانت نتيجة الاحتكام إلى كتاب الله أن تولى يزيد أمر المسلمين وقال:

لعبت هاشم بالملك فلا    خبر جاء ولا وحي نزل.) ص 178

- (يُروى أن أبا بكر اعتاد قبل خلافته أن يحلب للضعفاء من جيرانه أغنامهم كرماً منه ورفقاً بهم. فلما تولى الخلافة سمع جارة له تقول: «اليوم لا تحلب لنا...» فقال: «لعمري لأحلبنها لكم...» وأخذ يحلبها فعلاً. وشتم رجل أبا بكر شتماً مقذعاً فقام أبو برزة يقول: «يا خليفة رسول الله دعني أضرب عنقه.» فأجابه أبو بكر: «اجلس. ليس ذلك لأحد إلاّ لرسول الله.») ص 178

- (والأعجب من هذا أن عبد الله بن عمر أبى أن يُبايع علياً ثم طلب الإذن بالسفر. فلما طولب بكفيل يكفله، أبى أن يأتي به، فقام الإمام يكفله بنفسه. ولم يشهد التّاريخ حاكماً يكفل رجلاً أبى بيعته ورفض أن يُطيعه. وتلك لعمري آية مِن آيات الدِّيمقراطية يعجز عن الإتيانِ بها كثيرٌ مِن النّاسِ.) ص 179

- (يقول عباس محمود العقاد: أن النِّزاع بين علي ومعاوية لم يكن خلافاً على شيء واحد يتجسم فيه النِّزاع بانتصار هذا أو ذاك، ولكنه كان خلافاً بين نظامين متقابلين وعالمين متنافسين: أحدهما يمثل الخلافة الدِّينية والآخر يمثل الدّولة الدُّنيوية.) ص 185

- (كل حركة اجتماعية في التّاريخ بانية وهادمة في آن واحد. فهي تهدم النِّظام القديم لكي تحل محله نظاماً جديداً أقرب إلى روح العدل مما مضى.) ص 197

- (لقد استبدلت الدِّيمقراطية الحديثة مبدأ الحكم الإلهي بمبدأ المحاسبة والمراقبة كما قال مونتسكيو. وأصبح الحاكم اليوم فرداً من النّاس تستخدمه الأمة في شؤونها العامة فإذا رأت منه اعوجاجاً صفعته على وجهه وأنزلته عن كرسيه الوثير.) ص 199

- (إنّ الثّورة في مفهومها العلمي كما قال هبرله، لا تعني العُنف بالضّرورة. فالجالس في بيته قد يُعدُّ ثائراً إذا كان مؤمناً بحقوق الإنسان كما جاءت بها الثورة الفرنسية أو غيرها من الحركات الاجتماعية الكبرى.) ص 200

11 - الفصل الحادي عشر: علي وعُمر

- (مشكلة العقل البشري أنّه إذا ركز انتباهه على مناقب شخص أو على مثالبه، استطاع أن يأتي منها بشيء كثير. فهو إذا أحبّ شخصاً استطاع أن يجعل كلّ أعماله مناقب، وإذا أبغضه حولها إلى مثالب.) ص 204

- (الأجانب حين يقرؤون تاريخ الإسلام الأول يجدون الصّفاء تاماً بين علي وعُمر. فقد تزوج عمر من ابنة علي، وتولى أصحاب علي الولايات المهمة في عهد عُمر. وكان عُمر يستشير علياً في كثيرٍ من القضايا ويمدحه، كذلك كان علي يمدح عُمر في حياته وبعد مماته.) ص 205

- (لا شك عندي أن عُمر كان يُريد الخلافة لنفسه، وقد سلك من أجل هذا الغرض سبلاً شتى. ولكنه عندما تولى الخلافة أحسن التّصرف بها وكان فيها إماماً عادلاً يندر أن يظهر في التّاريخ له مثيل. والظّاهر أن علياً غضب من عُمر في أول الأمر ثُمّ رضي عنه عندما وجده عادلاً لا يخشى في الحقِّ لومة لائم. عقيدتي في علي بن أبي طالب أنّه لا يُريد الخلافة من أجل مصلحته الخاصّة. إنّما كان يُريدها لكي يُحقق بها مبادئ الثائر الأعظم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولهذا وجدناه مِن أكثر النّاسِ انقياداً واحتراماً ونُصحاً لأبي بكر وعُمر. فقد وجدهما يفعلان ما يُريد أن يفعله هو بالذّات. فإذا حصل الغرض زال سبب الخُصومة.) ص 206

- (الواقع أنّ علياً وعُمر وأبا بكر كانوا من حزب واحد، هو حزب الثّورة المحمدية. ولهذا وجدناهم يُناوئون قُريشاً ويُفضلون عليها سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصُهيب الرُّومي. أما ما حدث بينهم مِن خُصومةٍ طفيفة في يومٍ مِن الأيامِ فلا يستوجب أن يكون شعاراً لنزاعٍ اجتماعي عام يقتتل النّاس فيه ويتلاعنون.) ص 207

- (عيب مؤرخينا أنّهم ينظرون في الحوادث الماضية بمنظارهم الحاضر ويقيسونها بمقياس عصرهم. وهذا هو سبب عجزهم عن حلِّ كثيرٍ مِن الألغاز الّتي انطوت عليها صفحات التّاريخ. المؤرِّخ الحقيقي هو الّذي يعيش في الوقائع الّتي يدرسها ويجعل مِن نفسه أحد القائمين بها، ويُشّبع ذهنه بالمفاهيم الّتي كانت سائدة فيها.) ص 207

- (الإنسان لا ينسى آلامه الماضية بسهولة.) ص 210

- (إنّ المفاهيم المنطقية لا تُقنع إلاّ أصحابها أما النّاس فلهم مفاهيم أخرى. ومَنْ يُريد أن يُطبق أقيسة المنطق في أُمور المجتمع باء بالفشل الذّريع.) ص 211

- (إن التّجاوب النّفسي بين الحاكم والمحكوم أمر ضروري في قيام العدل الاجتماعي. وإذا نشأت الفجوة بينهما ضاعت المقاييس وتبعثرت المواهب والكفايات حيث تمسي لا فائدة منهما.) ص 218

- (النّاس لا يثورون مِن جراء ظلم واقع عليهم. إنّما يثورون مِن جراء شُعورهم بالظُّلم. فالشُّعور بالظُّلم هو أعظم أثراً في النّاس مِن الظُّلم ذاته.) ص 220

- (نحن ندرس التّاريخ لكي نستفيد منه في تثّقيف أنفسنا وترّبية أبنائنا. وإذا درَسناه في سبيل التّعصب لرجلٍ دون النّظرِ في مبادئه كان ذلك دليلاً على أنّنا دُعاة شعوذة لا دُعاة إصلاح.) ص 235

12 - الفصل الثاني عشر: التّاريخ والتّدافُع الاجتماعي

- (دأب المؤرخون القدماء على النّظر في التّاريخ مِن ناحية واحدة وإهمال النّاحية الأخرى منه. فهُم ينظرون مِن ناحية الملوك ويُهملون ناحية الشُّعوب.

والّذي يقرأ التّاريخ من هذه النّاحية «الملوكية» لا يُفهم منه غير الإعجاب بما تم على يد السّلاطين المترفين مِن فتح عريض وعمران باذخ. وهو إذن لا يُبالي بما عانت الشُّعوب المحكومة مِن استعباد وحرمان.  فهو يحسبها كالأغنام لا إحساس لها. فإذا ثار ثائرٌ منهم قال المؤرخون عنه أنّه يُريد إفساد الأرض وتمزيق شمل الأمة.

يأخذ المؤرخون وجهة نظر الحاكم وينسون وجهة نظر المحكوم. ولهذا يصح أن نصف التّاريخ القديم بأنّه أعرج يمشي على قدمٍ واحدة. ويؤسفنا أن نرى كثيراً مِن المؤرخين في هذا العصرِ يكتبون على هذا المِنوالِ القديم، وكأنهم لا يزالون كأسلافهم يعيشون على فضلات موائد الحكام وينتظرون جوائزهم.

إنّ التّاريخ البشري في الواقع عبارة عن صيرورة وحركة دائبة. والحركة لا تظهر إلاّ إذا كان فيها تفاعل بين عاملين متعاكسين. فالعامل الواحد معناه السُّكون والجمود.) ص 251

- (إن معظم المؤرخين القدامى يكتبون التّاريخ في هذا الضّوء. فهم يحمدون للسلاطين ما فتحوا وما عمروا، ويشجبون الشُّعوب المفتوحة على ما شكوا منه أو ثاروا له. فالتّاريخ عندهم عبارة عن سجل للفتح والعمران. أما المبادئ التي نادى بِها الثائرون فهي زندقة أو دعوة إلى الشّغب والفوضى.) ص 252

- (إنّ الكتب المدرسية عندنا تعلم التّلاميذ على أن يكونوا ضُباطاً عسكريين، لا عُلماء باحثين. فهي تُصوِّر لهم التّاريخ بصورة زاهية مملوءة بأدوات التّرف والغالبة. أما شعور المغلوب الّذي ملأ الزّمان بأنينه وشكواه فهو بعيدٌ عن مخيلة التّلاميذ. ولعلهم يحسبونه غير مُحِق في الحياة. ومن كان ضعيفاً أكلته الأقوياء!.) ص 253

- (إنّ الأفكار السُلطانية نشرها بين المسلمين أولئك الكُهان الّذين عاشوا على فضلات موائد المُترفين، إذ هي أفكار تُخدِّر عقول المسلمين وتجعلهم يرضخون لجور حكامهم ويُهملون ما جاء به القرآن من مبادئ الحركة والتّدافع الاجتماعي. ولو فهم المسلمون مقاصد القُرآن حقّ فهمها لما استطاع السّلاطين أن يستغلوها باسم الدِّين أو يتلذذوا بأمر الله. الواقع أن كثيراً مِن خلفاء المسلمين لا يختلفون عن فرعون إلاّ قليلاً. فهم مترفون سفاكون وحجتهم في ذلك: «إنّا وجدنا آباءنا على ملة وإنّا على آثارهم مقتدون».) ص 254

- (يقول نيتشه: «الدين ثورة العبيد». ويقول ماركس: «الدين أفيون الشعوب». وفي الحقيقة إنّ الدِّين ثورة وأفيون في آن واحد. فهو عند المترفين أفيون وعند الأنبياء ثورة. وكل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المترفون عليه بعد ذلك فيُحولونه إلى أفيون. وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى.) ص 255

- (إنّ كل دين يحتوي على ظاهر وباطن. أمّا باطنه فيتمثل بالمبادئ الاجتماعية التي دعا إليها النّبي في أول أمره. ولا يكاد يمر الزّمن على الدّين حتى يستلم زمامه الكُهان. وعندئذ ينسى النّاس مبادئ الدّين الأولى ويهتمون بالطُّقوس الشّكلية. إذ يتخيلون الله كأنّه سلطان من السّلاطين لا يريد من رعيته سوى إبداء الخضوع له ولا يبالي فيما سوى ذلك بشيء.) ص 257

- (يقول الحسين بن علي - رضي الله عنهما -: «النّاسُ عبيدُ الدُّنيا، والدِّين لعق على ألسنتهم، يحطُّونه ما درت معائشهم، فإذا مُحِصوا بالبلاء قلّ الدّيانون.» وهذه حكمة اجتماعية يجب على الباحث المحايد أن يضعها أمام نظره حين يدرس تاريخ أمة مِن الأمم.) ص 266

- (إنّ الدِّين له دوره في التّاريخ، كما أنّ للدّولة دورها فيه. ومن ينبغي أن يدرس التّاريخ بمنظار أحدها ويُهمل المنظار الآخر كان كمن يشتهي مِن التّاريخ أن يقف. وهذا مستحيل.) ص 267

- (إن الدِّين والدّولة أمران متنافران بالطبيعة. فإذا اتحدا في فترة من الزّمن كان اتحادهما مؤقتاً ولا مناص من أن يأتي عليهما يوم ويفترقان فيه. وإذا رأينا الدِّين ملتصقاً بالدّولة زمناً طويلاً علمنا أنه دين كهان لا دين أنبياء.) ص 267

- (إنّ الإنسان لا يطلب الحق مِن أجل الحق ذاته. فالحق سلاح يستخدمه الإنسان في حاجاته أكثر مما هو هدف مطلق يقصده لذاته. وحين يتنازع النّاس حول حق مِن الحقوق، إنّما هم ينشدون به مصالحهم الخاصّة. فإذا تناقض الحق مع المصلحة كانت المصلحة أولى بالإتباع. والإنسان حين يسعى وراء مصلحته الخاصّة يُغطي سعيه ببرقع مِن الحجج المثالية ليُدعم بها موقفه.) ص 272

- (يحتفل الشِّيعة في أيامنا هذه بمقتل الحسين احتفالاً ضخماً. فهم يذرفون فيه الدّمع الغزير، ويلطمون الصُّدور والظّهور ويجرحون الرؤوس. ولنا أن نقول إنّ احتفال الشِّيعة هذا قد أمسى «طقوسياً» ليس فيه مِن روحه الثّورية الأولى شيئاً. يبكي أحدهم على الحسين في مجلس التّعزية ثم لا يبالي بعد ذلك أن يسير في النّاس سيرة يزيد. وإنِّي لأنظر أحياناً إلى بعض المتزعمين الّذين يتصدرون المواكب أو يقيمون الولائم باسم الحسين، فأراهم لا يختلفون في أخلاقهم عن بني أمية ولست أستبعد مِن أحدهم أن يقتل الحسين حين يأمره يزيد أو يغمز له معاوية. إنّهم يبكون على الحسين في شهر محرم ثُمّ يقتلونه في الأشهر الأخرى.

أسس هذه الطُّقوس بنو بويه. وهم سلاطين يريدون أن يدعموا ملكهم بها. وبهذا انقلبت تلك الشّهادة الكُبرى إلى ألعوبة يلهو بها السّلاطين ويضحكون بها على ذقون النّاس.) ص 287

- (صار المسلمون لا يفهمون مِن الدِّين سوى القيام بالطُّقُوس الشّكلية، ثُم يرفعون أيديهم بالدُّعاء: «اللهم انصر الدِّين والدّولة». أمسى الدِّين والدّولة في نظرهم شيئاً واحداً. فالمعارض للدّولة هو عدو الدِّين، والمصلح الدِّيني هو معارض للدّولة. ولم يبق لسلطان المسلمين إلاّ أن يقول ما قال فرعون: «أنا ربكم الأعلى!».) ص 288

13 - خاتمة المهزلة: بعض رجال الدِّين

- (دأب رجال الدِّين عندنا على اعتبار قومهم خير الأقوام. ولهذا نراهم لا يعرفون مِن دنياهم سوى تمجيد عقائد قومهم وثلب عقائد الآخرين. فهم يرون الفضيلة في التّعصب الطّائفي أو القومي أو القبلي. والفاضل في نظرهم هو الّذي يُدافع عن طائفته في الحقِّ والباطل، وينصر أخاه ظالماً أو مظلوماً.) ص 296

- (إنّ رجال الدِّين يُمثلون الدِّين في نظر النّاس. وكلّ عمل سيء يقترفونه إنّما يهدمون به الدِّين مِن حيث لا يشعرون. فالإنسان مجبول على تقدير الأمور بمظاهرها. ومظهر الدِّين أصبح منوطاً برجال الدِّين، فإذا ساء مظهرهم ساء مظهر الدِّين معهم. وقد مقتاً عند الله أن يقولوا ما لا يفعلون!.) ص 298

- (الأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدل الأيام. والذي يريد أن يبقى على آرائه العتيقة هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شداد.) ص 300 .

 

أ. السعيد بوشلالق

 

 

ليس دفاعًا عن ابن خلدون

التفاصيل
كتب بواسطة: د. يسري عبد الغني

يسري عبد الغنيإلى الباحثين عن الشهرة والأضواء..

ابن خلدون هو صاحب نظرية: صعود وهبوط الحضارات، الذي تأثر به المفكر الألماني / شيبنجلر في كتابه المشهور: أُفول أُوربا، ابن خلدون الذي أعجب به وبفكره الرئيس الأمريكي الأسبق / رونالد ريجان، عندما درس الاقتصاد والاجتماع، واعترف بأنه تأثر به في العديد في قراراته، وليس ريجان فقط الذي أقر بذلك، بل العديد من أهل الفكر والرأي والحل والعقد في الشرق والغرب .

وفي كل العصور منذ عرفت الدنيا الفكر الخلدوني. كلما جاءت سيرة العلامة عبد الرحمن بن خلدون يجب علينا أن نتأمل هذه اللحظة المهمة والفارقة في حياته ونعني بها «غرق أسرته» وهم على مشارف الوصول، هذا الحادث الذي دفعه إلى طريق الزهد، وألقى بظلاله عليه طوال حياته، لدرجة أن المؤرخين يؤكدون أن إدراك «مؤسس علم الاجتماع» للمأساة لم يكن واضحا، فأحيانا كثيرة كان يسقطها من ذاكرته ويحكى عن ابنه «زيد» الذي يعمل كاتبا لدى سلطان تونس .

أتذكر ذلك كلما هاجم أحدهم الشيخ الجليل / عبد الرحمن بن خلدون، وقلل من قيمته وعلمه، وذهب إلى أن ابن خلدون مؤرخ دون المتوسط، وأن كتابه في التاريخ «العبر» هو نقل عن نسخة رديئة لكتاب الكامل لابن الأثير.

لا أعرف الغرض من التقليل من علمائنا الأجلاء، وهو أمر بعيد تماما عن النقد، وللأسف نحن مضطرون للقول بأن الأوروبيين هم الذين اكتشفوا أهمية ابن خلدون، ودوره في بداية القرن التاسع عشر، حتى أن بالمؤرخ الإنجليزي / أرنولد توينبى رفعه إلى أعلى المستويات، وذلك عندما قال: بـأنه أكبر منظر لفلسفة التاريخ في كل الأزمنة وكل البلاد..

ابن خلدون الذي بلور نظرية متكاملة عن صعود الحضارات وانهيارها وأسباب ذلك، وأقر بذلك المؤرخ الفرنسي المعروف / فيرنان بروديل قال: ابن خلدون يعتبر من قبل المفكرين المعاصرين وهو بمثابة أحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي.

لقد كانت فلسفته للتاريخ تقول بما معناه: الإمبراطوريات أو السلالات، كالبشر، لها حياتها الخاصة، وكثيرون منحوا الرجل حقه ودرسوا فكره واختلفوا واتفقوا معه لكن في حدود إدراك قيمته، لكن البعض لا يزال يؤمن بالبحث عن «دور» من خلال تحطيم الثابت من الأمور.

عبد الرحمن بن خلدون، رجل شغل الناس ولا يزال قادرا على فعل ذلك بأفكاره السارية منذ قرون، إنه عالم جليل وبحر فياض ومحيط واسع، ويكفيه شرفا أنه المؤسس الأول في العالم لعلم الاجتماع، وكتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر" من أجلّ الكتب وأعظمها في العالم على الإطلاق.

نعجب من هؤلاء الذين يزعمون كذبًا إن ابن خلدون مؤرخ دون المستوى، وأنه نقل كتابه عن نسخة رديئة من كتاب الكامل لابن الأثير، إن مقدمة كتاب ابن خلدون نتحدث عنها ولا حرج، فمن لم يقرأ مقدمة ابن خلدون، يفوته الكثير والكثير، وإذا أراد المؤرخ أن يكون مفكرا فلا بد من أن يقرأ العبر والمقدمة.

في هذه الأيام نجد أن البعض يتطاول على القامات إما رغبة في الظهور أو رغبة في الإعلام والإعلان، فكما نعلم فإن العقل البشرى لديه المقدرة على إحقاق الحق وإبطال الباطل لكنه في الوقت نفسه لديه القدرة على جعل الباطل حقا، والحق باطلا، وفق زاوية معينة.

في أيامنا هذه كثرت القامات الهزيلة الراغبة في المزاحمة في الحياة والخروج بضوء شارد، يلقى بعض أضوائه على شخصيات معينة، فمن المؤرخ إذًا، ومن عالم الاجتماع الأول في العالم إذا لم يكن ابن خلدون؟!!، وإن مثل هذه الآراء التي تهون من شأن علمائنا وتصمهم وتصفهم بأوصاف هي محض خيالات في أذهان قائليه، ثم تلقى على آذاننا على أنها نتاجات فكر، أو نتيجة بحث عميق كل هذا لا يعطى لأي إنسان الحق في التهوين من عظماء فكرنا وتاريخنا .

يكتب أهل الجزائر الشقيقة عن المكان الذي كتب فيه ابن خلدون كتاب العبر في وسط الجزائر بالقرب من مدينة "تيارت" عاصمة الرستميين، وفيها نرى الروضة الغناء التي جلس فيها "ابن خلدون" والتي يصفو فيها الفكر ويسمو العقل ويرتقى الذهن.

أقول لكم: ابن خلدون علامة فارقة في مجال العلوم، ويكفى فخرا له أن بعضنا يتناولونه بالنقد، نعم ليس إنسان فوق النقد، لكن العيب كله أن ينتفص من قدره، أو أن يقال عليه إنه مؤرخ دون المستوى، وفى النهاية يسمح لي شيخنا ومعلمنا ابن خلدون بأن نقول عنه "جزاه الله خيرا عما قدم للإسلام وللمسلمين وللبشرية كلها".

إن المقارنة بين ابن الأثير وابن خلدون غير صحيحة بالمرة، وذلك لأن ابن الأثير كان مشغولا بالتاريخ العام حتى الفترة التي عاش فيها، بينما ابن خلدون "متفرد" بما يسمى بعلم الاجتماع، وهو أمر قائم على التحليل للحوادث التاريخية.

أما هؤلاء الزاعمين بكون ابن خلدون "مؤرخ دون المتوسط"، بمثابة البحث عن إحداث ضجة بالحديث عن شخصية في حجم ابن خلدون.

ابن خلدون صاحب الفكر الاجتماعي والمعرفي الذي لا ينتهي بالتقادم، بل قادر على التجدد والتعايش مع كل المستجدات الاجتماعية والاقتصادية، وبمعنى آخر مع كل ما تعيشه أوطاننا من أحداث ووقائع، وهذا هو الفكر الأصيل الخالد الصالح لكل مكان وزمان دون إدعاءات أو أكاذيب أو تأويلات .

ابن خلدون هو صاحب الفكر الاجتماعي الأصيل الذي كان نتيجة طبيعية لكل الظروف والملابسات والأحوال التي عاشها الرجل في المعمورة العربية الإسلامية، ونتيجة أيضًا للثقافات المختلفة التي استوعبها وهضمها وتمثلها وأخرجها لنا فكرًا أصيلاً واعيًا .

إذن لا داعي لأن يأتي في أيامنا هذه من يدعي ويزعم دون أسانيد علمية أو أدلة موثقة أو براهين معمقة، يدعي أن ابن خلدون نقل أو أخذ مقدمته من رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا أو من ابن الأثير في الكامل، وبالطبع هذا نوع من الخلط الشديد في الأوراق والبديهيات، فرسائل إخوان الصفا الفلسفية والعلمية لها منطلقاتها وتوجهاتها الثقافية والفكرية التي تختلف تمامًا عن رؤى وأطروحات وأطر ابن خلدون الفكرية، والتي اعترف بأهميتها وأصالتها القاصي والداني ..

ونشير إلى أن هذا الزعم الغريب لم يقل به أحد من المفكرين أو المؤرخين أو الباحثين من قبل، في القديم أو الحديث، حتى أهل الاستشراق الذين لا يوارون أو يجاملون، وتأتي توجهاتهم في بعض الأحايين مستفزة وصادمة، وليس لديهم أي مانع من إيضاح أي مسألة من هذا القبيل، حتى هؤلاء لم يقولوا لنا أو يشيروا مجرد إشارة إلى أن ابن خلدون أخذ مقدمته من إخوان الصفا .

سيظل ابن خلدون دائمًا وأبدا هو صاحب اجتماع العمران، وصاحب فلسفة التاريخ الإنساني، وصاحب تصنيف العلوم والمعارف، يضاف إلى ذلك كونه أول واضع لعلم الاجتماع الإنساني، وليس أوجست كونت أو إميل دور كايم، كما يحلو للبعض أن يقول ويدعي في غيبة أو غفلة منا .

أقول لكم:أن مشكلتنا الحقيقية أننا لم نهتم الاهتمام الكافي والواعي بمشروع ابن خلدون الفكري، أو بالفكر الخلدوني بوجه عام، لم نطوره ونحدثه ونجعل له الآليات الفاعلة على أرض الواقع، لو فعلنا ذلك لارتقينا بفكرنا الاجتماعي بعيدًا عن الانغلاقية والجهل والتخلف .

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

آذان التاريخ وعيونه

التفاصيل
كتب بواسطة: د. كاظم الموسوي

كاظم الموسويمن مراسلات بين الراحل (الجورنالجي) الاستاذ محمد حسنين هيكل (ت2016/2/17) والسير ستيفن رانسيمان، أستاذ التاريخ، (الاشهر الذي حقق لنفسه مكانة فريدة، حين جلس على كرسي التاريخ في جامعة كامبردج، وفي جامعة أوكسفورد، رغم المنافسة التقليدية بين الجامعتين، كما وصفه هيكل). خطاب نشره هيكل في تقديمه لكتابه؛ الانفجار عام 1967، وفيه أشار السير، بعد قراءة اول كتاب من مجموعة "حرب الثلاثين سنة" لهيكل، وارسل الخطاب مع السفير اللبناني في لندن، نديم دمشقية، صديق الشخصيتين، اشار الى إعجابه بمؤلف هيكل، وكتب فيه: "عزيزي... لقد فرغت قبل  أيام من قراءة كتابك الأخير وكنت ابحث عن وسيلة اتصل بك، ولسعادتي  قابلت السفير دمشقية ومن خلال حديثي معه، عرفت انكما اصدقاء، وقد بعثت إليك معه بكتابي عن الحروب الصليبية ولست اعرف اذا كنت اطلعت عليه، فإذا كان الأمر كذلك فلا اظنك تمانع ان تكون لديك نسخة مكررة منه، كتب لك مؤلفه عليها، اهداء بخطه.. انني قرأت كتابك وتصورت كم كان يمكن أن يختلف  كتابي، وكتب كثيرين من الذين عانوا  كتابة التاريخ غيري. لو انه اتيحت لنا جميعاً رواية شاهد عيان عاش وقائع الأحداث التي نتعرض لها ثم فعل مثلما فعلت انت وسجل لنا ما رأى.

ولا اخفي عليك أنني احسدك على تجربتك التي اعطتك الفرصة لتعيش التاريخ وتكتب عنه أيضا.

هناك قول شائع لعلك تتذكره، وهو يقول، أن التاريخ له آذان، ولكن ليس له عيون، بمعنى أننا نسمع روايات عما جرى من وقائعه منقولة لنا بالسماع والتواتر عن هذا أو ذلك. من الناس، ومعظمها مكتوبة باثر رجعي يخلط الوهم بالحقيقة إلى درجة تتركنا مع نوع من الفولكلور الاسطوري يعذبنا كثيرا فرزه، اذا كان ذلك الفرز ممكنا على الاطلاق، وصحيح اننا نصادف في بعض المرات وثائق مكتوبة، ولكننا نجد أنفسنا حائرين أمامها لا نستطيع أن نقدر بالضبط أصالتها وظروفها ومدى تعبير ما فيها عن الواقع كما جرى. ولقد كان ما أثار اهتمامي في تجربتك هو أن التاريخ عندك له آذان، وله ايضا عيون، وهذه تجربة اتمنى لو ناقشتها معك اذا خطر لك يوما أن تعود إلى أكسفورد..".

ولا يمكن إلا أن يرد عليه الاستاذ هيكل برسالة شكر وتقدير، وهو يرى ان الشكر فيها على فضل السير جاء في ثلاثة افضال في آن معا، كما عبّر الاستاذ، فضل أنه قرأ ما كتب، وفضل أنه بادر إلى الاتصال، وفضل أنه أهداه عمله الضخم عن الحروب الصليبية. وكتب في الرد: "انك تكرمت فنسبت ما اكتبه إلى "علم التاريخ"، وهذا شرف، لا اظنني استحقه. فقد كنت وما ازال حتى الآن كاتبا وصحفيا همومه كلها في الحاضر والمستقبل، وليست في الأمس وما قبله، ومن ثم فهو قاريء للتاريخ وليس كاتبا له.

وانت تعرف اكثر مني الف مرة أن التاريخ حي في الحاضر ومؤثر في المستقبل. وفي نفس الوقت فإن الماضي نفسه مفتوح، رغم مرور الحقب والقرون، لرؤى الحاضر والمستقبل. فانتم في الغرب مثلا رجعتم إلى إعادة تفسير الماضي بل وإعادة بنائه مرات متكررة على ضوء منظورات لاحقة ومستجدة.

وواصل الاستاذ هيكل رسالته: وهكذا عاش هذا الماضي مرة أخرى في الحاضر والمستقبل. بمقدار ما أن الحاضر والمستقبل كانا يعيشان في الماضي.

أن العودة إلى التاريخ من منظور جديد تجربة جرت عندكم، ومازالت تجري، وسوف تظل جارية طالما هناك فكر إنساني واثق من حريته مهتد بعقله، وأما في العالم الثالث، ونحن فيه، فإن التعرض للتاريخ حكاية مختلفة.

وعرج الاستاذ الى ما يعانيه المؤرخ من مؤثرات ومن صراع ضد قوى السيطرة والتخلف التي تتحكم في تاريخنا الحديث. مؤكدا له : أن الصراع على "الشرق الأوسط" وفيه مازال مستمرا وقصته مفتوحة. هي بعد نوع من التاريخ السائل لم يتماسك، وبالتالي يمكن التعرض له بتحويل أو تعطيل مجراه، أو تغيير مادته وشكله ولونه.(....)

وهنا تشتد الحاجة إلى محاولة قراءة التاريخ اكثر من مما تشتد الحاجة إلى محاولة كتابته.

وانتهى إلى: هكذا فإن قصارى ما اطمح إليه مما اكتبه عن، حرب الثلاثين سنة، الحرب المستمرة الى الان، هو المشاركة مع كثيرين غيري في تنشيط ذاكرة أمة. ونحن جميعا نفعل ذلك عن إعتقاد بأن الذاكرة هي اكبر محرض على الفعل.

وختام الخطاب تركيز على أهمية الحفاظ على ذاكرة الأمة وسبل النهوض في الحاضر والمستقبل وهي المهمة والأهمية التي تولاها ككاتب وقاريء للتاريخ، للامس والحاضر وما بعد. وفي المراسلات هذه واضح قيمة الحوار والمحتوى وأهمية التراسل والتواصل الثقافي. ففيه اعتراف بقدر الشخصية وقدرة المؤلف، ومقدار الكتاب، وما بذل من جهد وما سطر من صفحات وما نشر في كتب، رغم كل التواضع والاحترام والتقدير للجهود والأعمال والأهداف.

في هذه المراسلات بين شخصيتين مرموقين، إضافة إلى النص والاتصال فيها أو الأسباب التي فعلتها أو حفزتها دروس في الأخلاق والقيم ودلالات في معنى أن يضع الباحث، العربي والاجنبي، نصب عينيه ما ينفع الناس من كنوز معرفة ومصداقية احداث واخبار وعبر تاريخ مازالت تعيش بيننا، كبشر على هذه المعمورة. ومهما اختلف أو اتفق مع الآراء أو التوجهات الا ان ما يخلص إليه في النهاية، في كل جهود واعمال، أو إلى اين يصب مجراه هو الأهم وهو الباقي في السجلات والذاكرة. ولعل ما نشر من وثائق وصفحات لم تتيسر لغير الاستاذ، مثلا، وبدونه لضاعت او أهملت على الرفوف كما حاصل مع غيرها الكثير وكما اريد لها أن تبعد أو تغيب عن ذاكرة اهلها وحقهم فيها. ليكون فعلا ليس آذان التاريخ وحدها فقط، بل وعيونه ايضا، وتلك شهادة احترام تقدر.

 

كاظم الموسوي

 

 

قراءة في كتاب: صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره

التفاصيل
كتب بواسطة: محمد السعدي

محمد السعديليلة البارح وقبلها بليلتين سهرت مع كتاب (صعود الحزب الشيوعي العراقي وانحداره) للمؤلف البروفيسور طارق يوسف إسماعيل أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليغاري الكندية ورئيس المركز العالمي لدراسات الشرق أوسطية المعاصرة وترجمة الصحفي والمترجم العراقي عمار كاظم محمد، ويبدو كانت ترجمة الكتاب الحرفية صعود وسقوط الحزب الشيوعي العراقي وللتخفيف من عبأ الوقع على النفوس وببراعة المترجم صدر بعنوانه الحالي، كنت حريصاً في تقليب صفحاته بقراءة هادئة ومتأنية ومفيدة في تقليب صفحات التاريخ وأعادة القراءة لسنوات قضت من حياتنا،  سبق وأني قرأت عنه بأكثر من ناصية وموقع وصحيفة وسمعت من بعض الرفاق والأصدقاء، الذين حظوا به وقلبو صفحاته بوعي  ودراية، والذي زاد من أهتمامي في الحصول على نسخة منه رغم الصعوبات التي فرضتها تداعيات (جائحة كورونا) على حرية حركة الناس، لكن بمبادرة طيبة وهذه ليست الأولى من نوعها الرفيق والصديق أبن المناضل المرحوم حسين سلطان الرفيق خالد ومن بغداد الحبيبة حمله مشكوراً بسام أبن المرحوم المناضل حسين الكمر وعبر العزيز إبراهيم أبن المناضل باقر إبراهيم وصل لي بأمان فالشكر لتلك الايادي النظيفه. كان جل أهتمامي في الحصول على نسخه منه وقراءته حين وصوله على حساب قراءات أخرى، كانت ضمن البرنامج المهيأ لي. وما تركه هذا الكتاب في عشية صدوره من سجال وآراء وخلاف في وجهات النظر وصلت بعضها حد التشهير والأتهامات الرخيصة من رفاق الأمس على مانشيتات الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، كان محط أهتمامي وزاد من فضولي بتقليب صفحاته .

الكتاب الذي طبعته جامعة كامبردج يستعرض تاريخ الحركة الشيوعية في العراق منذ بداية ارهاصاتها الاولى في العشرينيات من القرن الماضي وحتى فترة ما بعد تأسيس مجلس الحكم العراقي بعد الغزو الامريكي للبلاد عام 2003.

”ويرصد الكتاب تاريخ الحركة الشيوعية العراقية الذي تغطي قرن من الحياة السياسية للبلاد التحولات التي طرأت على الدولة العراقية منذ بداية الحكم الملكي وحتى نهاية الحكم الجمهوري عارضا صورة شاملة لكل الوقائع التي رافقت الحركة الشيوعية في العراق منذ نشاطها الطليعي في الاربعينيات والخمسينيات الى انحسارها وتراجعها في الوقت الحالي محللا بشكل محايد الاسباب التي ادت الى انتكاسها بشهادات ووثائق وعشرات المقابلات مع الشخصيات المهمة في الحركة تم جمعها من قبل المؤلف وتنسيقها بشكل علمي طوال اربعين عاما من العمل المضني ”.

الكتاب الذي صدر بترخيص من جامعة كامبردج بمجلد من 630 صفحة من القطع المتوسط عن دار (سطور) في العاصمة بغداد ضم الكثير من الاسرار والخفايا التي تنشر لأول مرة واحتوى على اسماء وشخصيات مازالت لحد الان ضمن المشهد السياسي الحالي في العراق.

يعتبر ومن وجهة نظر العديد من المتابعين والمعنيين يالشأن أول كتاب شامل يصدر خارج الحزب عن تاريخ الحزب الشيوعي العراقي . وقد صدر في وقت سابق باللغة الانكليزية وقدم له مقدمته المرحوم والمناضل اليساري حسقيل قوجمان، وتطلع في حينها الى ترجمته الى اللغة العربية لتسهيل قرأته من قبل جيش من الشيوعيين العراقيين، الذين يتوقون الى تاريخ حزبهم المجيد .

وقال قوجمان: في أحدى متابعاته للكتاب هذا أول تاريخ للحزب الشيوعي العراقي يمكن لأي قارئ مهما كان موقفه السياسي أن يستفيد منه، لاستخلاص ما حدث تاريخيا وليس آراء من كتب هذه الأحداث . وقد أثير  عشية صدور الكتاب بنسخته العربية حفيظة البعض حتى شملت ممن لم يطلع عليه وعلى تفاصيله جملة إنتقادات لاذعه له بدل من أن يأخذ على محمل الدراسة وأعادة التقييم على ضوء العقل النقدي الماركسي في فهم التاريخ .

في نسخته العربية على يد وبراعة المترجم عمار كاظم محمد والذي أستغرق في ترجمته عامان وتبادل مع المؤلف حوالي مئة رسالة وبمعونة رفاق ومتطلعين ومعنيين بالشأن السياسي العراقي . وقد قال المترجم بعد أن أنجز ترجمته والاطلاع على تاريخ الحركة الشيوعية العراقية منذ أرهاصاتها الأولى في العشرينيات من القرن الماضي وتضحياتها الجسام ولم تتمكن من بناء عراق قوي ومزدهر آمر يثير الغرابة، ومن خلال متابعتي للاهتمامات والآراء المختلفة حول الكتاب، يبدو أثارت حفيظة البعض من الرعيل القديم ولا خلاف على وجهات النظر المختلفة والمتصارعة ضمن سياقات الصراع الفكري وهذا يضيف معلومة جديدة وقراءة مختلفة من أجل حراك فكري ثقافي مهم، لكن للآسف الشديد راح في متاهات أخرى بعيدة عن أرثنا التاريخي في التشهير والاتهامات مما دعا البعض يقول .. ها هم ممن كانوا يقودوننا، ورباننا في السفينة؟. 

صدر الكتاب عام ٢٠٠٨ باللغة الانكليزية من جامعة كامبردج في نيويورك ويتألف الكتاب بنسخته الانكليزية من ٣٢١ صفحة من القطع الكبير ونال اهتماما خاصا من المتابعين والدارسين والتواقين للفكر والتاريخ، وأعتبر الكتاب الثاني من حيث الاهمية والموضوعية والأمانة بعد كتاب حنا بطاطو (الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق)، والعديد من القراء أعتبروا كتاب عزيز سباهي في مجلداته الثلاثة لم يلبي طموحات الشيوعيين في مناقشة تاريخهم. ويقول حسقيل قوجمان حين أستعرت الجزء الثالث من الكتاب وقرأته سألني أحد الاصدقاء عن رأي بالكتاب فقلت له لولا عنوان الكتاب لما عرفت أنه يبحث تاريخ الحزب الشيوعي العراقي، وقد أخفق في مناقشة سياسة الحزب وأحداثه والتحيز للحزب ومواقفه ومحاولة تبرير الاخطاء منها وإيجاد الأسباب والتبريرات التي أدت الى الخطأ . فقد كان أسلوب عزيز سباهي واضحا في التحيز إلى الاتجاه السياسي الذي يؤيده ويعتبره الاتجاه الصحيح وهذا ليس تاريخا بالمفهوم العلمي للتاريخ. وكانت رؤية الحزب منذ مؤتمره الثاني ١٩٧٠ بتكليف لجنة حزبية لكتابة تاريخ الشيوعيين العراقيين التي تعمدت بالبطولة والفداء وقد تخللت مسيرته عثرات ونواقص فلابد من الوقوف عندها وتقييمها، وقد حدا بقيادة الحزب بتكليف عزيز سباهي ١٩٩٩ بإنجاز هذه المهمة ورغم صدوره بثلاثة أجزاء عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي لكن لم يعتبر الحزب الشيوعي كتاب الرفيق سباهي وثيقة حزبية رسمية . وحسناً فعل، فالكتاب رغم الجهد الكبير الذي بذل في تأليفه، يحمل وجهة نظر مؤلفه القابلة للنقاش .

 

محمد السعدي

مالمو/شباط ٢٠٢١

 

 

رشات من ماء ورد قلبي على ذكراك

التفاصيل
كتب بواسطة: أسماء محمد مصطفى

اسماء محمد مصطفىسأذهب الى الطبيب عزيزتي كما كنت تريدين . لن احتمل تأنيبك، لإهمالي صحتي . سيكتب لي وصفة مألوفة، وأعرف أن دوائي غير موجود في صيدليات الأرض .. إذن، سأذهب الى الصيدلية الكونية، بعد أن ترسلي طائرة بلورية لي، لأصل الى هناك . سيضحك الصيدلي من الوصفة الأرضية ويمزقها .. لكنه سيمنحني حبات من حبك، اتناولها قبل الأكل وبعده .. طبعاً، هنا، عليّ أن آكل، وأخشى أن أفقد ماحققته لجسدي من رشاقة بتحفيز منك، ولاأعود جميلة في عينيك .. حسناً، ساستمر في رياضتي ورقصي على إيقاع موسيقا روحك، وستعبرين عن فرحكِ بابتسامة رضا كما كنتِ في البيت تفعلين .

قبل تحليقي اليك ِ، ربما ينصحني الطبيب الأرضي بالامتناع عن تناول العصائر، لكنني أعرف أنّ بإمكاني تناول عصير الملائكة من مصنعك السماوي، وفواكه ابتسامتك في بستان شمسك، ففي مختبر الأرض قد يكشف التحليل الطبي زيادة السكر في دمي، لن يعلموا بأنه ليس السكري  بل حلاوة روحك في دمي  .

ستعيدينني الى الأرض، بعد الشفاء، وساعاتبك .. لماذا أرسلتِ تذكرة سفر لروحي ذهاباً وإياباً، ولم تكن بإتجاه واحد، لأمكث عندك؟ ستقولين إن ذكراك في الأرض تحتاج الى رشات بماء الورد من قلبي .

أعرف عزيزتي، أنني مازلت على الأرض لسبب يتعلق بك أنتِ وحدك وبوالدك الذي اتفقده خلال نومه، كي اطمئن عليه من تداعيات كابوس الحزن  .

لولاكِ، ورسالة إنسانية تتعلق بك ينبغي لي استكمالها في الأرض،  لفكرتُ بألف طريقة لتعطيل الطائرة البلورية بعد وصولي اليك، كي أبقى عندك .

 

أسماء محمد مصطفى

(صفحة من كتابي المؤمل إنجازه عن ابنتي الملهمة الراحلة سماء الأمير)

أستراليا: ثقافة التحرش والاستقواء

التفاصيل
كتب بواسطة: عباس علي مراد

عباس علي مرادحسب دراسة لمكتب الإحصاء الأسترالي عن السلامة الشخصية في البلاد اجريت عام 2016، وجدت هذه الدراسة أن  148,000 امرأة و57,200 رجل تعرضوا لإعتداءات جنسية بشكل أو بآخر، وان معظم هذه الإعتداءات لم يتم إخبار البوليس بها، ومن أهم الأسباب لعدم تبليغ الشرطة هو الخوف من عدم تصديق أصحاب الشكوى. 

عقب ظهور الموظفة السابقة في مكتب وزيرة الدفاع  برينتي هيكنز على القناة العاشرة وزعمها أنها تعرضت لعملية اغتصاب من قبل زميل لها بعد ان احتسيا المشروبات الروحية  في إحدى الحانات قبل العودة إلى مكتب وزيرة الدفاع ليندا رينولد حيث تمت عملية الإغتصاب المزعومة (أذار عام 2019) وكانت رينولد تشغل أنذاك منصب وزيرة الصناعات الدفاعية.

على أثر انتشار الخبر طغت أخبار قضايا الإغتصاب والتحرش الجنسي على ما عداها، وادخلت الحكومة الفيدرالية في أزمة قد لا تنتهي من دون تدحرج بعض الرؤوس المسؤولة والتي لم تعالج المسألة او لم تأخذها على محمل الجد.

رئيس الوزراء سكوت موريسن نفسه يقول انه لم يعلم بالقضية الا بعد ظهورها إلى الإعلام في 15 شباط ،2021 مع انه اصبح مؤكداً ان وزيرة الدفاع ووزير الداخلية وبعض موظفي مكتب رئيس الوزراء كانوا على إطلاع على تفاصيل الحادثة ولم يبلغوا رئيس الوزراء وكل منهم لسبب مختلف!

حزب العمال من  جهته سخر من مقولة موريسن انه لم يعلم سابقا بالقضية ولكن ليس لدى الحزب أي دليل على عدم صحة كلام موريسن.

تقول وزيرة الدفاع ليندا رينولد أنها لم تبلغ رئيس الوزراء بالقصة وذلك من اجل المحافظة على الخصوصية وقالت انها حاولت مساعدة هيكنز إذا ما ارادت ان تتقدم بشكوى للشرطة.

هناك من يعتقد انه تم التعامل مع قضية هكينز على انها اختراق أمني وليست جريمة اغتصاب، كأنها محاولة للفلفة القضية رغم انه تم تنظيف مكتب الوزيرة بالبخار مكان وقوع الجريمة المزعومة.

وزير الداخلية بيتر داتون يقول انه قيّم الموضوع  ولم يريد ان يدخل في مسألة هو قال وهي قالت، ولم يجد من الضرورة ان يبلغ رئيس الوزراء مباشرة بالأمر لأنها مسألة حساسة وإجرائية ولا يريد التدخل في عمل الشرطة الفيدرالية التي تخضع لأمرته !

الإغتصاب جريمة يعاقب عليها القانون فكيف إذا وقعت هكذا جريمة داخل البرلمان وبمسافة تبعد عشرات الامتار فقط عن مكتب رئيس الوزراء!

السؤال الرئيسي والبديهي الذي يطرح نفسه وبقوة، اذا كان ليس من المهم ان يطلع رئيس الوزراء على المشاكل بسبب الخصوصية او الحساسية  أو لأي سبب آخر مهما صغر او عظم هذا السبب،  فكيف سيدير رئيس الوزراء البلاد؟!

والأنكى من ذلك، ان رئيس الوزراء دافع عن تصرفات وزير داخليته، علماً ان موريسن كان قد وبّخ وزيرة الدفاع بقوة لأنه كان يجب عليها ابلاغه بعملية الإغتصاب المزعوم.

اولاً، نحن كمواطنون من حقنا ان نعرف أين هي الحقيقة ومن كان يعرف وماذا كان يعرف ومتى عرف ولماذا لم يبلغ السلطات المختصة.

ثانياً، هل كان علينا ان ننتظر مفوّض الشرطة الفيدرالية ريس كيرشو ليذكّر نواب الأمة وحكومتها بالإبلاغ مباشرة عن أي قضية حتى يتمكن من إجراء التحقيقات اللازمة قبل ضياع الأدلة!

ثالثاً، لماذا على الموظفين الذين يتعرضون لهكذا اعتداءات الخوف من تبليغ الشرطة وذلك من اجل المحافظة على وظيفتهم. هذا هو السبب الذي تحدثت عنه هيكنز.

رابعاً، على السياسيين الكفّ عن تسييس هكذا قضايا من أجل تحقيق مكاسب سياسية على حساب معاناة المواطنين وأمنهم الإجتماعي والنفسي، لأن كل الأحزاب لها مشاكلها الخاصة. هذا ما أظهره استطلاع نقابي لما يقرب من 100 موظف سياسي من مختلف الأطياف السياسية في ديسمبر أن واحدًا من كل ثمانية قد تعرض للتحرش الجنسي أو الإعتداء في مكان العمل في العام الماضي.

خامساً، اذا كانت هكذا جرائم منتشرة بهذه النسب العالية كما تقدم في دراسة مكتب الإحصاء، لماذا لم تبادر الحكومات المتعاقبة على الحد منها ان لم نقل إستئصالها؟

رئيس الوزراء بادر إلى تشكيل أربع لجان لدراسة الموضوع ولكن النائبة مادلين كينغ من حزب العمال طالبت بمراجعة مستقلة لثقافة مكان العمل في البرلمان التي أعلن عنها السيد موريسون، وطالبت بتوسيع عمل اللجنة للنظر في التهديدات التي تواجه النواب وموظفيهم من قبل الجمهور.

مع الإعلان عن المزيد من حالات الإغتصاب يبقى السؤال من سيكون كبش الفداء الحكومي لوضع حد لتفاقم الأزمة التي وبدون أدنى شك سوف تؤثر على شعبية الحكومة ورئيسها الذي يحتفظ بشعبية عالية على خلفية معالجته ازمة كوفيد 19.

ولكن بنظر المواطنيين، هذا يوم أخر وموضوع لا يقل أهمية عن وباء كورونا خصوصاً بعد مزاعم إغتصاب جديدة يعود تاريخها لعام 1988تطال وزير في حكومة موريسن والتي تسربت أخبارها بعد ان ارسلت رسائل من جهة مجهولة الى كل من رئيس الوزراء ووزيرة الخارجية في حكومة الظل (حزب العمال) باني وونغ والنائبة من حزب الخضر سارة هانسون يانغ.

يشار الى ان الضحية البالغة من العمر 49 عاماً انتحرت السنة الماضية.

فهل يقدم رئيس الوزراء على تعديل حكومي ويطيح بوزيرة دفاعه التي تواجه انتقادات من زملائها الذين تكلموا بشرط عدم الإفصاح عن أسمائهم كما سربت الصحافة.

وحسب الصحفيتان روزي لويس (صحيفة الاستراليان) ولاناي سكار(وست أستراليان) قالتا على برنامج انسايدر الذي يقدمه ديفيد سبييرز على تلفزيون أي بي سي 28/2/2021  ان بعض زملاء وزيرة الدفاع يقولون اذا لم تستطع الوزيرة مواجهة نادي الصحافة فكيف لها ان تتخذ قررات على مستوى الاجهزة الامنية  وزارة الدفاع التي تأتمربأمرتها كارسال الجنود الى المعركة.

والجدير ذكره ان الوزيرة رينولد كانت قد دخلت الى المستشفى الاربعاء 24/2/2021 بعد نصيحة الاطباء لها بسبب معاناتها من مرض القلب وكان من المفترض ان تحاضر في نادي الصحافة ذلك اليوم وتجيب على أسئلة الصحافيين حول قضية الاغتصاب المزعوم لبريتني هيكنز.  

أخيراً، يجب وضع حد لثقافة التحرش والإستقواء والتنمّر ولثقافة لوم الضحايا ووضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها.

 

عباس علي مراد

         

 

في ضوء مذكرات مصطفى علي وزير عدل الجمهورية الأولى 1958

التفاصيل
كتب بواسطة: د. جمال العتابي

جمال العتابيالعسكر لايبنون دولة!!

مع علمنا ان مصطفى علي هو أول وزير للعدل في حكومة الجمهورية الأولى بعد تموز 1958، وهو أحد أعلام السياسة في العراق، منذ دعواته الوطنية الأولى لمقاومة الأستعمار الإنگليزي الذي داهمنا بخيله ورجاله، إلا أن مصطفى علي له إجتهاداته وكتبه ومؤلفاته التي فتحت آفاقاً رحبة في دراسة التاريخ والتراث والأدب، ومن أهم آثاره، شرح وتعليقات ديوان الرصافي الذي صدر بخمسة أجزاء ضمن مطبوعات وزارة الثقافة والإعلام العراقية(1972_1978)، وكانت لعلي علاقة متينة بالشاعر معروف الرصافي، أهّلته ان يكون راوياً وشارحاً لأشعاره.

ومع أن مصطفى علي السياسي والقانوني والوزير، له إهتماماته المتعددة، لايجد بأساً من كتابة سيرته الذاتية التي يستجلي فيها الاحداث، ويستحضر فيها دوره المتميز منذ أول حلقة ماركسية في العراق، ليترأس هيأة تحرير جريدة (الصحيفة)، التي صدر عددها الأول في 28 كانون الأول، عام 1924،مع حسين الرحال ومحمود أحمد السيد وعوني بكر صدقي، وعبد الله جدوع، وسليم فتاح.

صدرت هذ السيرة في كتاب بعنوان (مذكرات مصطفى علي، وزير العدل في حكومة عبد الكريم قاسم، من المعارضة إلى الوزارة)، إعداد وتقديم سيف القيسي، من منشورات مكتبة النهضة العربية في بغداد، وأسهمت كريمته عالية في التقديم للمذكرات، بالحديث عن الجانب الأعمق والأدل في حياة هذا الإنسان.

ولد مصطفى علي عام 1900في محلة قنبر علي ببغداد، درس في دار المعلمين، يومها كانت أعلى معهد علمي في العراق، وكانت بواكير اهتمامه السياسي، بإنتمائه لجمعية حرس الاستقلال عام1919، ومؤيداً للاحزاب الوطنية البرلمانية(الحزب الوطني العراقي، وحزب الشعب)، وكان إلى جانب ثورة العشرين، إلتحق في كلية الحقوق عام1924، وتنقل في وظائف عدّة، فاز في انتخابات عام1937 نائباً عن بغداد، ووقف الى جانب انقلاب بكر صدقي 1936 داعماً ومؤيداً.

إن القراءة المتأنية التي تتوقف عند عطاء مصطفى علي وآرائه ومواقفه الفكرية والسياسية وهو يتخطى المألوف في زمانه، ليشق درباً متفرداً مبتكراً، في موقفه من الدين، وضرورة فصله عن السياسة، ويجد فيه أمراً ضرورياً جداً في تقدم الأمم، وله رأي متقدم في حرية المعتقد والدين، وكان مؤمناً بالإصلاح في مجال القوانين والتعليم ، وتحقيق التحولات الإجتماعية والإقتصادية في مجال الزراعة والتنمية الصناعية، وتحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، والعدالة الإجتماعية.

تبنى مصطفى علي الأفكار التقدمية الإشتراكية، دون إنتماء لحزب أو أيديولوجيا معينة، ومذكراته تسلط الأضواء على حياة هذه الشخصية، أسراره وأفكاره وأحزانه، ورؤاه ووجدانه، من هنا يظل طقس الكتابة العالم الآخر للأديب مصطفى علي، شأنه شأن سواه من الكتاب، له مجسّاته وهواجسه واحلامه، وكوابيسه وحالات يقظته، وقلقه، فطبع مذكراته بطابع أدبي شفيف، مليء بالإحالات الشعرية، واللغوية، والتراثية، حتى في أشد الأزمات السياسية والشخصية، وأكثر المواقف صعوبة، حين أقتيد إلى المعتقل صبيحة إنقلاب 8 شباط.

عن علاقته بنوري السعيد يذكر مصطفى على : لست مجهولاً لديه، طالما جمعتنا دار الرصافي ليلاً، وكان لايتردد في أن يشاركنا في لهونا وأنسنا، ولكنه رجل سمّاع، وهو عيب في الساسة، المزايا اللامعة في شخصيته وشعبيته تندثر وتنمحي إزاء لونه السياسي، المتفاني في خدمة البريطانيين، وتأمين مصالحهم، والسعيد بطل المعاهدات التي يصبو لها الإستعمار البريطاني.

علاقة مصطفى علي بالزعيم عبد الكريم قاسم

من أكثر الفصول إثارة للجدل في مذكرات مصطفى تلك التي تلت تشكيل أول وزارة للجمهورية العراقية، في 14 تموز 1958، إذ تم تكليفه كوزير للعدل، دون علم مسبق  منه، لكن بحكم تجربته الغنية في المجال القضائي، وخبراته في التشريعات القانونية، فضلاً عن تاريخه السياسي الوطني المشرّف، ولا يغيب عن الذهن، عمق علاقته بعائلة عبد الكريم قاسم، إذ كان يكبره بأربعة عشر عاماً، فهما أبناء محلة واحدة في بغداد، وإنتماء طبقي واحد(الأبوان عمّال نجارة).

أدرك مصطفى جسامة المهام المناطة به، في ظل أجواء  مشحونة بصراع سياسي مراهق، وهو يمتلك خزينا من المعارف في مجال إختصاصه، ورؤى أراد لها ان تكون منجزاً مضافاً في سيرته، وإستطاع كوزير للعدل  تشريع العديد من القوانين لصالح الشعب العراقي، وقد شُرع بعضها، وآخرى لم يقدمها رئيس الوزراء للمجلس لينظر في تشريعها، وظل يماطل ويسوّف دون أن يبين السبب، كما ذكر في (ص183).

إقترح مصطفى علي حذف المادة التي تنص على ان الدين الاسلامي دين الدولة الرسمي في الدستور الموقت مما أثار ضغينة عبد السلام عارف، يقول: لم يكن في وسع إدراكه أن يفهم معنى ما أردت، وهل كان في إستطاعة تفكيره أن يستوعب مغزى ما رميت إليه؟ وأثار قانون الأحوال الشخصية رقم 88 جدلا واسعاً، أثار فضول شيخ الأزهر شلتوت، الذي طالب بإلغائه، ورمى مشرعيه بعدائهم للقرآن الكريم.

يتحدث مصطفى علي عن خلافه مع رئيس الحكومة عبد الكريم قاسم، مشيراً إلى تدخل قادة الجيش في شؤون وزارته، وتعارض صلاحياته مع صلاحيات الحاكم العسكري، وعدم إستقلال القضاء، بوجود المجالس العرفية التي زجت بتعسف وبأحكام باطلة بآلاف الوطنيين في السجون، فضلاً عن توجيه إنتقاده لمظاهر بدأت تطفو على السطح لم يجد لها تبريراً أو تفسيراً، منها الجلسات الليلية الطويلة لمجلس الوزراء، وخطب الزعيم، وولعه في نشر صوره، والنقطة الجوهرية في الخلاف، تتلخص بقناعته الثابتة بعدم قدرة العسكر في ادارة أو بناء دولة، لا في العراق، ولا في أي بلد آخر، وغالباً ما تقود تلك الإدارات البلدان إلى الفشل، والخسائر الكارثية، وله مواقفه الجريئة والشجاعة من تمدد فترة الإنتقال، وإجازة الأحزاب، والإنتخابات البرلمانية، وغياب المنهج في الإدارة، وعدم وضوح العلاقة مع القوى السياسية.

لهذه الأسباب قدم مصطفى علي طلباً للزعيم بإعفائه من مهام الوزارة في حزيران1960، ثم أتبعها بطلب الإستقالة في نيسان1961، بعد أن أجّل قاسم البتّ في طلب الإعفاء، كان يحرص على بقائه معه، وفي الوقت عينه، لا يحب ان يراه معارضاً، ولا يحتمل أن يقول له(لا)! وعلى أثر توقيع نداء السلم في كردستان، بعد إندلاع العمليات العسكرية في تموز1961بين الكورد والحكومة، غضب الزعيم غضباً شديداً منه، وهدّد بإتخاذ التدابير القضائيةضد كل الموقعين.

لقاء الساعات الأخيرة بالزعيم

مصطفى علي يبحث عن دور نقي، وعن عقل نيّر، الإختلاف مع الزعيم، ليس لذاته، إنما هو وليد وعي وإنتباه وإرادة، بعيداً عن عواطف الجمهور ومزاج الشارع، وهو الأكثر قدرة على تشخيص السلبيات، والأكثر دراية في إقتراح البديل، لا مطلق في السياسة وادارة الدولة، ولا قدسية للزعامات، ولا تابوات تحجب الرأي، وتقمع حرية الفكر.

علي يتحدث بمرارة وحزن شديد، عن لقاء عاصف بالزعيم قبل ساعات من إنقلاب8 شباط، يقول: في الساعة التاسعة من مساء7شباط اتصل بي الزعيم وطلب إلي ان أزوره في مكتبه بوزارة الدفاع، أخذني الى الجناح الجديد في المبنى، وما استطاع ان يعصمه من الموت، ثم عرض علي مشروع الدستور، ثم أفضنا في حديث طويل ذي شجون، خرجت بعده بائساً أنفض يدي منه، فوصلت إلى داري في الساعة الثانية والربع فجراً.

مصطفى علي يلقي بالمسؤولية على عبد الكريم قاسم في جانب كبير منها، مهدت السبيل لانقلاب 8 شباط 63، واصفاً سياسته بالهوجاء، وتصرفاته بالشاذة (ص 230).

لقد رسَم مصطفى علي الأحداث الفاجعة بسخرية، وعمق في التعبير عن حجم آلامه وخيباته، وهي خيبات وطن وشعب منكسر ومخذول :

ظل عبد الكريم منتشياً بخمرة الزعامة، والحكم، ثم تبين ان جمهوريته أوهن من بيت العنكبوت، إذ إستطاعت أن تعصف بأركانها طيارتان، وتدكّ حصنها دبابتان وأن تقوّض بضع رشاشات بور سعيد مجد زعيمها وعظمته، وهذه هي العقبى التي كان يتوقعها كل ذي نظر بعيد نافذ. (ص235). كان مصطفى علي اول المعتقلين، الذين تعرضوا لأبشع وسائل التعذيب والإذلال والخوف من قبل الإنقلابيين.

من هنا ندرك ان مصطفى علي حاول ان يقدم قراءته السياسية (هو وحده) وأن يكشف خفايا تلك الفترة بما تحمله من ثقل و مأساوية ظلت تلاحقه، للخروج من أسر الماضي، للإنطلاق نحو الحقيقة كما يعتقد، غير آبه بردود الأفعال المضادة لآرائه ومواقفه، وبما تحمل من إختلاف، ورؤى نقدية مغايرة.

 

جمال العتّابي

 

 

الكلبتوقراطية أو حكم الحرامية

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. مصدق الحبيب

مصدق الحبيبالكلبتوقراطية  Kleptocracy هي سلطة اللصوص وحكومة الفاسدين والمفسدين التي تقوم بشكل اساسي على سرقة اموال الشعب واستنزاف الثروة الوطنية من اجل الاغراض والمنافع الشخصية لافرادها. وهذا ما يؤدي الى تراكم الثروات الفردية واستحداث طبقة اجتماعية جديدة متميزة بثرائها المغتصب مما يثبت دعائم الهيمنة الاقتصادية ويقوي النفوذ السياسي في البلاد.

والمصطلح المركب يعود لأصله الاغريقي حيث Kleptes  تعني لص وKratia تعني سلطة او نظام. على ان من الضروري تمييز النظام الكلبتوقراطي عن النظام الپلوتوقراطي Plutocracy  الذي تؤسسه طبقة الاغنياء، أي اولئك الذين اغنوا قبل استلامهم السلطة. وهذا النظام يقوم على التأثير الحاسم للقوى المتميزة بثرائها ونفوذها السابقين لتكوين النظام. كما ينبغي تمييز الكلبتوقراطية ايضا عن النظام الأوليگاركي  Oligarchy الذي تقوم فيه الحكومة على سلطة القوى المؤثرة اجتماعيا، ليس فقط على اساس الغنى والثروة التي تملكها انما ايضا على اسس مؤثرة اخرى كالجاه والانتماء العشائري والتأريخ العسكري والمنزلة الدينية.

يستمد النظام الكلبتوقراطي هيمنته وديمومته من اشاعة الفساد الاداري والسماح لاعوانه باستخدامه كماكنة لانتاج الثروة الفردية عن طريق الخداع والدجل والرشاوي والاختلاس وغسيل الاموال وحصر المقاولات بأيدي معروفة قليلة وتلفيق العقود واتخام الحسابات الاجنبية بالودائع الشخصية وتزوير الشهادات وحصر النشاطات الاقتصادية المربحة بشركات قليلة تسمح بتضخيم وصولات الكلف ومستندات الخدمات من أجل ادخال هامش متفق عليه لعملائها في الدولة والقفز على نظم وضوابط المزايدات والمناقصات التجارية.

كما تستمد السلطة الكلبتوقراطية هيمنتها عن طريق سلطة البنوك المالية والتلاعب بقيم العملات ومعاملات الاستيراد والتصدير. ولاشك فان كل ذلك يتطلب وقوف سلطة القانون الى جانب من يدير دفة البلاد وسن التشريعات وتنفيذها بما يخدم تلك النوايا والاغراض وتحجيم او الغاء دور الرقابة المالية والاداريةوغض النظر عن كل الجرائم والتجاوزات.

تنتعش الكلبتوقراطية عادة في الدول المنهارة بعد الحروب او بعد تغيير انظمتها السياسية وخاصة تلك الدول التي تمتاز باقتصاداتها الريعية التي يسهل فيها استنزاف الموارد الوطنية عن طريق السيطرة الحكومية الكاملة على انشطتها الاقتصادية وهياكلها الاجتماعية . وغالبا ماتتحول هذه البلدان الى مايشبه واحات سخية للنهب والفرهود كما يصفها المصطلح الالماني Roubwirtschaft . واشد ما يشرعن نهب الثروة الوطنية هو الدعاوى الزائفة للخصخصة وتفكيك القاعدة الصناعية والبنى التحتية في البلاد تحت حجج الاعمار ومن ثم توزيعها كحصص سكراب على تلك الايادي الامينة للنظام وتعطيل القدرات الاقتصادية الوطنية وتهيئة الفرصة للاعتماد شبه الكامل على القروض الخارجية، والاعتماد على قطاع الاستيراد لاغراق الاسواق بالسلع المستوردة من اجل ابهار المستهلك واستحصال رضاه. وطبيعي فإن الاستيراد هو القطاع المناسب للابتزاز والاجازة الذهبية للفوز بالغنائم. 2255 بسام فرج وضياء الحجار

اللوحتان للفنانين بسام فرج وضياء الحجار

مصدق الحبيب

 

 

 

 

الدولة المصرية وإهدار مفهوم الملكية الخاصة للمواطنين

التفاصيل
كتب بواسطة: د. منى زيتون

منى زيتونفي مقال سابق بعنوان "اضطراب الشخصية المتعدد كحل سياسي" تطرقت إلى قضية تقمص الرئيس السيسي لبعض الشخصيات التاريخية لتخرجه من ورطاته وعثراته المتلاحقة سياسيًا ‏واقتصاديًا!‏

شرحت في ذلك المقال مفهوم هذا الاضطراب وأسبابه، وذكرت فيه أن السيسي يتبادل تقمص شخصيتين رئيسيتين منذ عرفناه؛ هما شخصية الخديو إسماعيل، وشخصية الرئيس السادات. ثم ذكرت أنه عندما تلاحق الضغوط كلا الشخصيتين اللاتي يتم تبادل تقمصهما ولا يمكن لأيهما تخفيفها عن النفس فإن ذلك يدفع الفرد إلى الهروب إلى شخصية ثالثة وربما رابعة لتخفيف أو تجنب الضغط النفسي الذي تضعه فيه سلوكياته.

وكان ذلك المقال بمناسبة استقبال مصر وفد من القبائل الليبية والتي فُسرت بمحاولة التدخل العسكري المصري في ليبيا، وقلت إن التاريخ لا زال يذكر لعبد الناصر اجتماعه بوفد قبائل اليمن ليعطوه تفويضًا بالتدخل العسكري في اليمن. وكان المقال متزامنًا أيضًا مع قرارات السيسي المتفرقة بشأن مخالفات البناء ونزع الملكيات الخاصة، وقلت وقتها إنه أصبح معنا عمر المختار، وأيضًا جمال عبد الناصر!‏

وربما كان علينا أن نحمد الله تعالى لأنه لولا نكسة 1967 التي تُذيل تاريخ عبد الناصر لكانت شخصية جمال عبد الناصر هي الشخصية الرئيسية التي يتقمصها السيسي؛ فهو الضابط الثائر مثله، والذي تحالف مع الإخوان ثم غدر بهم مثله، والذي يرى في نفسه زعيمًا ذا كاريزما مثله! وإن كان أي مدقق سيرى البون الشاسع بين الشخصيتين، خاصة في مسألة الكاريزما، فكاريزما السيسي متوهمة لا وجود لها سوى في عقله.

لكن يمكنني الجزم بأن نكسة 1967 لم تلغِ حالة الإعجاب والتقمص لدى السيسي بشخصية عبد الناصر، ولكنها جعلته يكتفي بمحاكاته جزئيًا في بعض سياساته الداخلية مع تخوف وحذر من تقليده في سياساته الخارجية خشية أن تدور الأيام عليه، فتخوف السيسي من إرسال جنود مصريين إلى اليمن، وتخوف أيضًا من التدخل العسكري في ليبيا، وهذا من حسن الحظ. والقول ذاته صحيح بأن السيسي أيضًا يحذر من أن تسوقه السلوكيات التي يحاكيها لدى عبد الناصر في سياساته الداخلية إلى أن تنقلب الأوضاع داخليًا عليه، ولعل حالة عدم الاستقرار التي سادت الشارع المصري في الربع الثالث من سنة 2020 اعتراضًا على قراراته بهدم المباني غير المرخصة قد زادت تخوفه من أن يحذو حذو ناصر تمامًا.

وهنا يجدر بي أن أشير إلى أنه ليس كل بناء يُبنى دون ترخيص هو عدوان من المواطنين على الرقعة الزراعية أو تخطي لسيادة القانون، فكثير من الأراضي التي تعتبرها الدولة أراضٍ زراعية ليس لها مسقى لتُروى منه؛ لأن الترع والقنايات التي كانت توصل مياه الري إليها تم ردمها منذ عقود. وهناك حي في محافظة الشرقية بُني على أكتاف المواطنين وبأموالهم، وكانت تُعطى تراخيص البناء فيه للمواطنين في أواخر القرن العشرين، ثم أوقف الحي تراخيص البناء لاستغلال المواطنين بإجبارهم على تحمل تكاليف إدخال المرافق إلى مبانيهم، وهو ما حدث، ثم يأتي الحي ذاته اليوم يطالب المواطنين بدفع غرامات لترخيص مبانيهم التي بُنيت تحت سمع وبصر الحي! والأدهى والأمر أن طالب الحي أحد الحاصلين على ترخيص بالبناء منذ حوالي ربع قرن بسداد غرامة البناء دون ترخيص! وبرج بالكامل كان مرخصًا للبناء من أرضه لسمائه تم هدمه ضمن حملة الإزالة، ودون إنذار، فأصابت صاحبه جلطة ومات من فوره.

فلم تكن حملة نظام السيسي بشأن تراخيص البناء هي قراراته الأولى التي تظهر رغبته في التعدي على الملكيات الخاصة للمواطنين وكأن ليس لأحد أن يملك في مصر غيره أو بإذنه، وكأن كل ما في مصر ملك للدولة –والتي يراها مساوية لنفسه؛ فالدولة= السيسي- وله أن يتصرف فيه كما يشاء، محاكيًا ومقلدًا بذلك جمال عبد الناصر، وكان السيسي قد أصدر قبل سنوات قرارات خصت الاستيلاء على ملكيات ‏الإخوان تحديدًا فيما يشبه التأميم الناصري لأموال فئة الباشوات، وقرارات أخرى لنزع الملكية الخاصة عن سكان مناطق كثيرة بدعوى المنفعة العامة، وادعاء ملكية الدولة لمناطق أخرى كجزيرة الوراق وغيرها ومحاولة نزع ملكيتها من سكانها، وإلغاء تطبيق مبدأ "التقادم المكسب للملكية" على أرض الواقع، وعدم الاعتراف به.

ولن أتكلم كثيرًا عن تأميم عبد الناصر وما أحدثه من خلل وتغير في تركيبة المجتمع المصري، لأن السيسي لا يقلده بحذافيره، فعلى الأقل كان ناصر يبني صروحًا صناعية عملاقة مملوكة للدولة، ولكن السيسي لا يهدر فقط الملكية الخاصة للمواطنين، بل ولا يبقي ملكية عامة ذات قيمة وتدر دخلًا للدولة، فكل ما عدا القصور والطرق والكباري يعاديه ويفسده، فلم يسلم منه حتى الشجر، ورأينا مؤخرًا إفساده مصنع الحديد والصلب، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وقانون الإيجار القديم الممتد رغمًا عن أنف المالك بأمر من الدولة هو مثال آخر على إهدار الدولة للملكية الخاصة للمواطنين؛ حيث قامت الدولة بتأبيد العقد، ثم بتوريثه لورثة المستأجر، وكأن الدولة قد حولت العقار من ملك للمالك إلى وقف خيري يجري على المستأجر وورثته من بعده، في سابقة لم يسمع بها العالمين من قبل عبد الناصر، ولا زالت المهزلة مستمرة ولا حياء لدى المسئولين ولا المستأجرين!

وبدءًا من مارس 2021 تسعى الدولة المصرية إلى إجبار المواطنين على تسجيل ملكية وحداتهم العقارية بالشهر العقاري عن طريق ربط إدخال ونقل المرافق للعقار بوجود عقد مسجل في الشهر العقاري يثبت الملكية. وهو إجراء يبدو ظاهريًا منطقيًا ومتعارفًا عليه في دول العالم كافة، كما كان عُرفًا سائدًا لدى المصريين حتى عهد عبد الناصر، ثم بدأ المصريون منذ الستينات من القرن العشرين يلجأون إلى عقود البيع الابتدائية وعقود الإيجار الصورية -لوحداتهم التي يملكونها- عوضًا عن التسجيل في الشهر العقاري، ولعل في هذا ما يدعو العاقلين للتساؤل عن أسبابه. فهل السبب كان التهرب من دفع رسوم تسجيل الوحدة أم أن هناك أسبابًا إضافية قل أن يتكلم عنها أحد؟

المتعارف عليه شرعًا وقانونًا أن العقد المدني هو شريعة المتعاقدين، وأن للعقد طرفين لا ثالث لهما هما من يحددان بنوده، وبالنسبة لعقد البيع فطرفاه هما البائع والمشتري، والمفترض قانونًا أن يقوما بالتوجه إلى مكتب الشهر العقاري التابع له العقار لتسجيل ما اتفقا عليه في عقد البيع والتوقيع عليه أمام موثق العقود، والذي تقتصر وظيفته على الإشهاد وأخذ التوقيعات ووضع الأختام الرسمية التي تؤكد صحة العقد، فموثق العقد ليس طرفًا من أطراف التعاقد، وهو أمر بدهي لم تكن هناك حاجة بي لذكره لولا الانقلاب المفاهيمي الذي حدث لدى موظفي الدولة منذ الستينات، والذي جعلهم يظنون أنفسهم شركاء للمواطن في ملكه!

إن المشكلة الكبرى التي تواجه المواطنين والمقاولين في مصر عند بيع وحدات عقارية في بناء كبير هي توزيع حصص الوحدات (الشُقق والمحلات) في أرض العقار، وذلك لأن مساحات الوحدات قد تختلف ومن ثم تختلف حصتها في الأرض، كما أن مساحة الأرض غالبًا ما يُترك جزء منها لا يتم البناء عليه، وكثيرًا ما يخصص المالك هذه الأرض التي لم يُبنَ عليها كحديقة خاصة له إن كان يسكن في العقار، ولا توزع مساحتها على باقي السكان، بل توزع عليهم فقط حصتهم في مساحة الأرض التي تم البناء عليها، وأحيانًا ما يضيف المالك تلك المساحة الإضافية إلى حصة وحدات الدور الأرضي ترغيبًا للمشترين في شرائها باعتبارها فللًا صغيرة ذات حديقة خاصة، وأحيانًا يضيف المالك مساحة إضافية في أرض العقار لبعض الوحدات التي لا تطل على واجهة أو تقع في الدور الأخير ترغيبًا للمشترين، وكل هذه الممارسات المشروعة للمالك -باعتبار أن من حكم في ماله ما ظلم- قد صارت في خبر كان منذ أصبح موثقو العقود يضعون أنوفهم في بنود العقد ويغيرونها!

ومن أقسى ما سمعت في هذا السياق أن مقاولًا حصل على ترخيص بناء لبرج من تسعة طوابق، وبنى أول ستة طوابق منه، وباعها وأعطى المشترين عقودًا ابتدائية، فسارعوا إلى تسجيلها، وكان بناء الطوابق الثلاثة الأخيرة لم يتم بعد، فقام موظفو الشهر العقاري بإعادة تحصيص وتقسيم أرض العقار على الشقق التي تم بناؤها فقط فزادوا في حصصها، ولم يراعوا حصص ما لم يتم بناؤه، ما أدى إلى أن شقق الأدوار الأخيرة لم يصبح لها نصيب في أرض العقار وفقًا لعقود الشهر العقاري، وكأن أصحابها يملكون الهواء فقط، فليس لهم نصيب في الأرض رغم أن حصصهم في الأرض مثبتة في العقود الابتدائية!

ولأجل قيام موظفي الشهر العقاري بذلك التلاعب وخيانة الأمانة دون أن يلتفت إليهم أحد فهم يطلبون من المواطنين تقديم "التماس" بقبول تسجيل حصص وحدات العقار في الأرض ويوقعونهم عليه! كما يسجل موثقو العقود في العقد المشهر مساحة حصة الوحدة في العقار بالأسهم وليس بالأمتار كي لا يلحظ أحد تلاعبهم.

إن هذه المشكلة بالإصرار على تعديل حصص وحدات العقارات في الأرض وفقًا لما يراه موظفو الشهر العقاري تتسبب في عزوف كثيرين عن تسجيل وحداتهم والاكتفاء بدعوى صحة التوقيع. والحل ببساطة ليس أن تربط الدولة إدخال المرافق إلى العقار بتسجيله في الشهر العقاري، بل الحل يكمن في أن يعرف موثقو العقود في مصلحة الشهر العقاري حدودهم ولا يتخطوها، ويتفهموا أنهم ليسوا أحد أطراف العقد فلا يعدلوا في حصص الوحدات من الأرض التي اتفق عليها طرفا العقد، والتي تحددت قيمة الوحدة العقارية على أساسها، ولا يعدلوا في أي بند آخر، بل يسجلوا بنود العقد كما اتفق عليها طرفا التعاقد.

وينبغي اعتبار أي تغيير من موثق العقود في بنود العقد الابتدائي بين المالك والمستأجر أو في بنود توكيل المالك للمستأجر بالبيع إخلال بالأمانة من موثق العقود يُعاقب ويُجازى عليه، ونظرًا لأن هناك الآلاف من عقود البيع التي أشهرت في مصر عبر أكثر من نصف قرن قام موثقو العقود بالتلاعب في حصص الوحدات في أرض العقار، فالحل الأمثل هو عدم إلغاء هذه العقود وتعديل القانون بحيث يمكن للمواطن –بائعًا كان أم مشتريًا- التقدم بطلب تصحيح لحصة الوحدات العقارية مصحوبًا بالعقد الابتدائي أو توكيل البيع الصادر من البائع للمشتري، وأن تُضاف "استمارة تصحيح" حمراء اللون وصورة من العقد الابتدائي أو توكيل البيع إلى العقد المُشهر ذي اللون الأخضر، ويتم إعلام جميع الأطراف بذلك التصحيح بواسطة خطابات مسجلة. ويمكن أيضًا إضافة استمارة إلى العقد المُشهر لكل وحدة عقارية تُسمى بـ "استمارة تقسيم أرض العقار على الوحدات"، يوقع عليها مالك العقار الأول، على أن تشمل حصص الوحدات المبنية والمعتزم بناؤها، مع ذكر اسم المشتري صاحب الوحدة التي يتم تسجيلها، ولا يلزم ذكر أسماء أصحاب الوحدات الأخرى، مع تحديد ملكية جزء الأرض التي لم يتم البناء عليها –إن وجدت- في تلك الاستمارة. والأهم أن تفهم الدولة أن هناك ما يُعرف بـ "الملكية الخاصة".

 

د. منى زيتون

السبت 27 فبراير 2021

 

 

شعريّة الاعتراف والمكاشفة

التفاصيل
كتب بواسطة: خيرة مباركي

خيرة مباركينص للأديب مديح صادق

نص مثقل بالعواطف والتضرع، هو إيقاع الذات حين تنبض بالحنين والشوق .لم يعد الشاعر يناجي جمال حبيبته الخلقي، ولم يعد يخاطب مفاتنها، ولم يستحضرها خلقا جديدا بما يضفيه الوجد فيه، من روح تنبعث من صميم روحه. ولم يرسم الشاعر صورة للجسد البرّاني حتى يعلن عن أنثاه النموذجية التي يبعثها خلقا متكاملا ليس كالخلق. هو خطاب مغاير يكتسب شعريته من صمتها ونأيها. شعرية تنبعث من صميم زمن معتم،وفضاء فسيح للوحدة وخطاب أصمّ لا تدركه غير ذات الشاعر وهو يُنطقها بغير لسانها، بقلبه المكلوم من إيماء الأحاجي ..انصهار بين ذاتين فشلت اللغة الإنسانية المحودة عن إدراكه نسقا لامحدودا يحوم حول القصائد وحروفها التي تكشف سرها .. قد نكون أمام أنثى واقعية وعاشق مشحون بأفق انتظار لموقف جاهز ولكن الفضاء الذي يهيئه المخاطب يوحي بأنها ليست أنثى عادية ولا تحمل من ملامح الإنسانية إلا ما تنطق به وتتجاوز عبره حدود الصمت. وكأن البطل الرئيسي في هذه الدراما الشعرية صمتها الذي حدد الزمان وانتشله من كرونولوجيته نحو أفق ذاتي مغلق ليرتبط بالمكان ويضفى عليه من الوحدة والسكون ما يشكّل صورة المعاناة والألم، ويوحي بكل معاني الموت:

في وحشة الليلِ

وهذا السكونُ حولي

أنا، واليراعُ، وقلبي المكلومُ، ووحدتي

أعاقرُ ما تبعثين من طلاسمَ

وتلكَ الأحاجي التي بها

في خطابكِ لوّحتِ

وأنتِ في داركِ في أقصى البقاعِ عنّي

ذات مشتتة ، يضنيها الشوق ووطأة الحنين والوحدة جعله يستعيض عن الموقف بأن يشكل من ذاته ذواتا تزيل عنه الوحشة (أنا، اليراع، قلبي، ووحدتي) وكأنه بهذا التكثيف والتنشيط لأقطاب الذات يعاند الفراغ والصمت، وكذلك يخاطب النأي فيها باستحضار سجل لغوي دال على غموضها ووطأة صمتها ووحدته (الطلاسم، الأحاجي) قد يكون حضورها وليد غموض في ذات الأنثى وما تفصح به من مواقف. وقد تكون ذات العاشق المخمورة بالفراغ والعشق ترى الوجود مجرد طلاسم لا توحي إلا بالوهم . هنا تكمن الدهشة والرغبة في الاكتشاف، تجعل من الشاعر يعدّد الاحتمالات والمعطيات التي يمكن أن توصله إلى اليقين. لعلنا أمام أنثى مفترضة ليس لها وجود فعلي إلا باحتملات الناطق وأحاجيه. أنثى يجتثها من أعماق غربته لتكون بديلا عن عبثية واقع يحتله الليل الطويل،  تبدي شوقها في جوف أحلامه البعيدة تماما كتشتت الأوطان، حائرة ،مسحورة مجنونة،  لكنها صامتة حسيرة كالحياة تحجب سرّها:

أعلمُ علم اليقين أنكِ حيرى

وبسحرِ ساحرٍ مسحورةً، مثلي

جنونُكِ ذا صعبٌ شفاؤهُ

والأصعبُ لو أنّكِ اخترتِ

بعادَكِ عنّي

قد يكون ذلك من ضروب الوقوف على أطلال الذات وأوجاع الحنين ندركها عبر جملة من التقاطعات شكلها ضمن هندسة أقامها على التقابل منذ بداية النص إلى نهايته، خلقت جملة من الثنائيات التي يتناسل بعضها من بعض (أنا/أنتِ - صمتكِ/ تسمعين صوتي - ساحر / مسحور) وهذا ما يبطن ثنائيات أخرى (الاتصال / الانفصال -النعيم /الشقاء -الحاضر الآني/ المستقبل الآتي). كل ذلك في إطار رؤية استشرافية تقوم على المناجاة والاعتراف في ذات الحين، وهو ما يجعل الفضاء العام للخطاب قائما على ثنائية الموجود والمنشود وكأنه المجال الوجودي الذي يتحقق فيه وجود الشاعر وهو يترقب الحياة عبر منافذ الشعر الشاسعة التي تحوّل واقع المنفى والغربة والتشرّد إلى جنّة خلد وفعل إخصاب، وكأنّه فعل عشتاريّ في الجود والحياة، يقترن فيه الوصل بالنماء والولادة عبر صورة يقيمها الشاعر على التورية والاقتباس من خلال صورة الأرض والبلاد تحت أقدامها، تذكرّنا بصورة الأم التي تجري من تحت أقدامها الأنهار، وصورة عشتار تتداخل في صميمها الفصول، ولكنّها تنطوي أيضا على صورة النار والحرائق تشبّ في الجوف، فهل هي صورة النار المطهّرة للعشق والروح أم صورة النار المعرفة التي سرقها بروميثيوس حتى تنجلي غمّة الجهل وانبلاج اليقين في نفس تواقة إلى الحقيقة، يكاد يقتلها القلق. ولكنّه مع كلّ ذلك  ينتظر فرج الصباح بعد هدنة الليل ...

النص:

اعتراف...

في وَحشةِ الليلِ

وهذا السكونُ حَولي

أنا، واليراعُ، وقلبيَ المكلومُ، ووحدتي

أُعاقرُ ما تبعثينَ من طلاسمَ

وتلكَ الأحاجي التي بِها

في خطابِكِ لوَّحتِ

وأنتِ في دارِكِ، في أقصى البقاعِ عنّي

لعلّي أفقهُ حرفاً ممّا عنَيتِ

أو أُدرِكُ ما خلفَ سطورِكِ أخفيتِ

أُترجمُ ما تعنيهِ (هل أنتَ بخيرٍ؟) التي

كتبتِ

هلْ لي بقاموسٍ يُفسرُ لي صمتكِ؟

أو حينَ يلتقي خافقانا

تُغادرُ كلُّ اللغاتِ، ولا ينطقُ إلّا

صمتُكِ؛ إذ يُخاطبُ صمتِي

يا مُنيةَ الروحِ، ويا بلسمَ جُرحي

أعلمُ أنَّ ما تُخفينَ سِرّاً لم يعُدْ

يُفشيهِ كلُّ حرفٍ بهِ نطقتِ

قصائدُكِ التي بها سماءُ منفايَ

جادتْ، وأمطرتْ

وَجيفُ ما بينَ ضلعَيكِ ساعةَ

تسمعينَ صوتِي

والأرضُ في بلادِكِ، تحتَ أقدامِكِ

حينَ تهتزّ

تدّاخلُ الفصولُ ببعضٍ

ويَصدِقُ ظنِّي

ساعةَ تنطقُ ابنةُ أُنثى غيرُكِ؛ باسمِي

تشبُّ حرائِقُ في جوفِكِ

لا تنفعُ أعذاري، ولا

ما بعلمِ النساءِ خبِرتُ، ولا فنِّي

أعلمُ علمَ اليقينِ أنَّكِ حَيرى

وبسحرِ ساحرٍ مسحورةٌ، مِثلي

جنونُكِ ذا صعبٌ شفاؤُهُ

والأصعبُ لو أنَّكِ اخترتِ

بعادَكِ عنِّي

فاكسري ما قيَّدَ كفَّيكِ قَسراً؛ واتبعي

دليلَ قلبِكِ، جَهراً أعلِنِي

بعالي الصوتِ قوليها:

(إنِّي أُحبُّكَ، يا هذا ال...)

وإنْ خانتكِ الشجاعةُ، يا مُدلَّلتيي

إليَّ تعالي، وهمْساً انطقِيها

قولي: (عشقتُكَ...)

في أُذني...

***

الناقدة والباحثة: خيرة مباركي – تونس

..................

مديح الصادق... كندا الخميس 25 - 2 - 2021

 

 

الدكتور عبد الواحد، لؤلؤة الترجمة الأدبية الحديثة (1)

التفاصيل
كتب بواسطة: د. محمود محمد علي

محمود محمد عليبَرَزَت مِنَ المَنازِلِ القِباب.. فَلَم يَعسِر عَلى أَحَدٍ حِجابي.. فَمَنزِلي الفَضاءُ وَسَقفُ بَيتي.. سَماءُ اللَهِ أَو قطعِ السَحابِ.. فَأَنتَ إِذا أَرَدتَ دَخَلتَ بَيتي.. عَلَيَّ مُسلِماً مِن غَيرِ بابِ.. لِأَنّي لَم أَجِد مصارعَ بابٍ.. يَكونُ مِنَ السَحابِ إِلى التُرابِ.. وَلا خِفتُ الإِباقَ عَلى عَبيدي.. وَلا خِفتُ الهَلاكَ عَلى دَوابي.. وَلا حاسَبتُ يَوماً قَهرَماني.. مُحاسَبَةً فَأَغلَظَ في الحِسابِ.. وَفي ذا راحَةٍ وَفَراغِ بالٍ.. فَدَأَب الدَهر ذا أَبَداً وَدابي.. وابِطُكَ قابِضِ الأَرواحِ يَرمي.. بِسَهمِ المَوتِ مِن تَحتِ الثِيابِ.. شَرابُكَ في السَرابِ إِذا عَطِشنا.. وَخُبزُكَ عِندَ مُنقَطِعِ التُرابِ.. رأيتُ الخُبز عَزَّ لِدَيكَ حَتّى.. حَسِبتَ الخُبزَ في جَوِّ السَحابِ.. وَما رَوحَتَنا لِتَذُب عَنّا.. وَلَكِن خِفتُ مُرزِئَةَ الذُبابِ.

قصدت أن أفتتح مقالي بهذه الأبيات لأقول: منذ أن كنت طالباً بكلية الآداب – جامعة أسيوط – بجمهورية مصر العربية في ثمانينات القرن الماضي، وأنا أسمع وأقرأ عن أديب، ومترجم، وأستاذ جامعي الوطن- موصلي النشأة، اسمه الدكتور "عبد الواحد لؤلؤة" .. وقد ازدادت معرفتي به بعد أن قرأت كتابه الرائد: (الأرض اليباب: الشاعر والقصيدة) . وكانت قصيدة (تي اس ايليوت) (الأرض اليباب) أو (الأرض الخراب) قد سلبت لبي وعمقت احساسي بقيمة الحياة والحب والإنسانية .. كان للدكتور لؤلؤة آراء صائبة في قضايا أدبية وفكرية خلافية كثيرة، وكنت كلما قرأت له شيئاً، كبرت في عيني قيمته ؛ خاصة وأنه كان يضيف كل عام كتاباً جديداً، أو ترجمة لكتاب جديد .

وعبد الواحد لؤلؤة (مع حفظ الألقاب) كما قال عنه الاستاذ الصحفي اللامع حميد المطبعي في كتابه "موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين": عراقي الجنسية، وهو ناقد، وكاتب، ومترجم .. يجيد اللغات الانجليزية والفرنسية والأسبانية والألمانية .. ولد في مدينة الموصل سنة 1931 ..اسمه بالكامل عبد الواحد مجيد محمد لؤلؤة . أكمل دراساته الابتدائية والمتوسطة والثانوية في الموصل وسافر الى بغداد ليلتحق بدار المعلمين العالية (كلية التربية فيما بعد) وقد اختار قسم اللغة الانجليزية وفي سنة 1952، حصل على الليسانس بدرجة شرف باللغة الانجليزية، وقد أرسل في بعثة علمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فنال الماجستير من جامعة هارفرد سنة 1957، والدكتوراه في الأدب الانجليزي من جامعة ويسترن رزرف سنة 1962 .. عاد الى العراق فعين مدرساً بكلية الآداب بجامعة بغداد، ثم في كلية اللغات بالجامعة نفسها، وكذلك قيل عنه أنه تخرّج في قسم اللغة الإنجليزية بدار المعلّمين العالية ببغداد، الكلية الوحيدة التي كانت تدرّس الآداب حتّى عام 1950. وعاصر شعراء الحداثة. أُرسل في أول بعثة الى جامعة هارفرد حيث حصل على شهادة الماجستير. ثم أرسل في بعثة ثانية، فحصل على الدكتوراه في الأدب الإنجليزي وعاد للتدريس بجامعة بغداد..  وقد انحصر تدريسه في الجامعة بين سنتي 1957 و1977 وبعدها أحال نفسه على التقاعد بعد خدمة جاوزت الـ ( 25) سنة . وقد سافر إلى الأردن ليعمل أستاذاً في الأدب الانجليزي بكلية الآداب جامعة اليرموك منذ سنة 1983 وبعد أن انتهى عقده مع هذه الجامعة انتقل إلى جامعة فيلادليفيا بعمان وهي جامعة أهلية، وهو الآن يعيش في إنجلترا.

كما تحدث الأستاذ شكيب كاظم سعودي عن الدكتور عبد الواحد لؤلؤة في مقال نشره في جريدة العراق (البغدادية) بعددها الصادر يوم 29 ايلول سنة 2001 بعنوان " الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة"، فقال بأن: "الدكتور لؤلؤة لم يهتم بالشعر الغربي ونقله إلى اللغة العربية، وإنما اهتم بالشعر العربي الحديث، فعلى سبيل المثال تضمن كتابه ( البحث عن معنى) دراسة نقدية بعنوان: (البطولة والتشرد عند احمد الصافي النجفي)، وتناول في هذه الدراسة حياة هذا الشاعر وشعره المبثوث في عشرة من الدواوين الشعرية المنشورة له، ولم يكتف بذلك، بل سافر الى دمشق، وعقد جلسات طويلة مع الشاعرعندما كان هناك خلال شهر آب سنة 1965، وقد ظل الشاعر النجفي يتحدث طوال أربع ساعات حديثاًً عن الذات، والشعر، والغربة، والموت، والخلود.. ولؤلؤة يستمع إلى كل شاردة وواردة تصدر من فيه، مزهواً بشهادة الشاعر الكبير "محمد مهدي الجواهري" عن النجفي أمام عدد من الحاضرين (هذا يجول في ميادين لايجرؤ أحدنا ان يجول فيـها)".

وعبد الواحد لؤلؤة ناقداً مهماًً في أجيال النقد العربي الكبيرة، درس الشعر العربي الحديث على نحو من الشمول والاتساع، بحيث لم يترك شاردة ولا واردة لم يستثمرها في دراسته، كشف عن منهج قويم في النقد الشامل، وراقب الحركات والتيارات في الشعر العربي الحديث في قرنين، تناول الشعر والشعراء وبلدانهم، والمؤثرات في الشعر، والتحولات الحضارية، والسياسية، والفكرية، التي صنعت هذه التحولات والحركات والاتجاهات الكبيرة في الشعر العربي الحديث، ودرسه على وفق مقومات منهج واضح ورصين، ولغة رصينة، علمية، ساعد في شروقه، ووضوحه، وعمقه الترجمة الرصينة له.

كما اهتم عبد الواحد لؤلؤة بالمناهج النقدية الحديثة التي تقع ضمن المناهج النصية التي تعني بالنص ذاته، وذلك لكونها تمثل المنهج الذي سار عليه أستاذه الدكتور "جبرا إبراهيم جبرا"- (الفلسطيني الجنسية)، فعبد الواحد متأثر بأستاذه في هذا الجانب، فضلاً عن إيمانه بأن النقد هو شرح وتفسير بالدرجة الأولي، وهو ما يصبو إليه منهج النقد الجديد الذي أمن به عبد الواحد، وإن النقد الجديد ينظر للقصيدة بوصفها وحدة عضوية متكاملة ؛ لا يمكن تجزئته أبداً، لا سيما وأن عبد الواحد قد أحاط بكل القضايا المتعلقة بهذا المنهج، وقد دفعته هذه الإحاطة في المجالين التنظيري والتطبيقي لمنهجه، ولأن عبد الواحد قد سعي إلي الإلمام بالجوانب المتنوعة والمختلفة للنص، واستثمار الطاقات الواسعة لهذا المنهج.

نقل عبد "الواحد لؤلؤة" نظرية النقد الجديد إلي حيز التطبيق في استغاله علي قصيدة "عمر أبو ريشه" عندما قرأ باطن النص، وأوضح تلك الباطنية، وأثرها السيكولوجي علي المتلقي (قارئ قصيدة) الذي يحتاج إلي توضيح ليحصل التأثير الجديد للجوانب الإنسانية للقصدية حين حللها لؤلؤة إلي أجزائها الأولية . ومع ذلك علي الناقد الجديد أن يكون حذراً في التعامل مع الموضوع وينتبه إليه، بحيث تكون المشاعر هي التي تحدد تقبلها للموضوع بتجاهل تأثيرات العمل والقصدية لدي الأديب . لذلك لا بد من فصل جزئيات الموضوع إلي عناصره (العضوية) لأن في تحليل النص الأدبي من الناحية المضمونية، فإننا لا يمكن أن نهجم علي النص دون أن نحدد بوضوح مفاصله، ونعزل سماته عن بعضها البعض .. لهذا يقول لؤلؤة عن طبيعة الممارسة النقدية التي أرادها أصحاب النقد الجديد:" فالعمل الأدبي أو النص الشعري هو موضع عناية الناقد دون ما يدور حول العمل أو ما يتعلق به ".

وعندما تناول لؤلؤة قصدية "الحرب في العراق"، وكيف أنها تجاوزت علي قضايا، مثل الوزن، واللغة، لغرض تحقيق عناصرها الخاصة، من هذه الزاوية كان بلوغ الشعرية في لغة عادية تقارب ما يحكيه الناس، يُشعر بها بعض النشاز في الوزن أحياناً، انجاز كبير من منجزات قصدية الحرب، لأنها ارتفعت بلغة " غير شعرية" في الأساس إلي مستوي الشعرية، لأن اللغة انصرت في بوتقة التجربة .. هنا يكون النص بمقابل الناقد مباشرة، بكل ما يحتويه من تشكيلات لغوية لها علاقة مع شعرية النص.. وعلي الناقد أن يشير إلي هذه العوامل التي أنتجتها اللغة في النص، كما فعل "لؤلؤة" في هذا الموضع، بوصفه ناقداًً ضمن المنهج النقدي الجديد فلا بد له أن يوضح المعني الحرفي . ولكن الأهم من ذلك أن يتتبع الفروق الدقيقة في المعني والإيحاءات التي اكتسبتها الألفاظ، إما في الاتصال العادي، وإما في أنواع خاصة من الحديث .. وليس من الضروري أن يكون التحليل لفظياًً فحسب، إذ أنه قد يؤدي إلي مناقشة الرمزية الحضارية، وغيرها من العلاقات والمجاز، واللهجة التعبيرية والاستعارة والمقارنة.. الخ.. وأخيراًً فإن العمل الذي تمارسه، بعضها علي معني يقصد به تلك المعاني الفنية الخفية التي تكسبه الألفاظ في علاقاتها المتبادلة مع بعضه البعض .. وهو ما عمل عليه "لؤلؤ" في القصائد التي اختارها لشعراء عراقيين وعرب، مبيناً أهمية المعني الشعري المنبثق من اللغة واللهجة، ومدي تشكيلها لجمالية وقيمة النص .. وعندما تكون اللفظة الواحدة في القصيدة تشكل قيمة بنائية كاملة ومستقلة في إنشاء البعد الأدبي للنص يكون منهج النقد الجديد قادراً علي الإشارة إليها بدقة .. فعبد الواحد لؤلؤة يوضح في هذه قصيدة " الحدود المسروقة" لبلند الحيدري فيقول:" هذه قصيدة تستقطر مرارة الغربة عن الوطن، بكلمات بسيطة كل كلمة فيها صورة موحية الكلمة الأولي في السطر الأول " وطني" تسيطر نغمتها علي القصيدة وتبقي ترن في الآذان حتي بعد الانتهاء من القصيدة ".. وهذا من ضمن توجهات لؤلؤة النقدية، وهو ينيه علي دور الألفاظ ومعرفة معانيها في فهم القصيدة .. ويطلب من القارئ أن يكون متمكناً من فهم اللغة، ذاكراً،فبعد فهم المفردات يكون تفسير القضية أمراًً ميسوراًً يؤدي إلي تأويل يعتمد علي ثقافة القارئ العامة، وعلي اهتمامه بموضوع القصيدة .. وهذا الرأي يمثل احد خصائص منهج النقد الجديد في التفسير والفهم للعمل الأدبي، وعن أهمية استقلالية النصوص وانفصالها عن منشئيها ضمن المنهج الجديد في النقد، ذكر لؤلؤة في قضية الانتحال في الشعر العربي فقال: "لا فرق .. المهم وجود النص دون قائله، ومن هنا نبدأ" .. برؤيا نقدية تشير إلي ذهابه مع النقاد الجدد في هذه القضية..

في هذا السياق، يستذكر "عبد الواحد لؤلؤة" أيام طفولته في مدينة الموصل، مسقط رأسه، عندما كان من بين زملائه في صف واحد مسيحيون ويهود عاشوا بمحبة وسلام واحترام، يعيشون في أحياء قريبة من بعضها البعض من دون ما يعكر صفو العيش المشترك. ينتقل بعد ذلك المؤلف إلى العهود التي اعقبت الحكم الملكي، مكرساًً مساحات واسعة لأحداث عاشها العراقيون سنة 1958 وما تلاها على عهد رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم والمحاكم الهزلية التي شهدتها فترة حكمه كما يسميها المؤلف.

ويعرض في الوقت نفسه تصرفات رجال شجعان ذوي مبادئ راسخة شهدتها تلك الحقب. يمكن القول، إن الكاتب نجح في تقديم وصف دقيق لطبيعة المجتمع العراقي للقارئ عبر صفحات كتابه، بلغة نقدية لا تخلو من السخرية، تعكس في أحيان كثيرة تقلبات النفس البشرية وتأثير السياسية على تصرفات البشر، ومن بين ذلك الوسط الاكاديمي العراقي والعربي الذي ينتمي اليه المؤلف.

غير أن الدكتور لؤلؤة يحرص كل الحرص عبر صفحات كتابه الذي يقع بـ ١٤٤ صفحة على الترفع عن ذكر اسماء الاشخاص الصريحة لأبطال حكاياته، وكان هناك استثناء نادر في السرد عند اشادته بدور عبدالجبار الجومرد. فالهدف الواضح هو عرض ظواهر اجتماعية بارزة يحكي من خلالها تاريخ العراق. فيما يبقى القارئ في شوق لسماع احداث تخص شخصيات ادبية ودبلوماسية واكاديمية واجتماعية عاصرها المؤلف وربما ارتبط معها بمواقف أو آراء .

إلى ذلك، يؤكد الدكتور لؤلؤة أن ما ينقله للقارئ من أحداث في كتابه هي “حكايات صادقة تخفي الأسماء الحقيقية للأشخاص والأماكن، وتترك الباقي أمام اللبيب الذي لا تغيب عنه الإشارة”. تجدر الاشارة إلى أن مع صدور هذا الكتاب، يصبح عدد الاصدارات المتعددة للدكتور  عبد الواحد لؤلؤة قد بلغ  64 كتاباً... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

...............

1- عبد الواحد لؤلؤة:  شواطئ الضياع (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1999).

2- عبد الواحد لؤلؤة: مدائن الوهم: شعر الحداثة والشتات: دراسة نقدية في الشعر العربي (رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 2002).

3- عبد الواحد لؤلؤة: الصوت والصدى: دراسات ومترجمات نقدية ـ (المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت ـ 2005).

4- الاستاذ حميد المطبعي: موسوعة أعلام العراق في القرن العشرين، الجزء الأول. الناشر, بغداد: وزارة الثقافة والاعلام، دار الشؤون الثقافية العامة، ١٩٩٥.

5- سعيد عدنان المحنة وآخرون: منهج النقد الجديد عند الناقد عبد الواحد لؤلؤة، بحث منشور بمجلة الباحث – العدد 29، 2018.

6- أ .د.ابراهيم خليل العلاف:الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وحركة الترجمة العربية المعاصرة (مقال).

7- مقابلة عبدالواحد لؤلؤة مع محمد رضا نصرالله في برنامج (الكلمة تدق ساعة) عام ١٩٧٨م (يوتيوب).

 

دانيليفسكي: ماهية الحقيقة الروسية (5)

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. ميثم الجنابي

ميثم الجنابيماهية اوربا وحقيقتها

دفعت النتائج التي توصل إليها دانيليفسكي في موقفه من إشكالية الوطني والعالمي بالنسبة للتطور الثقافي والأصالة الحضارية إلى أن يقف أمام السؤال الجوهري بالنسبة لروسيا ألا وهو هل أن روسيا دولة أوربية، وهل أن كيانها الثقافي أوروبي أم لا؟ وللإجابة على هذا السؤال افترض دانيليفسكي، بأن الإجابة الحقيقية عليه تستلزم حل السؤال الأساسي المتعلق بماهية أوربا نفسها، أي ما هو المقصود بأوربا. لاسيما وأن الإجابة عليه تجعل من الممكن بالنسبة لروسيا فهم ما إذا كانت أوروبا على صواب أم على خطأ في موقفها من روسيا، عندما تصفها بالكائن الغريب عنها.

انطلق دانيليفسكي في اجابته على هذا السؤال من سؤال أدق يتعلق بالماهية الجغرافية أولا لأوربا. فالشيء المتعارف عليه، والذي يعرفه كل تلميذ يقول، بأن أوربا هي أحد الأجزاء الخمسة من المعمورة. وعندما ظهر التقسيم الجغرافي الأول للعالم إلى ثلاثة أجزاء، فإن لهذا التقسيم كان معناه الخاص والمحدود آنذاك. فقد كان الفاصل بين القارات هو البحر. فما وقع إلى الشمال من البحر حصل على أسم أوربا، وما وقع إلى الجنوب حصل على أسم أفريقيا. وما وقع إلى الشرق حصل على أسم آسيا.

وكانت كلمة "آسيا" تعود في الأصل إلى الإغريق، أي إلى وطنهم الأصلي الأول في البلاد الواقعة على السفح الشمالي من القوقاز، حيث تم تقييد بروميثيوس بالصخرة وفقا للأسطورة الإغريقية. وأسيا هو أسم لأم أو زوجة. من هنا تم نقل هذا الاسم من قبل المهاجرين إلى شبه الجزيرة، والمعروفة باسم آسيا الصغرى. ثم جرى اطلاقها على كامل العالم الواقع على شرق البحر الأبيض المتوسط. حينذاك أصبحت الخطوط العريضة للقارات معروفة جيدا. ومن ثم جرى تحديد الفاصل بين أفريقيا وأوروبا وآسيا. وبالتالي هل تنتمي روسيا إلى أوروبا ضمن هذا التفسير التاريخي الجغرافي؟ فمن الناحية الجغرافية أن أحد أجزاء روسيا يقع ضمن أوربا بالصيغة المعروفة أو المشهورة أو المقرور بها، كما يقول دانيليفسكي. أما من حيث الجوهر فلا وجود لشيء أسمه أوروبا بالمعنى الدقيق للكلمة. فما هو موجود يمكننا أن نطلق عليه أسم شبه الجزيرة الغربية في آسيا. لكن ذلك لا يعني أن كلمة "أوربا" لا معنى محدد لها أو أنها مجرد صوت فارغ. إن معناها واضح وجلي وقوي ولكن ليس بالمعنى الجغرافي بل بالمعنى الثقافي والتاريخي. إذ ليس للجغرافيا قيمة مهمة في مسألة الانتماء أو عدم الانتماء إلى أوروبا.

وهنا يبرز السؤال أمام دنيليفسكي حول ماهية أوربا بالمعنى الثقافي والتاريخي. وفي مجرى تحليله لمختلف جونب هذه القضية توصل إلى أن ماهيتها بالمعنى الحضاري يتطابق مع معنى الحضارة الجرمانية الرومية. ومن ثم، فإنَّ أوربا هي الحضارة الجرمانية الرومية نفسها. فالحضارة اليونانية لم تنمو على نفس التربة الأوروبية. لقد كان مجال الحضارات اليونانية والرومية مختلفًا. فقد ولد هوميروس الذي يعتبر "مرآة الكلّ اليوناني" على ساحل آسيا الصغرى لبحر إيجه. بمعنى انه من آسيا الصغرى، التي كانت المحور الرئيسي للحضارة الهيلينية. فهنا ظهر الشعر الملحمي لليونانيين وكذلك الفلسفة (طاليس)، والنحت، والتاريخ (هيرودوت)، والطب (أبقراط). ومنها انتقلوا إلى ساحل البحر المقابل. صحيح إن أثينا أصبحت المركز الرئيسي لهذه الحضارة لكنها تعرضت للتلاشي. وأعطت ثمارها مرة أخرى ليس في بلد أوروبي ولكن في الإسكندرية في مصر. وهكذا تجاوزت الثقافة الهيلينية القديمة في مجرى تطورها الأجزاء الثلاثة المعروفة في العالم: آسيا وأوربا وأفريقيا. ومن ثم لم تكن حصرا على أوربا، بل ولم تنتمي إليها بالمعنى الدقيق للكلمة. فهي لم تبدأ ولم تنته هناك، كما يقول دانيليفسكي. وحسب رؤيته، فإن أوربا حصلت على المعنى والأهمية التي تستخدم بها الآن في مجرى تطور الحضارة اليونانية والرومانية. وهي حضارة حوض البحر الأبيض المتوسط بأكمله.

روسيا ليست اوربية

كل ذلك حدد مضمون السؤال الأولي الذي وضعه دانيليفسكي، عما إذا كانت روسيا تنتمي إلى أوروبا بالمعنى المذكور أعلاه؟ وقد كانت اجابته بالنفي القاطع. إذ لم تتغذ روسيا من الجذور الأوربية، سواء كانت بهيئة عصائر مفيدة أو ضارة، ولم تتغذ من جذور الروح الجرماني. ولم تكن جزءً من الإمبراطورية الرومية لشارلمان، ولم تكن جزءً من الفيدرالية الثيوقراطية التي حلّت محل ملكية شارلمان، ولم تكن مرتبطة بجسم واحد مشترك بها أو معها. بل أن تاريخ روسيا مستقل ولا علاقة له بالتاريخ الأوربي وإشكالاته وقضاياه وحلوله. إذ ليس فيها إشكاليات النظام الاقطاعي، ولم تمر بالإصلاح الديني، والكاثوليكية، ولم تحيا بالمثل العليا التي تجسّدت في الفن الجرماني الرومي. بعبارة أخرى، ليس في روسيا ما يمكنه أن يكون انتماءا جوهريا لأوربا بأي شكل كان من الأشكال. ومن ثم لا معنى للحديث عن طابعها الأوربي.

إن روسيا ليست أوربية، بل هي كيان خاص قائم بذاته. والاستثناء الوحيد هو "للنبلاء الجدد"، أو الارستقراطية الروسية المقلدة للتقاليد الأوربية، والتي لا تعرف التواضع ولا الفخر النبيل. أما الناس الذين يفهمون كرامتهم فيبقون دوما ضمن حدودهم الخاصة، كما يقول دانيليفسكي. ويقصد بذلك عموم الشعب الروسي. أما من يقول، بأن روسيا لا تنتمي إلى أوروبا عن طريق الولادة، لكنها تنتمي إليها بموجب قانون التبني وذلك لأنها استوعبت ما طورته أوروبا، ومن ثم أصبحت (أو على الأقل ينبغي أن تصبح) مشاركا في إبداعها وانتصاراتها، فهو حكم لا معنى له من وجهة نظر دانيليفسكي. من هنا تشديده على أن روسيا قائمة بذاتها وهي نتاج تاريخها الخاص ولا وجود لأية مشاعر لأبوة أوروبا في علاقاتها مع روسيا وما شابه ذلك. بل ونراه يدفع هذه القضية صوب نهايتها المنطقية عندما اكد على أن جوهر القضية هنا لا يكمن في هذه الجانب، بل في ما إذا كان هذا التبني ممكنًا بحد ذاته. فمن المعروف أو المقرور به من الناحية العلمية والفلسفية، أن لكل شيء بداية ونهاية، كما يقول دانيليفسكي. وكل ما في الوجود عرضة للاستنزاف. وهذه هي الرؤية التاريخية التي تعتقدها الغالبية العظمى من الناس المتعلمين. وبالتالي لا معنى لعدم رؤية كون الحضارة الأوروبية هي أيضا، مثلها مثل كل شيء آخر في العالم، عرضة للاستنزاف. إضافة لذلك، إن المعرفة التاريخية الدقيقة تبرهن على أن الأشكال السياسية التي يطورها هذا الشعب أو ذاك هي مناسبة له فقط، أي لمن يبدعها. وأن عدم الاعتراف بذلك يجعل من "التقدم" بوصفه ظاهرة تاريخية، فكرة ونظرة غامضة.

لقد أراد دانيليفسكي القول، بأن محاولة جعل الصيرورة والكينونة الروسية جزءا من التاريخ الأوربي أو صورة إضافية للنمط التاريخي الثقافي الأوربي، هو مجرد نتاج الغباء المميز لذوي العقول المستلبة والتقليدية. وأعتبر هذه الظاهرة شكلا من أشكال الأوبئة الثقافية. من هنا فكرته عما اطلق عليه عبارة "الأوربة هي مرض الحياة الروسية".

لقد وجد دانيليفسكي في نزعة التقليد الروسية لأوربا ومحاولة جعلها مثالا مطلقا وأن روسيا نفسها أوربية أو جزء منها، مجرد وهم لا علاقة له بالتاريخ والحقيقة، والأهم من ذلك لا علاقة له بالمستقبل، أي مستقبل الإبداع الذاتي لما اسماه بالنمط التاريخي الثقافي السلافي. فقد مرت أوربا بطريقها الخاص في كافة الميادين والمجالات. ومن ثم أبدعت نمطها التاريخي الثقافي الذي لا علاقة له بروسيا، كما أن لا علاقة لروسيا به لا عن قريب ولا عن بعيد. الأمر الذي يضع مهمة تناول حقيقة التاريخ الروسي وآفاقه في مجال تأسيس نمطه الثقافي الخاص.

ففيما لو نظرنا إلى الحياة الروسية، كما يقول دانيليفسكي، فإن الواقع الجلي فيها يكشف عن أن صحتها وعافيتها ليست على ما يرام. فصحتها غير صحيحة. لكنها مع ذلك لا تعاني من الأمراض العضوية المستعصية على العلاج، مثل مرض التحلل الإثنوغرافي. وفي الوقت نفسه، فإن روسيا مصابة بهوس يمكنه أن يكون قاتلا. فهو المرض الذي نرى مظاهره في شيخوخة الوجوه الشابة، والذي يهدد الكيان الروسي بأسوأ أنواع الموت ألا وهو الوجود العقيم والعديم الجدوى. وهي نتيجة لا يحتملها الواقع والتاريخ الروسي ولا يقبل بها. فقد تحمل الشعب الروسي في المراحل الثلاث لتطوره (بناء الدولة، وفقدان الحرية المدنية، وإصلاحات بطرس الأول) عذابات كبرى وهائلة. لكنها جرت كلها من اجل بناء الدولة القوية وثباتها، كما يقول دانيليفسكي.

فمن حيث المقارنة التاريخية بين أوربا وروسيا نرى، بأن الحضارة الأوروبية أخذت تنحو منحى عمليا إلى حد كبير. ومن بين نتائج هذه الظاهرة هو تطبيق العديد من الاكتشافات والاختراعات العلمية في ميدان الصناعة ونظامها المدني. بينما كانت روسيا في بداية القرن الثامن عشر قد انتهت تقريبا من الصراع مع جيرانها الشرقيين. إذ أخذ الشعب الروسي، الذي أيقظته الأحداث تحت قيادة شخصيتين لا يمكن نسيانهما وهما كل من مينين1  وخميلنيتسكي2 ، اللذين انتصرا على طبقة النبلاء البولنديين الذين غيروا مبادئ الشعب البولندي السلافية، والذين أرادوا أيضا إجبار الشعب الروسي على القيام بنفس الخيانة تجاه النفس، كما يقول دانيليفسكي. الأمر الذي جعل من تقوية الدولة الروسية عبر طريق الاقتراض من الكنوز الثقافية المستخرجة من العلوم والصناعة الغربية مهمة ضرورية وأولية. فهو الاقتراض السريع الذي قامت به روسيا كي تتمكن بعد عملية تعليم طبيعية بطيئة قائمة على المبادئ الخاصة، من الاستقلال بنفسها، أي كل تلك العملية التي قام بها وقادها بطرس الأول. ولكن هل كان بطرس الأول يدرك بوضوح هذه الضرورة؟ فهو مثل معظم الشخصيات التاريخية العظيمة عادة ما تتصرف وفق خطة مدروسة بهدوء وبهوى وشغف عارم. فبعد أن عرف أوروبا وقع في غرامها. وأراد بكل الوسائل أن يجعل من روسيا دولة أوروبية. فحالما رأى بطرس الاول الثمار الأوربية وإيناعها، فإنه توصل إلى استنتاج يقول، بأن من الممكن نقل هذه الشجرة كما هي إلى الأراضي الروسية. واعتقد بأن من الممكن زرعها في الأراضي الروسية القاحلة آنذاك (بالمعنى الثقافي والقومي والاجتماعي).

لكن بطرس الأول لم يأخذ بعين الاعتبار الاختلافات في العمر، ولم يعتقد أن البريّة قد لا يكون لديها وقت للثورة. ولذلك أراد أن يقطعها من الجذر ويستبدل بها ما هو موجود. أما في الواقع، فإن هذه البدائل ممكنة التطبيق على الأجسام الميتة فقط، كما يقول دانيليفسكي. لقد كانت رؤيته بهذا الصدد تستند إلى فلسفته عن النمط التاريخي الثقافي وإمكانية نشوءه وتطوره وانتقاله. وهي رؤية لم يؤخذ بها في مجرى تطور الدولة الروسية بعد بطرس الأول. ووجد هذا الإهمال انعكاسه الكبير والهائل في التجربة السوفيتية التي جعلت من نموذج الغرب أولوية مطلقة ومثالا تاما في كل شيئ. أما الخلاف الهائل معها لاحقا، فهو بأثر الأيديولوجية الطبقية، أي الموقف الاجتماعي وليس الثقافي الذي كان يحتل موضع الأولوية في منظومة دانيليفسكي الفكرية والتاريخية.

بعبارة أخرى، لقد ظلت التقاليد البطرسية سارية المفعول في الوعي الروسي الثقافي بشكل عام والسياسي بشكل خاص. وفيما يخص الثمار وإمكانية استبدالها بما هو موجود في التربة الروسية، فمن الممكن تذكر سياسة خروتشوف بزراعة نبات الذرة التي اتلفت لاحقا الزراعة السوفيتية. لقد كان دانيليفسكي يتحدث، بأثر رؤيته وثقافته العلمية الطبيعية، عبر مقارنة حية عما اسماه باستحالة انتاج ثقافة وحضارة خاصة من خلال نقلها وزراعتها في تربة ثقافية لها مسارها التاريخي الخاص. إذ اعتبرها سياسة عقيمة لا تدرك ولا تفهم حقائق الطبيعة والوجود التاريخي للأقوام والشعوب. وإذا كان فسادها جليا في مجال الزراعة العادية، فما بالك في مجال زرع الثقافة؟ من هنا استنتاجه القائل، بأن الحياة التي تشكلت تحت تأثير المبدأ التربوي الذاتي الأصلي لا يمكنها قبول هذا النوع من التحولات، وذلك لأنها تؤدي إلى اصابته بالشلل.

البطرسية الثقافية - اوربة خشنة

إن المشكلة التاريخية الثقافية التي عانت منها روسيا بسبب سياسة بطرس الأول، كما يقول دانيليفسكي، تقوم في وقوعه في غرام لا يقاوم تجاه أوربا. وبأثره سعى لمعالجة روسيا بطريقتين متناقضتين ألا وهما الحب والكراهية بقدر واحد. لقد كان يحب روسيا ويكرهها في آن واحد. كان يكره البدايات الأولى للحياة الروسية سواء بسبب عيوبها أو مزاياها، لكنه لم يكرهها بكل روحه. من هنا ضرورة التمييز في أعماله بين جانبين الأول ويتعلق بنشاطه في بناء الدولة ومنشآتها العسكرية والبحرية والإدارية والصناعية، والثاني نشاطه الإصلاحي المتعلق بالحياة والعادات والأعراف والمفاهيم والقيم التي حاول غرسها في تربة الشعب الروسي. وإذ كان عمله في الجانب الأول يستحق التقييم والتبجيل بما في ذلك تسخيره الناس جميعا من اجل الدولة، بحيث جعله ذلك يستحق بحق لقب العظيم، فإن نشاط النوع الثاني لم يكتف بإيذاء عميق لمستقبل روسيا، بل وجعل أعماله الخاصة عديمة الفائدة تماما. فالضرر الذي أحدثه ما زال ينخر في جسد الشعب الروسي. الأمر الذي أثار استنكار رعاياه، وأحرج ضمائرهم، وعقّد مهمته. بحيث يمكننا القول، بأنه هو نفسه قد تسبب بإضافة عقبات أمام نفسه ومن ثم العمل المهموم من اجل تذليلها، كما يقول دانيليفسكي. مما أدى إلى استهلاك حصة كبيرة من الطاقة التي كان يمكن استخدامها بطريقة تؤتي بفوائد أكبر. إذ ما هي الحاجة إلى حلق اللحى، وإجبار الناس على اللباس الأوربي، والتدخين، وتشويه اللغة بحشر المفردات الأوربية، وإدخال العادات الأجنبية، وتغيير التقويم الزمني وكثير غيرها؟ ولماذا جرى وضع أشكال الحياة الأجنبية في مرتبة الشرف الأولى؟ والسؤال الذي يبرز هنا هو هل بإمكان كل هذه الأعمال أن تعزز الوعي العام؟ بالتأكيد كلا. أما القضية الأخرى فتقوم في أن عمل الدولة وحدها لا يمكنه تغطية كل شيئ. لهذا كان من الضروري تطوير ما يمكنه أن يمنحها القوة القادرة على فعل كل شيئ. انه التنوير. وقد كانت تلك مهمته الأساسية. ولكن كيف يمكن لهذا التنوير أن يقوم بمهمته في ظل تدمير الكينونة الروسية وخصوصيتها، كما يستفسر دانيليفسكي. وعلاوة على ذلك، لا يمكن فرض التنوير بالقوة. وعموما إن كل اصلاح وتجديد لا يمكنه النجاح بقوة خارجية أيا كان شكلها ومحتواها. بل من الضروري أن يجريا ذاتيا، أي من الداخل. وقد تكون هذه العملية ابطأ لكنها أمتن وأكثر أصالة وغنى. ولذلك كان كل من الانقلاب والحداثة اللذين قام بهما بطرس الأول، يجريان أولا بين صفوف الطبقات العليا من المجتمع. وشيئاً فشيئاً أخذ هذا التشويه يمس الحياة الروسية عبر انتشاره وتغلغله في أعمق أعماق الحياة الروسية وطبقاتها الدنيا. لقد تعامل بطرس مع كل ما هو روسي باحتقار وازدراء. لهذا جرى تشويه مفهوم الروسي الحقيقي بحيث لم يتخلص من هذه العلاقة والمواقف حتى في أفضل المراحل الإيجابية والكبرى في التاريخ الروسي. الأمر الذي يشير إلى ما يمكن دعوته بالمرض الأوربي أو الأوربة الغبية التي أصابت روسيا في مجرى ما يقارب القرن ونصف قرن من الزمن، كما يقول دانيليفسكي.

لقد أدى ذلك بنظره، إلى تشويه الحياة الوطنية واستبدالها بكل ما هو أجنبي؛ واستعارة المؤسسات الأجنبية وزرعها في الأراضي الروسية، مع الاعتقاد بأن ما هو خير في مكان ما يجب أن يكون خيرا في كل مكان؛ الزركشة المفتعلة التي مست كافة أشكال الحياة الظاهرية للناس والمجتمع من ملابس وأجهزة وسلع منزلية ونمط الحياة وما شابه ذلك. بحيث وجد هذا التأثير طريقه إلى كل مجال من مجالات الحياة. كما وجد انعكاسه في الفن والموسيقى والهندسة المعمارية وغيرها من ميادين النشاط الإنساني. أما النتيجة الكبرى لكل ذلك فهي فقدان روسيا لهويتها الخاصة. في حين أن الأصالة السياسية والثقافية والصناعية والمثل العليا التي يجب أن يسعى إليها كل شعب تاريخي هي المقدمة الضرورية لتحقيق الأصالة في كل شيئ وكل إبداع. وإذا كان من الصعب أحيانا بلوغ ذلك، فإن الحد الأدنى الضروري هو حماية الاستقلال. أما الحفاظ على هذا النمط من الاستقلال بوسائل مصطنعة فهو ظاهرة محزنة. بينما كان بالإمكان التخلي عن كل ذلك فيما لو جرى الاحتفاظ بأشكال حياتنا الوطنية، كما يقول دانيليفسكي. فالسجاد في بلاد فارس ليس للرفاهية بقدر ما يعكس نمط حياتهم العادية. انه حاجة ضرورية للأغلبية. الأمر الذي يفسر بلوغ إنتاج السجاد حد الكمال، بحيث لا يحتاج إلى أية حماية لرعاية صناعته. وينطبق الشيء نفسه على الشالات الهندية، والأقمشة الحريرية الصينية والخزف. ونفس الشيء يمكن قوله عن الصناعات الروسية. ومن الممكن أن نأخذ على سبيل المثال انتاج السماور الروسي الذي جعل الحكومة الفرنسية تقوم بفرض قيود جمركية وقيود الاستيراد المختلفة عليه من اجل حماية منتجاتها3 . كل ذلك يشير إلى أن الأصل أفضل من التقليد. بمعنى أن لخصوصية الحياة أثرها على نوعية الصناعة، ومن ثم التجارة. وحالما تفقد الصناعة شخصيتها الوطنية، فإنها تؤدي الى تشوهات مختلفة، إضافة إلى انعدام وجود ما يمكن الدفاع عنه وحمايته ورعايته. (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

.......................

1- كوزما مينيتش مينين (ت- 1616) إحدى الشخصيات الشعبية الروسية الكبرى التي جمّعت حولها الشعب الروسي بمختلف فصائله في مجرى الصراع ضد الاحتلال البولندي للأراضي الروسية ومدينة موسكو. واستطاع مع الأمير بوجارسكي من تحرير موسكو عام 1612 ولاحقا الأراضي الروسية ككل. ويعتبران الممثلان الأكثر شعبية وعمقا في الوعي الروسي التاريخي. وأقيم لهما نصب تذكاري عام 1818 في الساحة الحمراء وتحته كتب "إلى المواطن مينين والأمير بوجارسكي، تقديرا من الشعب الروسي".

2- بغدان ميخائيلوفيتش خميلنيتسكي. (1595-1657) احد الزعماء والقادة التاريخيين للقوزاق. ولعب دورا مهما في توسيع وتثبيت الدولة القيصرية. انحدر من عائلة نبيلة. كان تاريخه الشخصي سلسلة من الحروب وقيادتها. وقع في الأسر التركي العثماني. واشترك في حروب عديدة. وأصبح قائدا لقوات القوزاق. ودخل في صراع وحروب ضد الكثير من الدول وبالأخص البولندية، بعد أن عمل في خدمتها في بداية الأمر. وعمل خملنيتسكي على طلب المساعدة من مختلف الدول للحصول على استقلال في المناطق التي يحكمها (مما يسمى حاليا اوكراينا). وأجرى مفاوضات بهذا الصدد مع الروس والبولنديين، بل وحتى مع السويديين، لكنها جميعا لم تؤدي آنذاك إلى نتيجة مرجوة. لكنه تعرض إلى هزائم لم يستطع ايقافها إلا بعد الاتفاق مع الدولة الروسية. حينذاك اقسم بالولاء للدولة الروسية بعد أن دخلت وقواته مدينة كييف. بمعنى إرجاع الأراضي الروسية السابقة إلى عهدة الدولة الروسية المركزية.

3- السماور هو جهاز لتحضير الشاي والمشروبات الدافئة

 

تونس ليست جمهوريّة أفلاطون

التفاصيل
كتب بواسطة: فتحي الحبوبي

فتحي الحبوبيولا حاجة لها إلى طهوري يعوق تقدّمها

منذ إنتخابه والتونسيون جميعا أو يكادون يلهجون بنظافة يد الرئيس التونسي قيس سعيّد ونقاوته فضلا عن زهده . فهو النزيه، المنزّه عن الأدناس. وهو الجدير بالتنويه والإشادة بطهوريّته، حتّى كادوا يعتبرونه قدّيسا. وهم يردّدون هذه المعزوفة التمجيديّة التأليهيّة المشروخة - صباحا مساء- بشكل ببّغائي، بمن فيهم أغلب المحلّلين السياسيين الذين يخوضون في كلّ شيء، فيما هم لا يفقهون إلّا السطحي من كلّ شيء. بما لا يفيد المتلقّي العادي، فضلا عن ذوي الاختصاص. والسؤال الإشكالي الذي يفرض نفسه للطرح هنا، إنّما هو حول ما إذا أفادتهم هذه النظافة والطهوريّة المزعومة للرجل؟ الذي انخرط هو نفسه في التذكير بها في كلّ مناسبة وفي سياقات غير سياقها، حتّى أصبح يتندّر بها البعض في السرّ والعلن، وباتت من قبيل الحشو اللغوي وفق قواعد الخطاب البلاغي، لا سيّما وهو يفضّل الحديث باللغة العربيّة الفصحى وفي كلّ الاحوال والظروف .علما وأنّ الحشو يفقد الخطاب ميزة الفصاحة لخلوّه من الفائدة. يقول عبد القاهر الجرجاني في هذا الخصوص "... وأمّا الحَشْوُ فإنّما كُرِهَ وَذُمَّ وَأُنْكِرَ وَرُدَّ، لأنه خلا من الفائدة".

لا يجادل أحد في أنّ مزايا اليد النظيفة والطهوريّة والتعفّف مطلوب توفّرها لدى الحاكم. إلّا أنّه لا يجادل أحد كذلك، في أنّها لا تكفي وحدها لتصنع سياسي ناجح. فهي كما يقول الرياضيون "شرط ضروري، لكنّه غير كاف" لقيادة شعب بأكمله والوصول به إلى ساحل النجاة بتحقيق التقدّم الحضاري الذي ينشده. لا سيّما عندما يكون هذا الشعب يعيش أوضاعا صعبة ومآسي بالجملة تتطلّب سرعة المعالجة لأنّها قابلة للاستنساخ والتعقيد والتأزّم يوما بعد يوم، فيما لو يتأجّل إيجاد الحلول الجذريّة لها. لهذه الأسباب، وفي غير ما مواربة - أي بصراحة ووضوح وقناعة ترتقي إلى حدّ الإيمان- فإنّي لا أرى أيّة أهمّيّة لنظافة يد الرئيس التونسي ولا لطهوريّته، بالقياس إلى أهمّيّة المصالح "المقدّسة" للشعب التونسي، بما هي وجوب تحسين ظروفه المعيشية الآنيّة منها وكذا المستقبليّة. كما أنّي لا أرى معنى لأيّة أهميّة للنظافة والطهوريّة المزعومتين في مقابل معاينة الرئيس لانهيار الدولة على طريقة السقوط الحرّ إلى الهاوية، لا بل إلى "الجحيم"- من باب التجوّز في القول - دون ردّة فعل في الغرض، ولا حتّى تحريك ساكن. ثمّ عطفا على الأزمة الحكوميّة الحاليّة التي تعيش على وقعها تونس اليوم، فانّي لا أرى أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة لرئيس جمهوريّة يعطّل السير العادي- في خدمة الشعب- للمرافق الإدارية الحيويّة للجهاز التنفيذي الذي يشرف عليه رئيس الحكومة وفريقه الوزاري، برفضه المتعنّت، مثولهم أمامه لأداء اليمين الدستوريّة، إستكمالا لمشوارمسار تشكيل الحكومة الجديدة بعد المصادقة عليها بالبرلمان. وذلك لمجرّد خلاف شخصي بينه وبين رئيس الحكومة. وهو ما يمثّل خرقا واضحا للدستور وفق رأي جهابذة وأشهر كبار أساتذة القانون الدستوري المشهود لهم دوليّا بكفاءتهم العلمية. فيما هم في نظر الرئيس، في مسعى واضح لتحقيرهم، أصحاب "دور شعوذة كتب عليها دور إفتاء" (1). وقد سوّق الرئيس هذا الخرق باختلاق تعلّات عديدة لا تقوى على الصمود، ثمّ تمترس بصفة خاصّة وراء إتهام نفر قليل من الوزراء الجدد بالتورّط في ملفّات فساد هي في الأصل- إن وجدت- من أنظارالقضاء بمختلف درجات محاكمه، ولا تعود له بالنظر مطلقا.إلّا أن يكون الرئيس يريد أن يحلّ محلّ الجميع، ويصبح الرجل صاحب السلطة الأوحد في تونس كما في الأنظمة الشموليّة سيّئة الذكر. فهو الرئيس، وهو القاضي، وهو الفقيه في القانون ولا أحد له حقّ تأويله سواه، وهو رئيس الحكومة إن لزم الأمر.لأنّ مربط الفرس للصراع القائم بينه وبين هشام المشّيشي رئيس الحكومة كان منطلقه إعفاء وزير الداخلية ووزراء آخرين محسوبين على الرئيس. فهو إذن لا علاقة له بمقاومة الفساد والطهوريّة ونظافة اليد التي اصبحت شعارا فضفاضا لا معنى له في ظلّ فساد مستشري في جميع مفاصل الدولة وغياب المقاومة الجدّية لهذا الغول الذي ليس للرئيس أداوات مقاومته غير الخطب الرنّانة التي مجّتها الاسماع فضلا عن أنّها لا تسمن ولا تغني من جوع. فالفساد لا تقضي عليه الخطب المنمّقة ولا الكلمات. حتّى وإن كانت بليغة وذات سحر وجمال كما جاءت في القصيدة الشهيرة "كلمات" للشاعر العصامي الموهوب منوّر صمادح.

وأخيرا أيّة أهميّة لنظافة اليد والطهوريّة يمكن أن تشحن المواطن بالأمل في غد أفضل، فيما الرئيس يقف موقف المتفرّج من الأحداث الكبرى لبلاده، التي أصابها الضعف والوهن وانحرفت عن مسارها الصحيح، المؤدّي إلى صلابة إقتصادها وسلامة توازناتها الماليّة وانعدام توتّر مختلف قطاعاتها المهنيّة إجتماعيّا.

فلو كانت الصفات الرئاسيّة التي أسلفنا ذكرها كافية لوحدها للنهوض بشعب ما وتحقيق الرفاه له، لأختارت كلّ الدول حكّاما لقيادتها من القدّيسين والأيمّة والشيوخ والفقهاء والملالي أو الرهبان أو نحو ذلك من رجال الدين المشهود لهم بالطهوريّة. وقد أتيحت الفرصة لهؤلاء جميعا عبر فترات تاريخيّة مختلفة فأظهروا -دون استثناء- فشلا ذريعا سجّله لهم التاريخ في صفحاته السوداء. فضلا عن أنّ العودة إلى إعادة التجربة لإنتاج الفشل لا تستقيم بعد قرون من الثورة الفرنسيّة العظيمة التي أنارت العقول المتحجّرة بطبقات التكلّس وتخلّصت نهائيّا ممّن يدّعون إحتكار عباءة الطهوريّة التي لا تنطلي إلّا على من يؤمن بالفلسفة المعصوميّة/ اللاتخطيئية. قناعتي التي لا حياد عنها، أن لا طهوريّة عند البشر، الحامل بين طيّاته لبذرات الخير والشرّ.كما لا قداسة لهم إطلاقا. بما يعني أن لا وجود بيننا على الأرض لملاك طاهر. بهذه الأوصاف المبالغ فيها تصنع الشعوب المتخلّفة- للأسف- من رؤسائها أصناما ثمّ تعبدها كما الآلهة، في محاكاة لما كان يجري في الأزمان الغابرة.

يشهد علي الله ويعلم أقرب الأصدقاء أنّي لا اروم الكتابة في السياسة ولا أفعل ذلك إلّا مضطرّا وفي حالة توتّر قصوى إثر إستفزازي بحدث سياسي مختلف عن السائد مثل ما يجري في تونس اليوم من إنسداد أفق الحلّ السياسي لما عرف بأزمة اليمين الدستوريّة التي أسلفنا فيها القول واالتي تتواصل منذ عدّة أسابيع وتؤشّر بالتأكيد على التصحّر السياسي لمختلف الفاعلين السياسيين الحاليين، وفي مقدّمتهم الرئيس. فهم لم يبلغوا بعد حتّى مرحلة المراهقة السياسيّة لمن سبقوهم. ولا استثني منهم أحدا.

 حيث أنّهم ارتكبوا جميعا أخطاء جسيمة لا تغتفر في حقّ الشعب التونسي منذ فجرالإستقلال. وسيحاسبهم التاريخ عن ذلك مهما سعوا للتستّر عنها ومحاولة تزييفهم للحقائق بكتابتهم للتاريخ في قائم حياتهم. ولعلّ المجال الآن ليس مجال تعدادها، وقد تكون موضوعا مستقلّا بذاته في قادم الأيّام.

ما دعاني إلى إستحضار التاريخ هو أنّ تونس ما بعد الثورة التي بشّرت التونسيين بالحرّية والرفاه وعلّقت عليها آمالا كبيرة لتحقيق ذلك، يمرّ إقتصادها اليوم بأحلك فتراته عبر التاريخ المديد، قديمه وحديثه. حيث سجّلت خلال سنة 2020 نموّا ب(8,8-) بما يعني فقدان حوالي 150 الف موطن شغل وغلق عشرات المؤسّسات. وذلك جرّاء تراكم نتائج السياسات غير الناجعة المتّبعة مع الإتّحاد الأوروبّي إنطلاقا من سنة 1995.والتي إستفحلت بعد الثورة نتيجة لفقدان قيمة العمل وللمطلبيّة القطاعيّة المشطّة التي تميّزها العقليّة القبليّة المقيتة والاستقواء على الدولة على حساب الإستثمار والمصالح الوطنيّة الملحّة وعلى حساب بعض الفئات الهشّة ذات الأصوات الخافتة وغير المسموعة. وأمام هذا الوضع الإقتصادي الخطير يسمح رئيس الدولة لنفسه باحتكار تأويل الدستور على هواه معيقا تنصيب الحكومة الجديدة ومعطّلا للسير العادي لنشاطها.لا بل ورافضا للحوار مع كلّ من رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب فضلا عن مماطلته للشروع في الحوار الوطني الذي إقترحه الإتحاد العام التونسي للشغل بما لا يعني إلّا الرفض أيضا. إنّي أتساءل في استغراب وإنكار هل هذا هو دوره المفترض؟ وهل هذه مصلحة الشعب التونسي الذي إنتخبه من أجلها؟ إن كان ذلك كذلك، فإنّي أعترف أنّه لم يعد بوسعي إستيعاب الأحداث السياسيّة من هذا القبيل. فهي أقرب إلى ما يدور في مسرح العبث لبيكيت. لا بل هي أقرب إلى السرياليّة.

 

المهندس فتحي الحبّوبي

 

 

أدب الرحلة عند محمد شمسي

التفاصيل
كتب بواسطة: د. سهام جبار

سهام جباركتابه (أرض ساخنة) أنموذجاً

من النادر العثور على كتابات من نوع أدب الرحلة في الأدب العراقي المعاصر كالتي كتبها الأديب العراقي الراحل محمد شمسي. ولعلها مزيّة خاصة بالكاتب أن يكتب في أكثر من نوع أدبي كالقصيدة والقصة والرواية وأدب الرحلة وأدب المغامرات للفتيان. واللافت في ذلك كله أننا نلمسُ لا جمعاً بين الواقع والمتخيّل فحسب في معظم كتابات شمسي بل التداخل النوعي الذي يجريه الكاتب بسلاسةٍ ويُسر بين أكثر من نوعٍ أدبي في أعماله عامةً.

ولعل اهتمامي بكتابه (أرض ساخنة) الصادر عن منشورات آمال الزهاوي 1978، نابعٌ من كونه نصّاً كلياً بمعنى أنه نصّ متنوع الخطابات ومتعددّها كما يفرضُ ذلك عليه نوع أدب الرحلة فهو مرتبط بالواقع تسجيلاً له وتوثيقاً تاريخياً وجغرافياً وسيرياً وتذكّراً واقتباساً من جهة، وهو من جهةٍ أخرى يقدّمُ تمثّلاً شعرياً للواقع، تمثّلاً لحلم ورغبة وأسطرة من دون خسران عنصر الصدق الفني في الكتابة، فهو ليس تمثّلاً كاذباً أو مفتعلاً ولاسيما إن أثرَ التجربة الشعوري يظلُّ ممتداً على مدى الكتاب كلّه بما يسمُه بالابتكار والأصالة.

وكأن هاجس الكاتب في الرحلة كان أن يندفع شعورياً مع خصوصية المكان (أفريقيا) بوصفها أرضاً لبدائية الأحلام وحرارة الرغبات وأفق الطبيعةِ الممتدّ، كما يراها، إذ يفترشُ رمزيةً لائقة بالمكان، رمزية تجعل الاندفاع على أوَجه لمصادر الحلم واشباع الرغبات. وفي هذا تمتدّ المهيمنة الموضوعية التي تتركّز في الهدف الحسّي المتجسّد بأشكال عدّة بدءاً من العنوان الذي يزدوج فيه القصد الى المكان أفريقيا والى المرأة على نحو مجازي..

ويتأكد هذا المزج الدلالي فيما يقوله في متن الكتاب (وبعد سنين لا تعدّ، كثيرة بعدد طيور السماء وسمك البحار وذرات الرمل ظلت الحياة في أفريقيا كما كانت قبل ملايين السنين حارة، طائشة، متدفقة، مليئة، وظلت الصيغ الإنسانية الأولى تطفح على الأرض رامية حذرها القديم كلما وجدت قشرة لينة، رقيقة)(الرحلة ص13). وهناك توظيفات نصّية واستثمارات أخرى مجازية وصريحة تعزّز هذا الهدف في سياق الرحلة الكلي.

على وفق خصوصية أدب الرحلة فإن مسعى شمسي في كتابه يبقى أدبياً خالصاً لايخرج الى أهدافٍ ومساعٍ أخرى، إذ لم يسخّر الكاتب رحلته لأهداف سياقية خارجية.

وفي الحقيقة إن رحلة (أرض ساخنة) هي جزءٌ متمّم لرحلة الكاتب في كتابه (ألف ميل بين الغابات) الصادرة في طبعتين عامي 1973 و1976. وتمثّل (ألف ميل بين الغابات) بداية الرحلة وانفتاحها على البيئة الجديدة في أفريقيا، فيما تُعنى (أرض ساخنة) بنهاية الرحلة والعودة الى الديار بعد اكتمال دورتي الاقبال والادبار الى المكان بسحره وغرابته واختلافه ثم التملّص عنه بما غنمه الكاتب من (تدوين) يُلخّص الحياة المعاشة بكل العمق الممكن والمختلف.

هذا الاقبال والادبار يمثلان ايقاع الحياة الولادة والموت، البدء والختام، الذات والموضوع، التكثيف الشعري والتفصيل السردي الموازي.

وهكذا الشعر والنثر يعمّقان بنيةَ الرحلة ودلالتها، بدايتها وانتهاءها في الكتابين.

لقد تجسّدت الخصوصية الشعرية في إعطاء المكان صورة ذاتية تخدم نوع أدب الرحلة وتغذّيه فالكاتب بذلك يدوِّنُ تأريخه الشخصي أو التأريخ الشعوري الذي ينبغي أن يُدوّن على وفق أولويات الكاتب. 

أما التفصيل السردي فهو ما تجسّده كل أنماط النثر الموجودة في أدب الرحلة كالتقرير والاستطلاع والمراسلة الصحفية والقصص واليوميات والتاريخ والجغرافية والمغامرات.

ويتقدم هذا رصد ثنائية السارد (الرحّالة) فهو بطل من جهة قيامهِ بالفعل في المساحات المستكشفة، وهو راوٍ سارد للأحداث، غير محايد بالضرورة، إذ يخطط للمغامرة من جهة الفعل بالرصد والاكتشاف والتخطيط والسعي، وفي الوقت نفسه يصف ويسرد وينتقي ما يريده محفزاً المتلقي للتوقع والانتظار. تجتمع إذن خاصيتا العرض المتضمن المراقبة، والموقف الشخصي المتبنّى تجاه المحكي، مع الوظائف الثانوية المنبثقة من هاتين الوظيفتين الرئيستين، في شخص محمد شمسي المؤلف (الكاتب) والسارد، لقد تحقّق حضورٌ لشخصيتين هنا قد اجتمعا في متن (أرض ساخنة) حيث الوظيفة مزدوجة في الواقع وفي صياغته. وإلى جانب ضمير المتكلم الذي يصدر به السارد سرده يتردد اسمه كذلك (محمد) خلال نص الرحلة، ليعمّق هذا الحضور للكاتب السارد.

وتتخلل نصّ السارد نصوصٌ قليلة لشخصيات في الرحلة تصاغ بطريقته نفسها، إلى جانب التضمينات التي لوّنتْ سياق الأحداث لدعم الموضوعات الأساسية والثانوية ومن ذلك يطالعنا تلخيص للحكايات، واستذكار ومونولوج داخلي، وأسطرة للمكان وللشخصية، وسرود وتضمينات أخرى أقل استعمالاً.. وكل هذه الاستعمالات محسوبة للسارد، حتى الحوار يقع ضمن إدارته، وفي هذا ما يرسم صورة الرحالة كليّة في الرحلة، حتى تكاد تحتويها.

يوجّه محمد شمسي الحكايات التي يورد تلخيصاً لها لصالح هدفه الحسّي فنجده يسرد حكاية الخلق الأول حيث يخفي الإنسان الأول ممارسته عن خالقه كي لا يحاسبه، ويروي حكاية الرجل المتوحّش الذي يشعر برائحة المرأة، وحكاية الأمير الذي يطارد غزالاً لوحده فيجوع ويعطش ويجد عجوزاً تطعمه وتسقيه ثم يعود إلى مملكته فلا يجد ألذ من طعام تلك العجوز وشرابها، وحكاية ماجلان الذي يصل إلى جزيرة نائية فيها تذكير بالرجل العملاق الذي مرّتْ عليه آلاف السنين حتى أصبح أليفاً مدجنّاً، وحكاية صديق البطل التي تبدي تهويلاً في محاولة قبيلة أفريقية إغواء سائحتين امريكيتين، وحكاية الحارس إدريس عن الشيخ محروس المتضمنة إثارةً للرعب وحاجة إلى الاحتماء، وحكاية يختلقها البطل أمام السواح الأجانب عن رحلة صيد في الصحراء العربية، وغيرها.

للحكايات الملخّصة دلالة عامة وكليّة تتمثّل بتكريس نموذج البطل البدائي المتوحش برغباته وجوعه المبهم غير المتمدن، ويحقّقُ البطلُ_ السارد لنفسه الهدفَ الحسيّ الذي ينطلقُ منه منذ بدء رحلته. كذلك تعملُ الحكايات على إغناء الرحلة بمضامين حيّة متنوعة تبثّ أجواء شعورية مشوّقة وجاذبة للقراء فضلاً عن الشخوص المتلقيّة في الرحلة نفسها.

وفي ذلك يتجلى تعميقٌ للنصوص ولتلقيها فضلاً عن تحلية للأجواء بتواصل ممتد على أكثر من طبقة من مرسل ومرسل اليه متعدّدين على أنحاء متنوعة وعلى طول الخطابات المتضمَّنة في متن الرحلة.

بنائياً كانت الحكايات عاملَ ربطٍ مفصلي بين فقرات نص الرحلة أو أنها أحياناً مثّلتْ وقفة زمنية في سياق السرد في الرحلة، ويكون زمن سرد بعض الحكايات عبارة عن توقف تام لحركة السرد في الرحلة، كذلك كانت الحكايات نوعاً من الحذف إذ يسكت السارد عن تفصيلات لا يرويها للقارئ، وتحل محلّ ذلك الحكاية.

وهناك وظائف جذب وتشويق واستدراج للمسرود له، وإشاعة فضاء طقسي عام يسمح بتمرير الدعوة إلى البدائية في شكلها الإيروتيكي، ورسم صورة كائن بدائي في حالة تهيؤ لغزو ورمي شباك لصيد، أو إشاعة رعب تسمح بتصور فاعلية ذكورية في سرد من أجل اللذة كأنه يأتي مضاداً لسرد أنثوي مثّلته في التراث شهرزاد في سردها الدفاعي بإقامة نوع من الكبح لجماح شهريار في تسلّطه على النساء وإعدامهن في سبيل لذّته.

سرد شهرزاد يعمل في إطار دفع ومقاومة وكفّ أو منع، في حين يعمل سرد شمسي في إطار مضادّ هجوم واستعداء وشدّ وغلبة.

هناك استذكار وحنين يظهر في رحلة شمسي إلى مواطن الطفولة لخلق جسور تصل الحاضر الموصوف ببدائيته زمن براءة الإنسان، بالطفولة زمن براءة الشخصية. وهكذا كانت هناك طاقة استذكار تحثُّ النص للإيغال في عمق مدلوله. ليس الاستذكار محصوراً في ماضي البطل وحده فهناك حنين للماضي كله، من هنا ورد استذكار لما في التراث العربي مثلاً حرب البسوس لاستدرار حكمةٍ رافضةٍ للحرب ولقسوة الحياة، هذا التماهي مع التراث زوّد الشخصية بدلالة رامزة لما هو عربي كلّي لا فردي فقط.

من جانبٍ آخر للمتأمل أن يجد الصلة عميقةً للبطل بالموت، بمعنى قيافة أثر الموت بالجسد وبإفنائه في اللذة وفي البحث عنها. لنقرأ مثلاً وصفه للوجوه الأربعة للشخوص_ وهو منهم_ في السيارة، ووصفه لوجهه ((إن وجهي عشبة صغيرة متهورة، سريعة الجري نحو الموت وإن الأرض على امتدادها ذراعان ناعمتان تتلقى أجسادنا المتعبة))(الرحلة ص47) وإذ لا تخفى دلالة تشبيه ذراعي الأرض وتلقّيها الأجساد بالمعنى الحسّي للذراعين ودلالة الاحتضان والتلقّي، يستمر التداعي بالتأمل في صورة حيّة عن حيوان تنهشه النسور مما يعكس معنى خاصاً لهذا التهافت الحسّي الذي ينتهي باستهلاكيته وانغلاقه الى الموت سواء بالمونولوج الداخلي الذي ترك آثاره على وجه الرحلة التي لا ينبغي أن ننسى أنها رحلة عودة وادبار وانصراف عن موضوعها الأساسي وهدفها الرئيس المهيمن فيها، ففيها معنىً من معاني الموت إذ هو انتهاء وانصرام زمن وانطفاء الحياة فيه.

هناك استذكار الى الطفولة في الحنين الى عادات الصغار، وفي السرد على نمط الاعتراف، وتداعي الذكريات المخترقة حواجز الزمان والمكان والمتبنّاة من الشخصية، وإن أتتْ على لسان عاشق من العصر الأموي. إن لهذه الاستذكارات قيمة تأكيد حضور الشخصية في رغبتها بالاستزادة وتحميل النصّ كل الشحنة الممكنة للإنسان الخارق بفراسته وبصدق مجسّاته وشهوته إزاء الوجود وأحلام هذا الوجود.

فيما يخصّ المكان تتمثّل أسطورةُ أفريقيا في نص محمد شمسي من خلال مغامرته الخاصة فيها، إذ ليستْ أفريقيا داخل (أرض ساخنة) القارّة المعمّدة بالدم وبثورات التحرّر فيها. إنما هي أفريقيا ذات الدلالة الشمسية التي هي موضع اللذة حيث الرجل البدائي المتوحش منذ أول صفحات الرحلة، وهكذا تعلى (مكانة) أسطورية لا مكان فحسب في صياغات لغوية شاعرية وانثيال نفسي حميم. يبدأ ذلك بتدبيج تقاليد السهر في المدينة عبر مجموع مكرّس بالخمر والغناء والنكات الرديئة، في سرد هذه الصورة يتردد ضمير المتكلمين لا المتكلم (نحن حفنة من الرجال لا تسلينا الأحاديث ولا تغسل همومنا المناقشات.. أعمار مختلفة وكما يتنقل الرعاة بإبلهم في الصحراء كنا نحمل أجسادنا المرهقة ونتتبع خطوات العشب والماء، ماؤنا الخمر وعشبنا نساء كلابار وايلورين.. ومدينة ((كانو)) ليست صحراء وحاناتها ليست آباراً تعدو عليها الرمال. هذه ليالينا... رجال من جميع القارات يأتلفون عند اقتسام الغنائم...) (الرحلة ص15)، ويمتد هذا الانتماء الجمعي حتى لحظة قدوم السائحتين الأمريكيتين إذ يرجع المتكلم إلى نفسه ليستأثر بالغنيمة وحده ويتنصل عن المجموع. إن هذا الاستئثار هو الذي أدّى بالرحلة إلى أن تكتمل في فرار (إدبار) دائم وصولاً إلى الوطن. وتتحول المكانة الأسطورية من المكان الذي مثله المجموع إلى المكانة التي يمثلها البطل الساردُ وحده.

وفي مجمل الرحلة تردنا صورُ هذا البطل مزوّدة بتشبيهات ورموز من حكايات واستذكار للماضي الخاص والعام مما عرضنا له. فالأسطورية لم تشمل الشخوص كلهم، وإن مرّت برفق على بعض هؤلاء الشخوص (مثل صديق البطل الكهل الذي فرّ مع ليا إحدى السائحتين إلى أصقاع مجهولة من أفريقيا مستغرقاً في رحلته_ حبه)، إلا أن تمثّل الأسطورة كان دواماً لشخص بعينه له امتدادات شخصية وعامة. أما الشخوص الآخرون فثانويون يدورون في فلك البطل ومساعيه. فيما غُيِّبتْ العوامل المناوئة عن السرد لتظل أنا المتكلم حاضرة حتى النهاية مع صفات معمّقة لها، منها ما يدخل في إظهار قدرات خاصة من عرافة وقيافة وخداع في الحكي يذكّر أحياناً بشخصية البطل المخادع في المقامات العربية القديمة.

هناك سرود أخرى في الرحلة، لها أهمية هي أيضاً، في إرساء الخصيصة النوعية للرحلة فلولاها لامتنع علينا إطلاق أدب رحلة على (أرض ساخنة)، وتتوزع هذه السرود على قلّتها في  مساحة النص، وتتشابك مع غيرها من استعمالات. وإذا شئنا حصرها في كتاب الرحلة المستغرق (135 صفحة) لوجدنا أنها لا تزيد عن عشرين صفحة، وبالتأكيد هذا قدر قليل مما يدخل في الموضوع المباشر الذي يميّز الرحلة عن غيرها من الأجناس، على أن سياق السرد كله لا يخرج عن مناخ أفريقيا، والشخوص موجودون هنا لأجلها، مع الوصف المتناثر لبعض التفصيلات والأمور الجانبية للحياة هناك. ولقد جنّد المؤلف قدراته في ملء الفراغ الحاصل بالتنويعات السردية التي تفنّن في زجّها مع لغته الواصفة بشعرية وبتأمل ممتلئ.

كل هذا التفصيل السردي يقابله، في الحقيقة، تضمين شعري يستفاد عادةً منه في كتب الرحلة لخلق توازن بين العالم الواقعي والجانب الشعوري، ولقد أفلح الكاتب محمد شمسي حقاً في إشاعة فضاء شعوري عام وواحد غير مشتت أو مبلبل، بمعنى أن تضمين الشعر في (أرض ساخنة) جاء موظفاً للموضوع المهيمن نفسه، فلم يخرج الكاتب عن الجو العام للنص. بل إن نثر الكاتب نفسه كانت له فاعلية شعرية على طول سياق النص، فجاءت الرحلة مع واقعيتها محمّلة بمكنونات العاطفة والخيال في سرد يستثمر التشبيهات، والمجازات، والرموز للذهاب عميقاً في ضخّ دلالته.

 

د. سهام جبار

 

 

 

من النَّحو إلى النَّحويَّة!

التفاصيل
كتب بواسطة: ا. د. عبد الله الفيفي

عبد الله الفيفيقال صاحبي اللَّدود (ابن أبي الآفاق التراثي)، وهو يناقرني في شأن النَّحو العَرَبي:

- كثيرًا ما كان ينشغل (ابن هشام، عبدالله بن جمال الدِّين الأنصاري، -761هـ= 1360م)، على سبيل النموذج، في "شذور الذهب"، عن شرح مسائل النَّحو لتسهيلها على المتلقِّي، ليشرح لنا مسائل من تأليفه هو؛ بمنهاج "قلتُ"، يعني في "شذور الذهب"، و"أقول"، يعني في "شرح شذور الذهب"!

- جزاه الله خيرًا! يُبهِم في المتن لكي يُعجِم في الشرح! واحدة بواحدة!

- ومن قال لك، يا ابن الهواشم، أن تقول لتشرح لنا ما قلت؟ إنَّما كان المطلوب شرح كلام العَرَب، لا كلامك المصنوع. وهذا يعني أن الوسيلة، وهي قواعد اللُّغَة، قد صارت لدَى هؤلاء غاية؛ حتى إنَّه لا يصحُّ القول هنا إنَّه قدَّم العَرَبة على الحصان؛ بل إنَّه قد نسي العَرَبة والعَرَبيَّة، وجعل يتغزَّل في جمال الحصان الخشبي الذي ابتدعه، ويصف شِياته!

- أ لذلك قد يبدو الشرح لديه، في "شرح الشذور"، أعوص في بعض المسائل من المتن، الذي ألَّفه بنفسه، تحت عنوان "شذور الذهب".

- أحسبه كذلك. ولو اكتفى بالمتن لكفى وشفى وأبان.

- هيهات؛ وإلَّا ما بقيت للنحويِّ حِرفة!

- صدقت. لقد قَعَدَ القوم منشغلين بالقواعد أكثر من اللُّغَة، وقدَّموا القاعدة على النص؛ حتى أصبحت القاعدة مدار الاهتمام لديهم والتأمُّل، لا النص.

- أيُّ نصٍّ، وشواهدهم مجتزأة، وشِعريَّة غالبًا؟

- بل إنَّهم متَّهمون في هذا أحيانًا بصناعة الشاهد من أجل القاعدة. وما خرج من هذه العمليَّة المقلوبة إلَّا قِلَّة منهم، إنْ وُجِدوا.

- تُعَيِّرُنا أَنَّا قَليلٌ عَديدُنا ... فَقُلتُ لَها إِنَّ الكِرامَ قَليلُ!

مثل مَن؟

- مثل الأخ (عبد القاهر الجرجاني، -471هـ= 1009م)! وهو نحويٌّ، ولكن بفهمٍ راقٍ للنحو والنَّحويَّة؛ حتى إنَّه ليُحدِّثك عن "النَّظْم" على "المعاني النَّحويَّة" على غرار ما يمكن أن يحدِّثك به التفكيكي (جاك دريدا Jacques Derrida، -2004) عن مفهوم "النَّحويَّة"، De la grammatologie، المتعلِّق لديه بما يسمِّيه "عِلم الكتابة"، لا على غرار ابن هشام وأضرابه.

- وشتَّان بين المذهبين!

- والسبب أن القوم أصرُّوا على صناعة "عِلْمٍ" قاعديٍّ صُلب، لا قِبَل لهم به؛ من حيث إنَّ اللُّغات أوسع من القواعد المتحجِّرة، وأكثر تأبِّيًا، وما كلُّ ما فيها قابلٌ للتعليل المنطقي، قبولَ القضايا العِلْميَّة البحتة.

- على افتراض أن هذه قابلةٌ لذلك بصورةٍ مطلقة.

- ولذا لعلَّه ليس للُغةٍ في العالم عِلْمٌ واسعٌ جِدًّا يكلَّف به طلبة المدارس والجامعات اسمه (عِلْم النَّحو)، كما اصطُنِع للعَرَبيَّة، وإنَّما ثمَّة قواعد مدرسيَّة يتعلَّمها الطالب، ويفرغ منها مبكِّرًا، ليسعى في مناكبها. ولا أقسام، قائمة بذاتها، كما لدينا في بعض الجامعات (فقط للنحو والصرف). ولا متخصِّصٌ يُنفِق حياته فقط في هذا الحقل. غير أنَّ هناك دراساتٍ لُغويَّة مختلفة، صوتيَّة، ولسانيَّة عامَّة، أنتجتْ وأثمرتْ؛ لأنها خرجتْ من حِرفة (جَمَل المعصارة النَّحوي)، الذي ما زال- وما بَرِح وما انفكَّ- يدور مذ ألف عام. حتى إنَّ جهود عبد القاهر الخارجة على قواعد (المعصارة) لم يلتفت إليها العَرَب حقَّ الالتفات إلَّا حديثًا؛ إذ لفتَهم إليها بعض المستشرقين. ليكتشفوا أخيرًا أنَّه كان يمكن أن تخدم الفِكرَ اللُّغويَّ العَرَبيَّ على نحوٍ أكثر جدوى وأكبر إعمارًا وإضافة، بل وسهولةً وجمالًا، من مدرسة النَّحو التقليديَّة، لو أُخِذ بمنهج عبد القاهر، وبُنِيَ عليه وطُوِّر.

- وهكذا ظلُّوا مغرمين بصناعة المتون، ثمَّ شرحها، والتحشيَّة عليها.

- نعم. واستمر ذلك إلى العصر الحديث، وفي النَّحو وفي الصرف معًا، وصولًا في الأخير إلى كتابٍ "شذا العَرْف في فَنِّ الصرف"، لـ(أحمد الحامولي).

- "فَن"؟ جميل هذا المصطلح.

- هم تارةً يسمُّونه (عِلمًا)، وتارةً (فنًّا)، في أريحيَّة اصطلاحيَّة. متفنِّنين في هذه المصطلحات: "فَن" و"عِلم".

- وا أسفا عليه! ظننته قد صار فَنًّا حقًّا. لكن لماذا يفعلون ذلك؟

- لأسباب دعائيَّة، كتفنُّنهم في ألقاب المؤلِّفين، ولا سيما استعمال لقب "إمام"؛ لإضفاء هالة دِينيَّة، لا في مجال الدِّين، ولا لدَى الإماميَّة فحسب، بل لدَى الجميع كذلك، تجد هذه الإماميَّة في علوم اللُّغَة، والتفسير، والتاريخ.. إلخ.

- وربما كانت لذاك، إلى الجانب الدعائي، غاية تقديسيَّة- لا عِلْميَّة- تحوط صاحبها بحراسةٍ من العَين، ومن اللَّمس أو الاقتراب! فضلًا عن النقد، أو حتى التفكير في ما يقول، والعياذ بالله!

- ربما، وربَّتما.. وما جُعِل الإمام إلَّا ليُؤتَمَّ به في صمت! حتى وصلنا إلى ما يُدعَى: الإمام الأعظم، أو الإمام الأكبر.

- وهذا إمام الأئمة، طبعًا!

- طبعًا. ولم تكن تلك بمراتب عِلميَّة، وإنْ عُلِّقتْ من ذاك بسبب، لكنها مستمدَّة من منبعها ذي الطابع العاطفي التبجيلي المبالغ فيه. ومعلومٌ أن هذا لم يكن لدَى الصدر الأوَّل، وإنَّما هو مولَّدٌ في العصور المتأخِّرة، وعن تقليدٍ لأصحاب الثقافات والدِّيانات الأخرى. وتلك قضيَّةٌ أخرى. أمَّا القضيَّة الأولى والأخيرة، فصعوبة المتون، لأنها تأتي مُجمَلة، متداخِلة، وبلُغةٍ عتيقة، واصطلاحيَّة خاصَّة، على الطريقة القديمة. فليلطف الله بطلبة العَرَبيَّة، الذين كثيرًا ما يكرَّهون فيها ويُصرَفون عنها، بصناعة النُّحاة المتوارثة تلك!

- كيف؟

- كيف هذه تحتاج قَعدةً أخرى. ففيها تفصيل، محلُّه مساقنا الآتي، بحول الله.

 

أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

الصفحة 1 من 157

  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • ...
  • 6
  • 7
  • 8
  • 9
  • 10

hewar2(201)،(202)،(203)،(204)

84 mahmod mohamad ali200

اقرا ايضا

  • الأخلاق والمعايير.. نابي بوعلي يحاور علي رسول الربيعي (2)
  • دايوجانس.. فيلسوف ضد المألوف
  • دانيليفسكي وقضية الفكرة السلافية السياسية الثقافية (7)
  • جبرا إبراهيم جبرا.. الشاعر والأديب والفنان (2)
  • أول دراسة نقدية موسّعة لرواية "مستر نوركَه" لنوزت شمدين
  • الانترنيت الضوئي
  • قطرب!!
  • اعادة التدوير، توفير وليس تقتيرا !
  • ليتعلّم المؤمنون بالعراق محاربة الفساد من فرنسا
  • مبدعات عربيات بالمهجر في رحاب المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح

القائمة البريدية



العدد: 5293 المصادف: الاربعاء 03 - 03 - 2021م


العودة لأعلى

تابعونا على:

الحقوق محفوظة صحيفة المثقف 2006 - 2021 ©

تابعونا على: